بشير عبدالعال
Member
الصِّبْغَةُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَالتَّقْلِيدُ وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك .
هَذَا المَوضُوعُ يُناقِشُ حَقيقةً وَاحدَةً - صُرِفَت بِسببِ تَعددِ الرَّأي ..وَفَهمُها يَحتاجُ صَبرا.
أَوَّلًا... الصِّبْغَةُ ...........
قولُه تعالى :{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
هَل لقولِه تعالى :{ صِبْغَةَ اللَّهِ } دلالةٌ سُلوكيةٌ مُتَعَيَّنةٌ لازمةٌ ؟ هَل بِالفِعلِ نَحتَاجُ إلى التَّمَثُّلِ وَالتّمَسُّكِ بالشَّعَائرِ الظّاهرَةِ ؟
قال في المُحرر الوَجيز :
و { صِبْغَةَ اللَّهِ } شَريعَتُه وسَنَّتُه وفِطرتُه ، قال كثيرٌ من المُفسرين : وذلك أن النَّصارى لهم ماءٌ يَصبغون فيه أولادَهم ، فهذا ينظر إلى ذلك : وقيل : سُمِّيَ الدِّينُ { صِبْغَةً } استعارة مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وغيره.
قال القُرطبي رحمه اللهُ :
فَسُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ.
قال العُثيمين رحِمَه اللهُ :
قوله تعالى: { صِبْغَةَ اللَّهِ } « الصِّبْغَةُ » مَعنَاهَا اللونُ؛ وقالوا: المُراد بـ { صِبْغَةَ اللَّهِ } دينُ الله؛ وسَمَّي «الدَّين» صِبغَةً لظهورِ أثَرهِ على العَاملِ به؛ فإن المُتدينَ يَظهرُ أثرُ الدِّينِ عليه: يظهرُ على صَفحاتِ وَجهِه، ويَظهرُ عَلى مَسلَكه، ويَظهرُ على خُشوعِه، وعلى سَمتِه، وعَلى هَيئتِه كُلِّها؛ فهو بِمَنزلةِ الصَّبغِ للثَّوبِ يظهرُ أثرُه عليه؛ وقيل: سُمَّي صِبغَةً للزومه كَلزومِ الصَّبغِ للثَّوبِ؛ ولا يَمنع أن نقولَ: إنه سُمِّي بذلك للوجهين جَميعاً: فهو صِبغةٌ للزومه؛ وهو صبغةٌ أيضاً لِظهورِ أثرهِ على العامل به. قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }: الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ أي لا أحد أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ؛ وذلك؛ لأن دينَ اللهِ عزّ وجلّ مشتمل على المَصالح، ودرءِ المَفَاسِدِ؛ ولا يُوجد دينٌ يشتملُ على هذا إلا ما جاء من عند الله، سواء كان الدينُ الإسَّلامي الذي جاء به مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أو الأديانُ الأُخرى ما دَامت قائمةً لم تُنسخ.
قال في تَفسيرِ المَنَارِ :
(صِبْغَةَ اللهِ) أَيْ صُبِغْنَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ صِبْغَةَ اللهِ وَفِطْرَتَهُ فُطِرْنَا عَلَيْهَا ، وَهِيَ مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ ، فَلَا دَخْلَ فِيهَا لِلتَّقَالِيدِ الْوَضْعِيَّةِ وَلَا لِآرَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَأَهْوَاءِ الزُّعَمَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةِ مُتَوَسِّطٍ وَلَا صُنْعِ صَانِعٍ ، وَالصِّبْغَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ صِيغَةٌ لِلْهَيْئَةِ مِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ إِذَا لَوَّنَهُ بِلَوْنٍ خَاصٍّ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْ صِبْغَتِهِ فَهِيَ جِمَاعُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤَلِّفُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ، وَيُزَكِّي النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُ الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ . وَأَمَّا مَا أَضَافَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الدِّينِ مِنْ آرَاءِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فَهُوَ مِنَ الصَّنْعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَالصِّبْغَةِ الْبَشَرِيَّةِ قَدْ جَعَلَ الدِّينَ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً مُفَرِّقَةً ، وَالْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ شِيَعًا مُتَنَافِرَةً مُتَمَزِّقَةً (وَنَحْنُ لَهُ) وَحْدَهُ (عَابِدُونَ) فَلَا نَتَّخِذُ أَحْبَارَنَا وَعُلَمَاءَنَا أَرْبَابًا يَزِيدُونَ فِي دِينِنَا وَيَنْقُصُونَ ، وَيُحِلُّونَ لَنَا بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ ، وَيَمْحُونَ مِنْ نُفُوسِنَا صِبْغَةَ اللهِ الْمُوجِبَةَ لِلتَّوْحِيدِ ، وَيُثْبِتُونَ مَكَانَهَا صِبْغَةَ الْبَشَرِ الْقَاضِيَةَ بِالشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَعْمَالٍ صِنَاعِيَّةٍ كَالْمَعْمُودِيَّةِ عِنْدَ النَّصَارَى مَثَلًا ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِيهِ عَلَى مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالِاعْتِدَالِ ، وَالْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
قال السَّعدي رحِمه اللهُ :
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } .
أي: الزموا صِبغَةَ الله، وهو دينُه، وقوموا به قياما تاما، بجميع أعماله الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة، وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعا واختيارا ومحبة، وصار الدينُ طبيعةً لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادةُ الدنيوية والأخروية، لحث الدينِ على مَكارم الأخلاق، ومَحاسن الأعمال، ومَعالي الأمور، فلهذا قال - على سبيل التعجب المُتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغةً من صبغته .
وإذا أردت أن تعرفَ نموذجا يبينُ لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصِّبَغ، فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يَتحلى بكل وصف حسن، وفعل جميل، وخلق كامل، ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح، ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم، والعفة، والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي، ومحبة الله وخشيته، وخوفه، ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود، والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه، وشرد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة، من الكفر، والشرك والكذب، والخيانة، والمكر، والخداع، وعدم العفة، والإساءة إلى الخلق، في أقواله، وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبحَ صبغة ممن انصبغ بغير دينه.
وفي قوله: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة، وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاصُ والمُتابعة، لأن " الْعِبَادَةَ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ولا تكون كذلك، حتى يُشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبدُ وجهَ الله وحده، في تلك الأعمال، فتقديمُ المعمول، يؤذنُ بالحصر.
وقال: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار، ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما.
قال في الظلال :
- إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته ، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه ، وبالعلامة التي يضعها اللّه على أوليائه ، فيعرفون بها في الأرض : «صِبْغَةَ اللَّهِ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً؟ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ».
قال الشَّعراويُّ رحمه اللهُ في تَفسيره :
ما هي الصِّبْغَةُ ؟ الصِّبْغَةُ هي إدخالُ لون على شيء بحيث يغيره بلون آخر . . تصبغ الشيء أحمر أو أزرق أو أي لون تختاره . والصبغ ينفذ في المصبوغ خاصة إذا كان المصبوغ له شعيرات مسام كالقطن أو الصوف . . ولذلك فإن الألياف الصناعية لا يمكن أن تصبغ لماذا؟ لأن شعرة القطن أو الصوف أشبه بالأنبوبة في تركيبها .
وإذا جئنا بقنديل من الزيت ووضعنا فيه فتيلا من القطن بحيث يكون رأس الفتيل في الزيت ثم تشغله من أعلاه نجد أن الزيت يسري في الأنابيب ويشعل الفتيل . . فإذا جربنا هذا في الألياف الصناعية فلا يمكن أن يسري فيها الزيت وإنما النار تأكل الألياف لأنه ليس فيها أنابيب شعرية كالقطن والصوف . . ولذلك تجد الألياف الصناعية سهلة في الغسيل لأن العرق لا يدخل في مسامها بينما الملابس القطنية تحتاج لجهد كبير لأن مسامها مشبعة بالعرق والتراب .
إذن الصبغةُ لابد أن تتدخل مادتها من مسام القماش . . أما الطلاء فهو مختلف . إنه طبقة خارجية تستطيع أن تزيلها . . ولذلك فإن الذين يفتون في طلاء الأظافر بالنسبة للسيدات ويقولون إنه مثل الحناء نقول لهم لا . . الحناء صبغة تتخلل المادة الحية وتبقى حتى يذهب الجلد بها أي لا تستطيع أن تزيلها عندما تريد . . ولكن الطلاء يمكن أن تزيله في أي وقت ولو بعد إتمامه بلحظات . . إذن فطلاء الأظافر ليس صبغة .
قوله سبحانه : { صِبْغَةَ الله } فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل الله على رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري . . ولماذا كلمة صبغة؟ حتى نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله . . إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق - ولذلك قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ » (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
فكأن الإيمانَ صبغةٌ موجودةٌ بالفطرة . . إنها صبغةُ الله . . فإن كان أبواه مُسلمينِ ظل على الفطرة . وإن كان أبواه من اليهود أو النصارى يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه ويضعانه في ماء ويقولون صبغناه بماء المعمودية . . هذا هو معنى صبغة الله .
ويريد الحقُّ سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا . . هذا الاختلاف في اللون من صبغةِ الله . . اختلاف ألوان البشر ليس طلاء وإنما في ذات التكوين . . فيكون هذا أبيض وهذا أسمر وهذا أصفر وهذا أحمر ، هذه هي صبغة الله . . وما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة .
لأن الإيمان والدين لا يأتي من خارج الإنسان وإنما يأتي من داخله . . ولذلك فإن الإيمان يهز كل أعضاء الجسد البشري . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ]
هذا هو التأثيرُ الذي يضعه الله في القلوب . . أمر داخلي وليس خارجيا . . أما إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي وليس صبغة لأنهم تركوا صبغة الله . . ونقول لهم : لا . هذا الطلاء من عندكم أنتم ، أما ديننا فهو صبغةُ الله . .
وقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } . . استفهام لا يمكن أن يكذبوه ولكن الجواب يأتي على وفق ما يريده السائل سبحانه من أنه لا يوجد من هو أحسن من الله صبغة .وقوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } أي مطيعون لأوامره والعابد هو من يطيع أوامر الله ويجتنب ما نهى عنه .
والأوامرُ دائما تأتي بأمر فيه مشقة يطلب منك أن تفعله والنهي يأتي عن أمر محبب إلى نفسك هناك مشقة أن تتركه . . ذلك أن الإنسان يريد النفع العاجل ، النفع السطحي ، والله سبحانه وتعالى يوجهنا إلى النفع الحقيقي . . النفع العاجل يعطيك لذة عاجلة ويمنحك نعيما دائما في الآخرة وتمتعا بقدرات الله سبحانه وتعالى . .
وأنت حين تسمع المؤذنَ ولا تقومُ للصلاة لأنها ثقيلة على نفسك قد أعطيت نفسك لذة عاجلة كأن تشغل نفسك بالحديث مع شخص أو بلعب الطاولة أو بغير ذلك . . وتترك ذلك النفع الحقيقي الذي يقودك إلى الجنة . . ولذلك قال الله سبحانه : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 45-46 ]
إذن العبادة أمر ونهي . . أمر يشق على نفسك فتستثقله ، ونهى عن شيء محبب إلى نفسك يعطيك لذة عاجلة ولذلك تريد أن تفعله . .
إذن فقوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } . . أي مطيعون لأوامره لأننا آمنا بالآمر إلها وربا يعبد . . فإذا آمنت حبب الله إليك فعل الأشياء التي كنت تستثقلها وسهل عليك الامتناع عن الأشياء التي تحبها لأنها تعطيك لذة عاجلة . . هذه هي صبغة الله التي تعطينا العبادة . . واقرأ قوله تبارك وتعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) } [ الحجرات : 7 ]
وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى بصبغة الإيمان يحبب إلينا الخير ويجعلنا نبغض الشر . . لا عن رياء ونفاق خارج النفس كالطلاء ولكن كالصبغة التي تتخلل الشيء وتصبح هي وهو شيئا واحدا لا يفترقان . .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك .
هَذَا المَوضُوعُ يُناقِشُ حَقيقةً وَاحدَةً - صُرِفَت بِسببِ تَعددِ الرَّأي ..وَفَهمُها يَحتاجُ صَبرا.
أَوَّلًا... الصِّبْغَةُ ...........
قولُه تعالى :{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
هَل لقولِه تعالى :{ صِبْغَةَ اللَّهِ } دلالةٌ سُلوكيةٌ مُتَعَيَّنةٌ لازمةٌ ؟ هَل بِالفِعلِ نَحتَاجُ إلى التَّمَثُّلِ وَالتّمَسُّكِ بالشَّعَائرِ الظّاهرَةِ ؟
قال في المُحرر الوَجيز :
و { صِبْغَةَ اللَّهِ } شَريعَتُه وسَنَّتُه وفِطرتُه ، قال كثيرٌ من المُفسرين : وذلك أن النَّصارى لهم ماءٌ يَصبغون فيه أولادَهم ، فهذا ينظر إلى ذلك : وقيل : سُمِّيَ الدِّينُ { صِبْغَةً } استعارة مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وغيره.
قال القُرطبي رحمه اللهُ :
فَسُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ.
قال العُثيمين رحِمَه اللهُ :
قوله تعالى: { صِبْغَةَ اللَّهِ } « الصِّبْغَةُ » مَعنَاهَا اللونُ؛ وقالوا: المُراد بـ { صِبْغَةَ اللَّهِ } دينُ الله؛ وسَمَّي «الدَّين» صِبغَةً لظهورِ أثَرهِ على العَاملِ به؛ فإن المُتدينَ يَظهرُ أثرُ الدِّينِ عليه: يظهرُ على صَفحاتِ وَجهِه، ويَظهرُ عَلى مَسلَكه، ويَظهرُ على خُشوعِه، وعلى سَمتِه، وعَلى هَيئتِه كُلِّها؛ فهو بِمَنزلةِ الصَّبغِ للثَّوبِ يظهرُ أثرُه عليه؛ وقيل: سُمَّي صِبغَةً للزومه كَلزومِ الصَّبغِ للثَّوبِ؛ ولا يَمنع أن نقولَ: إنه سُمِّي بذلك للوجهين جَميعاً: فهو صِبغةٌ للزومه؛ وهو صبغةٌ أيضاً لِظهورِ أثرهِ على العامل به. قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }: الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ أي لا أحد أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ؛ وذلك؛ لأن دينَ اللهِ عزّ وجلّ مشتمل على المَصالح، ودرءِ المَفَاسِدِ؛ ولا يُوجد دينٌ يشتملُ على هذا إلا ما جاء من عند الله، سواء كان الدينُ الإسَّلامي الذي جاء به مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أو الأديانُ الأُخرى ما دَامت قائمةً لم تُنسخ.
قال في تَفسيرِ المَنَارِ :
(صِبْغَةَ اللهِ) أَيْ صُبِغْنَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ صِبْغَةَ اللهِ وَفِطْرَتَهُ فُطِرْنَا عَلَيْهَا ، وَهِيَ مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ ، فَلَا دَخْلَ فِيهَا لِلتَّقَالِيدِ الْوَضْعِيَّةِ وَلَا لِآرَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَأَهْوَاءِ الزُّعَمَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةِ مُتَوَسِّطٍ وَلَا صُنْعِ صَانِعٍ ، وَالصِّبْغَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ صِيغَةٌ لِلْهَيْئَةِ مِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ إِذَا لَوَّنَهُ بِلَوْنٍ خَاصٍّ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْ صِبْغَتِهِ فَهِيَ جِمَاعُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤَلِّفُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ، وَيُزَكِّي النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُ الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ . وَأَمَّا مَا أَضَافَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الدِّينِ مِنْ آرَاءِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فَهُوَ مِنَ الصَّنْعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَالصِّبْغَةِ الْبَشَرِيَّةِ قَدْ جَعَلَ الدِّينَ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً مُفَرِّقَةً ، وَالْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ شِيَعًا مُتَنَافِرَةً مُتَمَزِّقَةً (وَنَحْنُ لَهُ) وَحْدَهُ (عَابِدُونَ) فَلَا نَتَّخِذُ أَحْبَارَنَا وَعُلَمَاءَنَا أَرْبَابًا يَزِيدُونَ فِي دِينِنَا وَيَنْقُصُونَ ، وَيُحِلُّونَ لَنَا بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ ، وَيَمْحُونَ مِنْ نُفُوسِنَا صِبْغَةَ اللهِ الْمُوجِبَةَ لِلتَّوْحِيدِ ، وَيُثْبِتُونَ مَكَانَهَا صِبْغَةَ الْبَشَرِ الْقَاضِيَةَ بِالشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَعْمَالٍ صِنَاعِيَّةٍ كَالْمَعْمُودِيَّةِ عِنْدَ النَّصَارَى مَثَلًا ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِيهِ عَلَى مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالِاعْتِدَالِ ، وَالْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
قال السَّعدي رحِمه اللهُ :
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } .
أي: الزموا صِبغَةَ الله، وهو دينُه، وقوموا به قياما تاما، بجميع أعماله الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة، وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعا واختيارا ومحبة، وصار الدينُ طبيعةً لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادةُ الدنيوية والأخروية، لحث الدينِ على مَكارم الأخلاق، ومَحاسن الأعمال، ومَعالي الأمور، فلهذا قال - على سبيل التعجب المُتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغةً من صبغته .
وإذا أردت أن تعرفَ نموذجا يبينُ لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصِّبَغ، فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يَتحلى بكل وصف حسن، وفعل جميل، وخلق كامل، ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح، ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم، والعفة، والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي، ومحبة الله وخشيته، وخوفه، ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود، والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه، وشرد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة، من الكفر، والشرك والكذب، والخيانة، والمكر، والخداع، وعدم العفة، والإساءة إلى الخلق، في أقواله، وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبحَ صبغة ممن انصبغ بغير دينه.
وفي قوله: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة، وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاصُ والمُتابعة، لأن " الْعِبَادَةَ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ولا تكون كذلك، حتى يُشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبدُ وجهَ الله وحده، في تلك الأعمال، فتقديمُ المعمول، يؤذنُ بالحصر.
وقال: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار، ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما.
قال في الظلال :
- إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته ، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه ، وبالعلامة التي يضعها اللّه على أوليائه ، فيعرفون بها في الأرض : «صِبْغَةَ اللَّهِ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً؟ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ».
قال الشَّعراويُّ رحمه اللهُ في تَفسيره :
ما هي الصِّبْغَةُ ؟ الصِّبْغَةُ هي إدخالُ لون على شيء بحيث يغيره بلون آخر . . تصبغ الشيء أحمر أو أزرق أو أي لون تختاره . والصبغ ينفذ في المصبوغ خاصة إذا كان المصبوغ له شعيرات مسام كالقطن أو الصوف . . ولذلك فإن الألياف الصناعية لا يمكن أن تصبغ لماذا؟ لأن شعرة القطن أو الصوف أشبه بالأنبوبة في تركيبها .
وإذا جئنا بقنديل من الزيت ووضعنا فيه فتيلا من القطن بحيث يكون رأس الفتيل في الزيت ثم تشغله من أعلاه نجد أن الزيت يسري في الأنابيب ويشعل الفتيل . . فإذا جربنا هذا في الألياف الصناعية فلا يمكن أن يسري فيها الزيت وإنما النار تأكل الألياف لأنه ليس فيها أنابيب شعرية كالقطن والصوف . . ولذلك تجد الألياف الصناعية سهلة في الغسيل لأن العرق لا يدخل في مسامها بينما الملابس القطنية تحتاج لجهد كبير لأن مسامها مشبعة بالعرق والتراب .
إذن الصبغةُ لابد أن تتدخل مادتها من مسام القماش . . أما الطلاء فهو مختلف . إنه طبقة خارجية تستطيع أن تزيلها . . ولذلك فإن الذين يفتون في طلاء الأظافر بالنسبة للسيدات ويقولون إنه مثل الحناء نقول لهم لا . . الحناء صبغة تتخلل المادة الحية وتبقى حتى يذهب الجلد بها أي لا تستطيع أن تزيلها عندما تريد . . ولكن الطلاء يمكن أن تزيله في أي وقت ولو بعد إتمامه بلحظات . . إذن فطلاء الأظافر ليس صبغة .
قوله سبحانه : { صِبْغَةَ الله } فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل الله على رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري . . ولماذا كلمة صبغة؟ حتى نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله . . إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق - ولذلك قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ » (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
فكأن الإيمانَ صبغةٌ موجودةٌ بالفطرة . . إنها صبغةُ الله . . فإن كان أبواه مُسلمينِ ظل على الفطرة . وإن كان أبواه من اليهود أو النصارى يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه ويضعانه في ماء ويقولون صبغناه بماء المعمودية . . هذا هو معنى صبغة الله .
ويريد الحقُّ سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا . . هذا الاختلاف في اللون من صبغةِ الله . . اختلاف ألوان البشر ليس طلاء وإنما في ذات التكوين . . فيكون هذا أبيض وهذا أسمر وهذا أصفر وهذا أحمر ، هذه هي صبغة الله . . وما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة .
لأن الإيمان والدين لا يأتي من خارج الإنسان وإنما يأتي من داخله . . ولذلك فإن الإيمان يهز كل أعضاء الجسد البشري . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ]
هذا هو التأثيرُ الذي يضعه الله في القلوب . . أمر داخلي وليس خارجيا . . أما إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي وليس صبغة لأنهم تركوا صبغة الله . . ونقول لهم : لا . هذا الطلاء من عندكم أنتم ، أما ديننا فهو صبغةُ الله . .
وقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } . . استفهام لا يمكن أن يكذبوه ولكن الجواب يأتي على وفق ما يريده السائل سبحانه من أنه لا يوجد من هو أحسن من الله صبغة .وقوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } أي مطيعون لأوامره والعابد هو من يطيع أوامر الله ويجتنب ما نهى عنه .
والأوامرُ دائما تأتي بأمر فيه مشقة يطلب منك أن تفعله والنهي يأتي عن أمر محبب إلى نفسك هناك مشقة أن تتركه . . ذلك أن الإنسان يريد النفع العاجل ، النفع السطحي ، والله سبحانه وتعالى يوجهنا إلى النفع الحقيقي . . النفع العاجل يعطيك لذة عاجلة ويمنحك نعيما دائما في الآخرة وتمتعا بقدرات الله سبحانه وتعالى . .
وأنت حين تسمع المؤذنَ ولا تقومُ للصلاة لأنها ثقيلة على نفسك قد أعطيت نفسك لذة عاجلة كأن تشغل نفسك بالحديث مع شخص أو بلعب الطاولة أو بغير ذلك . . وتترك ذلك النفع الحقيقي الذي يقودك إلى الجنة . . ولذلك قال الله سبحانه : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 45-46 ]
إذن العبادة أمر ونهي . . أمر يشق على نفسك فتستثقله ، ونهى عن شيء محبب إلى نفسك يعطيك لذة عاجلة ولذلك تريد أن تفعله . .
إذن فقوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } . . أي مطيعون لأوامره لأننا آمنا بالآمر إلها وربا يعبد . . فإذا آمنت حبب الله إليك فعل الأشياء التي كنت تستثقلها وسهل عليك الامتناع عن الأشياء التي تحبها لأنها تعطيك لذة عاجلة . . هذه هي صبغة الله التي تعطينا العبادة . . واقرأ قوله تبارك وتعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) } [ الحجرات : 7 ]
وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى بصبغة الإيمان يحبب إلينا الخير ويجعلنا نبغض الشر . . لا عن رياء ونفاق خارج النفس كالطلاء ولكن كالصبغة التي تتخلل الشيء وتصبح هي وهو شيئا واحدا لا يفترقان . .