الصيام لا شهر الصيام

إنضم
09/04/2011
المشاركات
483
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
5861alsh3er.gif




الصيام لا شهر الصيام


مقدمة


يقول الله سبحانه و
تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36] .
فالأشهر الحرم هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب، كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم،
ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان" .
وقوله: ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي بين جمادى وشعبان" تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر.
وأما مضاعفة الثواب والعقاب في هذه الأشهر، فقد صرح بها بعض أهل العلم استناداً لقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً
فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي
في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25] .
وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قَتل في الحرم أو قتل ذا محرم،
ثم نقل عن قتادة قوله: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء. انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة،
وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح،
فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال
في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) [الأحزاب:30] . انتهى كلام القرطبي.
وهذه الأشهر الحرم كانت تعظم على عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستمر العرب على التحريم، وكان القتال محرمًا في هذه الأشهر الأربعة
على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستمرالعرب على ذلك..
وأما الحكمة من تحريم القتال فيها، فقد أوردها ابن كثير في تفسيره.
قال: وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم (قبل شهر الحج )شهر وهو (ذو القعدة)، لأنهم يقعدون فيه عن القتال،
(وحرم شهر ذي الحجة) لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك،وحرم ( بعده شهر آخر وهو المحرم) ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين،
(وحرم رجب)في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمناً.
قصة مثل :لقدسبق السيف العذل !!!!!!

كان أول من قال المثل: ضبةبن أد المضري،فقدكان له ابنان: سعدوسعيد،وحدث أن نفرت إبل لضبةفي الليل فأرسل ابنيه في طلبها فوجدها سعد فردها،
ولكن سعيدًاواصل الطلب في طريق أخرى،فلقيهاالحارث ابن كعب،وطلب منه برديه،فرفض سعيدأن يعطيه إياهما فقتله ثم أخذهما.
...
ثم حج ضبة بن أد في ذلك العام،وجاءعكاظ، فلقي فيها الحارث بن كعب،ورأى عليه بُردي ابنه سعيد فعرفهما،فقال لهضبة:
(هل أنت مخبري ماهذان البُردان،فقد أعجبني منظرهما؟). فقال الحارث لقيت غلامًا وهما عليه،فسألته إياهما فأبى عليّ،فقتلته وأخذتهما)
فعرف ضبة أن الحارث هوالذي قتل ابنه.
فقال له : أبسيفك هذا قتلته ؟ قال: نعم.
قال ضبة: ألاترني إياه، فإني أظنه صارمًا..فأعطاه إياه، فلما أخذه منه هزه وقال: إن الحديث ذوشجون، فذهب قوله مثلاً،
ثم ضربه فقتله،فقيل له: ياضبة أتقتل في الشهرالحرام؟.
فقال: سبق السيف العذل،فذهب قوله مثلاً، والمعنى هوأن الأمر قد مضى وانقضى وسبق، فما الفائدة من اللوم؟..

لقد لفت نظري توسط شهر رمضان وسط الأشهر الحرم..لماذا شهر رجب نجده بعيدا عن باقي الأشهر الحرم..فينعت برجب الفرد؟..
لقد تأملت ذلك كثيرا.
فوجدت أنه لما كانت عبادة الصوم عبادة فريدة من نوعها، سواء في طريقة إتيانها أم في تحصيل ثوابها، أما في طريقة إتيانها فهي عبادة سلبية،
بمعنى أنها تقوم على المنع والكف والحبس، وليس ذلك في عبادة غيرها، وأما في تحصيل ثوابها فهذا يوضحه قول الله عز وجل كما جاء في الحديث القدسي:
{ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَصْخَبُ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ
أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ
لِلصَّائِمِ فَرِحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ }. رواه البخاري.
وفي الصفحات القليلة القادمة بعض من الإجابة عن السؤال..وليست هي الغرض من الدراسة..ولكن الغرض منها هو إلقاء الضوء
على الصيام كعبادة مستقلة وذلك بمعزل عن شهر رمضان..لأن مجرد الحديث عن الصيام يقفز في الأذهان الحديث عن شهر رمضان
وفضائله وأحكام الصوم فيه..والفرق كبير بين الحديث عن الصيام..والحديث عن شهر الصيام فلتنتبه..
فلقد قسم العلماء الصيام إلى قسمين:
القسم الأول: الصيام الذي شرعه الله عز وجل وهو قسمان:صيام فرض، وصيام تطوع.
وصيام الفرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام:صوم رمضان، وصوم الكفارات، وصوم النذر.

أما صيام التطوع فينقسم إلى قسمين:صيام التطوع المطلق كصيام ثلاثة أيام من كل شهر ونحوها.
وصيام التطوع المقيد كصوم يوم الاثنين، وصوم عرفة، وصوم عاشوراء، وصوم أيام البيض ونحو ذلك.
القسم الثاني: تقسيم الصيام من حيث الحكم وهو على أربعة أوجه:
الصوم الواجب وهو ثلاثة أنواع مرتبة على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: صوم شهر رمضان وهو على خمسة أفرع:
الفرع الأول:تدرج تشريع الصيام
الفرع الثاني:لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ
الفرع الثالث:قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ
الفرع الرابع:حكم مشروعية الصيام
الفرع الخامس:ليلة القدر
الفصل الثاني: الصوم الواجب بالنذر.
الفصل الثالث: كذلك تم تقسيم الصيام من حيث الحكم وهو على ستة أفرع:
الفرع الأول: الصوم الواجب في كفارة الجماع في نهار رمضان.
الفرع الثاني : في كفارة قتل الخطأ.
الفرعى الثالث : في كفارة الظهار.
الفرع الرابع :في كفارة اليمين.
الفرع الخامس :كفارة جزاء الصيد.
الفرع السادس:كفارة التحلل في الحج الأكبر
الفصل الرابع: فوائد عظيمة


يتبع
 
الفصل الأول

صوم شهر رمضان

مقدمة
بفضل ليلة القدر صار شهر رمضان أفضل الشهور بما فيهم الأشهر الحرم الأربع ، وليعتبر أولوا الألباب في ترتيبه في وسطهم .
يأتي أوّل الأشهر الحرم رجب الذي كان فيه الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين منه ، فكان في هذه الليلة المباركة صعود خير البريّة ،
وصاحب المقام المحمود ، سفير البشرية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ربّ البرية الذي تكفّل بنفسه بتربية عبده ، فرفع اليتيم إلى مقامه المعهود قاب قوسين أو أدنى ،
وفرضت الصلاة فوق أعلى السماوات .الركن الثاني من أركان الإسلام..
وجاء شهر شعبان ليحدد قبلة المسلمين بعد ما فرضت الصلاة في شهر رجب وليكون كالبرزخ بين بحرين لا يبغيان :
شهر رجب الذي صعد فيه أوّل العابدين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الركن الثالث من أركان الإسلام ،
وينزل به ربّ العباد ليلة القدر إلى السماء الدنيا تقرّبا إلى عباده المؤمنين ، وتكريما لهم على استجابتهم له بالصيام والقيام ، وذكرهم إيّاه آناء الليل وأطراف النهار .
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي. وأنا معه حيث ذكرني. والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة.
ومن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا. ومن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا. وإذا أقبل إلي يمشي، أقبلت إليه أهرول .» رواه مسلم .
وبعد شهر رمضان يأتي شهر شوّال ، وهو بمثابة وزير له ، يُمِدّه بستة أيام إذا صامها الصائم كان كمن صام الدهر كلّه ، بفضل الله ومنِّه سبحانه وتعالى .
وشوّال كمثل شعبان برزخ بين رمضان وبقية الأشهر الحرم : ذو القعدة ، ذو الحجّة ، والمحرّم ، وهي أشهر الحج لبيت الله الحرام ،
ويتوسّطها ذو الحجّة الذي يستضيف فيه الرحمن عباده القادمين عليه من كل فجّ عميق ، سفراء عن الأمّة المحمّدية ليغفر لهم ما تقدّم من ذنوبهم بفضله وكرمه ،
وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها . فكان صيام شهر رمضان هو شهر التّهيئة الرّوحية الضرورية للوقوف بين يدي الرحمن في مقام القرب بأرض عرفات ،
حيث يتنزّل الله جلّ جلاله – بما يليق بجلال قدره – إلى السماء الدنيا إكراما لضيوفه الفائزين بلباس التقوى ، وبالتوبة منه عليهم ليتوبوا .وهو الركن الأخير من أركان الإسلام..
إذن شهر رجب فيه فرضت الصلاة يليه شهر شعبان والذي فيه تم تحديد بوصلة المسلمين ثم بعد ذلك يأتي شهر رمضان والذي فرض فيه الصيام ليكون معبرا لفريضة الحج الأكبر..
هل أدركتم الأن لماذا توسط شهر رمضان الأشهر الحرم..
ولمّا تمّتِ الترقية الروحية الكافية للمسلمين ، أمرهم الله بفتح مكّة المكرّمة حيث البيت العتيق الذي نسبه لنفسه ، وجعله حرما يحجّ إليه من أراد لقاء ربّه في الدنيا قبل الآخرة .
وكان الفتح في شهر رمضان ، شهر تطهير الذّوات الترابية من الأسقام ، وتطهير النفوس البشرية من الآثام والأوهام ، وتطهير بيت الله الحرام من مظالم الشرك والأوثان .
ونتيجة التطهير تهيئة الأرضية لإقامة ذكر الله في بيتٍ لله تشيِّدُ الذوات المتطهّرة ألا وهي الأفواه حيث يذكر اللسان ، والقلوب الطاهرة حيث ذكر الأرواح .
 
الفرع الأول

تدرج تشريع الصيام

فإنّ شأن فريضة الصّيام على هذه الأمّة، كشأن كثير من الأحكام الّتي شرعها المولى تبارك وتعالى، فلم يفرِض الله الصّوم جملة واحِدةً،
وإنّما شرعه على التدرّج، وكان أوّل ما فُرِض الصّيام في العام الثّاني من الهجرة النبويّة. قال ابن القيّم رحمهالله في "زاد المعاد" (2/20):
" فتوفّي رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وقد صام تسع رمضانات ".
يقول المولى عزّ وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
فافتتح الله تعالى الأمر والتّكليف، بنداء فيه غاية الإكرام والتّشريف، وهو وصفهم بالإيمان
وذكّرهم بأنّ هذه العبادةَ قد كُتِبت على أمم قبلهم؛ ليعلموا أنّها في مقدورِهم ووُسعهم، وإنّ النّفوس جُبِلت على الاستئناس بمن سار على الطّريق قبلهم.
ثمّ قال عزّ وجلّ ( أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، فقلّل عددها، حتّى يخفّ على النّفوس وقعها، ومن استطال الطّريق ثقُل حمله، وبَطُؤ سيره.
وكان فرض الصّيام في أوّل أمره له جانبان: أحدهما فيه عُسرٌ، والثّاني فيه يسرٌ:
أ) الجانب الّذي كان فيه عُسر: هو كيفيّة الصّوم.
فقد كان الصّيام من قبل هو الإمساك عن شهوتَي البطن والفرْج من بزوغ الفجر إلى غروب الشّمس، إلاّ أنّه يحِلّ لهم الأكل والاستمتاع بالنّساء ما لم يَنَاموا،
فإذا نام بعد الغروب ثمّ استيقظ لم يحلّ له شيء من ذلك، ولزِمَه الإمساك إلى غروب شمس اليوم التّالي.
وكان المسلمون في أوّل الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب: إذا نام أحدُهم لم يطْعَم حتّى القابلة.
ويؤيّد هذا ما رواه مسلم عن عمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقال: ( فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَكْلَةُ السَّحَرِ).
ففتح الله سبحانه على هذه الأمّة باب التّيسير، وخفّف عنهم، وإذا أراد الله شيئا هيّأ له أسبابه، ومن المِحن تأتِي المنح:
فقد روى البخاري ومسلم عن البراءِ رضي الله عنه قال (كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ،
فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ،
فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ.وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ
قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ ! فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}،
فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}).
ب) الجانب الّذي كان فيه يُسر: وهو يتعلّق بالمكلّف بالصِّيام..فقد مرّت فريضة الصّيام بمرحلتين اثنتين:
المرحلة الأولى: كان الصّوم في أوّل الأمر على التّخيير: إمّا أن يصُوم، وإمّا أن يُفطِر ويُطْعِم مكان كلّ يومٍ مسكينا.
وكان أكثر من في المدينة يصوم إمّا امتثالا لقوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)..وإمّا لفقره، فلا يقدِر على إخراج الفدية.
قال تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
روى البخاري عن سَلَمَةَ بنِ الأكْوعِ رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)،
كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا).
(متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -702). وفي رواية لمسلم: حتى أنزلت هذه الآية: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
فأوجب الله الصيام على الصحيح المقيم، ورخص في الإفطار للمريض والمسافر.
وهذا هو المنهج الحكيم الذي اتخذه الإسلام في تشريعاته، سواء في فرض الفرائض أم في تحريم المحرمات، وهو منهج التدرج في التشريع، الذي يقوم على التيسير لا التعسير.
وعلى قول سَلَمَةَ بنِ الأكْوعِ رضي الله عنه، فإنّ فمعنى ( يطيقونه ) على ظاهرها، بمعنى: من قدر على الصّيام ولم يصُم فعليه فدية.
ولم يَدُم ذلك إلاّ أيّاماً، وجاءت المرحلة الثانية..
المرحلة الثانية: مرحلة الإلزام والتحتيم: أي الإلزام بالصوم، ونسخ التخيير، الذي رخصت فيه الآية السابقة...(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)..
وفي ذلك نزل قوله تعالى:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة :185.
وهذه المرحلة الإلزامية جاءت أيضًا على رتبتين، كان في الأولى تشديد عليهم، وفي الثانية تخفيف ورحمة.
المرحلة الثالثة: إباحة الطعام والشراب والجِماع من غروب الشمس إلى طلوع فجر اليوم التالي.
وقد كان من أحكام الصيام في المرحلتين الأولى والثانية أن الصائم إذا نام حَرُمَ عليه الطعامُ والشراب والجماع إلى اليوم التالي، فشقَّ ذلك على المسلمين.
فقد كانوا يأكلون ويشربون ويباشرون نساءهم ما لم يناموا أو يصلوا العشاء فإذا ناموا وصلوا العشاء لم يجز لهم شيء من ذلك إلى الليلة القابلة..
فقد روى البخاري ومسلم عن البراءِ رضي الله عنه قال:
(كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ،
وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ.
وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ !فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).
ففرح بها المسلمون فرحًا شديدًا، فقد أباح لهم الرفث ـ أي الجماع ـ والطعام والشراب في جميع الليل، إلى تبين الفجر، رحمة ورخصة ورفقًا، وعفا عما وقع منهم من تجاوزات.
قال ابن القيّم رحمه الله في " مفتاح دار السّعادة " (2/377) في بيان الحكمة من هذا التدرّج في التّشريع
( لمّا كان - أي: الصّوم - غيرَ مألوفٍ لهم، ولا معتادٍ، والطِّباعُ تأباه؛ إذ هو هجرُ مألوفِها ومحبوبِها، ولم تذقْ بعدُ حلاوتَه وعواقبَه المحمودةَ،
وما في طيِّه من المصالح والمنافع، فخُيِّرت بينه وبين الإطعام، وندبت إليه، فلمّا عرَفَت علّته وألِفَتْه، وعرفت ما تضمّنه من المصالح والفوائد،
حُتِم عليها عيناً، ولم يقبل منها سواه، فكان التّخيير في وقته مصلحةً، تعيينُ الصّوم في وقته مصلحة، فاقتضت الحكمة البالغة شرعَ كلِّ حكمٍ في وقته؛
لأنّ المصلحة فيه في ذلك الوقت ) اﻫ..
وقال رحمه الله أيضا في " زاد المعاد " (2/31):
( وكان للصّوم رتبٌ ثلاث:
إحداها: إيجابُه بوصفِ التّخيير.
والثّانية: تحتّمه، لكن كان الصّائم إذا نام قبلَ أن يُطعِم حرم عليه الطّعام والشّراب إلى اللّيلة القابلة،
فنُسِخ ذلك بـ:الرّتبة الثّالثة: وهي الّتي استقرّ عليها الشّرع إلى يوم القيامة "اﻫ.
ومن أغرب ما قرأت هو ما جاء في كتاب:فوائدُ من اختيـاراتِ الشيخِ مُحَـمَّدِ بنِ محمَّـدٍ المُختارِ الشَّنقيطيِّ (عضوهيئة كبار العلماء)
المتعلقةِ بالصيامِ وأحكامهِ.حيث قال: ( ...
في أول الأمر فرض على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ صيام يوم عاشوراء بصيام رمضان، وقال بعض العلماء: لا، بل فرض عليهم صيام ثلاثة أيام
من كل شهر وهي الأيام البيض، ثم نسخ ذلك بصيام رمضان.
والصحيح: القول الأول، وهو: أن الناس كانوا مطالبين بصيام يوم عاشوراء فريضة، كما في حديث معاوية في الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقى المنبر وقال:
(إن الله فرض عليكم صيام يومكم هذا في ساعتي هذه) فأوجب الله على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ بصيام شهر رمضان.
وهذا النوع من النسخ يعتبر أحد أنواع النسخ، وهو نسخ الأخف بالأثقل؛ لأن النسخ ينقسم إلى قسمين:
الأول: نسخ إلى بدل.
الثاني: ونسخ إلى غير بدل.
والنسخ إلى بدل إما أن يكون: إلى بدل مساوٍ، أو إلى بدل أثقل، أو بدل أخف.
فمثال البدل المساوي: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى بيت الكعبة، فإن التوجه مساوٍ، وإن كانت فضيلة الكعبة أعظم
من فضيلة بيت المقدس، فهذا يسمونه: نسخ إلى مثل.
ونسخ الأخف بالأثقل منع منه بعض الأصوليين، وقالوا: إن الشريعة شريعة رحمة ولا ينسخ الأخف بالأثقل، والصحيح:
أنه ينسخ الأخف بالأثقل بدليل فرضية شهر رمضان، فقد كان المفروض يوماً واحداً فنسخ بثلاثين يوماً، فأوجب الله على الناس صيام شهر كامل،
وهذا دليل على جواز نسخ الأخف بالأثقل.
وقد ينسخ الأثقل بالأخف، وهذا كثير، كما في مصابرة الواحد للعشرة، فنسخت بمصابرته للاثنين.
وهذا النسخ ـ نسخ صيام عاشوراء ـ يعتبره العلماء من نسخ الأخف إلى الأثقل، فقد نسخه الله عز وجل بفرض الصيام ثلاثون يوماً،
وقد يكون الشهر تسعاً وعشرين إذا كان ناقصاً، وسواءً كان كاملاً أو ناقصاً فإنه أثقل من صيام يوم واحد.
وهذه الفرضية بصيام شهر رمضان وقعت في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم الثاني، قيل: لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الثانية،
ففرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان، وأوجب عليهم ذلك، وصام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَتسع رمضانات كاملة،
وهذه السنة -السنة الثانية- هي السنة التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى.)اﻫ..
فهذا الكلام مردود عليه بطرق كثيرة وليس المحل هنا مجاله..
وهو القائل: (وفي مسألة وطء الزَّوجةِ أو غيرها في الدُّبر فالشيخُ يُرجِّحُ أنَّ على فاعل ذلكَ القضاءَ والكفَّـارة , خلافاً لمن لا يراهُ جماعاً نظراً للموضعِ.) اﻫ...
ففي الحكم السابق ـ وهو حكم وطء الزوجة في رمضان ـ فأنا أفهم المقصود من (وطء الزَّوجةِ )كما يفهمه غيري..ولكنني لم أفهم ماذا يقصد الشيخ بقوله (أو غيرها)؟؟..
ولكن الحكم الصادر من الشيخ هو حكم واطئ الزوجة (في الدُّبر)..( في الدُّبر)..( في الدُّبر)..ألا يعرف الشيخ أن ذلك الفعل يستوجب التفرقة بينهما..
فلقد ارتكب الزوج فعلا محرماً وهو من الأفعال التي تستوجب الفرقه بين الزوجين كما نصت عليه كتب الفقه؟..
وما بني على باطل فهو باطل..ولكنني رأيت الشيخ يعطي للفاعل حكماً حيث (يُرجِّحُ أنَّ على فاعل ذلكَ القضاءَ والكفَّـارة)..
فوائدُ من اختيـاراتِ الشيخِ مُحَـمَّدِ بنِ محمَّـدٍ المُختارِ الشَّنقيطيِّ (عضوهيئة كبار العلماء) المتعلقةِ بالصيامِ وأحكامهِ.
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=219055
 
الفرع الثاني

لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ


وبالنسبة لحديث لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ
إن عبادة الصوم عبادة فريدة من نوعها، سواء في طريقة إتيانها أم في تحصيل ثوابها، أما في طريقة إتيانها فهي عبادة سلبية، بمعنى أنها تقوم على المنع والكف والحبس،
وليس ذلك في عبادة غيرها، وأما في تحصيل ثوابها فهذا يوضحه قول الله عز وجل كما جاء في الحديث القدسي:
{ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَصْخَبُ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ
فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ
فَرِحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ }. رواه البخاري.
والحق أن الصوم وإن كان ما له من المقاصد والحكم، إلا أن تحقيق التقوى يظل هو المقصد الأهم، والحكمة الأولى، وهذا أمر واضح للعيان
من خلال آيات الصيام بقوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والآية الأخيرة بقوله تعالى ( كذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)،
وقد أحسن ابن القيم حين قال عن الصيام: فهو لجام المتَّقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين.
وفي الحقيقة أنني كنت في شبابي أتحرج كثيراً من ذكر حديث الصيام المشهور والذي ذكرته قبل قليل.
لماذا؟..لأن هذا الحديث حفظناه صغاراً من على المنابر ومن كثرة ترديده في كافة وسائل الإعلام..والمشكلة كانت تكمن في نطق بعض الكلمات
في الحديث خطأ الأمر الذي أدى معه إلى تغيير المعنى تماما وبناء عليه تم إثبات صفة لله جل علاه في الحديث لم يثبتها سبحانه وتعالى لنفسه،وعليه
فلقد أنشئوا واقعا ترتبت عليه أحكاماً فقهية خطأ وكلها تتعلق بالصيام.
إذن فأين يكمن الخطأ..إنه يكمن في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)..
حيث قرأ المشايخ الحديث من فوق المنابر وفي الفضائيات خطأ فقالوا(لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ)..
وبهذا أخرجوا الحديث عن معناه المقصود ..إذ أن معنى الخَلُوفُ بِفَتْحِ الْخَاءِ هو المُخَلّف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد وهو مشتق من الخلف وضده المقدم..
قال تبارك وتعالى (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا
إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) الفتح: 11
وقال تبارك وتعالى: ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ
مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) الفتح:15.
وقال تبارك وتعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)من سورة مريم :59
وقال تبارك وتعالى( رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ )التوبة87
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) التوبة93
رضي هؤلاء المنافقون لأنفسهم بالعار, وهو أن يقعدوا في البيوت مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار, وختم الله على قلوبهم; بسبب نفاقهم
وتخلفهم عن الجهاد والخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبيل الله, فهم لا يفقهون ما فيه صلاحهم ورشادهم.
الخوالفهم المنافقون والمعذرون والمخلفون الذين تخلفوا عن الجهاد والخروج في سبيل اللهمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخوالف قد وصموا أنفسهم
بالعار حينما رضوا بالقعود في البيوت مع النساء والصبيانوأصحاب الأعذار, فختم الله على قلوبهم بسبب نفاقهم وتخلفهم عن الجهاد والخروج مع رسول الله .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذن فالخَلْفُ صفة ذم كيف تنسب إلى الله العزيز الحميد.
مستحيل لابد وان في الأمر شيء..
والمصيبة أنهم بهذا الحديث قد أنشئوا واقعاً ترتبت عليه أحكاما.. كحرمة استخدام السواك والعطور في نهار رمضان باعتبار أن هذه الروائح تفسد رائحة محببة إلى الله جل علاه.
في حين أن هذا الحديث في حقيقة أمره يُذكر في فضائل الأعمال فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ اسْتِطَابَةِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَاسْتِقْذَارِ الرَّوَائِحِ الْخَبِيثَةِ
لأنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ طَبَائِعُ تَمِيلُ إلَى شَيْءٍ فَتَسْتَطِيبُهُ وَتَنْفِرُ مِنْ شَيْءٍ فَتَتَقَذَّرُهُ .. فالحديث هُوَ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ ؛
لِأَنَّهُ جَرَتْ عَادَتْنَا بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ مِنْ الصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .. فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ
أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ إنَّهُ يُقَرِّبُ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إلَيْكُمْ.
وعليه فيكون مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجْزِيهِ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى تَكُونَ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ كَمَا قَالَ فِي الْمَكْلُومِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ{ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ } هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ وهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَلَمْ يَذْكُرُوا سِوَاهُ .
أما قولهم بِفَتْحِ الْخَاءِ فهُوَ خَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ..
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ الضَّمَّ هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْغَرِيبِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ ،
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْخَاءِ.
ولقد أخرج الإمام أحمد في مسنده رقم(17344) قال : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ ـ كَانَ يُعَدُّ مِنَ الْبُدَلاءِ ـ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلامٍ ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ ، عَنِ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ
كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى : إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ
وَأَنْ تَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ ، وَإِمَّا أُبَلِّغَهُنَّ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ ، أَوْ يُخْسَفَ بِي .
قَالَ : فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، حَتَّى امْتَلأَ الْمَسْجِدُ وَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ :
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ
مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ ، أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي عَمَلَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟
وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ،
فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلا تَلْتَفِتُوا ، وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ ،
وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وَقَرَّبُوهُ
لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ ، فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ ، وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ
رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ :
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ ؛ بِالْجَمَاعَةِ ، وَبِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ،
فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ قَالُوا :
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ؟ قَالَ : وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وأخرجه الترمذي بطوله عن الحارث الأشعري في كتاب الأمثال باب ما جاء مثل الصلاة والصيام والصدقة رقم (2863) وقال : حديث حسن صحيح غريب .
إنما مثل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بصاحب الصرة التي فيهاالمسك لأنها مستورة عن العيون مخبوءة تحت ثيابه كعادة حامل المسك، وهكذا الصائم صومه مستور
عن مشاهدة الخلق لا تدركه حواسهم .
والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور ،
وبطنه عن الطعام والشراب ، وفرجه عن الرفث . فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه ، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه ،فيخرج كلامه كله نافعاً صالحاً ،
وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جَالسَ حامل المسك ، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم.
 
هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، ففي الحديث الصحيح "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"
وفي الحديث "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" .
فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام وصوم البطن عن الشراب والطعام ، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته ،
فتصيره بمنزلة من لم يصم .
وعليه فإن وجود هذه الرائحة من الصائم هي في الآخرة: ويشهد لقوله الحديث المتفق عليه "والذي نفسي بيده ما من مكلوم يكلم
في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى : اللون لون دم ، والريح ريح المسك" فأخبر صلى الله عليه وسلم
عن رائحة كلم المكلوم في سبيل الله عز وجل بأنها كريح المسك يوم القيامة ، وهو نظير إخباره عن خلوف فم الصائم ، فإن الحس يدل على أن
هذا دم في الدنيا وهذا خلوف له ، ولكن يجعل الله تعالى رائحة هذا وهذا مسكاً يوم القيامة .
ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائرصفاته وأفعاله إليه فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين ، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكرهه وحبه وبغضه
لا تماثل ما للمخلوق من ذلك ، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم . وهو سبحانه وتعالى يستطيب
الكلم الطيب فيصعد إليه ، والعمل الصالح فيرفعه . وليست هذه الاستطالة كاستطابتنا .

وأما ذكر يوم القيامة في الحديث فلأنه يوم الجزاء ، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلباً لرضاء الله تعالى
حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات ، فخص يوم القيامة بالذكر وفي بعض الروايات كما خص في قوله تعالى :
" إن ربهم بهم يومئذ لخبير " وأطلق في باقيها نظراً إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين .
أي أن هذه الرائحة إنما يظهر طيبها على طيب المسك في اليوم الذي يظهر فيه طيب دم الشهيد ويكون كرائحة المسك ،
ولا ريب أن ذلك يوم القيامة فإن الصائم في ذلك اليوم يجيء ورائحة فمه أطيب من رائحة المسك كما يجيء المكلوم في سبيل الله عز وجل ورائحة دمه كذلك ،
لا سيما والجهاد أفضل من الصيام ، فإن كان طيب رائحته إنما يظهريوم القيامة فكذلك الصائم .
وأما حديث جابر فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك ، فهذه جملة حالية لا خبرية ، فإن خبر إمسائه لا يقترن بالواو لأنه خبر مبتدأ فلا يجوز اقترانه بالواو .
والحال المقدرة يجوز تأخيرها عن زمن الفعل العامل فيها ، ولهذا لو صرح بيوم القيامة في مثل هذا فقال :
يمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك يوم القيامة. لم يكن التركيب فاسداً ، كأنه قال يمسون وهذا لهم يوم القيامة .
وأما قوله لخلوف فم الصائم حين يخلف فهذا الظرف تحقيق للمبتدأ أو تأكيد له وبيان إرادة الحقيقة المفهومة منه لا مجازة ولا استعارته ،وهذا كما تقول :
جهاد المؤمن حين يجاهد وصلاته حين يصلي يجزيه الله تعالى بها يوم القيامة ويرفع بها درجته يوم القيامة ، وهذا قريب من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" وليس المراد تقييد نفي الإيمان المطلق عنه حالة مباشرة تلك الأفعال فقط
بحيث إذا كملت مباشرته وانقطع فعله عاد إليه الإيمان ، بل هذا النفي مستمر إلى حين التوبة ، وإلا فما دام مصراً وإن لم يباشر الفعل فالنفي لاحق به
ولا يزول عنه اسم الذنب والأحكام المترتبة على المباشرة إلا بالتوبة النصوح والله سبحانه وتعالى أعلم .
رأينا كيف أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر عن طيب فم الصائم بأن ذلك الطيب لا يكون إلا يوم القيامة لأنه الوقت
الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباتها من الخير والشر ، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك ، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك،
وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم، وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلفون
وحين يمسون فلأنه وقت ظهور أثرالعبادة ، ويكون حينئذ طيبها على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته ، وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد
فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى ، وبالعكس ،فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم ، والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته
فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا ، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذاالطيب للعباد وصار علانية ، وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر .
قال ابن عباس : أن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق .
وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضة في قلوب الخلق .
وقال عثمان بن عفان : ما عمل رجل عملاً إلا ألبسه الله رداءه ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
وهذا أمرمعلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم ، حتى إن الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة وإن لم يمس طيباً ،
فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه . والفاجربالعكس . والمزكوم الذي أصابه الهوى لا يشم لا هذا ولا هذا، بل زكامه يحمله على الإنكار،
ولا ينبغي أن يقاس الله سبحانه وتعالى بخلقه، بل طيبه عند الله سبحانه تعالى أن يتقبله منه، بشرط أن يكون ذلك الصائم محقاً في صومه مخلصاً فيه لله،
أما إذا كان الصائم غير مخلص لله فلا يكون خلوفه مستطاباً عند الله، وإذا كان الصائم مخلصاً لله فهو مستطاب عنده بأي وجه من الوجوه كان.
فالمقصود: أنه ترك طعامه وشرابه من أجل الله سبحانه وتعالى، فكان هذا الصوم لله خالصاً، كما قال تعالى في الحديث القدسي:
(كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي).
وإنما يذكر هنا ما كان صفة صريحة جاء بها النص أو كان متعلقاً بصفة جاء بها النص ولو لم تذكر تلك الصفة، فقوله:
(لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُعِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ)، هذا ليس تصريحاً بصفة، لكنه تصريح بمتعلق صفة لم تذكر، فالشم صفة لم تثبت بلفظها لكن متعلق
هذا ذكر في هذا الحديث، بخلاف ما جاء فيه أفعل من غير هذا مثل: أثقل عند الله، أو أرجح عند الله من كذا، فهذا المقصود به في الميزان الذي عند الله،
فهو ليس متعلقاً بصفات الله، مثل المقصود بالعندية هنا، فالعندية بمعنى القرب في الميزان يوم القيامة فقط،
ولذلك فلابد من النظر إلى دلالة الصفة على متعلقها سواءً ذكرت الصفة أو ذكر متعلقها فقط..
جاء في حديث أبي هريرة المروي في الصحيحين وغيرهما :
قَالَ : قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَ اللهُ عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَام ، فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ ،وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ،
فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَيَصْخَبْ فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ : إنِّي صَائِمٌ.وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ .
لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا : إِذَا أفْطَرَ فَرِحَ بفطره ، وَإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ( متفقٌ عَلَيْهِ ، وهذا لفظ روايةِ البُخَارِي .
وفي لفظ مسلم: ( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعَفُ ، الحسنةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ. قَالَ الله تَعَالَى: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي.
للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ : فَرْحَةٌعِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ . وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ( .أخرجه البخاري (1894) و (1904) ، ومسلم1151وغيرهما .
وابن القيم اختارظاهر نص الحديث هنا مع تسميته بالاستطابة دون تسميته بالشم وقوفا مع نص الحديث ..
وإن كانت صفة الشم من لوازم صفة الاستطابة إلا أن الوقوف مع ظاهر اللفظ يمنع من إثبات صفة صريحة باسم الشم أو نفيها .. وهو المرجح مما ذكرناه.

يتبع
 

الفرع الثالث

قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ


أما حديث فهو حديث (قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ) ضعيف الإسناد ومتابعاته كلها ضعيفة وحكم المحدثين عليه بالنكارة..
1887 ـ حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍالسَّعْدِيُّ ، قال: حدَّثنا يُوسُفُ بْنُ زِيَادٍ ، قال: حدَّثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ،عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ،
عَنْ سَلْمَانَ ، قَالَ : خَطَبَنَارَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ : "أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌمُبَارَكٌ،
شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ،
وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً، كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ،وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُالْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ،
مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ، وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ ".
قَالُوا :لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ.فَقَالَ : " يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْمَذْقَةِ لَبَنٍ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ،
وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ،وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ،
وَخَصْلَتَيْنِ لاغِنًى بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ : فَشَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ،
وَأَمَّا اللَّتَانِ لا غِنًى بِكُمْ عَنْهَا : فَتُسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ،وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَشْبَعَ فِيهِ صَائِمًا، سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي
شَرْبَةً لا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ).. رواه ابن خزيمة في كتاب الصوم / باب فضائل فضائل شهررمضان إن صح الخبر ، 3/191 برقم (1887) .
وقال : إن صح الخبر ، وسقطت (إن) من بعض المراجع مثل (الترغيب والترهيب) للمنذري (2/95) فظنوا أن ابن خزيمة قال : صح الخبر ، وهو لم يجزم بذلك .
ورواه البيهقي في شعب الإيمان : في فضائل شهر رمضان ، 5/223 ، برقم(3336)حيث قال: (أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّرِيرُ بِالرَّيِّ،حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الْأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ
ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ،حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ
ح وحدثنا أَبُو سَعْدٍعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الزَّاهِدُ، أخبرنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أخبرنا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْحَافِظُ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا وَالِدِي، قَالَ: قَرَئ عَلَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ،
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حُجْرٍ السَّعْدِيَّ حَدَّثَهُمْ،حدثنا يُوسُفُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ،
قَالَ : خَطَبَنَارَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ : "أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْأَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌمُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ،
جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً،
كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ،وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُالْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ،
مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ، وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ ".قَالُوا :لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ.
فَقَالَ : " يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْمَذْقَةِ لَبَنٍ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ،وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ،
مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لاغِنًى بِكُمْ عَنْهُمَا،
فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ : فَشَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ،وَأَمَّا اللَّتَانِ لا غِنًى بِكُمْ عَنْهَا : فَتُسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ،وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ،
وَمَنْ أَشْبَعَ فِيهِ صَائِمًا، سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ)..
والحديث ضعيف الإسناد لعلتين هما :
1- فيه انقطاع حيث لم يسمع سعيد بن المسيب من سلمان الفارسي رضي الله عنه .
2- في سنده " علي بن زيد بن جدعان " قال فيه ابن سعد : فيه ضعف ولا يحتج به ، وضعفه أحمد وابن معين والنسائي وابن خزيمة والجوزجاني
وغيرهم كما في ( سير أعلام النبلاء ) (5/207)..
وحكم أبو حاتم الرازي على الحديث بأنه منكر ، وكذا قال العيني في ( عمدة القاري ) 9/20 ومثله قال الشيخ الألباني في
( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ) ج2/262 رقم (871)
فيتبين ضعف إسناد هذا الحديث ومتابعاته كلها ضعيفة ، وحكم المحدثين عليه بالنكارة..
 

الفرع الرابع

حكم مشروعية الصيام


قال العلماء: فرض الله عز وجل صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة؛ أعظمها وأجلها على الإطلاق: ما جعل الله في الصيام من معاني
الإخلاص لوجهه الكريم؛ فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً،
فإذا عود على الخير كان على خير، وإن عود على شر -والعياذ بالله- كان على شر. فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها:
أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله عز وجل. والسبب في ذلك: أنه أخفى العبادات؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتظاهر بالصيام أمام الناس
ثم يفطر في بيته بعيداً عن نظر الناس، فإذا صام فكأنه يُعّود بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي
عن الله تعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء قوله: (فإنه لي) أي:
أنه يقع خالصاً لوجه الله عز وجل. وسر قوة الإنسان إذا تغلب على نفسه، فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال
الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله عز وجل؛ فانظر إلى من قهر هواه وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه،
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى )[النازعات:40] فإذا أصبحت النفس تحت أمرك
وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير، وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهي، لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس.
فكأن الإنسان حينما يصوم تصبح نفسه تحته؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل والشرب، والفرج، ومع ذلك يكبحها ويمنعها، فيقوى سلطان الإنسان على نفسه،
وهذا يقع في كثير من العبادات، فالإنسان يشتهي -مثلاً- النوم، فتجده في لذيذ نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر،
فيقوم ويقهر نفسه، فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه.
كذلك تأتيه لذة الأكل والشرب، فتأتي فريضة الله عز وجل بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيها أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها،
ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيها أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فيحج. فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى
وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه، استطاع أن يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنـزجر. ولذلك الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: منهم من أصبح هواه تحت أمره،
وهم صنف السعداء، كما أشار الله إلى هذا صنف السعداء في قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )[النازعات:40-41] .
القسم الثاني: هواه غالب عليه، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا القسم بقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )[الفرقان:43]
فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك تجد بعض أهل الشهوات عندما تقول له: يا أخي! هذا حرام..هذا لا يجوز.
يقول: أنا أعلم أنه حرام وأنه لا يجوز ولكن لا أستطيع أن أتركه. ومعنى أنه لا يستطيع أن يتركه: أنه قد بلغ مرتبة يأمر نفسه فيها فلا تستجيب له،
فأصبح هواه هو الذي يأمره، وشهوته هي التي تحكمه، نسأل الله السلامة والعافية. القسم الثالث: هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً،
فهؤلاء إلى أمر الله عز وجل، فإن عذبهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبمحض فضله، فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى وتارة يغلبهم الهوى،
وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح، ولذلك لا يأمن
الواحد منهم أن تأتيه منيته وهو متبعٌ لهواه، أو تأتيه منيته وهو على طاعة ربه، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله عز وجل برحمته.
فالمقصود: أن الصيام يربي في النفس القدرة على قهر الهوى، حتى تكون النفس مستجيبة، قال العلماء: من امتنع عن الطعام والشراب
والجماع الحلال ـ فإن الله أحل له أن يطعم ويشرب ويجامع زوجته ـ كان أقدر على أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام. فإذا مكث ثلاثين يوماً
وهو لا يقترب من طعامه ولا شرابه ولا شهوة فرجه؛ فإنه قادر -بإذن الله عز وجل- إذا دعته نفسه للحرام أن يمتنع عن أكله أو شربه أو فعله.
وفي الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب،
سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء،
وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء. فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى،
كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى )[العلق:6-7] فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع
كما يجوع الفقير وضمأ كما يضمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم. إن الصيام يذكر بالله جل جلاله ويذكر بالآخرة،
ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يبكي إذا انتصف النهار؛ لأنه يتذكر الموقف بين يدي الله عز وجل واشتداد الحر وعظم
ضمأ الناس في عرصات يوم القيامة. فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام وأخبر سبحانه وتعالى أنه سبيل لأعظم
وأحب الأشياء إليه وهو تقواه، فقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[البقرة:183]
أي: جعلناه سبباً للتقوى، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله من تقواه، كما قال سبحانه: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )[البقرة:197] .
فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه: أنه يزيد من أمرين وهما:
الأول: تحصيل فرائض الله.
الثاني: الانكفاف والامتناع عن محارم الله سبحانه وتعالى.
 

الفرع الخامس

ليلة القدر

لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ..
5899alsh3er.jpg


والقدر: هو مبلغ الشيء، والقدر: هو الحال والشأن، يقال قدَّر فلان هذا الأمر، أي عرف حاله وشأنه. وقدَّر الإنسان خالقه أي:
عرف عالي شأنه وعظيم جلاله وكماله.. ولكن كيف تكون معرفة الله ورؤية عظمته وجلاله؟. وكيف يقدِّر المخلوق خالقه حق قدره.
أقول: لا يصل الإنسان لهذه الحالة الرفيعة إلاَّ بعد شهوده عظمة الله، ورؤية كماله، فأنا لا أعرف قدرك إلاَّ إذا رأيتك، أو إذا رأيتك على رأس عملك
أو في حال ممارستك لشؤونك، أو إذارأيت صفاتك التي تشهد لي بعلوِّ قدرك، وتنطق بسموِّ مكانتك وعظيم شأنك..
وكذلك النفس لا توقن بعظمة خالقها إلاَّ إذا شهدت عظمة ذلك المالك العظيم في ملكوته،قائماً بالتربية والإمداد على خلقه، مفيضاً برَّه وإحسانه
على سائر مخلوقاته،غامراً الكون برأفته وواسع رحمته.
فالإنسان بعد أن آمن بربه إيماناً غيبياً، وبعدأن أقرَّ بعظمة الخالق ورحمته إقراراً فكرياً، إذا هو استقام على أمر ربه، ومَرِن على طاعة الله، فلم يخالفه،
ولم يعصه في أمر من أوامره، فلا بدَّ له إذا هو استمرعلى هذا الحال من الاستقامة والطاعة، وثابر على التقرُّب إلى الخالق بالإحسان إلى المخلوقات كافة؛
من ساعة يشهد فيها كمال الله سبحانه شهوداً نفسياً ولابد له من حالة تنغمر فيها نفسه بذلك النور الإلهي، فترى عظمة خالقها وموجدها وتعاين حنانه تعالى عليها،
وواسع عطفه ورحمته بها وبالمخلوقات جميعها، وهنالك تعرف قدر ربِّهاوتوقن برحمته وعطفه عليها.
وتلك الليلة العظيمة التي يشهد فيها الإنسان هذه المشاهدة النفسية، ويرى هذه الرؤية الذوقية، وتحصل له بها تلك المعرفة الشهودية،تلك الليلة هي ليلة القدر.
ولعظم هذه الليلة جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي ليلة حتى تكون كل الليالي إرهاصاً لمقدم ليلة القدر..
1 ـ لكل نبي من الأنبياء ليلة
فإبراهيم عليه السلام له ليلة: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ...)الأنعام : 76
ولوطاً عليه السلام له ليلة: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)الدخان: 23
( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ{23} وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ{24}
والآية التي تحدثت عن لوط عليه السلام هي
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ }الحجر65
والأحقاف وهو اسم المنطقة التي سكنها قوم عاد وهم قوم نبي الله هود عليه السلام كانت له ولهم ليلة :
قال الله تعالى (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) الحاقة : 7
وموسى عليه السلام كانت له ليلة: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7}
فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9})النمل: 7 ـ 9
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)القصص:29
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له ليال..فكانت له ليلة الإسراء وليلة النصف من شعبان..
فالليالي كلها كانت إرهاصا وتقديما لليلة مباركة هي ليلة القدر ولعظم شأنها أنزل الله سبحانه وتعالى فيها كتابه المجيد(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)..(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ..
والليالي التي احتوتها نالها الشرف دونا عن سائر الليالي فأقسم الله سبحانه وتعالى بها فقال(وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ *)
فاليالي العشر هي العشر الأواخر من رمضان على خلاف بأنها العشر الأولى من ذي الحجة ...ولأن الحج عبادة نهارية فلا ينطبق عليها هذا القول
لأن رمضان عبادة ليلية وفيه قيام الليل..قَالَ تَعَالَى : (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًاوَأَقْوَمُ قِيلًا )المزمل.. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)..
وَقَالَ : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا )الإنسان: 26.
طوبى لمن سهرت بالليل عيناه……. وبات في قلقٍ في حبِّ مولاه
وقام يرعى نجوم الليل منفـردًا……. شوقًا إليه وعين الله ترعـاه

2 ـ أخفاها الله سبحانه وتعالى مثل ما أخفى قيام الساعة جاء في الآية 15 من سورة طه إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)...
ومثل ما أخفى عز وجل أجل الإنسان..
وفي الأمور الحياتية يخفي المرء عن أهله الشيء الجلل ويكون أعظم ما يكون إذا كان الأمر نفسياً ,رأينا ذلك مع النبي يوسف عليه السلام حينما
اتهمه أخوته كذبا وزورا نلاحظ قوله سبحانه وتعالى: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ)يوسف: 77 فيوسف عليه السلام أسرّها بمعنى أخفاها لأن
الإسرار في حد ذاته إخفاء لهم..
ولو لم يخبرنا الحق بما كان في نفس يوسف عليه السلام ما عرفنا عن ذلك الأمر من شيء..وحدث أمر مثله مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في قصة زواجه من السيدة زينب بنت جحش والقصة معروفة ولكن ما يعنيني هنا هو الألم النفسي الذي عاشه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولولا أن الله عز وجل أخبرنا ما عرفنا عنه شيئاً (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) الأحزاب:37 ..
ومثل ما أخفى الله الشر فوضعه في موضع الخير..وأخفى الخير فوضعه في موضع الشر وفي كل خير..
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)البقرة: 216.
(فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) النساء: 19.
كذلك أخفى الله سبحانه وتعالى ليلة القدر..
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ) سورة القدر.
ولم يقل لنا سبحانه وتعالى في أي شهر..سواء من الشهور العربية أو العبرية أو القبطية أو الشمسية..وعليه ظل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يترقبونها طول السنة..
لأن الله سبحانه وتعالى قال عنها هي ليلة خير من ألف شهر..
في أي شهر هي ليلة القدر ..لم يقل رب العالمين..وظلوا يعبدون الله سبحانه وتعالى باهتمام طول السنة حتى ينالوا ليلة القدر..هبطت همتهم قليلاً..
فأراد الله سبحانه وتعالى تحفيز هممهم مرة أخرى فقال عز من قائل: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) سورة الدخان.
فإن ليلةَ القدرِ ليلةٌ كثيرةُ الخيرِ ، شريفةُ القدرِ ، عميمةُ الفضلِ ، متنوِّعةُ البركات . ولعظمها أنزل فيها القرآن العظيم( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) سورة الدخان :4.
فالله تعالى يقدّر فيها الأرزاق والآجال..والعمل فيها له قدرٌ عظيمٌ..وهي ليلة الحكم والفصل..
وعبدوا الله سبحانه وتعالى طول السنة بجدية وإخلاص..ثلاثة عشر سنة..والصحابة يبحثون عن ليلة القدر طول السنة في كل ليلة..
حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدنية وفرض الصيام..
ويوم أن فرض رب العالمين الصيام فرض أيضا الجهاد..وبعد ثلاثة عشر سنة من ترقب ليلة القدر وبعد فرض الجهاد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكافئ
المسلمين فقال لهم أول مكافأة لكم على صيامكم وجهادكم أنني أقول لكم:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فبعد ما كانت ليلة القدر يلتمسوها طوال العالم كله أصبح المسلم يجمع بين آيتين..( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)..( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)..
وقوله سبحانه وتعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)..إذن ليلة القدر في أي شهر؟..
في شهر رمضان..وهذا أمر لم يعرفه الصحابة إلا بعد ثلاثة عشر عاما..
فليلة القدر إذن هي ليلة من ليالي شهر رمضان..
ومع ذلك استصعب المسلمون الأمر فاستكثروا أن يلتمسوها على طول شهر رمضان فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف..
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكفت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا،
وقال: (إنّي رأيت ليلة القدر ثم أُنسيتها ـ أو نسيتها ـ فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإنّي رأيت أنّي أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف معي فليرجع) ،
فرجعنا، وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابةٌ فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة،
فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته. رواه البخاري (2/62-63)
كتاب فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر رقم (2016).
وبعد أن قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر)..إلا أن الأمر قد شق على المسلمين فراحوا يجتهدون حتى حصروها
في ليلة السابع والعشرين من الشهر الفضيل..والأكثر من هذا أننا وجدنا من راح يحدد الساعة بالتمام..
والصحيح أن ليلة القدر لا أحد يعرف لها يوماً محدداً ، فهي ليلة متنقلة ، فقد تكون في سنة ليلة خمس وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة إحدى وعشرين ،
وقد تكون في سنة ليلة تسع وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة سبع وعشرين ، ولقد أخفى الله تعالى علمها ، حتى يجتهد الناس في طلبها ،
فيكثرون من الصلاة والقيام والدعاء في ليالي العشر من رمضان رجاء إدراكها ، وهي مثل الساعة المستجابة يوم الجمعة .
وفي الجملة لقد أبهم الله سبحانه وتعالى هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان طمعاً في إدراكها .
ولأن ليلة القدر ليلة عظيمة كانت هي الوعاء الذي يحتوي القرءان الكريم..
فالقرءان الكريم لأنه قرءان ذو قدر نزل على قلبنبي ذي قدرلأمة ذات قدر انزله سبحانه وتعالى في ليله القدر .
هذه الليلة بعظمتها تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم.. فالملائكة على امتداد السنة كلها ينزلون بأمر الله جلّ علاه.
يقول سبحانه وتعالى:
(وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً )مريم : 64
طوال السنة تتنزل الملائكة بالأمر .والملائكة تتعاقب علينا .على مدي الأربعة وعشرين ساعة بأمر ربهم وكل ملك له وظيفة يؤديها بالأمر..
إنما في ليلة القدرفالوضع مختلف..إذ أن الملائكة تنزل بالإذن..بالإذن وليس بالأمر.. وفرق كبير جدا بين الأمر والإذن مثلا في الجندية نجد الجندي ينزل
أو ينفذ أوامر القائد بالأمر يبعثه مأمورية بالأمر أما لو أن هذاالجندي عنده فرح أو مناسبة سارة فعليه التوجه للقائد ويأخذ إذن هو عبارة عن تصريح له بالنزول..
وهكذا الملائكة على امتداد العام كله تنزل إلى الأرض بالأمر ولكنها في ليلة القدر تنزل بتصريح من المولى عز وجل تنزل بالإذن..
تطلب الملائكة الإذن من اللهلأنها في هذا اليوم العظيم تريد أن تشارك المسلمون كلهم كلهم بلا استثناء في مشارقالأرض ومغاربها بفرحة الدعاء
فالمسلمون يرفعون اكفهم بالدعاء لله سبحانه وتعالى وذلك في تجمع عجيب..
ففي الحج الأكبر كان ختام القرءان الكريم وكانت ليلة الوقوف بعرفة وهي ليلة لا يشهدها إلا القادرون فقط ...وفي هذا التجمع يباهي الله ملائكته يوم القيامة
لأنهم جاءوه سبحانه وتعالى شعثاً غبراً ويرفعون أكفهم بالدعاء فلا يردهم الله جلّ علاه خائبين.
وفي شهر رمضان كان بداية نزول القرءان وكانت ليلة القدر..فيها يرفع مليار مسلم أكفهم بالدعاء فلا يردهم الله خائبين..فالملائكة تطلب الإذن من الله
وعلى رأسهم جبريل بالنزول إلى الأرض ليشهدوا موكب الإيمان والتقوى ففي هذاالموكب العظيم تجد المسلمين كل على حده يطلب من الله سبحانه
حاجته وفي يقينه أن الله سبحانه وتعالى سوف يستجيب ولسوف يستجيب.وشرط الاستجابة كما قلنا هو الاستقامة..
( قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ )يونس : 89
فالاستقامة على أمر الله والتقرب بالعمل الصالح إلى الله، كلاهما الشرطان الأساسيان وإن شئت فقل هما الجناحان اللذان يجعلان النفس تطير إلى تلك الآفاق العالية
وعندها تشهد ما تشهد من كمال الله سبحانه وتتحلى بالفضيلة والمعرفة.
أماالموسم المناسب الذي تتهيأ فيه النفس لتلك الحالة من الرؤية، والفوز بتلك الليلة المباركة، فإنما هو شهر رمضان، وفي العشر الأواخر منه،
تلتمسُ كما أخبر الصادق المصدَّق عليه أفضل الصلاة والسلام، ذلك لأنه يتوفَّر للصائم حينئذٍ ذانك الشرطان الأساسيان، فالجوع والعطش
في رمضان عونٌ على القطيعة بين الإنسان والشيطان،والإنسان قد مَرِنَتْ نفسه طوال نهارها على هذه القطيعة الميمونة، تجده غير خجل من ربه إطلاقاً.
كما أن له من طاعته لله بصيامه سبباً عظيماً وحافزاً قوياً يحفزه على الإقبال على ربّه فإذا وقف عشاءً للصلاة بعد أن تناول يسيراً من الطعام والشراب،
وقف وكله اتجاه وإقبال وطارت نفسه، تحلِّق في ذلك الأفق العالي لا يعوقها عائق، ولايقف بينها وبين خالقها حجاب وإنك لتجد الصائم بمجرد دخوله
في الصلاة لا يلبث أن يرى نفسه مغموراً بفيض من نور الله، شاخصاً ببصيرته إلى الله، يعبده حق العبادة لأنهيراه ولا يزال يعيد الكرة يوماً فيوماً،
وليلة بعد ليلة، حتى إذا أقبل العشرالأواخر من هذا الشهر وقد صلب عود النفس فتشهد ما يتناسب مع حالها من جماله وجلاله وعظيم صفاته،
وترى الكون كله قائماً بإمداده وتسييره، سابحاً بفضله وإحسانه، مغموراً برحمته وحنانه.. وبشهودالإنسان ذلك الجلال الإلهي والجمال وبرؤيته كمال ربه المتعال،
وبتطلُّعه إلى الرحمة الشاملة. ولذلك العطف والحنان، يمتلئ حباً بذي الجلال والإكرام والعطف والإحسان.
تلك هي ليلة القدر التي يشهد فيها العبد عظمة ربه، وسامي صفاته، ويتنزَّل فيها القرآن على قلبه، تلك هي ليلة القدر التي زيَّن الله بها شهررمضان،
تلك هي الليلة التي يجب أن يفوز بها كل إنسان ومن مات ولم يشهد ليلة القدرفقد أضاع حياته وخسر هذا العمر.
كل فعل له زمان يحدث فيه وله مكان يحدث فيه..
هنا تكلم رب العالمين عن زمان نزول القرءان الكريم فقال إنا أنزلناه في ليلة القدر..وليلة القدر خير من ألف شهر..فأين مكان نزول القرءان الكريم..
كلنا يحسب للقرءان الكريم نزوله في الزمان وننسى المكان..
فالزمان له قدر وعليه يجب أن يكون مكان نزول القرءان الكريم ذي قدر يتناسب مع الزمان والذي هو خير من ألف شهر..
قال سبحانه وتعالى : (لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍلَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)الحشر:21..
ولكننا أنزلناه على قلبك يا محمد فتحمل نزول القرءان..
ما هو قلب الني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟..
انتبه
كلنا نقول ليلة القدر خير من ألف شهر..وننسى مكان نزول القرءان..لا أحد يذكره أبداً..إذا أردت أن تعرف قدر القرءان الكريم فلتعرفه من ناحية الزمان والمكان..
من ناحية الزمان عرفنا نزوله في ليلة القدر..
وأما من ناحية المكان..
فهو قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..الذي نزل عليه القرءان.. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ)..
يقول الحق سبحانه وتعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الحشر : 21
فالجبل لا يقوى على تحمل نزول القرءان الكريم فما بالكم بقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقول تعالي: ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء :192ـ 195
فالحق جل علاه يقول أن القرءان الكريم نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ على قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ .. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ..
ولقد عرفنا من السيرة النبوية المطهرة ومن القرءان الكريم قصة ثلاثة جبال..
الجبل الأول أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنه ألا وهو جبل الطور ذلك الجبل الذي شرف بتجلي الله جل علاه له ولم يقو على تحمل النظر إلى وجهه الكريم
فاندك ولم يوجد له أثر..نعم هذا الجبل الذي نسمع قصته ولم نر أثره..فقط موضع الجبل معروف..إنني اسميه الجبل الخاشع..يقول سبحانه وتعالى مادحاً ذلك الجبل:
( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ )الأعراف : 143
أما عن الجبل الثاني فهو جبل أحد..ذلك الجبل الذي قال عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) . رواه البخاري ومسلم..
تأملوا في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ..إذن الجبل له مشاعر وعواطف وأحاسيس وهذه كلها مكانها القلب فجبل أحد له قلب يشعر ويحس ويحب..مثلنا تماماً..
أحد جبل يحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..ويبادله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفس المشاعر.
والجبل الثالث هو جبل حراء..
ولقد شهد جبل حراء لقاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجبريل ولحظة نزول القرءان الكريم..وكان الله به رحيما فلم يشأ أن ينزله عليه
ولو حدث هذا لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ .
إذن الطاقة الاستيعابية لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنزول القرءان الكريم أكبر من أن يتحملها الجبل الأشم فالجبل لا يقو على تحمل نزول القرءان.
لذلك أنزل الله جل علاه القرءان الكريم على قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..وهذا هو البعد المكاني لنزول القران.
فكيف نزل القرءان الكريم على قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتصدع؟..
فتذكروا ليلة القدر من ناحية المكان ومن ناحية الزمان لتعرفوا شيئاً عن نبيكم عليه الصلاة والسلام..
3 ـ ومثل ما فضل الله سبحانه وتعالى الرسل بعضهم على بعض..ومثل ما فضل بعض الأمكنة على بعض فمكة أم القرى..
أخرج الترمذي بسنده عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والله، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"..
وفي رواية للترمذي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك".
إن الحرم في مكانين فقط لاثالث لهما؛ أحدهما: مكة، والثاني: المدينة النبويّة، فمكة ليست كأي بلد من البلدان، والمسجد الحرام ليس كأي مسجد من المساجد
في كل بقاع الأرض، فالأماكن تختلف بعضها عن بعض في الفضل، وكذلك الأشخاص (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ) الحج:75.
والله سبحانه وتعالى فضل بعض الأيام على بعض، وبعض الليالي على بعض، وبعض الشهور على بعض، وبعض السنين على بعض، وبعض القرون على بعض،
وبعض الأمم على بعض، كما أنه سبحانه وتعالى فضل بعض النبيين على بعض، وبعض الملائكة على بعض.
فقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى بالتفضيل في عموم مخلوقاته سبحانه وتعالى، فيوم عرفة خير يوم في السنة، وفضَّل الله تعالى بعض الشهور والأيام
على بعض فـ( عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) التوبة: 36،
وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة متوالية، والرابع شهر رجب الفرد بين جمادى وشعبان وشهر رمضان أفضل الشهور وفضَّل الأيام بعضها على بعض؛
فَخيرُ يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة. ، وقرن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل القرون، وجرت سنة الله سبحانه وتعالى بهذا التفضيل..
كذلك فضل الله سبحانه وتعالى ليلة القدر على سائر الليالي..
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)..
ماذا تعرف يا محمد ويا كل مسلم..ماذا تعرفون عن ليلة القدر؟؟..
 
ماذا تعرف يا محمد ويا كل مسلم..ماذا تعرفون عن ليلة القدر؟؟..

لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ
تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مِنْ
كُلِّ أَمْرٍ سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ) سورة القدر
وقوله تعالى( سَلَـٰمٌ هِىَ ) إشارة إلى العناية الإلهية بشمول الرحمة لعباده سبحانه وتعالى المقبلين إليه.
ومن أجمل ما قرأت شعراً

أطلي ليلة القدر

لعبد المعطي الدالاتي


أطلّّي غُرّةَ الدهرِ
أطلي ليلةَ القدرِ
أطلي درّةَ الأيام
مثلَ الكوكب الدرّي
أطلّي في سماء العمر
إشراقاً مع البدرِ
سلامٌ أنتِ في الليل
وحتى مطلعِ الفجرِ
سلامٌ يغمرُ الدنيا
يُغشّي الكونَ بالطهرِ
وينشرُ نفحةَ القرآنِ
والإيمانِ والخيرِ
لأنكِ منتهى أمري
فإني اليوم لا أدري
أفي حلُمٍ..أفي وعيٍ..
أنا! يا حِيرةَ الفكرِ!
فما قيسٌ وما ليلى
وما ذاك الهوى العُذري!
حفظتُ هواكِ في سري،
فباحتْ مهجةُ السرِّ
وصنتُ سناكِ في صدري
فشعّتْ خفقةُ الصدرِ
أداريهِ وأسكبُهُ
بقلبِ زجاجةِ العطرِ
وأصحَبهُ مدى عمري..
وأحملُه إلى قبري
لأنكِ أنت أمنيتي
فرشتُ الحبَّ في قصري
لأجلكِ صُغتُ قافيتي
وصغتُ قصيدةَ العمرِ
أرتّلها وأنشدُها فأرحلُ
في مدى الشعرِ
فمن شطرٍ إلى شطرِ
ومن سطرٍ إلى سطرِ
ويصغي الكونُ في شغفٍ
لقافيةٍ على ثغري
لقافيةٍ ملوّنةٍ
بلونِ خمائلِ الزهرِ
فحرفٌ لونهُ يُغوي ،
وحرفٌ حسنهُ يغري
وليس الفضلُ لي أبداً
فما عندي سوى فقري
وكلّ الفضل والنُعمى
لربٍّ مالكٍ أمري
ومنْ يدري! بما قد رانَ
من وزرٍ على ظهري
فيا رباهُ فارحمني..
فوزري ..آهِ من وزري
لأنكِ أنت أمنيتي..
لأنك ليلة القدرِ

والسُّؤال الأخير عنها: ماذا ينبغي لِمَن صَادَفَها، أو ظَنَّها أن يفعلَ؟

لقد سألتْ أم المؤمنين عائشة السيدة رضي الله عنها هذا السؤال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأجَابَهَا بقوله:
"قولي: اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ، تُحبُّ العفوَ فاعفُ عني" أخرجه ابن ماجه (3850)، والترمذي (3513)، وقال: حديث حسن صحيح،
ووافَقَه الألباني في السلسلة الصحيحة (3337).

وبتأمُّل هذا الدعاء نجده من جوامع الكلم؛ لأنَّه أوَّلاً تَوَسُّلٌ إلى الله -تعالى- بصفته التي تناسب المطلوب، وهو "عَفُوٌّ"، وامتداحه بها "تُحِبُّ العَفْوَ"،
ثم طلب العفو وهو جامع لخيري الدنيا والآخرة، معافاة البدن منَ الوَجَع، والدِّين منَ البِدَع، ومَن عُوفِيَ فلْيَحْمَدِ الله،
أمَّا في الآخرة فمَن عُوفِيَ من الحساب والعقاب، فقد فاز بِحُسْن المآب.
 

الفصل الثاني

الصوم الواجب بالنذر

فالأصل فيه قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) فأثنى على الذين يوفون بالنذر وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
من نذر أن يطيع الله فليطعه فإذا نذر صيام أيام معينة لزمه صيامها ، إلا أن تكون مما يحرم صومه كيوم العيد وأيام التشريق ،
وإن نذر صوم شهر معين لزمه التتابع ، وإن نذر أيامًا معدودة كعشرة أيام لم يلزمه التتابع ، إلا إذا شرط أنها متتابعة أو نوى أنها
متتابعة فيلزمه التتابع في الحالتين ، مع العلم أنه لا ينبغي النذر ابتداء .
النذر لغة:
النَّذْرُ: النَّحْبُ، وهو ما يَنْذِرُه الإِنسان فيجعله على نفسه نَحْباً واجباً، وجمعه نُذُور،
يقال: نَذَرْتُ نَذْراً، إذا أوجبتَ على نفسِك شيئا تبرُّعا؛ من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك.
وأصل النحب النذر فلما كان كل حي لا بد له من الموت، فكأنه نذرٌ لازم له فإذا مات فقد قضاه.
وشرعا:
النذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال: نذرت لله أمرا ، قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} (مريم/26)،
وقال: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر} (البقرة/270) ، قال القرطبى: والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف
على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر- بضم الذال - وينذر – بكسرها.
قال في النهاية النحب: النذر كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب فوفى به، وقيل النحب الموت كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت انتهى.
وقال التوربشتي: النذر والنحب المدة والوقت. ومنه قضى فلان نحبه إذا مات وعلى المعنيين يحمل قوله سبحانه: {فمنهم من قضى نحبه}
فعلى النذر أي نذره فيما عاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الموت:
أي مات في سبيل الله وذلك أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم في سبيله.
قال ابن حجر: والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف . وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر .
قال القرطبى: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه.

حكمه شرعا:
* فى الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ" [.خ...ك...الأيمان والنذور]....
وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن النذر " وجاء بصيغة النهي الصريحة في رواية عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ " لا تنذروا " .
* وعن سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ النَّذْرَ
لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ"..[خ...ك..الأيمان والنذور].

* وهذه الروايات تبين أن النذر منهى عنه...وجاء فى بعض الروايات ما يعتبر تعليل لهذا النهى كما فى هذه الرواية قوله ( لا يقدم شيئا ولا يؤخر )
وفي رواية " لا يرد شيئا " وهي أعم , ونحوها في حديث أبي هريرة " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له " وفي رواية "
فإن النذر لا يغني من القدر شيئا " وفي لفظ " لا يرد القدر " وفي حديث أبي هريرة عنده " لا يُقَرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له
" ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة , وفيها إشارة إلى تعليل النهي عن النذر .
* وقد اختلف العلماء في هذا النهي : فمنهم من حمله على ظاهره , ومنهم من تأوله . قال ابن الأثير في النهاية : تكرر النهي عن النذر
في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه , ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء
به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم , وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا
ولا يغير قضاء فقال : لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم ,
فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم , انتهى كلامه .
وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال : كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما ,
ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله , ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به .
ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة , وإلى ذلك أشار المازري بقوله : ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ
في النذر والحض على الوفاء به . قال : وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث . ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا
لها لما صار عليه لازم , وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار , ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط
أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب . قال : ويشير إلى هذا التأويل قوله " إنه لا يأتي بخير " وقوله " إنه لا يقرب
من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له " وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ .
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له ,
وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها , لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه , . وقال النووي : معنى قوله " لا يأتي بخير "
أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينته الروايات الأخرى .
وقد ذكر أكثر الشافعية - ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي - أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد ,
وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة , قال : واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد
أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه . وجزم الحنابلة بالكراهة , وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها ,
وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال : وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر , وقال ابن المبارك : معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية ,
فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر .
ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به
ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربة قال : يمكن أن يتوسط فيقال : الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة وأما نذر التبرر فهو قربة محضة
لأن للناذر فيه غرضا صحيحا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع ا هـ . وجزم القرطبي في " المفهم " بحمل ما ورد في الأحاديث
من النهي على نذر المجازاة فقال : هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا , ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة
المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة ,
ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه , وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا .
وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله " إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه " قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن
أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض , أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر , وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا
" فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح . قلت : بل تقرب من الكفر أيضا .
ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال : الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد
فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ . وهو تفصيل حسن , وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة
في قوله تعالى ( يوفون بالنذر ) قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا ,
وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة , ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم
" من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه " ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى , والاتفاق الذي ذكره مسلم ,
النذر يستخرج به من البخيل مالم يكن يخرجه:
*فى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ
فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"..[.خ...ك...الأيمان والنذور]....
وفي رواية لمسلم " فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج "
قال البيضاوي : عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة , فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه
والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له , وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا ,
لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه , لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه , قال ابن العربي :
فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر , لأن الحديث نص على ذلك بقوله " يستخرج به " فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه
بالبخل من صدور النذر عنه , إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج.
وقال ابن العربي : النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا , ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء ,
والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة
إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم.أ.هـ

النذر فى الطاعة فقط:
*قال تعالى:" وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189 البقرة).

في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر
وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة.
قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل
قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه). فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته،
وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.‏

*وفى الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ" [.خ...ك...الأيمان والنذور].
الطاعة أعم من أن تكون في واجب أو مستحب , ويتصور النذر في فعل الواجب بأن يؤقته , كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول
وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته , وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيده به الناذر والخبر
صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن ترك الوفاء به إذا كان في معصية.
وقد قسم بعض الشافعية الطاعة إلى قسمين : واجب عينا فلا ينعقد به النذر كصلاة الظهر مثلا وأما صفة فيه فينعقد كإيقاعها أول الوقت ,
وواجب على الكفاية كالجهاد فينعقد , ومندوب عبادة عينا كان أو كفاية فينعقد , ومندوب لا يسمى عبادة كعيادة المريض وزيارة القادم
ففي انعقاده وجهان والأرجح انعقاده وهو قول الجمهور والحديث يتناوله فلا يخص من عموم الخبر إلا القسم الأول لأنه تحصيل الحاصل .
وبوب البخارى: باب النذر فيما لا يملك وفي معصية:
والتقدير باب النذر فيما لا يملك وحكم النذر في معصية , فإذا ثبت نفي النذر في المعصية التحق به النذر فيما لا يملك لأنه يستلزم
المعصية لكونه تصرفا في ملك الغير.... وهو في حديث ثابت بن الضحاك بلفظ " وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك "
وقد أخرجه الترمذي مقتصرا على هذا القدر من الحديث...... وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت
على ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم , فإن الذين أسروا المرأة انتهبوها فنذرت إن سلمت أن تنحرها , فقال النبي صلى الله عليه وسلم "
لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم "...... وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ " لا يمين عليك
ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك "
واستدل بحديث " لا نذر في معصية " من قال بصحة النذر في المباح لأن فيه نفي النذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتا , واحتج من قال
إنه يشرع في المباح بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده , وأخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة "
أن امرأة قالت : يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف , فقال : أوف بنذرك " وزاد في حديث بريدة أن ذلك
وقت خروجه في غزوة فنذرت إن رده الله تعالى سالما....الحديث.. قال البيهقي : يشبه أن يكون أذن لها في ذلك لما فيه من إظهار الفرح بالسلامة ,
واتفقوا على تحريم النذر في المعصية , واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة , واحتج من أوجبها بحديث عائشة
" لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " أخرجه أصحاب السنن ورواته ثقات , لكنه معلول فإن الزهري رواه عن أبي سلمة ثم بين أنه حمله
عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلسه بإسقاط اثنين , وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال : لا يصح ,
ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النسائي وضعفه.... وقال النووى في الروضة: حديث لا نذر في
معصية وكفارته كفارة اليمين ضعيف باتفاق المحدثين.
وقوله: "فلا يعصه"، هذا كما لو نذر ترك الكلام مع أبويه أو ترك الصلاة أو حلف في ذلك فإنه يجب عليه أن لا يأتي بالمعصية
(قال الموفق فى المغنى: نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعاً، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "من نذر أن يعصي اللّه فلا يعصيه"،
ولأن معصية اللّه لا تحلُّ في حال، ويجب على الناذر كفارة يمين، روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين
وسمرة بن حندب وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ورُوي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه، فإنه قال فيمن نذر ليهدِمَنّ دار غيره
لبنة لبنة لا كفارة عليه، وهذا في معناه، وروي هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب مالك والشافعي...إلخ......
وقال الترمذى: بعضِ أهلِ الْعِلْمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم قالوا: لا يعصى الله (هذا مجمع عليه ليس فيه اختلاف)
وليس فيه كَفّارَةُ يمينٍ إذا كانَ النّذْرُ في مَعْصِيَةٍ (وهذا مختلف فيه).... وبهذا يقولُ مالكٌ والشافعيّ.
وقوله"(من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) قال في شرح السنة فيه دليل على أن من نذر معصية لا يجوز الوفاء به ولا يلزمه الكفارة،
إذا لو كانت فيه الكفارة لبينه صلى الله عليه وسلم.
متى تجب الكفارة في النذر؟:
اختلف أهل العلم فيمن وقع منه النذر في معصية أو فيما لايملك هل تجب فيه كفارة ؟ فقال الجمهور : لا , وعن أحمد والثوري وإسحاق
وبعض الشافعية والحنفية نعم , ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين , وفي عموم حديث عقبة بن عامر " كفارة النذر كفارة اليمين " أخرجه مسلم ,
ما يدل على الكفارة, وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب وبعضهم على النذر المطلق ,
لكن أخرج الترمذي وابن ماجه حديث عقبة بلفظ " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " ولفظ ابن ماجه " من نذر نذرا لم يسمه " ,
وفي حديث ابن عباس يرفعه " من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين " أخرجه أبو داود , وفيه " ومن نذر في معصية فكفارته كفارة يمين ,
ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " ورواته ثقات , لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا وهو أشبه , وأخرجه الدارقطني من حديث عائشة ,
وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه لكن قالوا إن الناذر مخير بين الوفاء بما التزمه (مما لايطيقه) وكفارة اليمين ,
وفى الحديث عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: من نذر نذراً ولم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين،
أخرجه أبو داود وابن ماجه. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده صحيح إلا أن الحافظ رجح وقفه.
وقوله: (لم يسمه) أي لم يعينه الناذر بأن قال: إني نذرت نذراً أو على نذر ولم يعين أنه صوم أو غيره (كفارة يمين) فيه دليل
على أن كفارة اليمين إنما تجب فيما كان من النذور غير مسمى. قال النووي: اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث يعني حديث عقبة بن عامر
الذي أخرجه مسلم بلفظ كفارة النذر كفارة اليمين فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة.
وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله عليّ نذر، وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر،
وقالوا هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين انتهى. قال الشوكاني: والظاهر اختصاص الحديث
يعني حديث مسلم المذكور بالنذر الذي لم يسم، لأن حمل المطلق على المقيد واجب، وأما النذور المسماة إن كانت طاعة فإن كانت
غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت مقدروة وجب الوفاء بها سواء كانت متعلقة بالبدن أو بالمال، وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا ينعقد
ولا يلزم فيها الكفارة، وإن كانت مباحة مقدورة فالظاهر الانعقاد ولزوم الكفارة لوقوع الأمر بها في الأحاديث في قصة الناذرة بالمشي إلى بيت الله،
وإن كانت غير مقدورة ففيها الكفارة لعموم: ومن نذر نذراً لم يطقه. هذا خلاصة ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة انتهى.
واحتج بعض الحنابلة بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة ولا يحفظ عن صحابي خلافه قال والقياس يقتضيه , لأن النذر يمين كما وقع في
حديث عقبة لما نذرت أخته أن تحج ماشية لتكفر عن يمينها فسمي النذر يمينا , ومن حيث النظر هو عقدة لله تعالى بالتزام شيء ,
والحالف عقد يمينه بالله ملتزما بشيء ثم بين أن النذر آكد من اليمين ورتب عليه أنه لو نذر معصية ففعلها لم تسقط عنه الكفارة بخلاف الحالف ,
وهو وجه للحنابلة , واحتج له بأن الشارع نهى عن المعصية وأمر بالكفارة فتعينت.
* وقال ابن القيم فى تهذيب سنن ابى داود:
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كفارة النذر كفارة اليمين".
 
وهذا يتناول نذر المعصية من وجهين.
أحدهما: أنه عام لم يخص منه نذر دون نذر.
الثاني: أنه شبهه باليمين، ومعلوم: أنه لو حلف على المعصية وحنث لزمه كفارة يمين، بل وجوب الكفارة في نذر المعصية أولى منها في يمين المعصية لما سنذكره.
قالوا: ووجوب الكفارة قول عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين وسمرة بن جندب، ولا يحفظ عن صحابي خلافهم.
قالوا: وهب أن هذه الاَثار لم تثبت، فالقياس يقتضي وجوب الكفارة فيه، لأن النذر يمين، ولو حلف ليشربن الخمر، أو ليقتلن فلاناً،

وجبت عليه كفارة اليمين وإن كانت يمين معصية فهكذا إذا نذر المعصية.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية النذر يميناً ـ لما قال لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله فعجزت تكفر يمينها، وهو حديث صحيح.
وعن عقبة مرفوعاً وموقوفاً "النذر حلفة".
وقال ابن عباس في امرأة نذرت ذبح ابنها "كفري يمينك".
فدل على أن النذر داخل في مسمى اليمين في لغة من نزل القران بلغتهم.
وذلك أن حقيقته هي حقيقة اليمين فإنه عقده لله ملتزماً له، كما أن الحالف عقد يمينه بالله ملتزماً حلف عليه، بل ما عقد لله أبلغ وألزم

مما عقد به فإن ما عقد به من الأيمان لا يصير باليمين واجباً، فإذا حلف على قربة مستحبة ليفعلنها لم تصر واجبة عليه،
وتجزئه الكفارة ولو نذرها وجبت عليه ولم تجزئه الكفارة.
فدل على أن الالتزام بالندر اكد من الالتزام باليمين، فكيف يقال: إذا التزم معصية بيمينه وجبت عليه الكفارة، وإذا التزمها بنذره

الذي هو أقوى من اليمين فلا كفارة فيها فلو لم يكن في المسألة إلا هذا وحده لكان كافياً.
ومما يدل على أن النذر اكد من اليمين. أن الناذر إذا قال: لله علي أن أفعل كذا فقد عقذ نذره بجزمه أيمانه بالله، والتزامه تعظيمه،

كما عقدها الحالف بالله كذلك، فهما من هذه الوجوه سواء، والمعنى الذي يقصده الحالف ويقوم بقلبه هو بعينه مقصود للناذر قائم
بقلبه ويزيد النذر عليه أنه التزمه لله، فهو ملتزم من وجهين: له، وبه.
والحالف إنما التزم ما حلف عليه خاصة، فالمعنى الذي في اليمين داخل في حقيقة النذر فقد تضمن النذر اليمين وزيادة، فإذا وجبت الكفارة

في يمين المعصية فهي أولى بأن تجب في نذرها.
ولأجل هذه القوة والتأكيد: قال بعض الموجبين للكفارة فيه: إنه إذا نذر المعصية لم يبرأ بفعلها، بل تجب عليه الكفارة عيناً،

ولو فعلها لقوة النذر، بخلاف ما إذا حلف عليها، فإنه إنما تلزمه الكفارة إذا حنث، لأن اليمين أخف من النذر.أ.هـ
ولعل كلام الشوكانى من أعدل الكلام والله تعالى أعلى وأعلم...

وجوب الوفاء بنذر الطاعة:
*قال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .....(1 المائدة).
فى هذه الآية أمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود؛ قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه؛ من بيع وشراء وإجارة

وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة؛
وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام.
*وقال تعالى:" ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29 الحج).
قوله تعالى: "وليوفوا نذورهم" أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام: (لا وفاء لنذر في معصية الله)،

وقوله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)
وقوله تعالى: "وليوفوا نذورهم" يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر،

وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره.
*وقال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)الصف.
هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها..... فإن من التزم شيئا لزمه شرعا. والملتزم على قسمين:
أحدهما: النذر، وهو على قسمين، نذر تقرب مبتدأ كقول: لله علي صلاة وصوم وصدقة، ونحوه من القرب. فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر
مباح وهو ما علق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة.

فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة، يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقوال: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا،
لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط.
والثانى الوعد: قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار،

أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا. فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه...قال القرطبى:
والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب
له الهبة فيقول له نعم؛ ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه... فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم. وقد أثنى الله تعالى على
من صدق وعده ووفى بنذره فقال: "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" [البقرة: 177]، وقال تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد" [مريم: 54].
*وقال تعالى:" يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7 الإنسان).
قوله تعالى: "يوفون بالنذر" أي لا يخلفون إذا نذروا... وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه...

وقال الكلبي: "يوفون بالنذر" أي يتممون العهود والمعنى واحد.... وروى أشهب عن مالك أنه قال: "يوفون بالنذر" هو نذر العتق والصيام والصلاة....
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال مالك. "يوفون بالنذر" قال: النذر: هو اليمين....بل ويلزم الوفاء عن الميت نذره ففى الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي
عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ"...[ الحج].

 
الفصل الثالث

الصيام من حيث الحكم
كذلك تم تقسيم الصيام من حيث الحكم وهو على خمسة أفرع:
الفرع الأول: الصوم الواجب في كفارة الجماع في نهار رمضان.
الفرع الثاني : في كفارة قتل الخطأ.
الفرعى الثالث : في كفارة الظهار.
الفرع الرابع :في كفارة اليمين.
الفرع الخامس :كفارة جزاء الصيد.
الفرع السادس:في كفارة التحلل من الحج.


الفرع الأول

الصوم الواجب في كفارة الجماع في نهار رمضان

فمن أفسدَ صومَ قضاءِ رمضانَ أو صومِ الكفارةِ أو أيِّ صومٍ واجبٍ –ما عدا صومَ رمضانَ- بجماعٍ أو غيرهِ من المفسداتِ عمدًا من
غيرِ عذرٍ شرعيٍ فإنّه يترتبُ علَى إفسادِ هذه العبادةِ الواجبةِ: لحوقُ الإثمِ ووجوبُ القضاءِ.
أمّا دليلُ وجوبِ القضاءِ فظاهرٌ من حديثِ أمِّ هانئٍ رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شَرِبَ شرابًا، فناولها لتشربَ،
فقالت: إنّي صائمةٌ، ولكنْ كَرِهْتُ أن أردَّ سُؤْرَكَ فقال: «إِنْ كانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ فَاقْضِي يَوْماً مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعاً فَإنْ شِئْتِ فَاقْضِي،
وَإِنْ شِئْتِ فَلا تَقْضِي.( أخرجه أحمد في «مسنده»: (26371)، والدارمي في «سننه»: (1686)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (8446)،
والطيالسي في «مسنده»: (1617)، والدارقطني في «سننه»: (2193)، من أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها.
والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» 2802).).
وأمّا دليلُ لحوقِ الإثمِ على إفسادِ الصَّومِ الواجبِ عَمْدًا فقوله تعالى: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33]، إذ لا فرقَ بينَ قضاءِ رمضانَ وأدائِهِ
في لحوقِ الإثمِ من حيثُ عَدَمُ جوازِ إبطالِهِ بمفسداتِ الصَّومِ، فلا يُوجدُ ما يخصِّصُّ عمومَ الآيةِ، ولا يُقَال: إِنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أقرّ أمَّ هانئ وَلم ينكرْ إفطارهَا ولو كان من القضاءِ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم في مقامِ بيانٍ، وتَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ،
فاكتفى ببيانِ وجوبِ القضاءِ طلبًا جازمًا مع جوازِ إفطارِ القاضي له إقرارًا، وبهذا قال الشوكاني،( السيل الجرار للشوكاني: 2/151.)
وهذا غيرُ صحيحٍ لأنّ أمرَه صلى الله عليه وآله وسلم بالقضاءِ لأمّ هانئ لو أفطرت منه لا يلزمُ جواز فعلِهَا، لأنّ من شروطِ
الإقرارِ -الذي هو حجة- أن لا يدلَّ عليه دليلُ المنع من جهةٍ، وأن لا يكون المسكوتُ عنه قد اعترفَ بذنبهِ وخطئه،
وقد أقرَّت أمُّ هانئ رضي الله عنها بذلك في رواية الترمذي بقولها: «إِنِّي أَذْنَبْتُ فاسْتَغْفِر لِي. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالَتْ: كُنْتُ صَائِمَةً فأَفْطَرْتُ، فَقَالَ: أَمِنْ قَضَاءٍ كُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قَالَتْ: لاَ. قَالَ: فَلاَ يَضُرُّكِ»(أخرجه الترمذي في «الصوم»،
باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع 731)، وابن أبي شيبة في «المصنف»: (9068)، من أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها.
قال الألباني في «تخريج المشكاة»: (1/642): «إسناده جيّد».)، ويؤكِّده مفهومُ قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «فَلاَ يَضُرُّكِ»،
وفي رواية أبي داود بزيادة: «فَلاَ يَضُرُّكِ إنْ كَانَ تَطَوُّعًا» ( أخرجه أبو داود في «الصوم»، باب في الرخصة في ذلك: (2456)،
والدارمي في «سننه»: (1687)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (8362)، من أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها.
وصححه الألباني في «صحيح أبي داود»: (2456).)، فإنّه يدلّ بمفهومه على أنّه إن كان صومها من قضاءٍ واجبٍ فإنّ إفسادَه يضرُّها.
هذا، ولا يرتقي إثمُ إفسادِ الصَّومِ إلى الكبائر لانتفاءِ الوعيدِ الخاصِّ عَلَى ارْتِكَابهِ المعيَّن له صراحة، اللهمّ إلاّ إذا استدلّ بحديث أبي أُمامة الباهلي
رضي الله عنه أنّه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال -في رُؤْيِةٍ منامية-:«ثُمَّ انْطُلِقَ بِى فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيـبِهِمْ، مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا،
قَالَ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ»،( أخرجه ابن خزيمة (1865)، وابن جبان (7615)،
والحاكم في مستدركه (2788)، والبيهقي (7537)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3951)، وصحيح الترغيب: 1/588 رقم: (1005)،
ومقبل الوادعي في "الصحيح المسند" (483).) والوعيدُ في الحديث يَلْحَقُ مَن يُفطر قبل غروبِ الشمس.
ولهما أن يُكَفِّرا عنه بالتوبة والعملِ الصَّالحِ، ويلزمهما القضاءُ دون وجوبِ الإمساكِ والكفَّارةِ المشرَّعة للجماع لثبوتِ خصوصِيتهما
في رمضان في قصّة الأعرابي المجامعِ في رمضانَ عمدًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه( أخرجه البخاري في «كفارات الأيمان»،
باب متى تجب الكفارة على الغني والفقير: (6331)، ومسلم في «الصوم»، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان: (2595)،
والترمذي في «الصوم»، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان: (724)، وابن ماجه في «الصيام»، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوما من رمضان: (1671)،
والدارمي في «سننه»: (1668)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، ولا يخفى أنّ واجبَ صومِ رمضانَ مضيَّقٌ من حيثُ وقتُه،
بينما صومُ القضاءِ فمطلقٌ، فافترقَ حكمُ القضاءِ عن الأداءِ، لذلكَ احتاجت الكفَّارةُ -باعتبارها حكمًا شرعيًا- في تقريرِ مشروعيتها في القضاءِ
إلى دليلٍ شرعيٍّ يُسْنِدُهَا وهو منتفٍ عنهَا.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
وعليه فمن واقع امرأته في نهار رمضان فعليه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ، يَا رَسُولَ الله! قالَ: «وَمَا أهْلَكَكَ؟».
قال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأتِي فِي رَمَضَانَ، قال: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قال: لا، قال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟».
قال: لا، قال: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟». قال: لا، قال: ثُمَّ جَلَسَ، فَأتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تمرٌ،
فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا». قال: أفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أهْلُ بَيْتٍ أحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ،
ثُمَّ قال: «اذْهَبْ فَأطْعِمْهُ أهْلَكَ». متفق عليه.
 
الفرع الثاني

في كفارة قتل الخطأ


القتل الخطأ مصطلح قانوني يختلف عن القتل العمد لأنه لا يُصَاحَب برغبة أكيدة أو حقد ويطلق عليه القتل غير المتعمد.
ويقسم القانون في العديد من الدول القتل الخطأ إلى قسمين: إرادي وغير إرادي. فالإرادي يتم القتل فيه في ذروة حرارة الحدث دون أي خطة مسبقة،
أي ردًا على الاستفزاز، وهو كاف لإثارة الشخص لارتكاب الفعل، حيث لا يمكن للإنسان العادي السكوت على الاستفزازات.
فالرجل الذي يقتل رجلاً آخر في أثناء مشاجرة عنيفة دون أي تخطيط مسبق يُدان بالقتل الإرادي.
وهناك بعض الأنظمة القانونية تحدد نوعًا آخر من القتل الخطأ الإرادي، حيث تقرر أن الإنسان يعاني مسؤولية متضائلة تؤدي إلى إعاقة ذهنية شديدة يترتب عليها تعطيل الدماغ.
أما القتل الخطأ غير الإرادي أو الناجم عن الإهمال فإنه يحدث نتيجة للإهمال أو انشغال القاتل بفعل خاطئ. فإذا قتل سائق مهمل شخصًا
ما فإنه يُدان بتهمة القتل الخطأ غير الإرادي.
الذي يجب بقتل الخطأ شيئان : الدية والكفارة .
قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) النساء/92 .
أما الدية فهي واجبة في قتل الخطأ على عاقلة القاتل ، وهم عصبته ، وهم الأب ، والأجداد من جهة الأب ، والإخوة الأشقاء والإخوة من الأب وأبناؤهم ،
والأعمام وأبناؤهم ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد .
قال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" ( 11/77 ) : " والعاقلة هم العصبة سواء كانوا وارثين أم غير وارثين, فالزوج والأخ من الأم
وأبو الأم ليسوا من العصبة " انتهى بتصرف .
ويقسم الحاكم الدية على العاقلة حسب القرابة والغنى , فالأقرب يتحمل أكثر من البعيد , والأكثر غنى يتحمل أكثر , والفقير لا شيء عليه .
انظر "الشرح الممتع" ( 11/80 ) قال ابن قدامة في "المغني" ( 12/21 ) : " ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة .
قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم . وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة ,
وأجمع أهل العلم على القول به ........
والمعنى في ذلك : أن جنايات الخطأ تكثر , ودية الآدمي كثيرة , فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به , فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة ,
على سبيل المواساة للقاتل , والإعانة له , تخفيفا عنه , إذ كان معذورا في فعله , وينفرد هو بالكفارة " انتهى باختصار .
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة ( 21/238 ) : " الحكم بالدية على العاقلة إنما هو في الخطأ أو شبه العمد ، أما دية العمد المحض فلا تحملها العاقلة ،
بل هي على الجاني خاصة ، وإذا تراضى أفراد العاقلة على التحمل معه أو مساعدته في الدية فلا بأس " انتهى .
وأما الكفارة ؛ فهي واجبة على القاتل ، وهي عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين ،
وهي المذكورة في قول الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) النساء/92 . ".

الفرع الثالث

في كفارة الظهار

الظهار:
1 ـ تعريف الظهار وحكمه:
أـ تعريف الظهار:
الظهارلغة: مأخوذمن الظهر.
وشرعاً: أن يُشَبِّه الرجل زوجته في الحرمة بإحدى محارمه،بنسب،أورضاع أومصاهرة،أوببعضها،فيقول الرجل إذا أراد الامتناع عن الاستمتاع بزوجته:
أنت عليَّ كظهرأمي،أوأختي أوغيرهما،فمتى فعل ذلك فقدظاهرمن امرأته.
ب ـ حكمه: الظهارحرام؛لقوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ) إلى قولهتعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًامِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) المجادلة:2
وكان الظهارطلاقاً في الجاهلية،فلماجاء الإسلام أنكره واعتبره يميناًمكفرة؛رحمةمن الله سبحانه وتيسيراًعلى عباده.
فيحرم عل المظاهروالمظاهرمنها استمتاع كل منهما بالآخر- بجماع ودواعيه،كالقبلة، والاستمتاع بمادون الفرج- قبل التكفير؛لقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَاقَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمظاهر:
«لاتقربهاحتى تفعل ماأمرك الله به».
2 ـ كفارةالظهار:
كفارةالظهارمرتبة على النحوالآتي:
أ ـ عتق رقبة مؤمنة،سليمة من العيوب.
ب ـ فإن لم يجد الرقبة أولم يجد ثمنها،صام شهرين قمريين متتابعين،لايفصل بين الشهرين إلابصوم واجب كصوم رمضان،
أوإفطار واجب كالإفطارللعيد وأيام التشريق،والإفطارللمرض والسفر.
ج ـ فإن لم يستطع الصوم،فيطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مدمن البر،أونصف صاع من غيره،من قوت البلد؛لقوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا …)الآيتين(المجادلة: 3، 4).
ولحديث سلمة بن صخرالبياضي لماجعل امرأته عليه كظهرأمه أمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَب عتق رقبة،فإن لم يجدفصيام شهرين متتابعين،فإن لم يجد فالإطعام.
فإن جامع المظاهرقبل أن يكفِّركان آثماً عاصياً،ولاتلزمه إلاكفارة واحدة، وتبقى الكفارة معلقة في ذمته حتى يُكَفِّر،وتحريم زوجته عليه باق أيضاًحتى يكفِّر.
كأن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي يريد تحريمها، فيجب عليه قبل أن يمس زوجته عتق رقبة مؤمنة،
فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [3]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [4]} [المجادلة:3، 4].
الأشياء التي لا ينقطع بها تتابع الصيام:
من وجب عليه صيام شهرين متتابعين فإنه لا يقطع التتابع ما يلي:
العيدان، والسفر المبيح للفطر، والمرض المبيح للفطر، والحيض، والنفاس.
والحق أن الصوم وإن كان ما له من المقاصد والحكم، إلا أن تحقيق التقوى يظل هو المقصد الأهم، والحكمة الأولى،
وهذا أمر واضح للعيان من خلال آيات الصيام بقوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)،
والآية الأخيرة بقوله تعالى كذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، وقد أحسن ابن القيم حين قال عن الصيام: فهو لجام المتَّقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين.





الفرع الرابع

في كفارة اليمين

الأيمان ثلاثة
يمين لغو..ويمين منعقدة..ويمين غموس..
اليمين اللغو..هي تلك اليمين التي على اللسان يقولها المرء دون وعي منه..هذه اليمين لا يؤاخذنا الله سبحانه وتعالى..( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ).
وهذه اليمين أمرنا الله سبحانه وتعالى بحفظها وعدم المسارعة فيها، فقد قال الله تعالى: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ)المائدة:89
أما اليمين المنعقدة فهي أن يحلف المسلم على شيء فيحنث فيه، فيجب عليه على التخيير:
عتق رقبة مؤمنة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم.
فإن لم يجد شيئاً من ذلك فيجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام.
قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [89]} [المائدة:89].فيخير الإنسان بين الأمورالأربعة المذكورة في الية الكريمة:
1ـ إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله.
2ـ كسوة عشرة مساكين ، فيكسو كل مسكين كسوة تصلح لصلاته ، فللرجل قميص (ثوب) أو إزار ورداء ، وللمرأة ثوب سابغ وخمار .
3ـ تحرير رقبة مؤمنة .
4 ـ فمن لم يجد شيئا من ذلك، صام ثلاثة أيام متتابعة .
وكفارة اليمين مخير فيها، فإن شاء صاحبها أطعم عشرة مساكين وإن شاء كساهم، وإن شاء أعتق رقبة، فأي ذلك فعل أجزأه،
فمن لم يجد وجب عليه صيام ثلاثة أيام، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، والأصل فيه قول الله تعالى:
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )المائدة:89.
واليمين الغموس..هي تلك اليمي التي يحلف بها الحالف بالله وهو كاذب..يقسم بالله كذبا متعمداً وهو يعلم أنه كاذب.
وذكر العلماء أنها إنما سميت غموساً ‏لأنها تغمس صاحبها في النار أو في الإثم، عبروا مرة بالانغماس في النار، ومرة بالانغماس ‏في الإثم،
ولا منافاة ولا تعارض بين العبارتين، لأن الانغماس في الإثم سبب في الانغماس في ‏النار، قال صاحب لسان العرب:
واليمين الغموس: التي تغمس صاحبها في الإثم، ثم في ‏النار.‏
ومن ثم سميت يمينا غموساً لأنها تغمس بصاحبها في نار جهنم، وهي ليست شركا، ولكنها من كبائر الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم:
(الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس). رواه البخاري.
فإن الحلف بالله كذبًا من أعظم المحرمات، فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «ثم عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس»
قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: «الذي يقتطع مال امرئ مسلم، هو فيها كاذب» أخرجه البخاري.
فإن اليمين الغموس هي اليمين الكاذبة التي تهضم بها الحقوق ، أو التي يقصد بها الفسق والخيانة
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد اليمين الغموس من كبائر الذنوب، فعن ‏عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
قال: جاء أعرابي فقال يا رسول الله ما الكبائر فذكر ‏الحديث وفيه: اليمين الغموس ...‏ أخرجه البخاري.
وأما بالنسبة لما يترتب عليها من كفارة فمذهب الجمهور أنها لا كفارة فيها لأنها من ‏الكبائر، وهي أعظم إثماً من أن تكفرها كفارة يمين،
وقالوا: إنها يمين مكر وخديعة وكذب ‏وغير منعقدة، فلا كفارة فيها، وإنما الواجب فيها التوبة لله تعالى، ورد ما اقتطع بها من ‏حق للغير.
وذهب الإمام الشافعي إلى وجوب الكفارة فيها، وهو رواية عن الإمام أحمد، ‏وبه قال ابن حزم، ولعل الجمع بين التوبة من هذه اليمين
الفاجرة وبين تكفيرها أسلم، ‏إعمالاً لأدلة كل من الفريقين، وخروجاً من خلاف من أوجبها، ولأنها داخلة في عموم ‏اليمين.‏
وهي وإن كانت ليست شركا، فإنها من الكبائر ـ كما ذكرنا ـ ويجب على العبد المبادر إلى التوبة منها، فإذا تاب منها تاب الله عليه،
كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)الشورى:25.
وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )الزمر:53.
فعليك أن تبادر إلى التوبة النصوح، فهذا الذي يلزمك، وإذا أخرجت كفارة يمين كان ذلك أحوط.
 
الفرع الخامس

كفارة جزاء الصيد

الأشهر الحرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وهي المرادة بقوله تعالى :
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ،
ولا حرج من الصيد فيها ، إنما التحريم للصيد متعلق بأمرين :
الأول : الإحرام بحج أو عمرة لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ
عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) المائدة/95 .
قال ابن كثير رحمه الله :
"وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه " انتهى .
" تفسير ابن كثير " ( 2 / 99 ) .
الثاني : الصيد في حدود الحرم ، والمقصود به مكة والمدينة للأحاديث الواردة في ذلك .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفتح فقال : ( إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ،
فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر ،
لا ينفَّر صيدُها ولا يعضد شوكها ) رواه البخاري ( 1284 ) ومسلم ( 1353 ) .
والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولا ينفر صيدها ) فهذا الحديث نص في تحريم تنفير الصيد في مكة ، وأولى منه تحريم الصيد نفسه .
وأما المدينة فقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول : لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما بين لابتيها حرام ) رواه البخاري ( 1774 ) ومسلم ( 1372 ) .
واللابة يقال لها : الحَرَّة ، وهي الحجارة السوداء ، والمدينة بين لابتين ، شرقية وغربية .
أما الأشهر الحرم فلا علاقة بينها وبين تحريم الصيد .
ذلك بأن يقتل المحرم بالحج أو العمرة صيداً برياً، فيجب عليه أن يقوِّمه بدراهم، ويطعم كل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ
ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ
وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [95]} [المائدة:95].
كفارة قتل المحرم للصيد
حكم كفارة قتل الصيد: يجب الجزاء في قتل الصيد في الجملة.
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة: 95].
ونقل الإجماع على ذلك في الجملة، ابن المنذر ، وابن رشد ، وابن قدامة .

كفارة قتل الصيد
يُخيَّر المحرم إذا قتل صيداً بين ذبح مثله، والتصدُّق به على المساكين، وبين أن يقوَّم الصيد، ويشتري بقيمته طعاماً لهم، وبين أن يصوم
عن إطعام كل مدٍّ يوماً، أما إذا قتل المحرم ما لا يشبه شيئاً من النَّعم، فإنه يُخيَّر بين الإطعام والصيام، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)المائدة: 95.
مكان ذبح الهدي في جزاء الصيد
يجب أن يكون ذبح الهدي الواجب في جزاء الصيد، في الحرم، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة ، واختاره الطبري ،
وابن حزم ، والشنقيطي ، وابن عثيمين .
قال تعالى في جزاء الصيد: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ )المائدة: 95.
إذ أنه لو جاز ذبحه في غير الحرم؛ لم يكن لذكر بلوغه الكعبة معنى .
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر) ،
وعنه أيضاً مرفوعاً: (هذا المنحر, وفجاج مكة كلها منحر) .
فحيثما نُحِرَت البدن, والإهداء من فجاج مكة ومنى والحرم كله، فقد أصاب الناحر .
ثالثاً: أن الهدي اسمٌ لما يهدى إلى مكان الهدايا، ومكان الهدايا الحرم؛ وإضافة الهدايا إلى الحرم ثابتةٌ بالإجماع .
رابعاً: أن هذا دمٌ يجب للنسك؛ فوجب أن يكون في مكانه وهو الحرم .

توزيع الصدقة على مساكين الحرم
يُشتَرَط أن توزَّع الصدقة على مساكين الحرم، وهو مذهب الشافعية ، والحنابلة ، واختاره الشنقيطي ، وابن باز ، وابن عثيمين .
قوله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ )المائدة: 95.
أنَّ في حكم الهدي ما كان بدلاً عنه من الإطعام؛ فيجب أن يكون مثله كذلك، بالغ الكعبة .

موضع الصيام
يجوز الصيام في أي موضع .
وذلك لقوله تعالى: (أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )المائدة: 95.
فلقد أطلق الصيام، ولم يقيده بشيء، والواجب البقاء على إطلاقات النصوص، وعدم التصرف بتقييدها من غير دليل .
ونقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر ، وابن قدامة .
هذا بالإضافة إلى أن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد، فلا معنى لتخصيصه بمكان، بخلاف الهدي والإطعام، فإن نفعه يتعدى إلى من يُعطاه ..
كذلك نجد أن الصوم عبادةٌ تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق؛ فله فعلها في أي موضعٍ شاء .
اشتراط التتابع في الصيام
لا يشترط التتابع في الصيام ..لقوله تعالى: (أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)المائدة: 95.
فلقد أطلق الصيام، ولم يقيِّده بشيء، والواجب البقاء على إطلاقات النصوص، وعدم التصرف بتقييدها من غير دليل .ونقل النووي الإجماع على ذلك.
http://www.dorar.net/enc/feqhia/3011
 


الفرع السادس


في كفارة التحلل من الحج

قال الله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْي مَحِلَّهُ فَمَنْ
كَانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة البقرة: 196
هذه الآية الكريمة من سورة البقرة ثريةٌ بالأحكام، غزيرةٌ بالفوائد
ولكننا سنتناول المسألة التي تتعلق بالصوم لمن لم يجد الهدي ممن تمتعوا بالعمرة إلى الحج لعدم مال أو لعدم بهيمة الأنعام .. وقد بين اللهُ جل وعلا
أن عليهم أن يصوموا ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
فقوله تعالى: ( في الحج ) يحتمل أمرين:
أولهما: أن تصام هذه الأيام الثلاثة في أيام الحج.
ثانيهما: أن تصام في موضع الحج.
واختلف من جنحوا إلى الأول منهما في تعيين هذه الأيام، مبتدئها ومنتهاها، فأشهر الأقوال في تعيين أولها:
1- أن أول وقتها اليوم الذي يحرم فيه بعمرته التي تمتع بها إلى الحج،وقيل: إذا طاف لعمرته تلك فذلك أول وقت صيامها.
2- أن أول وقتها منذ يحرم بحجه، فإن صامها غير محرِم لم تجزئه.
3- أن أولها أولُ أشهر الحج ولو لم يُحرِم بعدُ، فإن صام قبل شوال لم يجزئه.
4- أن أولها أول شهر ذي الحجة، فإن صام قبله لم يجزئه.
5- أن أولها سابع ذي الحجة، وآخرها يوم عرفة، فهي ثلاثٌ معيَّنة متتابعة لا يجزئ صوم غيرها عنها.

فالأول لأبي حنيفة وأحمد؛ لأن الإحرام بالعمرة أحد إحرامي التمتع، وَلِأنه يجوز تَقْدِيمِ الْوَاجِبِ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ إذَا وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ، كَالْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْحَلِفِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
فسبب الوجوب عند هؤلاء الأئمة في مسألتنا: هو الإحرام بالعمرة.
واحتج بعضهم بأن عامة الصحابة كانوا متمتعين، وكثير منهم لا يجد الهدي، وقد أحرموا بالحج يوم التروية، فلو لم يكن الصيام مجزئاً
قبل الإحرام بالحج لوجب أن يقدموا الإحرام قبل يوم التروية.
فائدة: قال الماوردي: " وَالْعَجَبُ مِنْ أبي حنيفة يَمْنَعُ مِنَ الْهَدْيِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالْمالِ، وَيُجِيزُ الصِّيَامَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ،
وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ بَدَلٌ يَجِبُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ مُبْدَلُهُ،
فَكَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافُ أُصُولِ الشَّرْعِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ".
والثاني هو قول مالك والشافعي.
وللمسألة تعلق وثيق بوجود السبب؛ إذ لا يجوز تقديم الواجب إذا لم يوجد سبب الوجوب عند عامة أهل العلم، وهو عند أصحاب القول الثاني:
الإحرام بالحج، فهذا مربط الفرس ومعقد النزاع في المسألة، والله أعلم.
ووقع الخلاف بين السلف في آخرها..
1- فقيل: إن آخرها يوم التروية.
2- وقيل: إن آخرها يوم عرفة،
3- وقيل: بل يجزئه أن يصوم أيام التشريق (أيام مِنى): الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ قَالَا:
لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْي.
ومن أصحاب هذا القول الأخير من يبيح له تأخير ابتداء صومها إلى أول أيام التشريق ليتحقق أنه لم يجد الهدي يوم النحر لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ الصَّوْمُ إِلَّا بِأَنْ لَا يَجِدَ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ، ومنهم من جعل ذلك له إن فاته صومها قبل يوم النحر شبهاً القضاء.
وَإِن كَانَ الْمُرَادُ الثاني، وهو مَوْضِعَ الْحَجِّ؛ صَامَهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى، كَمَا قَالَ عُرْوَةُ.
وفي قوله تعالى: { إذا رجعتم } أقوال:
الأول: إذا رجع إلى بلده وأهله، وهو نص الشافعي في "الأُم".
الثاني: إذا فرغ من أعمال حجه، وشرع في الرجوع منه في طريقه، ولا يجوز أن يصومها قبل الخروج من مكة راجعاً،
وهو نص الشافعي في "الإملاء" كما ذكر النووي في "المجموع شرح المهذب" وغيره، وهو عندي أقرب القولين لمذهب الإمام الشافعي.
الثالث: إذا رجع من منى، سَوَاء رجع إلى مَكَّةَ أَو إلى بلده، فكل ذلك رجوع، وَمَا أُطْلِقَ في نص الْقُرْآنِ لَا يُقَيَّدُ من غير دليل..
"فَلَوْ قَدَّمَ السَّبْعَةَ عَلَى وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَمْ تُجْزِهِ، وَكَذَا لَوْ صَامَ شَيْئًا مِنْ السَّبْعَةِ بِمِنًى".
قال السرخسي الحنفي في "المبسوط": وَالْمُرَادُ مِنْ الرُّجُوعِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] مُضِيُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَتَّى
إذَا صَامَ بَعْدَ مُضِيِّهَا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ جَازَ عندنا. أهـ
وهذا هو قول أحمد، قال الأثرم: سُئِل أحمد هل يصوم بالطريق أو بمكة؟ قال: كيف شاء.
وهنا قَوَّى بعضهم قول عروة، وأن المراد في الأول: موضع الحج، وأن سياق الآية يستلزم ذلك؛ إذ لو كان المراد أيام الحج أو زمانه لقال: وسبعة إذا أحللتم أو فرغتم.
وردَّ الإمام ابن جرير الطبري التفسير الثالث بأن ادعى إجماع جميع أهل العلم على أن معناه الأول، إلا أنه يعكر على هذه الدعوى
أن القول الثالث منسوب إلى الإمام مالك بن أنس، وقد علم الناظر في تفسير الإمام الطبري أنه ينقل الإجماع أحياناً ويريد به قول الأكثرين، بل هو كثير في كتابه.
وهنا مسألة: هل يجوز أن يصوم الأيام السبعة بعد أن يفرغ من حجه وقبل أن يصل إلى بلده؟
مال بعض العلماء إلى أن الله تعالى جعل الرجوع إلى البلد شرطاً، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط، ومنهم من جعل ذلك لا على سبيل الشرط.
فمن جعله شرطاً قال بعدم إجزاء تقدم صيامها على رجوعه إلى أهله وبلده..
قال الشنقيطي في "أضواء البيان": وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السَّبْعَةَ إِنَّمَا يَصُومُهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، وَوُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ
الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصُومُهَا فِي طَرِيقِهِ فِي رُجُوعِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمُرَادَ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ. أﻫ.
- ويؤيد هذا القول ما جاء فِي الصحيحين من حديث ابن عمر: بلفظ: «فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» وَاللَفْظُ للْبُخَارِيِّ.

- وما جاء فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ».

قال العلامة الشنقيطي: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّهُ إِنْ صَامَ السَّبْعَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، فَمَا قَالَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مِنْ أَنَّهُ يَرَى إِجْزَاءَهَا لَا وَجْهَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ بِمُقْتَضَى النُّصُوصِ، وَقَالَ لَا تُجْزِئُ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ مَنْ قَدَّمَهَا قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ،
فَقَدْ خَالَفَ لَفْظَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ لَفْظٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فِي مَعْرِضِ تَفْسِيرِ آيَةِ: { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } وَالْعُدُولُ عَنْ لَفْظِهِ الصَّرِيحِ، الْمُبَيِّنِ لِمَعْنَى الْقُرْآنِ. لَوْ قِيلَ: بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فَاعِلَهُ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أﻫ.
والحق أنه لا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ إلا بقرينة، وتفسير الآية بهذا هو المتعين، ولكنَّ الصواب في المسألة -والله أعلم-
أن هذا على سبيل الرخصة والتوسعة والتخفيف كما قرره الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، لا أن من صامهن قبل أن يرجع لأهله أو مصره لا تجزئه،
فيكون ذلك كقول الله تعالى: ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَر )، ومعلوم أن هذا على سبيل الرخصة عند عامة أهل العلم؛
إذ لو صام في مرضه أو سفره لم يكن عليه صيام أيام أُخَر على وجه القضاء.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وَلَوْ تَحَمَّلَ الْمُتَمَتِّعُ فَصَامَ الْأَيَّامَ السَّبْعَةَ فِي سَفَرِهِ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ , أَوْ صَامَهُنَّ بِمَكَّةَ ,
كَانَ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الصَّوْمِ فِي ذَلِكَ , وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي سَفَرِهِ، أَوْ مَرَضِهِ , مُخْتَارًا لِلْعُسْرِ عَلَى الْيَسَرِ.
وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة. أهـ
فائدة بلاغية : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }
- في الجملة ( وسبعة إذا رجعتم ) التفات من الغائب إلى المخاطب .
- في الجملة ( تلك عشرة كاملة ) إجمال بعد تفصيل.
فائدة لغوية أخرى :
نفهم من هذا المقطع أن الثلاثة والسبعة عشرة كاملة.
في جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة لها إشارة إلى أن للثلاثة حكما مستقلا عن ذلك الذي للسبعة.
الثلاثة الأيام الأولى تتم في الحج.
هذه الثلاثة الأيام تعتبر عملا تاما لا تحتاج إلى شيء آخر كي تكون تامة, ولكنها متوقفة على السبعة الأيام - التي تكون بعد الحج - من إجل الكمال لا التمام.
السبعة الأيام الثانية تتم بعد الرجوع من الحج.
فالهدف الأساسي من ذكر ( عشرة كاملة ) هو معرفة أيام الصيام من ناحية العدد, كما عرفت من ناحية الكيف.
إن حرف الواو قد يأتي للجمع كما يأتي للتخيير بمعنى ( أو ) فيظن السامع أنه مخير بين الثلاثة في الحج, أو السبعة بعد رجوعه من الحج,
ولذا جاء الذكر الإجمالي ( تلك عشرة كاملة ) منعا من حدوث مثل هذا الاشتباه في الفهم.


كتبه لكم
المهندس زهدي جمال الدين محمد
مصر الحزينة في الأربعاء الأول من رمضان 1434هجرية الموافق 10يوليو 2013ميلادية
هذا والله ولي التوفيق,,,
 

5926alsh3er.gif


ولكم في الصيام حياة

إن المدقق في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) البقرة : 178
يجد الحكمة من القصاص تظهر في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة :179
على الصعيد الأخر تجد قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة :183
هاتان الآيتان هما الوحيدتان في كل عموم القرءان بدأتا بالخطاب للذين أمنوا..
كل آيات القرءان الكريم الخاصة بالتكليف تبدأ بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ)
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )البقرة:180
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)البقرة: 216
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)البقرة:246

اما هنا فلقد بدأها الله سبحانه وتعالى بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)البقرة:178
ثم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة:183
وعليه حينما يقول سبحانه وتعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )البقرة:179
نفهم من ذك أن قوله تعالى(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )البقرة:179
تفهم على النحو التالي : (وَلَكُمْ فِي الصِّيَامِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )..
وحتى نفهم الآية جيداً دققوا معي:
من المعروف أن الحكم بالدية على العاقلة إنما هو في الخطأ أو شبه العمد ، أما دية العمد المحض فلا تحملها العاقلة ، بل هي على الجاني خاصة ،
وإذا تراضى أفراد العاقلة على التحمل معه أو مساعدته في الدية فلا بأس.
وأما الكفارة ؛ فهي واجبة على القاتل ، وهي عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين ، وهي المذكورة في قول الله تعالى :
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ
مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) النساء/92
إذن فلقد منحه الصيام..حياته..
 
عودة
أعلى