الصِّبْغَةُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَالتَّقْلِيدُ وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
الصِّبْغَةُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَالتَّقْلِيدُ وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك .
هَذَا المَوضُوعُ يُناقِشُ حَقيقةً وَاحدَةً - صُرِفَت بِسببِ تَعددِ الرَّأي ..وَفَهمُها يَحتاجُ صَبرا.

أَوَّلًا... الصِّبْغَةُ ...........
قولُه تعالى :{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
هَل لقولِه تعالى :{ صِبْغَةَ اللَّهِ } دلالةٌ سُلوكيةٌ مُتَعَيَّنةٌ لازمةٌ ؟ هَل بِالفِعلِ نَحتَاجُ إلى التَّمَثُّلِ وَالتّمَسُّكِ بالشَّعَائرِ الظّاهرَةِ ؟

قال في المُحرر الوَجيز :
و { صِبْغَةَ اللَّهِ } شَريعَتُه وسَنَّتُه وفِطرتُه ، قال كثيرٌ من المُفسرين : وذلك أن النَّصارى لهم ماءٌ يَصبغون فيه أولادَهم ، فهذا ينظر إلى ذلك : وقيل : سُمِّيَ الدِّينُ { صِبْغَةً } استعارة مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وغيره.

قال القُرطبي رحمه اللهُ :
فَسُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ.

قال العُثيمين رحِمَه اللهُ :
قوله تعالى: { صِبْغَةَ اللَّهِ } « الصِّبْغَةُ » مَعنَاهَا اللونُ؛ وقالوا: المُراد بـ { صِبْغَةَ اللَّهِ } دينُ الله؛ وسَمَّي «الدَّين» صِبغَةً لظهورِ أثَرهِ على العَاملِ به؛ فإن المُتدينَ يَظهرُ أثرُ الدِّينِ عليه: يظهرُ على صَفحاتِ وَجهِه، ويَظهرُ عَلى مَسلَكه، ويَظهرُ على خُشوعِه، وعلى سَمتِه، وعَلى هَيئتِه كُلِّها؛ فهو بِمَنزلةِ الصَّبغِ للثَّوبِ يظهرُ أثرُه عليه؛ وقيل: سُمَّي صِبغَةً للزومه كَلزومِ الصَّبغِ للثَّوبِ؛ ولا يَمنع أن نقولَ: إنه سُمِّي بذلك للوجهين جَميعاً: فهو صِبغةٌ للزومه؛ وهو صبغةٌ أيضاً لِظهورِ أثرهِ على العامل به. قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }: الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ أي لا أحد أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ؛ وذلك؛ لأن دينَ اللهِ عزّ وجلّ مشتمل على المَصالح، ودرءِ المَفَاسِدِ؛ ولا يُوجد دينٌ يشتملُ على هذا إلا ما جاء من عند الله، سواء كان الدينُ الإسَّلامي الذي جاء به مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أو الأديانُ الأُخرى ما دَامت قائمةً لم تُنسخ.

قال في تَفسيرِ المَنَارِ :
(صِبْغَةَ اللهِ) أَيْ صُبِغْنَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ صِبْغَةَ اللهِ وَفِطْرَتَهُ فُطِرْنَا عَلَيْهَا ، وَهِيَ مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ ، فَلَا دَخْلَ فِيهَا لِلتَّقَالِيدِ الْوَضْعِيَّةِ وَلَا لِآرَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَأَهْوَاءِ الزُّعَمَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةِ مُتَوَسِّطٍ وَلَا صُنْعِ صَانِعٍ ، وَالصِّبْغَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ صِيغَةٌ لِلْهَيْئَةِ مِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ إِذَا لَوَّنَهُ بِلَوْنٍ خَاصٍّ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْ صِبْغَتِهِ فَهِيَ جِمَاعُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤَلِّفُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ، وَيُزَكِّي النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُ الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ . وَأَمَّا مَا أَضَافَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الدِّينِ مِنْ آرَاءِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فَهُوَ مِنَ الصَّنْعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَالصِّبْغَةِ الْبَشَرِيَّةِ قَدْ جَعَلَ الدِّينَ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً مُفَرِّقَةً ، وَالْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ شِيَعًا مُتَنَافِرَةً مُتَمَزِّقَةً (وَنَحْنُ لَهُ) وَحْدَهُ (عَابِدُونَ) فَلَا نَتَّخِذُ أَحْبَارَنَا وَعُلَمَاءَنَا أَرْبَابًا يَزِيدُونَ فِي دِينِنَا وَيَنْقُصُونَ ، وَيُحِلُّونَ لَنَا بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ ، وَيَمْحُونَ مِنْ نُفُوسِنَا صِبْغَةَ اللهِ الْمُوجِبَةَ لِلتَّوْحِيدِ ، وَيُثْبِتُونَ مَكَانَهَا صِبْغَةَ الْبَشَرِ الْقَاضِيَةَ بِالشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَعْمَالٍ صِنَاعِيَّةٍ كَالْمَعْمُودِيَّةِ عِنْدَ النَّصَارَى مَثَلًا ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِيهِ عَلَى مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالِاعْتِدَالِ ، وَالْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)

قال السَّعدي رحِمه اللهُ :
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } .
أي: الزموا صِبغَةَ الله، وهو دينُه، وقوموا به قياما تاما، بجميع أعماله الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة، وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعا واختيارا ومحبة، وصار الدينُ طبيعةً لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادةُ الدنيوية والأخروية، لحث الدينِ على مَكارم الأخلاق، ومَحاسن الأعمال، ومَعالي الأمور، فلهذا قال - على سبيل التعجب المُتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغةً من صبغته .
وإذا أردت أن تعرفَ نموذجا يبينُ لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصِّبَغ، فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يَتحلى بكل وصف حسن، وفعل جميل، وخلق كامل، ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح، ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم، والعفة، والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي، ومحبة الله وخشيته، وخوفه، ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود، والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه، وشرد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة، من الكفر، والشرك والكذب، والخيانة، والمكر، والخداع، وعدم العفة، والإساءة إلى الخلق، في أقواله، وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبحَ صبغة ممن انصبغ بغير دينه.
وفي قوله: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة، وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاصُ والمُتابعة، لأن " الْعِبَادَةَ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ولا تكون كذلك، حتى يُشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبدُ وجهَ الله وحده، في تلك الأعمال، فتقديمُ المعمول، يؤذنُ بالحصر.
وقال: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار، ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما.
قال في الظلال :
- إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته ، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه ، وبالعلامة التي يضعها اللّه على أوليائه ، فيعرفون بها في الأرض : «صِبْغَةَ اللَّهِ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً؟ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ».

قال الشَّعراويُّ رحمه اللهُ في تَفسيره :
ما هي الصِّبْغَةُ ؟ الصِّبْغَةُ هي إدخالُ لون على شيء بحيث يغيره بلون آخر . . تصبغ الشيء أحمر أو أزرق أو أي لون تختاره . والصبغ ينفذ في المصبوغ خاصة إذا كان المصبوغ له شعيرات مسام كالقطن أو الصوف . . ولذلك فإن الألياف الصناعية لا يمكن أن تصبغ لماذا؟ لأن شعرة القطن أو الصوف أشبه بالأنبوبة في تركيبها .
وإذا جئنا بقنديل من الزيت ووضعنا فيه فتيلا من القطن بحيث يكون رأس الفتيل في الزيت ثم تشغله من أعلاه نجد أن الزيت يسري في الأنابيب ويشعل الفتيل . . فإذا جربنا هذا في الألياف الصناعية فلا يمكن أن يسري فيها الزيت وإنما النار تأكل الألياف لأنه ليس فيها أنابيب شعرية كالقطن والصوف . . ولذلك تجد الألياف الصناعية سهلة في الغسيل لأن العرق لا يدخل في مسامها بينما الملابس القطنية تحتاج لجهد كبير لأن مسامها مشبعة بالعرق والتراب .
إذن الصبغةُ لابد أن تتدخل مادتها من مسام القماش . . أما الطلاء فهو مختلف . إنه طبقة خارجية تستطيع أن تزيلها . . ولذلك فإن الذين يفتون في طلاء الأظافر بالنسبة للسيدات ويقولون إنه مثل الحناء نقول لهم لا . . الحناء صبغة تتخلل المادة الحية وتبقى حتى يذهب الجلد بها أي لا تستطيع أن تزيلها عندما تريد . . ولكن الطلاء يمكن أن تزيله في أي وقت ولو بعد إتمامه بلحظات . . إذن فطلاء الأظافر ليس صبغة .
قوله سبحانه : { صِبْغَةَ الله } فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل الله على رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري . . ولماذا كلمة صبغة؟ حتى نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله . . إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق - ولذلك قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ » (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
فكأن الإيمانَ صبغةٌ موجودةٌ بالفطرة . . إنها صبغةُ الله . . فإن كان أبواه مُسلمينِ ظل على الفطرة . وإن كان أبواه من اليهود أو النصارى يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه ويضعانه في ماء ويقولون صبغناه بماء المعمودية . . هذا هو معنى صبغة الله .
ويريد الحقُّ سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا . . هذا الاختلاف في اللون من صبغةِ الله . . اختلاف ألوان البشر ليس طلاء وإنما في ذات التكوين . . فيكون هذا أبيض وهذا أسمر وهذا أصفر وهذا أحمر ، هذه هي صبغة الله . . وما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة .
لأن الإيمان والدين لا يأتي من خارج الإنسان وإنما يأتي من داخله . . ولذلك فإن الإيمان يهز كل أعضاء الجسد البشري . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ]
هذا هو التأثيرُ الذي يضعه الله في القلوب . . أمر داخلي وليس خارجيا . . أما إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي وليس صبغة لأنهم تركوا صبغة الله . . ونقول لهم : لا . هذا الطلاء من عندكم أنتم ، أما ديننا فهو صبغةُ الله . .
وقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } . . استفهام لا يمكن أن يكذبوه ولكن الجواب يأتي على وفق ما يريده السائل سبحانه من أنه لا يوجد من هو أحسن من الله صبغة .وقوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } أي مطيعون لأوامره والعابد هو من يطيع أوامر الله ويجتنب ما نهى عنه .
والأوامرُ دائما تأتي بأمر فيه مشقة يطلب منك أن تفعله والنهي يأتي عن أمر محبب إلى نفسك هناك مشقة أن تتركه . . ذلك أن الإنسان يريد النفع العاجل ، النفع السطحي ، والله سبحانه وتعالى يوجهنا إلى النفع الحقيقي . . النفع العاجل يعطيك لذة عاجلة ويمنحك نعيما دائما في الآخرة وتمتعا بقدرات الله سبحانه وتعالى . .
وأنت حين تسمع المؤذنَ ولا تقومُ للصلاة لأنها ثقيلة على نفسك قد أعطيت نفسك لذة عاجلة كأن تشغل نفسك بالحديث مع شخص أو بلعب الطاولة أو بغير ذلك . . وتترك ذلك النفع الحقيقي الذي يقودك إلى الجنة . . ولذلك قال الله سبحانه : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 45-46 ]
إذن العبادة أمر ونهي . . أمر يشق على نفسك فتستثقله ، ونهى عن شيء محبب إلى نفسك يعطيك لذة عاجلة ولذلك تريد أن تفعله . .
إذن فقوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } . . أي مطيعون لأوامره لأننا آمنا بالآمر إلها وربا يعبد . . فإذا آمنت حبب الله إليك فعل الأشياء التي كنت تستثقلها وسهل عليك الامتناع عن الأشياء التي تحبها لأنها تعطيك لذة عاجلة . . هذه هي صبغة الله التي تعطينا العبادة . . واقرأ قوله تبارك وتعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) } [ الحجرات : 7 ]
وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى بصبغة الإيمان يحبب إلينا الخير ويجعلنا نبغض الشر . . لا عن رياء ونفاق خارج النفس كالطلاء ولكن كالصبغة التي تتخلل الشيء وتصبح هي وهو شيئا واحدا لا يفترقان . .
 
ثَانِيًا الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ......................

قوله تعالى :{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) }

قال ابنُ كثير رحمه الله:

وَقَوْلُهُ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} يُقْسِمُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ: أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكم الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أَيْ: إِذَا حَكَّمُوكَ يُطِيعُونَكَ فِي بَوَاطِنِهِمْ فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمْتَ بِهِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيُسَلِّمُونَ لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ وَلَا مُنَازِعَةٍ.

قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ ، شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ):

فَأَقْسَمَ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ، وَحَتَّى يَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ، وَحَتَّى يُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا. وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ.
فَالتَّحْكِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ. وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ: فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ. وَالتَّسْلِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ.

قال في فتح القدير :

وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَحْكِيمُ الْحَاكِمِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ إِذَا كَانَ لَا يَحْكُمُ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَكَانَ يَعْقِلُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ حُجَجِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وما يتعلق بها: من نحو، وتصريف،ومعاني، وَبَيَانٍ، عَارِفًا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، بَصِيرًا بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، مُمَيِّزًا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ، وَالضَّعِيفِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ، مُنْصِفًا غَيْرَ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَلَا لِنِحْلَةٍ مِنَ النِّحَلِ. وَرِعًا لَا يَحِيفُ وَلَا يَمِيلُ فِي حُكْمِهِ، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ قَائِمٌ فِي مَقَامِ النُّبُوَّةِ، مُتَرْجَمٌ عَنْهَا، حَاكِمٌ بِأَحْكَامِهَا، وَفِي هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ: مَا تَقْشَعِرُّ لَهُ الْجُلُودُ، وَتَرْجُفُ لَهُ الْأَفْئِدَةُ.
فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْقَسَمِ بِحَرْفِ النَّفْيِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ، حَتَّى تَحْصُلَ لَهُمْ غَايَةٌ، هِيَ:
تَحْكِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ فَضَمَّ إِلَى التَّحْكِيمِ أَمْرًا آخَرَ، هُوَ عَدَمُ وُجُودِ حَرَجٍ، أَيْ حَرَجٍ، فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ التَّحْكِيمِ وَالْإِذْعَانِ كَافِيًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ عَنْ رِضًا، وَاطْمِئْنَانٍ، وَانْثِلَاجِ قَلْبٍ، وَطِيبِ نَفْسٍ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا كُلِّهِ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلَهُ: وَيُسَلِّمُوا أَيْ: يُذْعِنُوا وَيَنْقَادُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَصْدَرَ الْمُؤَكِّدَ فَقَالَ: تَسْلِيماً فَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ لِعَبْدٍ حَتَّى يَقَعَ مِنْهُ هَذَا التَّحْكِيمُ، وَلَا يَجِدَ الْحَرَجَ فِي صَدْرِهِ بِمَا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُ لِحُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، تَسْلِيمًا لَا يُخَالِطُهُ رَدٌّ وَلَا تَشُوبُهُ مُخَالَفَةٌ.

قال في التحرير والتنوير :

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الْبَقَرَة:204] إِلَى قَوْله رَؤُفٌ بِالْعِبادِ مَعَانٍ مِنْ مَعَانِي أَدَبِ النُّفُوسِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَخْلَاقِهَا تُعَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبَ التَّوَسُّمِ فِي الْحَقَائِقِ وَدَوَاخِلِ الْأُمُورِ وَعَدَمَ الِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ إِلَّا بَعْدَ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُغَرُّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ مُنْطَوٍ عَلَى بَاطِنِ سُوءٍ وَيُعْطِي مِنْ لِسَانِهِ حَلَاوَةَ تَعْبِيرٍ وَهُوَ يُضْمِرُ الشَّرَّ وَالْكَيْدَ قَالَ الْمُعَرِّيُّ:
وَقَدْ يُخْلِفُ الْإِنْسَانُ ظَنَّ عَشِيرَةٍ ... وَإِنْ رَاقَ مِنْهُ مَنْظَرٌ وَرُوَاءُ
وَقَدْ شَمِلَ هَذَا الْحَالُ قَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»بِأَحَدِ مَعْنَيَيْهِ الْمُحْتَوِي عَلَيْهِمَا وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَتَبْلُغُ هَلْهَلَةُ دِينِهِ إِلَى حَدِّ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى أَنَّ مَا يَقُولُهُ صِدْقٌ وَهُوَ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُبَيِّتُ فِي نَفْسِهِ الْخِصَامَ وَالْكَرَاهِيَةَ.
وَعَلَامَةُ الْبَاطِنِ تَكُونُ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمَرْءِ فَالَّذِي يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَلَا يَكُونُ صَاحِبَ ضَمِيرٍ طَيِّبٍ، وَأَنَّ الَّذِي لَا يُصْغِي إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ إِذَا دَعَوْتَهُ إِلَيْهِ وَيُظْهِرُ عَلَيْهِ الِاعْتِزَازَ بِالظُّلْمِ لَا يَرْعَوِي عَنْ غَيِّهِ وَلَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ الذَّمِيمَةَ، وَالَّذِي لَا يَشِحُّ بِنَفْسِهِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ يُنْبِئُ خُلُقُهُ عَنْ إِيثَارِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ وَمَنْ لَا يَرْأَفُ فَاللَّهُ لَا يرأف بِهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي كِتَابِهِ (اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ).........

إن المُشابهةَ في الظاهر تورثُ نوعَ مودةٍ ومحبةٍ وموالاةٍ في الباطن، كما أن المحبةَ في الباطن تورث المشابهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين.. ، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً مالا يألفون غيرهم ، وكذلك الملوك والرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم ، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص . فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية ، تورث المحبة والولاء لهم ، فكيف بالمشابهة في أمور دينية ؟ . فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد ، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان. بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك: لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما... فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة، فتكون محرمة".
وقَدْ رأينا اليهودَ الَّذِينَ عاشروا الْمُسْلِمِين، هم أقلُ كفرًا من غيرهم، كما رأينا الْمُسْلِمِين الَّذِينَ أكثروا من مُعاشرة اليهود والنَّصَارَى هم أقلُ إيمانًا من غيرهم، والمُشَارَكَة فِي الهدْي الظاهر، توجب أيضًا مناسبة وائتلافا وإن بَعُدَ المكَانَ والزمان، فهَذَا أيضًا أمر محسوسٌ فمشابهتُهم فِي أعيادهم ولو بالقليل، هُوَ سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هِيَ ملعونة.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كتاب أحكامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ:

وَعَدَمُ الْمُشَابَهَةِ فِي الزِّيِّ الظَّاهِرِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْعَدَ مِنَ الْمُشَابَهَةِ فِي الزِّيِّ الْبَاطِنِ فَإِنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي أَحَدِهِمَا تَدْعُو إِلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الْآخَرِ بِحَسَبِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كتاب الْفُرُوسِيَّةِ :

وَأما زِيّ الْعَجم ف لِأَن المشابهة فِي الزي الظَّاهِر تَدْعُو إِلَى الْمُوَافقَة فِي الْهَدْي الْبَاطِن كَمَا دلّ عَلَيْهِ الشَّرْع وَالْعقل والحس - وَلِهَذَا جَاءَت الشَّرِيعَة بِالْمَنْعِ من التَّشَبُّه بالكفار والحيوانات وَالشَّيَاطِين وَالنِّسَاء والأعراب وكل نَاقص- حَتَّى نَهى فِي الصَّلَاة عَن التَّشَبُّه بشبه أَنْوَاع من الْحَيَوَان يَفْعَلهَا أَو كثيرا مِنْهَا الْجُهَّال نهى عَن نقر كنقر الْغُرَاب والتفات كالتفات الثَّعْلَب وإقعاء كإقعاء الْكَلْب وافتراش كافتراش السَّبع وبروك كبروك الْجمل وَرفع الْأَيْدِي يَمِينا وَشمَالًا عِنْد السَّلَام كأذناب الْخَيل .
وَنهى عَن التَّشَبُّه بالشياطين فِي الْأكل وَالشرب بالشمال وَفِي سَائِر خِصَال الشَّيْطَان. وَنهى عَن التَّشَبُّه بالكفار فِي زيهم وَكَلَامهم وهديهم حَتَّى نهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر وَبعد الصُّبْح - فَإِن الْكفَّار يَسْجُدُونَ للشمس فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ .
وَنهى عَن التَّشَبُّه بالأعراب وهم أهل الْجفَاء والبدو فَقَالَ لَا تغلبنكم الْأَعْرَاب على اسْم صَلَاتكُمْ الْعَتَمَة وَإِنَّهَا الْعشَاء فِي كتاب الله وَلعن المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء .

قال وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَبُو السَّرِيِّ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ في كِتابِ الزُّهدِ......

حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَا يُشْبِهُ الزِّيُّ الزِّيَّ حَتَّى تُشْبِهَ الْقُلُوبُ الْقُلُوبَ». وأخرجه ابْن أَبِي شَيْبَة في مُصًنَّفِهِ
 
ثَالِثًا ..........التَّقْلِيدُ...................

قوله تعالى :{أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}

قال في فتح القدير :

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَقُبْحِهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةِ فِي الْإِسْلَامِ إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِقَوْلِ أَسْلَافِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ آثَارَهُمْ، وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَإِذَا رَامَ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ ضَلَالَةٍ أَوْ يَدْفَعَهُمْ عَنْ بِدْعَةٍ قَدْ تَمَسَّكُوا بِهَا وَوَرِثُوهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ نَيِّرٍ وَلَا حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ قَالَ، وَقِيلَ: لِشُبْهَةٍ دَاحِضَةٍ، وَحُجَّةٍ زَائِفَةٍ، وَمُقَالَةٍ بَاطِلَةٍ، قَالُوا بِمَا قَالَهُ الْمُتْرَفُونَ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، أَوْ بِمَا يُلَاقِي مَعْنَاهُ مَعْنَى ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ لَهُمُ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ: قَدْ جَمَعَتْنَا الْمِلَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَشَمِلَنَا هَذَا الدِّينُ الْمُحَمَّدِيُّ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْنَا الله ولا تعبدكم ولا تعبد آبَاءَكُمْ مِنْ قَبْلِكُمْ إِلَّا بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَبِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِهِ، فَإِنَّهُ الْمُبَيِّنُ لِكِتَابِ اللَّهِ الْمُوَضِّحُ لِمَعَانِيهِ، الْفَارِقُ بَيْنَ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، فَتَعَالَوْا نَرُدُّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّدَّ إِلَيْهِمَا أَهْدَى لَنَا وَلَكُمْ مِنَ الرَّدِّ إِلَى مَا قَالَهُ أَسْلَافُكُمْ وَدَرَجَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، نَفَرُوا نُفُورَ الْوُحُوشِ، وَرَمَوُا الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِكُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَلَا قَوْلَهُ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً « فَإِنْ قَالَ لَهُمُ الْقَائِلُ: هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي تَقْتَدُونَ بِهِ وَتَتَّبِعُونَ أَقْوَالَهُ هُوَ مِثْلُكُمْ فِي كَوْنِهِ مُتَعَبِّدًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، مَطْلُوبًا مِنْهُ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْكُمْ، وَإِذَا عَمِلَ بِرَأْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ وِجْدَانِهِ لِلدَّلِيلِ، فَذَلِكَ رُخْصَةٌ لَهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتْبَعَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهَا، ولا يجوز لهم الْعَمَلُ بِهَا، وَقَدْ وَجَدُوا الدَّلِيلَ الَّذِي لَمْ يَجِدْهُ، وَهَا أَنَا أُوجِدْكُمُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ فِيمَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ أَهْدَى لَكُمْ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، قَالُوا: لَا نَعْمَلُ بِهَذَا وَلَا سَمْعَ لَكَ وَلَا طاعة، ووجدوا في صدورهم أعظم الْحَرَجِ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُسَلِّمُوا بذلك وَلَا أَذْعَنُوا لَهُ، وَقَدْ وَهَبَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ عصا يتوكؤون عَلَيْهَا عِنْدَ أَنْ يَسْمَعُوا مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِمَامَنَا الَّذِي قَلَّدْنَاهُ وَاقْتَدَيْنَا بِهِ أَعْلَمُ مِنْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَذْهَانَهُمْ قَدْ تَصَوَّرَتْ مَنْ يَقْتَدُونَ بِهِ تَصَوُّرًا عَظِيمًا بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْعَصْرِ وَكَثْرَةِ الْأَتْبَاعِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَيْهِمْ مَدْفُوعٌ بِهِ فِي وُجُوهِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ فِي التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَدْرًا، وَأَقْدَمُ عَصْرًا مِنْ صَاحِبِكُمْ، فَإِنْ كَانَ لِتَقَدُّمِ الْعَصْرِ وَجَلَالَةِ الْقَدْرِ مَزِيَّةٌ حَتَّى تُوجِبَ الِاقْتِدَاءَ، فَتَعَالَوْا حَتَّى أُرِيَكُمْ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ عَصْرًا وَأَجَلُّ قَدْرًا، فَإِنْ أبيتم ذلك، ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة قدر، فَإِنْ أَبَيْتُمْ ذَلِكَ، فَهَا أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَجَلُّ خَطَرًا وَأَكْثَرُ أَتْبَاعًا وَأَقْدَمُ عَصْرًا، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله نبينا ونبيكم ورسول اللَّهِ إِلَيْنَا وَإِلَيْكُمْ فَتَعَالَوْا فَهَذِهِ سُنَّتُهُ مَوْجُودَةٌ فِي دَفَاتِرِ الْإِسْلَامِ وَدَوَاوِينِهِ الَّتِي تَلَقَّتْهَا جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَعَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، وَهَذَا كِتَابُ رَبِّنَا خَالِقِ الْكُلِّ وَرَازِقِ الْكُلِّ وَمُوجِدِ الْكُلِّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ بَيْتٍ، وَبِيَدِ كُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ يَلْحَقْهُ تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، وَلَا زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ، وَلَا تَحْرِيفٌ وَلَا تَصْحِيفٌ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ مِمَّنْ يَفْهَمُ أَلْفَاظَهُ وَيَتَعَقَّلُ مَعَانِيَهُ، فَتَعَالَوْا لِنَأْخُذِ الْحَقَّ مِنْ مَعْدِنِهِ وَنَشْرَبَ صَفْوَ الْمَاءِ مِنْ مَنْبَعِهِ، فَهُوَ أَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، قَالُوا: لَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا وَتَأَمَّلْهُ إِنْ بَقِيَ فِيكَ بَقِيَّةٌ مِنْ إِنْصَافٍ وَشُعْبَةٌ مِنْ خَيْرٍ وَمِزْعَةٌ مِنْ حَيَاءٍ وَحِصَّةٌ مِنْ دِينٍ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي كِتَابِي الَّذِي سَمَّيْتُهُ «أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ» فارجع إليه إن رمت أن تجلي عنك ظلمات التعصب وتتقشع لَكَ سَحَائِبُ التَّقْلِيدِ.

قوله تعالى :{ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)}

قال في فتح القدير :

ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ مَا قَالُوا ذَلِكَ إِلَّا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَكَذِبًا، لَا لِشَرْعٍ شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَا لِعَقْلِ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ مَا أَرَكَّ عُقُولَ هَؤُلَاءِ وَأَضْعَفَهَا، يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الَّتِي هِيَ مَحْضُ الرَّقَاعَةِ وَنَفْسُ الْحُمْقِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَهَذِهِ أَفْعَالُ آبَائِهِمْ وَسُنَنِهِمُ الَّتِي سَنُّوهَا لَهُمْ، وَصَدَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ أَيْ وَلَوْ كَانُوا جَهَلَةً ضَالِّينَ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ: أَيْ أَحْسَبُهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَالَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عَلَيْهَا إِنْ دَعَاهُمْ دَاعِي الْحَقِّ وَصَرَخَ لَهُمْ صَارِخُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ قَلَّدُوهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلَهُمْ فِي التَّعَبُّدِ بِشَرْعِ اللَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ قَوْلِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ لِسُنَّةِ رَسُولِهِ هُوَ كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ الْفَرْقُ إِلَّا فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ اللَّفْظِيَّةِ، لَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي عَلَيْهِ تَدُورُ الْإِفَادَةُ وَالِاسْتِفَادَةُ، اللَّهُمَّ غُفْرًا.
 
رَابِعًا: حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ..................
تظهر الحقيقة في هذه الآية .............
قوله تعَلَى :{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}

قال في تفسير المنار :

(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هَذَا بَيَانٌ إِجْمَالِيٌّ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْعَمَلِ ، بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ التَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ بِالْإِيمَانِ ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ جِنْسُهَا الشَّامِلُ لِلْمَفْرُوضِ وَالْمُسْتَحَبِّ ، وَالنُّسُكُ فِي الْأَصْلِ الْعِبَادَةُ أَوْ غَايَتُهَا وَالنَّاسِكُ الْعَابِدُ ، وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ وَعِبَادَةِ الذَّبَائِحِ وَالْقَرَابِينِ فِيهِ أَوْ مُطْلَقًا .
وَبِهَذَا تَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ غَرَضُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ مِنْ حَيَاتِهِ وَذَخِيرَتُهُ لِمَمَاتِهِ ، يَجْعَلُهَا خَالِصَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ " اللهُ " وَ " رَبُّ الْعَالَمِينَ " لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ يُطْلِقُونَهُمَا عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ وَلَا مَعْبُودَاتِ غَيْرِهِمُ الْمُتَّخَذَةِ الَّتِي أَشْرَكُوهَا مَعَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فَتَذَكَّرْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ أَنَّ الَّذِي يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ لِلَّهِ وَمَمَاتُهُ لِلَّهِ ، يَتَحَرَّى الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَيَطْلُبُ الْكَمَالَ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ ، لِيَكُونَ قُدْوَةً فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا ، وَأَهْلًا لِرِضْوَانِ رَبِّهِ الْأَكْبَرِ فِي الْآخِرَةِ .
ثُمَّ يَتَحَرَّى أَنْ يَمُوتَ مِيتَةً مُرْضِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَحْرِصُ عَلَى الْحَيَاةِ لِذَاتِهَا ، وَلَا يَخَافُ الْمَوْتَ فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي أَهْلِ الْجَوْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ . فَهَذَا مُقْتَضَى الدِّينِ يَقُومُ بِهِ مَنْ يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ ، وَلَا يُفَكِّرُ فِيهِ مَنْ يَكْتَفُونَ بِجَعْلِهِ مِنْ قَبِيلِ الرَّوَابِطِ الْجِنْسِيَّةِ ، وَالتَّقَالِيدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ، فَأَيْنَ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ إِذَا أَقَامُوهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ ؟ أُولَئِكَ الْمَادِّيُّونَ الَّذِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا التَّمَتُّعُ بِالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ ، وَالتَّعَدِّيَاتُ الْوَحْشِيَّةُ . يَعْدُو الْأَقْوِيَاءُ مِنْهُمْ عَلَى الضُّعَفَاءِ لِاسْتِعْبَادِهِمْ ، وَتَسْخِيرِهِمْ لِشَهَوَاتِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ . وَلَكِنَّ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الدِّينِ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ قَدْ تَرَكُوا هِدَايَتَهُ ، وَفُتِنُوا بِزِينَةِ أَهْلِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَقُوَّتِهِمْ . وَلَمْ يُجَارُوهُمْ فِي فُنُونِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ، وَلَوِ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ ، وَعَادُوا إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ لَنَالُوا سِيَادَةَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ قَدْ أَيْقَظَهُمْ مِنْ رُقَادِهِمْ ، وَهَدَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ أَجْدَادِهِمْ ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ .

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في المُحرر الوَجيز :

أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِنَ أَنَّ مَقْصِدَهُ فِي صَلَاتِهِ وَطَاعَاتِهِ مِنْ ذَبِيحَةٍ وَغَيْرِهَا وَتَصَرُّفِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَحَالِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ عِنْدَ مَمَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ وَطَلَبِهِ رِضَاهُ، وَفِي إِعْلَانِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا يُلْزِمُ الْمُؤْمِنِينَ التَّأَسِّي بِهِ حَتَّى يَلْزَمُوا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ قَصْدَ وَجْهِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ تَصَرُّفُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ. ، ويُحتملُ أن يريدَ بهذه المَقالة أن صَلاتَه ونُسكَه وحَياتَه وموتَه بيدِ اللهِ عزّ وجلّ يُصرفه في جميعِ ذلك كيف شاء وأنه قد هَدَاه من ذَلك إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، ويكونُ قوله { وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ } على هَذا التأويل راجعاً إلى قوله { لَا شَرِيكَ لَهُ } فَقط أو راجعاً إلى القولِ الأول وعلى التأويل الأول يرجعُ على جَميعِ ما ذكر من صلاةٍ وغيرها ، أي أمرتُ بأن أقصدَ وجهَ اللهِ عزّ وجلّ في ذلك وأن التزمَ العمَلَ.

قال أبو السعود رحمه الله:

{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى } أُعيد الأمرُ لِما أن المأثورَ به متعلِّقٌ بفروع الشرائعِ وما سبق بأصولها ، أي عبادتي كلَّها وقيل : وذبحي ، جُمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وقيل : صلاتي وحجّي { وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } أي وما أنا عليه في حياتي وما أكونُ عليه عند موتي من الإيمان والطاعةِ أو طاعاتِ الحياةِ والخيراتِ المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير .

قالَ في الظِلال :

إنه التجردُ الكامل لله ، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة. بالصلاة والاعتكاف. وبالمحيا والممات. بالشعائر التعبدية ، وبالحياة الواقعية ، وبالممات وما وراءه.
ولو تَعذَّرَ عَليكَ شَيْءٌ فَهَذَانِ يملآنِ صدركَ ثَباتَا ..........
{ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ }{ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }.
 
بسم الله الرحمن الرحيم ............

أعلم أن الموضوع طويل لكنه يحتاج صبرا - فلقد جمعت فيه- بعون الله فقط- كلاما طيبا.
ولست أزكي الموضوع لكن أتمنى أن يصبر عليه من يقرأ .
 
عودة
أعلى