الفصل الثاني
الصوم الواجب بالنذر
فالأصل فيه قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) فأثنى على الذين يوفون بالنذر وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
من نذر أن يطيع الله فليطعه فإذا نذر صيام أيام معينة لزمه صيامها ، إلا أن تكون مما يحرم صومه كيوم العيد وأيام التشريق ،
وإن نذر صوم شهر معين لزمه التتابع ، وإن نذر أيامًا معدودة كعشرة أيام لم يلزمه التتابع ، إلا إذا شرط أنها متتابعة أو نوى أنها
متتابعة فيلزمه التتابع في الحالتين ، مع العلم أنه لا ينبغي النذر ابتداء .
النذر لغة:
النَّذْرُ: النَّحْبُ، وهو ما يَنْذِرُه الإِنسان فيجعله على نفسه نَحْباً واجباً، وجمعه نُذُور،
يقال: نَذَرْتُ نَذْراً، إذا أوجبتَ على نفسِك شيئا تبرُّعا؛ من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك.
وأصل النحب النذر فلما كان كل حي لا بد له من الموت، فكأنه نذرٌ لازم له فإذا مات فقد قضاه.
وشرعا:
النذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال: نذرت لله أمرا ، قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} (مريم/26)،
وقال: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر} (البقرة/270) ، قال القرطبى: والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف
على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر- بضم الذال - وينذر – بكسرها.
قال في النهاية النحب: النذر كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب فوفى به، وقيل النحب الموت كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت انتهى.
وقال التوربشتي: النذر والنحب المدة والوقت. ومنه قضى فلان نحبه إذا مات وعلى المعنيين يحمل قوله سبحانه: {فمنهم من قضى نحبه}
فعلى النذر أي نذره فيما عاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الموت:
أي مات في سبيل الله وذلك أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم في سبيله.
قال ابن حجر: والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف . وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر .
قال القرطبى: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه.
حكمه شرعا:
* فى الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ" [.خ...ك...الأيمان والنذور]....
وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن النذر " وجاء بصيغة النهي الصريحة في رواية عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ " لا تنذروا " .
* وعن سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ النَّذْرَ
لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ"..[خ...ك..الأيمان والنذور].
* وهذه الروايات تبين أن النذر منهى عنه...وجاء فى بعض الروايات ما يعتبر تعليل لهذا النهى كما فى هذه الرواية قوله ( لا يقدم شيئا ولا يؤخر )
وفي رواية " لا يرد شيئا " وهي أعم , ونحوها في حديث أبي هريرة " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له " وفي رواية "
فإن النذر لا يغني من القدر شيئا " وفي لفظ " لا يرد القدر " وفي حديث أبي هريرة عنده " لا يُقَرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له
" ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة , وفيها إشارة إلى تعليل النهي عن النذر .
* وقد اختلف العلماء في هذا النهي : فمنهم من حمله على ظاهره , ومنهم من تأوله . قال ابن الأثير في النهاية : تكرر النهي عن النذر
في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه , ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء
به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم , وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا
ولا يغير قضاء فقال : لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم ,
فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم , انتهى كلامه .
وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال : كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما ,
ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله , ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به .
ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة , وإلى ذلك أشار المازري بقوله : ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ
في النذر والحض على الوفاء به . قال : وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث . ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا
لها لما صار عليه لازم , وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار , ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط
أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب . قال : ويشير إلى هذا التأويل قوله " إنه لا يأتي بخير " وقوله " إنه لا يقرب
من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له " وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ .
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له ,
وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها , لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه , . وقال النووي : معنى قوله " لا يأتي بخير "
أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينته الروايات الأخرى .
وقد ذكر أكثر الشافعية - ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي - أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد ,
وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة , قال : واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد
أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه . وجزم الحنابلة بالكراهة , وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها ,
وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال : وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر , وقال ابن المبارك : معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية ,
فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر .
ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به
ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربة قال : يمكن أن يتوسط فيقال : الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة وأما نذر التبرر فهو قربة محضة
لأن للناذر فيه غرضا صحيحا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع ا هـ . وجزم القرطبي في " المفهم " بحمل ما ورد في الأحاديث
من النهي على نذر المجازاة فقال : هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا , ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة
المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة ,
ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه , وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا .
وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله " إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه " قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن
أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض , أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر , وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا
" فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح . قلت : بل تقرب من الكفر أيضا .
ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال : الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد
فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ . وهو تفصيل حسن , وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة
في قوله تعالى ( يوفون بالنذر ) قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا ,
وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة , ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم
" من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه " ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى , والاتفاق الذي ذكره مسلم ,
النذر يستخرج به من البخيل مالم يكن يخرجه:
*فى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ
فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"..[.خ...ك...الأيمان والنذور]....
وفي رواية لمسلم " فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج "
قال البيضاوي : عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة , فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه
والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له , وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا ,
لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه , لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه , قال ابن العربي :
فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر , لأن الحديث نص على ذلك بقوله " يستخرج به " فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه
بالبخل من صدور النذر عنه , إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج.
وقال ابن العربي : النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا , ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء ,
والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة
إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم.أ.هـ
النذر فى الطاعة فقط:
*قال تعالى:" وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189 البقرة).
في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر
وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة.
قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل
قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه). فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته،
وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.
*وفى الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ" [.خ...ك...الأيمان والنذور].
الطاعة أعم من أن تكون في واجب أو مستحب , ويتصور النذر في فعل الواجب بأن يؤقته , كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول
وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته , وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيده به الناذر والخبر
صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن ترك الوفاء به إذا كان في معصية.
وقد قسم بعض الشافعية الطاعة إلى قسمين : واجب عينا فلا ينعقد به النذر كصلاة الظهر مثلا وأما صفة فيه فينعقد كإيقاعها أول الوقت ,
وواجب على الكفاية كالجهاد فينعقد , ومندوب عبادة عينا كان أو كفاية فينعقد , ومندوب لا يسمى عبادة كعيادة المريض وزيارة القادم
ففي انعقاده وجهان والأرجح انعقاده وهو قول الجمهور والحديث يتناوله فلا يخص من عموم الخبر إلا القسم الأول لأنه تحصيل الحاصل .
وبوب البخارى: باب النذر فيما لا يملك وفي معصية:
والتقدير باب النذر فيما لا يملك وحكم النذر في معصية , فإذا ثبت نفي النذر في المعصية التحق به النذر فيما لا يملك لأنه يستلزم
المعصية لكونه تصرفا في ملك الغير.... وهو في حديث ثابت بن الضحاك بلفظ " وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك "
وقد أخرجه الترمذي مقتصرا على هذا القدر من الحديث...... وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت
على ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم , فإن الذين أسروا المرأة انتهبوها فنذرت إن سلمت أن تنحرها , فقال النبي صلى الله عليه وسلم "
لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم "...... وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ " لا يمين عليك
ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك "
واستدل بحديث " لا نذر في معصية " من قال بصحة النذر في المباح لأن فيه نفي النذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتا , واحتج من قال
إنه يشرع في المباح بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده , وأخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة "
أن امرأة قالت : يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف , فقال : أوف بنذرك " وزاد في حديث بريدة أن ذلك
وقت خروجه في غزوة فنذرت إن رده الله تعالى سالما....الحديث.. قال البيهقي : يشبه أن يكون أذن لها في ذلك لما فيه من إظهار الفرح بالسلامة ,
واتفقوا على تحريم النذر في المعصية , واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة , واحتج من أوجبها بحديث عائشة
" لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " أخرجه أصحاب السنن ورواته ثقات , لكنه معلول فإن الزهري رواه عن أبي سلمة ثم بين أنه حمله
عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلسه بإسقاط اثنين , وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال : لا يصح ,
ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النسائي وضعفه.... وقال النووى في الروضة: حديث لا نذر في
معصية وكفارته كفارة اليمين ضعيف باتفاق المحدثين.
وقوله: "فلا يعصه"، هذا كما لو نذر ترك الكلام مع أبويه أو ترك الصلاة أو حلف في ذلك فإنه يجب عليه أن لا يأتي بالمعصية
(قال الموفق فى المغنى: نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعاً، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "من نذر أن يعصي اللّه فلا يعصيه"،
ولأن معصية اللّه لا تحلُّ في حال، ويجب على الناذر كفارة يمين، روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين
وسمرة بن حندب وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ورُوي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه، فإنه قال فيمن نذر ليهدِمَنّ دار غيره
لبنة لبنة لا كفارة عليه، وهذا في معناه، وروي هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب مالك والشافعي...إلخ......
وقال الترمذى: بعضِ أهلِ الْعِلْمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم قالوا: لا يعصى الله (هذا مجمع عليه ليس فيه اختلاف)
وليس فيه كَفّارَةُ يمينٍ إذا كانَ النّذْرُ في مَعْصِيَةٍ (وهذا مختلف فيه).... وبهذا يقولُ مالكٌ والشافعيّ.
وقوله"(من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) قال في شرح السنة فيه دليل على أن من نذر معصية لا يجوز الوفاء به ولا يلزمه الكفارة،
إذا لو كانت فيه الكفارة لبينه صلى الله عليه وسلم.
متى تجب الكفارة في النذر؟:
اختلف أهل العلم فيمن وقع منه النذر في معصية أو فيما لايملك هل تجب فيه كفارة ؟ فقال الجمهور : لا , وعن أحمد والثوري وإسحاق
وبعض الشافعية والحنفية نعم , ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين , وفي عموم حديث عقبة بن عامر " كفارة النذر كفارة اليمين " أخرجه مسلم ,
ما يدل على الكفارة, وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب وبعضهم على النذر المطلق ,
لكن أخرج الترمذي وابن ماجه حديث عقبة بلفظ " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " ولفظ ابن ماجه " من نذر نذرا لم يسمه " ,
وفي حديث ابن عباس يرفعه " من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين " أخرجه أبو داود , وفيه " ومن نذر في معصية فكفارته كفارة يمين ,
ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " ورواته ثقات , لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا وهو أشبه , وأخرجه الدارقطني من حديث عائشة ,
وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه لكن قالوا إن الناذر مخير بين الوفاء بما التزمه (مما لايطيقه) وكفارة اليمين ,
وفى الحديث عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: من نذر نذراً ولم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين،
أخرجه أبو داود وابن ماجه. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده صحيح إلا أن الحافظ رجح وقفه.
وقوله: (لم يسمه) أي لم يعينه الناذر بأن قال: إني نذرت نذراً أو على نذر ولم يعين أنه صوم أو غيره (كفارة يمين) فيه دليل
على أن كفارة اليمين إنما تجب فيما كان من النذور غير مسمى. قال النووي: اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث يعني حديث عقبة بن عامر
الذي أخرجه مسلم بلفظ كفارة النذر كفارة اليمين فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة.
وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله عليّ نذر، وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر،
وقالوا هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين انتهى. قال الشوكاني: والظاهر اختصاص الحديث
يعني حديث مسلم المذكور بالنذر الذي لم يسم، لأن حمل المطلق على المقيد واجب، وأما النذور المسماة إن كانت طاعة فإن كانت
غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت مقدروة وجب الوفاء بها سواء كانت متعلقة بالبدن أو بالمال، وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا ينعقد
ولا يلزم فيها الكفارة، وإن كانت مباحة مقدورة فالظاهر الانعقاد ولزوم الكفارة لوقوع الأمر بها في الأحاديث في قصة الناذرة بالمشي إلى بيت الله،
وإن كانت غير مقدورة ففيها الكفارة لعموم: ومن نذر نذراً لم يطقه. هذا خلاصة ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة انتهى.
واحتج بعض الحنابلة بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة ولا يحفظ عن صحابي خلافه قال والقياس يقتضيه , لأن النذر يمين كما وقع في
حديث عقبة لما نذرت أخته أن تحج ماشية لتكفر عن يمينها فسمي النذر يمينا , ومن حيث النظر هو عقدة لله تعالى بالتزام شيء ,
والحالف عقد يمينه بالله ملتزما بشيء ثم بين أن النذر آكد من اليمين ورتب عليه أنه لو نذر معصية ففعلها لم تسقط عنه الكفارة بخلاف الحالف ,
وهو وجه للحنابلة , واحتج له بأن الشارع نهى عن المعصية وأمر بالكفارة فتعينت.
* وقال ابن القيم فى تهذيب سنن ابى داود:
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كفارة النذر كفارة اليمين".