الصيام وتهذيب النفس

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
ذهب المحققون من العلماء إلى أن لكل إنسان نفْسٌ واحدة ؛ وهذه النفس لها حالات ثلاثة ، وكل حالة توصف بأوصاف مختلفة ؛ فإذا سكنت لأمر ربها وأذعنت واستسلمت ، وجاهدت شهواتها ؛ كانت النفس المطمئنة ، قال الله تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } [ الفجر: 27، 28 ] ؛ وإذا لم يتم سكونها ولكنها كانت مدافعة لشهواتها ورغباتها ، ومعترضة على ما لا يجوز من تلك الشهوات والرغبات ، صارت النفس اللوامة ؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة ربه وخالقه جل جلاله ، قال الله تعالى : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [ القيامة : 2 ] ؛ وإن تركت الاعتراض على الشهوات والرغبات ، وأطاعت لدواعي الشهوات ووساوس الشيطان ، فهي النفس الأمارة بالسوء ، قال الله تعالى : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } [ يوسف : 53 ] .
وقد امتحن الله جل جلاله الإنسان بهاتين النفسين : الأمارة واللوامة ، كما أكرمه بالمطمئنة ؛ فهي نفس واحدة ، تكون أمارة ، ثم لوامة ، ثم مطمئنة ، وهي غاية كمالها وصلاحها ؛ فهذه النفس التي أقسم الله تعالى بها فقال : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 7 : 10 ] ، أي أن الله عز وجل بيَّن لها طريقي الخير والشر ، ثم قضى الله بالفلاح لمن يزكي نفسه بطاعة الله ، ويطهرها من الرذائل والذنوب ؛ وبالخيبة والخسار على من يخمدها ويضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي ، وترك طاعة الله عز وجل .
وصفوة القول أن النفس قابلة للتزكية وعكسها ، فبالإيمان والعمل الصالح تزكو النفس وتعلو وتطمئن ، وبعكس ذلك تخبث وتدس ، ويكون ذلك سببًا في خيبتها وفسادها ؛ عافانا الله .... وللحديث صلة .
 
في رمضان فرصة عظيمة لتهذيب النفس وتزكيتها ؛ فالإنسان - كما يقول الغزالي في الإحياء - رتبته فوق رتبة البهائم ، لقدرته بنور العقل على كسر شهوته ؛ ودون رتبة الملائكة ، لاستيلاء الشهوات عليه وكونه مبتلى بمجاهدتها ، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل سافلين ، والتحق بغمار البهائم ؛ وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة .
والملائكة مقربون من الله عز وجل ، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم ، فإن الشبيه من القريب قريب ، وليس القرب ثَمَّ بالمكان بل بالصفات ؛ وإذا كان هذا سرُّ الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب ، فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخر طول النهار ؟ ولو كان لمثله جدوى ، فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم : " رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ "[SUP] ( [1] )[/SUP] .ا.هـ .
والمعنى ليس المراد من الصيام أن يؤخر الإنسان وجبة غدائه إلى وجبة عشائه فيجمع بينهما في وجبة واحدة ، ولكن المراد أن يتغلب الإنسان بصيامه على شهواته ، فيلتحق بأفق الملائكة .
والحق أن سبيل الإصلاح والتغيير يبدأ بالنفس ، لقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] ؛ وأصل ذلك الرقي بها إلى أن تكون نفسًا مطمئنة ، ساكنة لأمر ربها مستسلمة مذعنة ، مجتهدة في تحصيل محبته ، بامتثال أوامره ، والابتعاد عن نواهيه ، راجية خائفة ؛ راجية لما أعده لعباده أصحاب النفوس المطمئنة ؛ خائفة ألا يقبل منها ربها أعمالها ، خائفة من فوات فوزها ، خائفة مما أعده الله جل جلاله للذين يخالفون أمره .
والصيام يعين المسلم على هذا ، ويساعده على تجاوز الضعف البشري أمام هوى النفس ورغباتها ؛ فيعطي الصائم ثقة في نفسه أنه - بعون الله تعالى - قادر على ضبط زمام الهوى ، وكبح جماح النفس ، ليس في الامتناع عن المحرمات من أكل الحرام ، أو الزنا ، أو شرب المسكر والدخان والمخدرات ، أو قول الزور والظلم والفحش فقط ؛ بل الامتناع عن الحلال بقول المؤذن عند الفجر : ( الله أكبر ) وإلى أن يقول عند المغرب ( الله أكبر ) ، ليستقر في أعماق كل مسلم ومسلمة أنه ما زال إنسانًا يحمل فطرة نقية ، ونفسًا تستطيع - بعون الله تعالى - أن تتغير وتزكو بطاعة ربها ؛ إنها تمسك عن بعض الحلال لأمر ربها ؛ فيجب أن تكون أبعد عن الحرام والشبهات لأمر ربها أيضًا ؛ وفي ذلك - بلا ريب - صلاحها وزكاتها .
وليس من نافلة القول - هاهنا - أن نقول أيضًا : إن للدعاء أثر عظيم في تزكية النفوس ؛ وإن لرمضان خصوصية بالدعاء ؛ وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا "[SUP] ( [2][/SUP] ) .

[1] - جزء من حديث رواه أحمد : 2 / 373 ، والنسائي في الكبرى ( 3249 ) ، وابن ماجة ( 1690 ) ، والحاكم ( 1571 ) وصححه على شرط البخاري ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ؛ وانظر إحياء علوم الدين : 1 / 279 ( دار الفكر ) .

[2] - جزء من حديث رواه أحمد : 4 / 371 ، ومسلم ( 2722 ) وغيرهما عن زيد بن أرقم .
 
عودة
أعلى