الصلاة التي هي قرة عين

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، أما بعد :
فإن الصلاة صلة بين العبد وربه ، وهي عمود الإسلام ، وثاني أركانه العظام ، وهي آخر ما يفقد من هذا الدين ، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة ؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ؛ وقد افتتح الله صفات المؤمنين الواردة في سورة ( المؤمنون ) بقوله I: ] الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[ [ المؤمنون : 2 ] ، واختتمها بقوله U : ] وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [ [ المؤمنون : 9 ] ، ثم عقب على هذه الصفات بقوله سبحانه : ] أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ [ المؤمنون : 10 ، 11 ] .
ولأهميتها كانت آخر وصايا رسول الله e فعَنْ أَنَسٍ t قَالَ : كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ e حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ : " الصَّلَاةَ ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ e يُغَرْغِرُ بِهَا صَدْرُهُ ، وَمَا يَكَادُ يُفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ ( [1] ) .
وسيأتي الحديث عن أهمية الصلاة بشيء من التفصيل .
وها هنا أسئلة مهمة تتعلق بشأن الصلاة،وهي:كيفتكونالصلاةقرةعينللمسلم؟ كيف يشعر المسلم باللذة والفرح والسرور وهو في الصلاة ؟ كيف يشعر بأن الصلاة ليست عليه ثقيلة ؟ بل كيف يوقن أن الصلاة هي مفزعه إذا ألَمَّ به شيء ؟
فليس من كانت الصلاة - كما قال ابن القيم رحمه الله - ربيعًا لقلبه ، وحياة له وراحة ، وقرة لعينه ، وجلاء لحزنه ، وذهابًا لهمه وغمه ، ومفزعًا له إليه في نوائبه ونوازله ؛ كمن هي سحت لجوارحه , وتكليف له ، وثقل عليه ؛ فهي كبيرة على هذا ، وقرة عين وراحة لذلك .
قال تعالى : ] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [ [ البقرة : 45 ، 46 ] ، فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلو قلوبهم من محبة الله تعالى ، وتكبيره وتعظيمه ، والخشوع له ، وقلة رغبتهم فيه ، فإن حضور العبد في الصلاة ، وخشوعه فيها ، وتكميله لها ، واستفراغه وسعه في إقامتها وإتمامها ، على قدر رغبته في الله تعالى ؛ قال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى : إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة ، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة ؛ فاعرف نفسك يا عبد الله ، واحذر أن تلقى الله U ولا قدر للإسلام عندك ؛ فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك ؛ وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة ، كحظ القلب الخالي الخراب من ذلك ؛ فإذا وقف الاثنان بين يدي الله في الصلاة ، وقف هذا بقلب مخبت خاشع له ، قريب منه ، سليم من معارضات السوء ، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة ، وسطع فيه نور الإيمان ، وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات ؛ فيرتع في رياض معاني القرآن , وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم ، وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله ، فاجتمع همه على الله ، وقرت عينه به ، وأحس بقربه من الله قربًا لا نظير له ، ففرَّغ قلبه له ، وأقبل عليه بكليته ؛ وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربه ، فإنه سبحانه أقبل عليه أولا , فانجذب قلبه إليه بإقباله ؛ فلما أقبل على ربه حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول ( [2] ) .
لقد تكلم الفقهاء عن أهمية الصلاة ، وشروطها ، وأركانها ، وسننها ، وآدابها ، في أبواب كثيرة .. جمعت كل ما يتعلق بالصلاة من حيث صحتها وصحة أدائها .
وتكلم العلماء - أيضًا - عن أسرارها ، وخشوعها ، وهو الأدب العام في الصلاة الذي هو روحها ، ومحل القبول منها ، إذ ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها .
وحذَّر النبي e من عدم إتمام ركوعها وسجودها ، ومن عدم الاطمئنان فيها .
وبيَّن النبي e أن للصلاة شيطان خاص اسمه ( خنزب ) ، هو الذي يقوم بمحاولة إفساد الصلاة على من يصلي ، ويحاول أن يلبس عليه قراءته ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ t أنه أَتَى النَّبِيَّ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاَتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَىَّ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزِبٌ ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاَثًا " ؛ قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّى ( [3] ) .
ولذلك يعاني المصلي من خواطر نفسه ووساوس الشيطان في الصلاة ، معاناة تتفاوت بحسب جهاده ، وحضور قلبه ، وتدبره لما هو فيه من الصلاة تكبيرًا وتلاوة وتسبيحًا وذكرًا ودعاء .
فعلى المصلي أن يحرص على حضور قلبه وخشوعه في الصلاة ، وأن يجاهد خواطر نفسه ووساوس الشيطان ، ليخرج بأجر صلاته وأجر جهاده فيها ؛ وإلا يفعل فربما ردت عليه صلاته ، وهي تقول له : ضيعك الله كما ضيعتني .
واعلم - علمني الله وإياك الخير - أنك لست وحدك فيما تعاني من وساوس الشيطان وحديث النفس في الصلاة ؛ ولكن العاقل هو من يجتهد في مجاهدة نفسه والشيطان ليكون من الفائزين ؛ ومما يعينك - بعد استعانتك بالله تعالى - ما يلي :
1 - فرِّغ القلب من الشواغل قبل الدخول في الصلاة .. واستعن على ذلك بذكر الله تعالى والاستغفار والدعاء .
2 - أكثر من هذا الدعاء دبر الصلاة : " اللهُمَّ أَعنِي عَلى ذِكرِكَ ، وشُكرِكَ ، وحُسنِ عِبادَتِك " ؛ ومن هذا الدعاء " اللهُمَّ يَا مُقلبَ القُلوبِ ، ثَبتْ قَلبِي عَلى دِينِك " .
3 - اجتهد في يومك في التلاوة والذكر والاستغفار والدعاء ، فإن ذلك يثبت القلب على الطاعة .
4 – عليك بقيام الليل .. مع الدعاء في السجود .
5 – عليك بكثرة الاستغفار .
6 - ذكرالإمام أبو حامد الغزالي أن قراءة الإخلاص والمعوذتين قبل الدخول في الصلاة يفيد في ذلك ، ووجهه أن النبي قال في المعوذتين : " مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهِمَا ، وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ "([4]).
7 - ثم تدبر ما تقول في الصلاة من تكبير ، واستفتاح ، وقرآن ، وتسبيح ، وتحميد ، وذكر ، ودعاء ، وما فيها من تعظيم العلي العظيم الرحمن الرحيم .
ثم هذه رسالة سميتها ( الصلاة التي هي قرة عين ) ، سيجد فيها القارئ ما يبين له كيف تكون الصلاة فرحه وسروره وقرة عينه ؛ والله الكريم أسأل أن ينفع ... آمين ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه .

وكتبه


أفقر العباد إلى عفو رب البرية


محمد بن محمود بن إبراهيم عطية


[1]- أحمد : 2 / 117 ، واللفظ له ، والنسائي في الكبرى ( 7094 ، 7095 ) ، وابن ماجة ( 2697 ) ؛ ورواه أحمد : 6 / 290 ، 311 ، والنسائي في الكبرى ( 7097 ، 7098 ، 7100 ) ، وابن ماجة ( 1625 ) عن أم سلمة رضي الله عنها .

[2]- انظر ( الصلاة وأحكامها ) ص 140 ، 141 .

[3] - مسلم ( 2203 ) .

[4] - رواه النسائي ( 5438 ) عن عقبة بن عامر t ، وإسناده حسن .
 
معنى الصلاة
الصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : ] خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [ [ التوبة : 103 ] ، أي : ادع لهم . وقال الأعشى :
تقول بنتي وقد قربت مرتحلًا ... يا رب جَنِّب أبي الأوصابَ والوجعا
عليكِ مثل الذي صليتِ فاغتمضي ... نومًا فإن لجنبِ المرءِ مضطجعا
والصلاة في الشرع : أقوال وأفعال مخصوصة ، تبدأ بالتكبير ، وتنتهي بالتسليم ، بنية .
 
أهمية الصلاة

الصلاة خير موضوع ، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام ، بعد شهادة التوحيد ، وهي عمود الإسلام ، ولا تقوم الخيمة إلا بعمودها ؛ ولأهميتها وبيان خطرها فرضت في ليلة المعراج ، فوق السماوات السبع ، واستدعي لها رسول الله e ، وقد جاء في بيان أهميتها وفضلها وخطرها أحاديث كثيرة ؛ منها :
قَوْله e : " وَالصَّلَاة نُور " ( [1] ) ، فَمَعْنَاهُ : أَنَّهَا تَمْنَع مِنْ الْمَعَاصِي ، وَتَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر ، وَتَهْدِي إِلَى الصَّوَاب ، كَمَا أَنَّ النُّور يُسْتَضَاء بِهِ ؛ فالصَّلاةُ نورٌ مطلق ، فهي للمؤمنين في الدُّنيا نورٌ في قلوبهم وبصائرهم ، تُشرِق بها قلوبُهم ، وتستنير بصائرُهم ولهذا كانت قرَّة عين المتقين ، كما كان النَّبيُّ e يقول : " وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ "([2])؛ وهي في الآخرة نورٌ للمؤمنين في ظلمات القيامة ، وعلى الصراط ، فإنَّ الأنوارَ تُقسم لهم على حسب أعمالهم ؛ وروى أحمد وابن حبان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ e أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ : " مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ " ( [3] ) . كَمَا يَكُون فِي الدُّنْيَا - أَيْضًا - عَلَى وَجْهه الْبَهَاء بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قال ابن القيم - رحمه الله : وإنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة ؛ وفيه نكتة بديعة ، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله ، أو ملكه ، أو رياسته ، أو تجارته ؛ فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون ، ومن شغله عنها رياسة ووزارة فهو مع هامان ، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف ( [4] ) .
ومنها ما رواه ابن ماجة عن أَبِي الدَّرْدَاءِ t قَالَ : أَوْصَانِي خَلِيلِي e : " أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْت وَحُرِّقْت ، وَأَنْ لَا تَتْرُكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ؛ وَلَا تَشْرَبَ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ " ؛ وله شاهد عند أحمد عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله e : " وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ " ( [5] ) .
ومنها ما رواه معاذ بن جبل t عن النبي e أنه قال : " رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ" ( [6] ) ، فالصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه الخيمة ، وفي هذا بيان أهميتها ، فالخيمة تسقط بسقوط عمودها ، ولا تقوم إلا به ، وإن كان لها ألف وتد .
وفي ( موطأ مالك ) عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ : إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ ، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ ؛وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ ( [7] ) . وهذا يدل على أهميةالصلاة ،وفهم هؤلاء الكرام لهذه الأهمية .
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ t:" إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ , وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ" ([8])، وفي حديث أنس t : " فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ " ( [9] ) ؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ e :" الصَّلاَةُ ثَلاَثَةُ أَثْلاَثٍ ، الطُّهُورُ ثُلثٌ ، وَالرُّكُوعُ ثُلُثٌ ، وَالسُّجُودُ ثُلُثٌ ؛ فَمَنْ أَدَّاهَا بِحَقِّهَا قُبِلَتْ مِنْهُ ، وَقُبِلَ مِنْهُ سَائِرُ عَمَلِهِ ، وَمَنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ صَلاَتُهُ ، رُدَّ عَلَيْهِ سَائِرُ عَمَلِهِ " ( [10] ) .
وواضح من الحديث أهمية الصلاة ، إذ هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة ، وهي معيار الحساب للأعمال الأخرى .
ويدلك على عظيم فضلها وقدرها ما رواه الشيخان عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ؟ " ؛ قَالُوا : لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ؛ قَالَ : " فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا " ( [11] ) .
ويدل على عظيم خطر الصلاة ما رواه مسلم عن جَابِرٍ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ " ( [12] ) ؛ وروى أحمد وأهل السنن إلا أبا داود عَنْ بُرَيْدَةَ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " ( [13] ) .
قال النووي - رحمه الله : وأما تارك الصلاة ؛ فإن كان منكرًا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين ، خارج من ملة الإسلام ، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه ؛ وان كان تركه تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها - كما هو حال كثير من الناس - فقد اختلف العلماء فيه ؛ فذهب مالك والشافعي - رحمهما الله - والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر ، بل يفسق ، ويستتاب ، فإن تاب وإلا قتلناه حدًّا ، كالزاني المحصن ، ولكنه يقتل بالسيف ؛ وتأولوا قوله e : " بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ : تَرْكُ الصَّلاَةِ " على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر ، وهى القتل ؛ أو أنه محمول على المستحِلِّ ، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر ، أو أن فعله فعل الكفار ؛ والله أعلم .
وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر ، وهو مروى عن على بن أبى طالب t ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل - رحمه الله ، وبه قال عبد الله بن المبارك،وإسحاقبن راهويه ، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي .
وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي - رحمهم الله - إلى أنه لا يكفر ، ولا يقتل ، بل يعزر ويحبس حتى يصلي( [14] ) .
فهذه الأحاديث – وغيرها – تدل على أهمية الصلاة ، وعظيم أمرها ، وعلو منزلتها في الإسلام ؛ مما يدعو العاقل أن ينظر في صلاته وشأنها ، وشأنه معها ، ويحاول أن يرقى إلى أن تكون الصلاة قرة عين له ، ليدخل بذلك جنة الدنيا الموصولة - إنشاءالله - بجنة الآخرة .

[1] - جزء من حديث رواه مسلم ( 223 ) عن أبي مالك الأشعري t .

[2] - أحمد : 3 / 128 ، 199 ، 285 ، والنسائي ( 3939 ، 3940 ) ، وأبو يعلى ( 3482 ، 3530 ) ، عن أنس ، وإسناده حسن ؛ وصححه الحاكم على شرط مسلم : 2 / 160 ، ووافقه الذهبي .

[3] - أحمد : 2 / 169 ، والدارمي ( 2721 ) ، وابن حبان ( 1467 ) .

[4]- انظر ( الصلاة ) لابن القيم ص62 .

[5] - رواه ابن ماجة ( 4034 ) ، وشاهده جزء من حديث رواه أحمد : 5 / 238 ؛ قال الألباني في صحيح الترغيب : حسن لغيره .

[6] - أحمد : 5 / 231 ، والترمذي ( 2616 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 11394 ) ، وابن ماجة ( 3973 ) ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 20 / 130 ، 131 ( 266 ) ، والحاكم : 2 / 412 ، 413 وصححه على شرطيهما ، ووافقه الذهبي .

[7] - الموطأ : 1 / 6 ( 6 ) .

[8]- الترمذي ( 413 ) ، والنسائي ( 465 ) وهذا لفظهما ، ورواه أبو داود ( 864 ) ، وابن ماجة ( 1425 ) .

[9] - رواه الطبراني في الأوسط ( 1859 ) .

[10]- رواه البزار في ( مسنده ) : 1 / 177 ( 349 ) ، وحسنه المنذري في ( الترغيب والترهيب ) ، والهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ، وقال الألباني في ( الصحيحة رقم 2537 ) : حسن صحيح .

[11] - البخاري ( 505 ) ، ومسلم ( 667 ) ، والدرن : الوسخ .

[12] - مسلم ( 82 ) .

[13] - أحمد : 5 / 346 ، والترمذي ( 2621 ) وصححه ، والنسائي ( 463 ) ، وابن ماجة ( 1079 ) .

[14] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 2 / 71 ؛ باختصار وتصرف ، وقد ناقش ابن القيم في كتابه ( الصلاة ) هذه الآراء مناقشة علمية رائعة ، فليرجع إليه من شاء .
 
مراتب الناس في الصلاة
قال ابن القيم – رحمه الله : الناس في الصلاة على مراتب خمسة :
أحدها : مرتبة الظالم لنفسه المفرط ، وهو الذي انتقص من وضوئها ، ومواقيتها ، وحدودها ، وأركانها .
الثاني : من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها ، لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة ، فذهب مع الوساوس والأفكار .
الثالث : من حافظ على حدودها وأركانها ، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار ، فهو مشغول بمجاهدة عدوه ، لئلا يسرق صلاته ، فهو في صلاة وجهاد .
الرابع : من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها ، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها ، لئلا يضيع شيئًا منها ، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي ، وإكمالها وإتمامها ، قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها .
الخامس : من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك ، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه U ، ناظرًا بقبله إليه ، مراقبًا له ، ممتلئًا من محبته وعظمته ، كأنه يراه ويشاهده ، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات ، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه ؛ فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض ، وهذا في صلاته مشغول بربه U ، قرير العين به .
فالقسم الأول معاقب ، والثاني محاسب ، والثالث مكفر عنه ، والرابع مثاب ، والخامس مقرَّب من ربه ؛ لأن له نصيبًا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة ، فمن قرَّت عينه بصلاته في الدنيا قرَّت عينه بقربه من ربه U في الآخرة ، وقرَّت عينه - أيضًا - به في الدنيا ؛ ومن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين ، ومن لم تقرَّ عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ؛ وقد روي أن العبد إذا قام يصلي قال الله U : ( ارفعوا الحجب فإذا التفت قال : أرخوها ) ؛ وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله U إلى غيره ، فإذا التفت إلى غيره أرخى الحجاب بينه وبين العبد ، فدخل الشيطان ، وعرض عليه أمور الدنيا ، وأراه إياها في صورة المرآة ؛ وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت ، لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب ، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب ، فإن فرَّ إلى الله تعالى ، وأحضر قلبه ، فرَّ الشيطان ؛ فإن التفت حضر الشيطان ؛ فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة ( [1] ) .

[1] - انظر ( الوابل الصيب ) ص 38 – دار الكتاب العربي .
 
آداب الصلاة
المصلون من المسلمين كثيرون ، ولكن الخاشعين قليل ؛ ومن دواعي الخشوع في الصلاة أن يقيمها بحسن وضوئها ، وإتمام ركوعها وسجودها ، وسائر أركانها ، مع حضور القلب فيها خاضعًا منيبًا متدبرًا معاني التكبير ، ومعاني الآيات ، ومعاني التسبيح ، ومعاني الأدعية في صلاته ، من الاستفتاح وحتى السلام .
فهذه آداب ظاهرة وباطنة ، دلَّت عليها أحاديث النبي e ، ولابد للمسلم أن يسعى في أن يستكملها في صلاته ، ليكون من المصلين حقًّا ، يستشعر لذة العبادة ، ويشعر بالراحة في صلاته ، وتكون الصلاة له قرة عين .
في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ e فَرَدَّ ، وَقَالَ : " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ثَلَاثًا .. فَقَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ ، فَعَلِّمْنِي ؛ فَقَالَ : " إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ؛ وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا " هذا لفظ البخاري ( [1] ) .
في هذا الحديث الشريف جملة من الآداب التي لابد أن يراعيها المصلي في صلاته ، حتى تكون صلاته صحيحة في ذاتها أولًا ، ثم تكون محلا للقبول ثانيًا .

[1] - البخاري ( 724 ، 760 ، 5897 ، 6290 ) ، ومسلم ( 397 ) .
 
قال ابن القيم – رحمه الله : فيه دليل على تعين التكبير للدخول في الصلاة ، وأن غيره لا يقوم مقامه ؛ وهو التكبير المعهود في قوله : " وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ " ؛ كما يتعين الوضوء ، واستقبال القبلة ، وعلى وجوب القراءة ، والتقييد بـ " مَا تَيَسَّرَ " لا ينفي تعيُّن الفاتحة بدليل آخر ؛ فإنَّ الذي قال هذا هو الذي قال : " مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهْيَ خِدَاجٌ " ؛ وهو الذي قال : " لاَ صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " , ولا تضرب سنته بعضها ببعض .
وفيه دليل على وجوب الطمأنينة ، وأن من تركها لم يفعل ما أُمر به ، فيبقى مطالبًا بالأمر , ولا يكفي مجرد الطمأنينة في ركن الرفع حتى تعتدل قائمًا ؛ فقوله : " فَإِذَا رَفَعْتَ فَأَقِمْ صُلْبَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا " , صريح في وجوب الرفع ، والاعتدال منه ، والطمأنينة فيه .
ولا ينفي هذا وجوب التسبيح في الركوع والسجود ، والتسميع والتحميد في الرفع بدليل آخر ؛ فإن الذي قال هذا وأمر به هو الذي أمر بالتسبيح في الركوع ، فقال لما نزلت : ] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِْ [ قال : " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ " .
وأمر بالتحميد في الرفع فقال : " وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " ؛ فهو الذي أمرنا بالركوع ، وبالطمأنينة فيه ، وبالتسبيح والتحميد ؛ وقال في الرفع من السجود : " ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا " ، وفي لفظ : " حَتَّى تَعْتَدِلَ جَالِسًا " ؛ فلم يكتف بمجرد الرفع حتى تحصل الطمأنينة والاعتدال ؛ ففيه أمر بالرفع ، والطمأنينة فيه ، والاعتدال .
وروى أحمد وأهل السنن عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الْبَدْرِىِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لاَ تُجْزِئُ صَلاَةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ " ؛ وهذا نص صريح في أن الرفع من الركوع ، وأن السجود ، والاعتدال فيه ، والطمأنينة فيه ، ركن لا تصح الصلاة إلا به .
ونهى النبي e عن مشابهة الحيوانات في شيء من أمر الصلاة ؛ فروى أحمد وأهل السنن إلا الترمذي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e " يَنْهَى عَنْ ثَلَاثٍ : عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ ، وَعَنْ افْتِرَاشِ السَّبُعِ ، وَأَنْ يُوطِنَ الرَّجُلُ الْمَقَامَ كَمَا يُوطِنُ الْبَعِيرُ " ؛ فتضمن الحديث النهي في الصلاة عن التشبه بالحيوانات : بالغراب في النقرة ، وبالسبع بافتراشه ذراعية في السجود ، وبالبعير في لزومه مكانًا معينًا من المسجد يتوطنه كما يتوطن البعير .
وفي مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ e بِثَلَاثٍ ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ : أَمَرَنِي بِرَكْعَتَيْ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ ، وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ؛ وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ .
والإقْعاء : أن يُلْصِقَ الرجُل ألْيَتَيه بالأرض ، ويَنْصِب ساقَيه وفَخِذَيه ، ويَضَع يديه على الأرض كما يُقْعِي الكلْب .
وروى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ t قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e فَقَالَ : " مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ ! اسْكُنُوا فِي الصَّلاَةِ " .
وشُمْس : جمع شموس ؛ وهي التي لا تستقر ، بل تضرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها .
فهذه سبع حيوانات نهى e عن التشبه بها .
 
وقد وصف e صلاة النقَّار بأنها صلاة المنافق , ففي صحيح مسلم عَنِ أَنَسٍ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِ ؛ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَىِ الشَّيْطَانِ ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا ، لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً " ( [1] ) .
وقد قال تعالى : ] إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [ [ النساء : 142 ] .
فهذه ست صفات في الصلاة من علامات النفاق : الكسل عند القيام إليها , ومراءاة الناس في فعلها , وتأخيرها , ونقرها , وقلة ذكر الله فيها , والتخلف عن جماعتها .

[1] - رواه مسلم ( 622 ) .
 
وعَنْ أَبِي صَالِحٍ الأَشْعَرِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الأَشْعَرِيِّ ، قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ e بِأَصْحَابِهِ ، ثُمَّ جَلَسَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ، فَقَامَ يُصَلِّي ، فَجَعَلَ يَرْكَعُ ، وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ ، فَقَالَ النَّبِيّ e : " أَتَرَوْنَ هَذَا ؟! مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا ، مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ ، يَنْقُرُ صَلاَتَهُ كَمَا يَنْقُرُ الْغُرَابُ الدَّمَ ، إِنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ ، كَالْجَائِعِ ، لاَ يَأْكُلُ إِلاَّ التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ ، فَمَاذَا تُغْنِيَانِ عَنْهُ ؛ فَأَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ، وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ، أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ " ؛ قَالَ أَبُو صَالِحٍ : فَقُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ الأَشْعَرِيِّ : مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ؟ فَقَالَ : أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ : عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ ، ويَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ ، كُلُّ هَؤُلاَءِ سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ e . فأخبر أن نقَّار الصلاة لو مات ، مات على غير الإسلام .
وروى البخاري عَنْ زَيْد بْنِ وَهْبٍ قَالَ : رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ؛ قَالَ : مَا صَلَّيْتَ ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا e .
وقد جعل رسول الله e لص الصلاة وسارقها شرًّا من لص الأموال وسارقها ؛ ففي المسند من حديث أَبِي قَتَادَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ ؟ قَالَ : " لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا " - أَوْ قَالَ : " لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ " ؛ ولا ريب أن لص الدين شرٌّ من لص الدنيا .
 
ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها

ما ذكرنا من الآداب يتعلق بظاهر الصلاة ، وهناك آداب أخرى تتعلق بباطن المصلي ؛ وتأمل – أيها المسلم - ما روى أحمد وأبو داود والنسائي عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلاَّ عُشْرُ صَلاَتِهِ ، تُسْعُهَا ، ثُمُنُهَا ، سُبُعُهَا ، سُدُسُهَا ، خُمُسُهَا ، رُبُعُهَا ، ثُلُثُهَا ، نِصْفُهَا " ( [1] ) ؛ وأَعمِل فكرَك في فهم هذه الكلمات ، لتقف على خطورة الأمر ؛ أين مرتبتك من هؤلاء ؟ وهل ترضى لنفسك أن تخرج من صلاتك بعشر الأجر ؟!
إن استحضار القلب مع الصلاة من قبل أن يدخل المسلم فيها بالتكبير ، وتدبر كل أمر فيها من قول وفعل ، ومعايشة المعاني العظيمة في أقوالها وأفعالها ،حتى يخرج منها بالتسليم ؛ هو العامل الرئيس في خشوع القلب ، وتفاوت الأجر .
قال ابن تيمية - رحمه الله : والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة ، فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها ؛ كما جاء في السنن لأبي داود وغيره عن النبي e- ثم ذكر حديث عمَّار السابق - ثم قال:وقالابنعباس - رضي الله عنهما : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها .ا.هـ . وإذا غلب عليها الوسواس ، ففي براءة الذمة منها ، ووجوب الإعادة : قولان معروفان للعلماء ؛ أحدهما : لا تبرأ الذمة ؛ وهو قول أبي عبد الله بن حامد ، وأبي حامد الغزالي وغيرهما ( [2] ) .
والقول الثاني : تبرأ الذمة ، ولا تجب الإعادة .. ولكن يفوت من الأجر الشيء العظيم .

[1] - أحمد : 4 / 321 ، وأبو داود ( 796 ) ، والنسائي في الكبرى ( 611 ، 612 ) .

[2]- مجموع الفتاوى : 32 / 217 ، 218 .
 
تعالوا بنا نعيش تلكم المعاني العظيمة من عجائب الأسماء والصفات ، التي تحصل- كما يقول ابن القيم - لمن تفقه قلبه في معاني القرآن ، وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه ، بحيث يرى لكل اسم وصفة موضعًا من صلاته ، ومحلًّا منها :
فإنه إذا انتصب قائمًا بين يدي الرب تبارك وتعالى ، شاهد بقلبه قيوميته , وإذا قال : ( الله أكبر ) ، شاهد كبرياءه ، وإذا قال : " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ، وَبِحَمْدِكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ " ( [1] ) ، شاهد بقلبه ربًّا منزهًا عن كل عيب ، سالِمًا من كل نقص ، محمودًا بكل حمد ؛ فحمده يتضمن وصفه بكل كمال ، وذلك يستلزم براءته من كل نقص .
( وتبارك اسمه ) فلا يذكر على قليل إلا كثرة ، ولا على خير إلا أنماه ، وبارك فيه ، ولا على آفة إلا أذهبها ، ولا على شيطان إلا ردَّه خاسئًا داحرًا ؛ وكمال الاسم من كمال مسماه , فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء ، فشأن المسمى أعلى وأجل .
( وتعالى جده ) ، أي : ارتفعت عظمته ، وجلت فوق كل عظمة , وعلا شأنه على كل شأن ، وقهر سلطانه على كل سلطان ، فتعالى جده أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيته ، أو في إلهيته ، أو في أفعاله ، أو في صفاته ، كما قال مؤمن الجن : ] وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [ [ الجن : 3 ] , فكم في هذه الكلمات من تجلٍّ لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها ، غير المعطل لحقائقها .
وإذا استفتح بـ " اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؛ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ؛ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنَ الْخَطَايَا ، بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ " ( [2] ) ؛ تعلق قلبه بالعفو الغفور الرحيم ، وعاش مع هذه الأسماء راجيًا خائفًا : راجيًا أن يغفر الله له ، ويعفو عنه ، ويرحمه ؛ خائفًا أن يأخذه الله بذنبه ؛ فشاهد بقلبه ربًّا غفورًا رحيمًا عفوًا ، مع إقراره بخطئه ، واعترافه بذنبه ، وتضرعه في أن يباعد الله بينه وبينه ، وأن ينقيه من تبعاته ، وأن يغسله من آثاره .
وكم في هذه الكلمات من معان يحتاج المصلي أن يتأملها ويعايشها .

[1] - أحمد : 3 / 50 ، 69 ، وأبو داود ( 775 ) ، والترمذي ( 242 ) ، والنسائي ( 899 ، 900 ) ، وابن ماجة ( 804 ) عن أبي سعيد الخدري t ، وصححه الألباني ، وأحمد : 6 / ، وأبو داود ( 776 ) ، والترمذي ( 243 ) ، وابن ماجة ( 806 ) عن عائشة رضي الله عنها ، وصحح الألباني .

[2] - رواه مسلم ( 598 ) عن أبي هريرة t .
 
وإذا قال : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، فقد آوى إلى ركنه الشديد ، واعتصم بحوله وقوته ، من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربِّه ، ويبعده عن قربه ؛ ليكون أسوأ حالًا ؛ فإنَّهُ أحرصُ ما يكونُ على العبدِ في مثلِ هذا المقامِ الذي هو أشرفُ مقاماته وأنفعها له في دنياه وآخرته ، فهو أحرصُ شيء على صرفهِ عنه واقتطاعِهِ دونه بالبدن والقلب ، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن ، اقتطع قلبَه وعطله عن القيام بين يدي الرَّبّ تعالى ، فأُمِرَ العبدُ بالاستعاذةِ بالله منه ليسْلَمَ له مقامه بين يدي ربِّه ، وليَحيى قلبُه ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام سيده ، الذي هو سبب حياته ونعيمه وفلاحه ؛ فالشيطان أحرصُ على اقتطاع قلبِه عن مقصودِ التلاوة .
ولمّا علمَ سبحانه جِدَّ العدوِّ وتفرُّغَه للعبد ، وعجْزَ العبدِ عنه ، أمره بأن يستعيذَ به سبحانه ويلتجئَ إليه في صرفه عنه ، فيكفى بالاستعاذة مؤنةَ محاربته ومقاومته ، فكأنه قيل له : لا طاقةَ لكَ بهذا العدو ، فاستعذ بي واستجر بي أكْفِكَهُ ، وأمنعك منه .
فإذا استعاذَ بالله منَ الشَّيْطانِ بَعُدَ منهُ ، فأفضى القلب إلى معاني القرآن ، ووقع في رياضه المونِقَةِ ، وشاهد عجائبه التي تُبْهِرُ العقول ، واستخرج من كنوزِهِ وذخائرِهِ ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت .
 
مع فاتحة الكتاب
فإذا قال : ] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[ وقف هنيهة يسيرة ، ينتظر جواب ربِّه له بقوله : " حَمِدَنِي عَبْدِي " ؛ فإذا قال : ] الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ , انتظر الجواب بقوله : " أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي " , فإذا قال : ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ انتظر جوابه : " مَجَّدَنِي عَبْدِي " .
فيا لذة قلبه ، وقرة عينه ، وسرور نفسه ، بقول ربه : " عَبْدِي " ثلاث مرات ؛ فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات ، وغيم النفوس،لاستطيرتفرحًاوسرورًابقول ربِّها وفاطرها ومعبودها : " حَمِدَنِي عَبْدِي ، وأَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ، ومَجَّدَنِي عَبْدِي" ؛ ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء الثلاثة ، التي هي أصول الأسماء الحسنى ، وهي : ( الله ، والربُّ ، والرحمن ) .
فشاهد قلبه من ذكر اسم ( الله ) - تبارك وتعالى - إلهًا معبودًا موجودًا مخوفًا ، لا يستحق العبادة غيره ، ولا تنبغي إلا له , قد عنت له الوجوه ، وخضعت له الموجودات ، وخشعت له الأصوات ، ] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [ [ الإسراء : 44 ] , ] وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [ [ الروم : 26 ] .
وكذلك خلق السموات والأرض وما بينهما ، وخلق الجن والإنس والطير والوحش والجنة والنار ؛ وكذلك أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وشرع الشرائع ، وألزم العباد الأمر والنهي .
وشاهد من ذكر اسمه ( ربِّ العالمين ) قيومًا ؛ قام بنفسه ، وقام به كل شيء ، فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها ؛ قد استوى على عرشه ، وتفرد بتدبير ملكه ؛ فالتدبير كله بيديه ، ومصير الأمور كلها إليه , فمراسيم التدبيرات نازلة منعنده ، على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع ، والخفض والرفع ، والإحياء والإماتة ، والتوبة والعزل ، والقبض والبسط ، وكشف الكروب ، وإغاثة الملهوفين ، وإجابة المضطرين ؛ ] يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ [ الرحمن : 29 ] , لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لأمره ، ولا مبدل لكلماته ؛ تعرج الملائكة والروح إليه ، وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه ، فيقدر المقادير ، ويوقت المواقيت ، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها ، قائمًا بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه .
ثم يشهد عند ذكر اسم ( الرحمن ) Y ربًّا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان ، متحبِّبًا إليهم بصنوف النعم , وسع كل شيء رحمة وعلمًا , وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلًا ، فوسعت رحمته كل شيء ، ووسعت نعمته كل حي ، فبلغت رحمته حيث بلغ علمه , فاستوى على عرشه برحمته ، وخلق خلقه برحمته ، وأنزل كتبه برحمته ، وأرسل رسله برحمته ، وشرع شرائعه برحمته ، وخلق الجنة برحمته ، والنار - أيضًا - برحمته ؛ فإنها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنته ، ويطهِّر بها أدران الموحدين من أهل معصيته , وسجنه الذي يسجن فيه أعداءه من خليقته .
فتأمل ما في أمره ونهيه ، ووصاياه ومواعظه من الرحمة البالغة ، والنعمة السابغة ، وما في حشوها من الرحمة والنعمة ، فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده ، كما أن العبودية هي السبب المتصل منهم به ؛ فمنهم إليه العبودية ، ومنه إليهم الرحمة.
ومن أخص مشاهد هذا الاسم : شهود المصلي نصيبه من الرحمة ؛ الذي أقامه بها بين يدي ربِّه , وأهَّلَه لعبوديته ومناجاته ، وأعطاه ومنع غيره ،وأقبل بقلبه ، وأعرض بقلب غيره ، وذلك من رحمته به .
 
فإذا قال : ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ , فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين ، فيشهد ملِكًا قاهرًا ، قد دانت له الخليقة ، وعنت له الوجوه ، وذلت لعظمته الجبابرة ، وخضعلعزته كل عزيز ، فيشهد بقلبه ملِكًا على عرش السماء مهيمنًا ، لعزته تعنو الوجوه وتسجد , وإذا لم تُعَطَّل حقيقة صفة الملك أطلعته على شهود حقائق الأسماء والصفات التي تعطيلها تعطيل لملكه ، وجحد له ؛ فإن الملِك الحق التام الْمُلك لا يكون إلا حيًّا ، قيومًا ، سميعًا ، بصيرًا ، مدبِّرًا ، قادرًا ، متكلمًا ، آمرًا ناهيًا ، مستويًا على سريرمملكته ؛ يرسل رسله إلى أقاصي مملكته بأوامره , فيرضى على من يستحق الرضا , ويثيبه ويكرمه ويدنيه ؛ ويغضب على من يستحق الغضب ، ويعاقبه ويهينه ويقصيه , فيعذب من يشاء ، ويرحم من يشاء ، ويعطى من يشاء ، ويقرب من يشاء ، ويقصى من يشاء , له دار عذاب ، وهي النار , وله دار سعادة عظيمة ، وهي الجنة .
فمن أبطل شيئًا من ذلك ، أو جحده وأنكر حقيقته ، فقد قدح في ملكه سبحانه وتعالى ، ونفى عنه كماله وتمامه ؛ وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره ، فقد أنكر عموم ملكه وكماله ؛ فيشهد المصلي مجد الربِّ تعالى في قوله : ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ .
 
فإذا قال : ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ ففيها سرُّ الخلق والأمر ، والدنيا والآخرة ، وهي متضمنة لأجلِّ الغايات ، وأفضل الوسائل , فأجل الغايات عبوديته ، وأفضل الوسائل إعانته ؛ فلا معبود يستحق العبادة إلا هو ، ولا معين على عبادته غيره , فعبادته أعلى الغايات ، وإعانته أجلُّ الوسائل ؛ وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتاب وأربعة كتب ، جمع معانيها في أربعة ، وهي : التوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، والزبور ؛ و جمع معانيها في القرآن ، وجمع معانيه في المفصل ، وجمع معانيه في الفاتحة ، وجمع معانيها في : ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ ؛ وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد : وهما توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ؛ وتضمنت التعبد باسم ( الربِّ ) ، واسم ( الله ) ، فهو يعبد بألوهيته ، ويستعان بربوبيته ، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته ، فكان أول السورة ذكر اسمه : ( الله ، والرب ، والرحمن ) تطابقًا لأجل الطالب من عبادته وإعانته وهدايته ؛ وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله ، لا يعين على عبادته سواه ، ولا يهدي سواه .
 
ثم يشهد الداعي بقوله : ] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [ شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة ، التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة ؛ فإنه محتاج إليه في كل نَفَس وطرفة عين ؛ وهذا المطلوب من هذا الدعاء ، لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه والهداية فيه ، وهي هداية التفصيل ، وخلق القدرة على الفعل وإرادته وتكوينه ، وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضي المحبوب للرب سبحانه وتعالى ؛ وحفظه عليه من مفسداته حال فعله ، وبعد فعله .
ولما كان العبد مفتقرًا في كل حال إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية , فهو يحتاج إلى التوبة منها , وأمور هُدي إلى أصلها دون تفصيلها ، أو هُدي إليها من وجه دون وجه , فهو يحتاج إلى إتمام الهداية فيها ليزداد هدى , وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل ، مثل ما حصل له في الماضي , وأمور هو خال عن اعتقاد فيها ، فهو يحتاج إلى الهداية فيها , وأمور لم يفعلها ، فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية , وأمور قد هُدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها ، فهو محتاج إلى الثبات عليها ... إلى غير ذلك من أنواع الهدايات - فَرَضَ الله سبحانه عليه أن يسأله هذه الهداية ، في أفضل أحواله ، مرات متعددة في اليوم والليلة , ثم بيَّن أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته دون المغضوب عليهم ، وهم الذين عرفوا الحقَّ ولم يتبعوه , ودون الضالين ، وهم الذين عبدوا الله بغير علم ؛ فالطائفتان اشتركتا في القول في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم .
فسبيل المنعَمِ عليه مغايِرة لسبيل أهل الباطل كلها ، علمًا وعملًا .
 
فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد ، شُرِع له أن يطبع على ذلك بطابع من التأمين ، يكون كالخاتم له ، وافق فيه ملائكة السماء ، وهذا التأمين من زينة الصلاة ، كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة ، واتباع للسنة ، وتعظيم أمر الله ؛ وعبودية اليدين ، وشعار الانتقال من ركن إلى ركن .
 
ثم يأخذ في مناجاة ربه بكلامه ، واستماعه من الإمام بالإنصات ، وحضور القلب وشهوده لربيعِ القلوبِ ، وشفاءِ الصدورِ ، ونورِ البصائرِ ، وحياةِ الأرواحِ ، ولذّةِ النفوسِ ، ورياضِ القلوبِ ، وحادي الأرواحِ إلى بلادِ الأفراحِ ، والمنادي بالمساء والصباحِ : يا أهلَ الفلاحِ ، حيّ على الفلاحِ ، وهو كلامُ ربِّ العالمين ، فيحلّ به في ما شاء من روضاتٍ مونقاتٍ ، وحدائقَ معجباتٍ ، زاهية أزهارها ، مونقة ثمارها ، قد ذللتْ قطوفها تذليلاً ، وسُهلت لمتناولها تسهيلاً ، فهو يجتني من تلك الثمار خيرًا يُؤمر به ، وشرًّا يُنهى عنه ، وحكمةً وموعظةً ، وتبصرةً وتذكرةً وعبرةً ، وتقريراً لحق ، ودحضًا لباطل ، وإزالةً لشبهةٍ ، وجوابًا عن مسألةٍ ، وإيضاحًا لمشكلٍ ، وترغيبًا في أسباب فلاحٍ وسعادةٍ ، وتحذيرًا من أسباب خسران وشقاوة ، ودعوةً إلى هدى ، فتنزل على القلوب نزولَ الغيثِ على الأرضِ التي لا حياة لها بدونه ، ويحل منها محل الأرواح من أبدانها .
فأيُّ نعيمٍ وقرة عينٍ ولذة قلبٍ وابتهاج وسرور ، لا يحصل له في هذه المناجاة ، والربُّ تعالى مستمع لكلامه .
 
ثمَّ يعود إلى تكبير ربّه U ؛ فيجدد عهد التذكرة ، كونه أكبر من كلّ شيء بحق عبوديته ، وما ينبغي أن يعامل به ؛ ثمّ شرع له رفع اليدينِ عند الركوع تعظيمًا لأمرِ الله ، وزينةً للصلاة ، وعبودِيَّة خاصَّةً لليدين ، كعبودية باقي الجوارح ، واتباعًا لسنة رسول الله e ، فهو حِلْيَةُ الصلاة ، وزينتها ، وتعظيمٌ لشعائرها .
وقد شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكنٍ إلى ركن ، كالتلبية في انتقالات الحاجِّ من مشعر إلى مشعر ، فهو شعار الصلاة ، كما أنَّ التلبية شعار الحج ؛ ليعلم العبدُ أنَّ سرَّ الصلاةِ هو تعظيمُ الرَّبِّ تعالى وتكبيره بعبادته وحده .
 
ثم يركع حانيًا له ظهره خضوعًا لعظمته ، وتذللاً لعزّته ، واستكانةً لجبروته ، مسبِّحًا له بذكر اسمه العظيم ، فَنَزَّه عظمته عن حال العبد وذلّه وخضوعه ، وقابل تلك العظمة بهذا الذلّ والانحناء والخضوع ، قد طأطأ رأسه ، وطوى ظهره ، وربُّه فوقه يشاهده ، ويرى خضوعه وذلّه ، ويسمع كلامه ، فهو رُكنُ تعظيمٍ وإجلالٍ ؛ فسِرُّ الركوع تعظيم الربِّ Y بالقلب والقالب والقول , ولهذا قال النبي e : " فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ " ( [1] ) .
وتمامُ عبودية الركوع أن يتصاغرَ العبدُ ويتضاءل بحيث يمحو تصاغُرُه كلَّ تعظيم منه لنفسه ، ويثْبت مكانه تعظيمه لربه ، وكلما استولى على قلبه تعظيمُ الرب ازدادَ تصاغُرُه هو عند نفسه ، فالركوع للقلب بالذاتِ والقصدِ ، وللجوارح بالتَّبَعِ والتَّكْمُلة .
وأفضل أذكار الصلاة ذكر القيام ، وأحسن هيئة المصلي هيئة القيام , فخصت بالحمد والثناء والمجد وتلاوة كلام الرب Y , ولهذا نُهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود ؛ لأنهما حالتا ذل وخضوع وتطامن وانخفاض ؛ ولهذا شرع فيهما من الذكر ما يناسب هيئتهما ، فشُرع للراكع أن يذكر عظمة ربه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه , وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد كبرياءه وجلاله وعظمته ، فأفضل ما يقول الراكع على الاطلاق : سبحان ربي العظيم , فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك ، وعيَّن المبلغ عنه ، السفير بينه وبين عباده ، هذا المحل لهذا الذكر ، لما نزلت : ] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [ , قال : " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ " ( [2] ) .

[1] - رواه مسلم ( 479 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما .

[2] - أحمد : 4 / 155 ، وأبو داود ( 869 ) ، وابن ماجة ( 887 ) عن عقبة ابن عامر t ، وصححه ابن حبان كما في ( موارد الظمآن ) : 1 / 135 ، والحاكم ( 818 ، 3783 ) ووافقه الذهبي في الموضع الثاني .
 
ثم يرفع رأسه من الركوع , حتى يعود كل عظم إلى فقاره ، وجُعل شعار هذا الركن حمد الله والثناء عليه , فافتتح هذا الشعار بقول المصلي : " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أي : سمع سمْع قبول وإجابة , ثم شفع بقوله : " رَبَّنَا ، وَلَكَ الْحَمْدُ " ، ولا يهمل أمر هذه الواو في قوله : " رَبَّنَا ، وَلَكَ الْحَمْدُ " ؛ فإنه قد ندب الأمر بها في الصحيحين , وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما , فإن قوله : " رَبَّنَا " متضمن في المعنى : أنت الربُّ والملك القيوم ، الذي بيديه أزِمَّة الأمور ، وإليه مرجعها ؛ فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله : " رَبَّنَا " قوله : " وَلَكَ الْحَمْدُ"،فتضمن ذلك معنى قول الموحِّد : له الملك وله الحمد ( [1] ) .
ثم أخبر عن شأن هذا الحمد وعظمته قدرًا وصفة ، فقال : " مِلْءَ السَّمَوَاتِ ، وَمِلْءَ الأَرْضِ ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " ( [2] ) ، أي : قدر ملء العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي بينهما , فهذا الحمد قد ملأ الخلق الموجود ، وهو يملأ ما يخلقه الرب - تبارك وتعالى - بعد ذلك ما يشاؤه ؛ فحمده قد ملأ كل موجود ، وملأ ما سيوجد ، فهذا أحسن التقديرين ؛ وقيل : ما شئت من شيء وراء العالم ، فيكون قوله : (بَعْدُ ) للزمان على الأول , والمكان : على الثاني .
ثم أتبع ذلك بقوله : " أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ " فعاد الأمر بعد الركعة إلى ما افتتح به الصلاة قبل الركعة من الحمد والثناء والمجد , ثم أتبع ذلك بقوله :" أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ " تقريرًا لحمده وتمجيده والثناء عليه , وأن ذلك أحق ما نطق به العبد ,ثم أتبع ذلك بالاعتراف بالعبودية ، وأن ذلك حكم عام لجميع العبيد ، ثم عقب ذلك بقوله : " لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ " ([3])؛وكانe يقولذلك بعد انقضاء الصلاة أيضًا ( [4] ) ؛ فيقوله في هذين الموضعين اعترافًا بتوحيده ، وأن النعم كلها منه , وهذا يتضمن أمورًا ؛ أحدها أنه المنفرد بالعطاء والمنع . الثاني : أنه إذا أعطى لم يطق أحد منع من أعطاه ، وإذا منع لم يطق أحد إعطاء من منعه . الثالث : أنه لا ينفع عنده ، ولا يخلص من عذابه ، ولا يدني من كرامته جدود بني آدم وحظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك , إنما ينفعهم عنده التقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاته .
ثم ختم ذلك بقوله : " اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ "( [5] ) , وهذا نحو ما افتتح به الركعة في أول الاستفتاح ، كما كان يختم الصلاة بالاستغفار ، وكان الاستغفار في أول الصلاة ووسطها وآخرها , فاشتمل هذا الركن على أفضل الأذكار وأنفع الدعاء من حمده ، وتمجيده ، والثناء عليه ، والاعتراف له بالعبودية والتوحيد ، والتنصل إليه من الذنوب والخطايا ؛ فهو ذكر مقصود في ركن مقصود ، ليس بدون الركوع والسجود .

[1] - هذا ، وقد ورد صحيحًا ( ربنا لك الحمد ) بدون الواو ، فيجوز قوله ، ولكن المعنى مع إثبات الواو أحسن كما تقدم .

[2] - رواه مسلم ( 476 ) عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما .

[3] - رواه مسلم ( 477 ) عن أبي سعيد الخدري t ، ( 478 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما .

[4] - روى البخاري ( 808 ) ، ومسلم ( 593 ) عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا سَلَّمَ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ؛ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ " .

[5] - زيادة في رواية لمسلم لحديث ابن أبي أوفى المتقدم .
 
ثم يكبر ويخر لله ساجدًا ، غير رافعٍ يديه ؛ لأن اليدين تنحطان للسجود كما ينحط الوجه ، فهما ينحطان لعبوديتهما ، فأغنى ذلك عن رفعهما , ولذلك لم يشرع رفعهما ، ثم رفع الرأس من السجود ؛ لأنهما يرفعان معه كما يوضعان معه .
وشرع السجود على أكمل الهيئة وأبلغها في العبودية ، وأعمها لسائر الأعضاء ، بحيث يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية .
والسجود سِرُّ الصلاة وركنها الأعظم ، وخاتمة الركعة ، وما قبله من الأركان كالمقدمات له ، فهو شبه طواف الزيارة في الحج ؛ فإنه مقصود الحج ، ومحل الدخول على الله وزيارته ، وما قبله كالمقدمات له ؛ ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد , وأفضل الأحوال له حال يكون فيها أقرب إلى الله , ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة .
ولما خلق الله سبحانه العبد من الأرض , كان جديرًا بأن لا يخرج عن أصله بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه , فإن العبد لو ترك لطبعه ودواعي نفسه لتكبر وأشر ، وخرج عن أصله الذي خلق منه ، ولوثب على حق ربه من الكبرياء والعظمة ، فنازعه إياهما , فأُمر بالسجود خضوعًا لعظمة ربه ، وخشوعًا له ، وتذللا بين يديه ، وانكسارًا له ؛ فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل ردًّا له إلى حكم العبودية ، ويتدارك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله ، فتَمْثُل له حقيقة التراب الذي خلق منه ، وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه ، وهو الوجه , وقد صار أعلاه أسفله خضوعًا بين يدي ربه الأعلى ، وخشوعًا له ، وتذللًا لعظمته ، واستكانة لعزته ؛ وهذا غاية خشوع الظاهر ؛ فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوطء بالأقدام ، واستعمله فيها ، وردَّه إليها ، ووعده بالإخراج منها ، فهي أمه وأبوه ، وأصله وفصله , فضمته حيًّا على ظهرها ، وميتًا في بطنها ، وجعلت له طهرًا ومسجدًا ؛ فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر ، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء ، فيعفر وجهه في التراب استكانة وتواضعًا وخضوعًا وإلقاءً باليدين .
وكان النبي e لا يتقي الأرض بوجهه قصدًا ، بل إذا اتفق له ذلك فعله ؛ ولذلك سجد في الماء والطين , ولهذا كان من كمال السجود الواجب أنه يسجد على الأعضاء السبعة : الوجه ، واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين ( [1] ) ؛ فهذا فرضٌ أمر الله به رسوله ، وبلغه الرسول لأمته .

[1] - روى البخاري ( 779 ) ، ومسلم ( 490 ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ e : " أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ : عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ ، وَالرُّكْبَتَيْنِ ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ .. " الحديث .
 
ومن كماله - الواجب أوالمستحب - مباشرة مصلاه بأديم وجهه ، واعتماده على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه ، وارتفاع أسافله على أعاليه , فهذا من تمام السجود ، ومن كماله أن يكون على هيئة يأخذ فيها كل عضو من البدن بحظه من الخضوع ، فيقل بطنه عن فخذيه ،وفخذيه عن ساقيه ,ويجافي عضديه عن جنبيه ، ولايفرشهما على الأرض ، ليستقل كل عضو منه بالعبودية ؛ ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدًا لله اعتزل ناحية يبكي ، ويقول : يا ويله ، أمر ابن آدم بالسجود، فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود ، فعصيت ، فلي النار ؛ ولذلك أثنى الله سبحانه على الذين يخرون عند سماع كلامه , وذم من لا يقع ساجدًا عنده ، ولما علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون ، خروا سُجَّدًا لربهم ، فكانت تلك السجدة أول سعادتهم ، وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السحر .
ولذلك أخبر سبحانه عن سجود جميع المخلوقات له ، فقال تعالى : ] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ [ النحل : 49 ، 50 ] , فأخبر عن إيمانهم بعلوه وفوقيته ، وخضوعهم له بالسجود تعظيمًا وإجلالًا , وقال تعالى : ] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ [ الحج : 18 ] ؛ فالذي حق عليه العذاب هو الذي لا يسجد له سبحانه ، وهو الذي أهانه بترك السجود له , وأخبر أنه لا مكرم له , وقد هان على ربِّه حيث لم يسجد له , وقال تعالى : ] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [ [ الرعد : 15 ] .
 
ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله ، بحسب نصيبه من عبوديته ، وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية ، متضمنة لأقسامها ، كانت أفضل أعمال العبد ، ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه ؛ وكان السجود أفضل أركانها الفعلية ، وسرَّها الذي شرعت لأجله ، وكان تكرره في الصلاة أكثر من تكرر سائر الأركان ، وجعله خاتمة الركعة وغايتها ، وشرع فعله بعد الركوع , فإن الركوع توطئة له ، ومقدمة بين يديه , وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه ، وهو قول العبد : " سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى " ؛ فهذا أفضل ما يقال فيه , ولم يرد عن النبي e أمره في السجود بغيره حيث قال : " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ " .
ووصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد ، الذي قد انحط إلى السفل على وجهه ، فذكر علوَّ ربِّه في حال سقوطه ، وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه ، ونزَّه ربَّه عما لا يليق به مما يضاد عظمته وعلوه .
 
ثم لما شرع السجود بوصف التكرار ، لم يكن بد من الفصل بين السجدتين ، ففصل بينهما بركن مقصود ، شرع فيه من الدعاء ما يليق به ويناسبه ، وهو سؤال العبد المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق , فإن هذه تتضمن جلب خير الدنيا والآخرة ، ودفع شرِّ الدنيا والآخرة ؛ فالرحمة تحصل الخير , والمغفرة تقي الشر , والهداية توصل إلى هذا وهذا , والرزق إعطاء ما به قوام البدن من الطعام والشراب ، وما به قوام الروح والقلب من العلم والإيمان ؛ وجعل جلوس الفصل محلًّا لهذا الدعاء لما تقدمه من رحمة الله ، والثناء عليه ، والخضوع له ، فكان هذا وسيلة للداعي ، ومقدمة بين يدي حاجته ؛ فهذا الركن مقصود الدعاء فيه ، فهو ركن وُضع للرغبة ، وطلب العفو والمغفرة والرحمة ؛ فإن العبد لما أتى بالقيام والحمد والثناء والمجد ، ثم أتى بالخضوع ، وتنزيه الرب ، وتعظيمه ؛ ثم عاد إلى الحمد والثناء ، ثم كمَّل ذلك بغاية التذلل والخضوع والاستكانة ، بقي سؤال حاجته واعتذاره وتنصله ؛ فشرع له أن يتمثل في الخدمة ، فيقعد فعل العبد الذليل ، جاثيًا على ركبتيه ، كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده ، راغبًا راهبًا معتذرًا إليه ، مستعديًا إليه على نفسه الأمارة بالسوء .
 
ثم شرع له تكرير هذه العبودية مرة بعد مرة ، إلى إتمام الأربع , كما شرع له تكرير الذكر مرة بعد مرة ، لأنه أبلغ في حصول المقصود ، وأدعى إلى الاستكانة والخضوع ؛ وليستعد بالأول لتكميل ما بعده ، ويجبر بما بعده ما قبله ، وليشبع القلب من هذا الغذاء ، وليأخذ زاده ونصيبه وافرًا من الدواء ليقاومه ، فإنَّ منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء ، فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من الغذاء لقمة و لقمتين ، كان غناؤها عنه وسدّها من جوعه يسيرًا جدًّا ، وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدرٍ معينٍ من الدواءِ ، إذا أخذَ منه المريضُ قيراطًا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية ، وأزال بحسبه . فما حصل الغذاء أو الشفاء للقلب بمثل الصلاة ، وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه .
 
فلما أكمل ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها وتسبيحها وتكبيرها ، شُرع له أن يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشع المتذلل المستكين ، جاثيًا على ركبتيه ، ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التحيات وأفضلها ، وهي : " التحياتُ لله ، والصلواتُ ، والطيباتُ " ، وذلك عوضًا عن تحية المخلوق للمخلوق إذا واجهه أو دخل عليه ؛ فإن الناس يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي يُحيُون بها قلوبهم , فبعضهم يقول : أنعم صباحًا , وبعضهم يقول : لك البقاء والنعمة , وبعضهم يقول : أطال الله بقاءك ، وبعضهم يقول : تعيش ألف عام , وبعضهم يسجد للملوك ، وبعضهم يسلم , فتحياتهم بينهم تتضمن ما يحبه المحيَّى من الأقوال والأفعال ، والمشركون يحيون أصنامهم ؛ قال الحسن : كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ، ويقولون : لك الحياة الدائمة .
فلما جاء الإسلام أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها لله ؛ فالتحية هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت ، وهو سبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه ؛ فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام ، ولا يستحق أحد هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ، ولا يزول ملكه .
 
وكذلك قوله : " والصلوات " فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله U , والصلاة لغيره من أعظم الكفر والشرك به .
وكذلك قوله : " والطيبات " ، هي صفة الموصوف المحذوف ، أي : الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده ، فهو طيب ، وأفعاله طيبة ، وصفاته أطيب شيء ، وأسماؤه أطيب الأسماء ، واسمه الطيب ، ولا يصدرعنه إلا طيب ، ولا يصعد إليه إلا طيب ، ولا يقرب منه إلا طيب ، وإليه يصعد الكلم الطيب , وفعله طيب ، والعمل الطيب يعرج إليه ؛ فالطيبات كلها له ، ومضافة إليه ، وصادرة عنه ، ومنتهية إليه ؛ قال النبي e : " إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا " ([1]) ، ولا يجاوره من عباده إلا الطيبون , كما يقال لأهل الجنة : ] سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [ [ الزمر : 72 ] ؛ وقد حكم سبحانه في شرعه وقدره أن الطيبات للطيبين .
فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق ، فالكلمات الطيبات ، والأفعال الطيبات ، والصفات الطيبات ، والأسماء الطيبات ، كلها له سبحانه ، لا يستحقها أحد سواه , بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه , فطِيب كل ما سواه من آثار طيبته , ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له .

[1] - جزء من حديث رواه مسلم ( 1015 ) عن أبي هريرة t .
 
وأيضًا فمعاني الكلماتِ الطَّيبات لله وحدَه ؛ فإنّ الكلماتِ الطَّيباتِ تتضمَّنُ تسبيحَهُ ، وتحميدَهُ ، وتكبيرَهُ ، وتمجيدَه ، ُوالثناءَ عليه بآلائه وأوصافِهِ ، فهذهِ الكلماتُ الطيباتُ التي يُثْنَى عليه بها ومعانيها لهُ وحدَهُ ، لا يَشْرَكُهُ فيها غيره ، كـ " سبحانَ الله ، والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " ؛ فتأمّل هذه الكلمات التي هي أطيب الكلمات بعد القرآن كيف لا تنبغي إلا لله ، فإنَّ " سبحان الله " تتضمّنُ تنزيهَه عن كلّ نقصٍ وعيبٍ وسوءٍ ، وعن خصائصِ المخلوقين وشَبَهِهِمْ ؛ و " الحمد لله " تتضمَّن إثبات كلّ كمال له قولاً وفعلاً ووصفًا ، علَى أتم الوجوه وأكملها ، أزلاً وأبدًا ، و " لا إله إلا الله " تتضمن انفراده بالإلهية ، وأن كلَّ معبود سواه فباطل ، وأنه وحده الإله الحق ، وأنه من تأله غيرَهُ فهو بمنزلة من اتَّخذ بيتًا من بيوت العنكبوت ، يأوي إليه ويسكنه من الحرّ والبرد ، فهل يغني عنه ذلك شيئًا ؟
" والله أكبر " تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء ، وأجلّ ، وأعظم ، وأعزُّ ، وأقوى ، وأقدر ، وأعلم ، وأحكم ، فهذه الكلمات الطيبات لا تصلح هي ومعانيها إلا لله وحده .
ولَمَّا كانت الصلاةُ مشتملةً على عملٍ صالحٍ ، وكلمٍ طيبٍ ، والكلمُ الطيّبُ إليه يصعد ، والعملُ الصالحُ يرفعه ، ناسب ذكرُ هذا عند انتهاءِ الصلاةِ وقت رفعها إلى الله تعالى .
 
فلمّا أتى بهذا الثناء على الرَّبِّ تعالى ، التفتَ إلى شأنِ الرسولِ e الذي حصلَ هذاالخير على يديه ، ولما كان السلام من أنواع التحية ، وكان المسلِّم داعيًا لمن يحييه ، وكان الله سبحانه هو الذي يُطلب منه السلام لعباده الذين اختصهم بعبوديته ، وارتضاهم لنفسه ؛ شرع أن يبدأ بأكرمهم عليه ، وأحبهم إليه ، وأقربهم منه منزلة ؛ فسلَّم عليه أتمَّ سلام ، معرَّفٍ باللام التي للاستغراقِ ، مقرونًا بالرحمةِ والبركة ؛ ثمَّ انتقلَ إلى السَّلام على نفسهِ ، وعلى سائرِ عبادِ اللهِ الصالحين ، وبَدأ بنفسهِ لأنّه أهمُّ ، والإنسانُ يبدأ بنفسه ، ثمّ بمنْ يعول .
ثم ختم هذا المقام بعقدالإسلام ، وهو التشهد بشهادة الحقِّ ، التي هي أولُ الأمر وآخره ، وعندها كلُّ الثناء ، والتشهد في هذه التحية بالشهادتين ، اللتين هما مفتاح الإسلام ، فشرع أن يكون خاتمة الصلاة ، فدخل فيها بالتكبير ، والحمد والثناء ، والتمجيد ، وتوحيد الربوبية والإلهية ، وختمها بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله .
وشرعت هذه التحية في وسط الصلاة , إذا زادت على ركعتين ، تشبيها لها بجلسة الفصل بين السجدتين ، وفيها مع الفصل راحة للمصلي لاستقباله الركعتين الآخرتين بنشاط وقوة , بخلاف ما إذا والى بين الركعات , ولهذا كان الأفضل في النفل مثنى مثنى ، وإن تطوع بأربع جلس في وسطهن .
والتحيَّاتِ في آخِر الصّلاة جعِلَتْ بمنزِلَةِ خُطْبَةِ الحاجَةِ أمامها ، فإنَّ المصلِّي إذا فرغَ من صلاتِهِ ، جَلَس جِلْسةَ الرَّاغِب الرَّاهِب ، يسْتَعْطي من رَبِّه ما لا غِنَى به عَنْه ، فشُرِعَ له أمامَ اسْتِعطائِهِ كلمات التحيَّات ، مقدِّمة بين يدي سؤالِهِ ، ثم يُتْبِعُها بالصلاة على من نالَت أمَّتُهُ هذه النعمة على يَدهِ وسعادَتِه ؛ وهي من أجلِّ أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته ، فكأنَّ المُصَلِّي توسَّلَ إلى اللهِ سُبْحانَهُ بعبوديّتهِ ، ثم بالثناءِ عليه ، والشهادَة له بالوحدانِية ، ولرَسوله بالرِّسالة ، ثم الصلاة على رسوله ، ثم قيل لَه : تخيَّر من الدُّعاء أحبّه إليك ، فذاك الحقُّ الذي عَلَيْكَ ، وهذا الحق الذي لَكَ .
 
وشُرِعَتِ الصَّلاة على آله مع الصَّلاةِ عليه ، تكميلاً لِقُرَّةِ عَيْنِه بإكرام آله والصَّلاةِ عَلَيْهِم ، وأن يُصَلَّى عليه وعلى آله ، كما صُلِّي على أبِيهِ إبراهيم وآلِهِ ، والأنبياءُ كلُّهم بعد إبراهيم من آلِهِ ، ولذلك كان المطلوبُ لِرَسول الله e صلاةً مثل الصلاة على إبراهيمَ ، وعلى جميع الأنبياء بعدَهُ وآلِهِ المؤمنين ، فَلِهذا كانتْ هذه الصلاة أكْمل ما يُصَلَّى على رسولِ اللهِ e بها وأفْضَلَ .
فإذا أتى بها المصلِّي ، أُمِرَ أن يَسْتَعِيذَ باللهِ من مجامِع الشَّرِّ كلِّه ( [1] ) ، فإنَّ الشَّرَّ إمَّا عذابُ الآخِرَةِ ، وإما سَببُهُ ، فليس الشَّرُّ إلا العذاب وأسبابه ؛ والعذابُ نَوْعان : عذابٌ في البَرْزَخِ ، وعذابٌ في الآخِرَة ؛ وأسبابُهُ الفِتْنَةُ ، وهو نَوْعان : كُبرى ، وصُغْرى ؛ فالكبرى : فتنة الدجال وفتنة الممات ؛ والصُّغرى : فتنة الحياة التي يُمْكِنُ تداركُها بالتَّوبَة ، بخلافِ فِتْنَةِ المَمَاتِ وفِتْنَةِ الدَّجَالِ ، فإنَّ المفْتُونَ فيهِما لا يتداركُها .
ثُمَّ شَرعَ له من الدُّعاءِ ما يختارُهُ من مصالحِ دُنياه وآخِرَتِه ، والدُّعاءُ في هذا المحلِّ قَبْلَ السَّلامِ أفْضَلُ من الدُّعاء بعد السَّلامِ وأنْفَعُ للدَّاعي ، وذَلِكَ أنَّ المُصَلِّي قِبْلَ سَلامِهِ في محلِّ المُناجاة والقُرْبَة بين يَدَيّ رَبِّهِ ، فسؤالُهُ في هذا الحالِ أقربُ إلى الإجابَةِ من سؤالِهِ بعد انصرافِهِ من بَيْنَ يَدَيْهِ .

[1] - روى مسلم ( 588 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ ؛ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ " .
 
وأمَّا السلام من الصلاة ، فإنّما هو عَلَمٌ على التحليلِ منها ، والانْفصالِ عنْها ، وقدْ أخبرَ رسول الله عن ذلك فقال : " وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ " ( [1] ) .
والسلام اسم من أسْماء الله تبارك وتعالى ، وهذا دليلٌ على شرفِ الصلاة ، وجليلِ شأنها ، ورفيع مكانها ؛ لأنَّ المصلي افتتحها باسمه تبارك وتعالى ، وختمها باسمه ، فيكون ذاكرًا لاسم ربِّه أول الصلاة وآخرها ، فأولها باسمه وآخرها باسمه ، فدخلَ فيها باسمه ، وخرج منها باسمه ، مع ما في اسم السلام من الخاصية والحكمة المناسبة لانصراف المُصَلِّي من بين يدي الله تعالى ، فإن المصلِّي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يخفِرَهُ ، بل هو في حِمىً من جميع الآفات والشرور ، فإذا انصرف من بين يديه تبارك وتعالى ابتدرتْهُ الآفات والبلايا والمحن ، وتعرضَت له من كل جانب ، وجاءه الشيطان بمصائده وجنده ، فهو متعرِّضٌ لأنواع البلايا والمحن ، فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوبًا بالسَّلام ،لم يزل عليه حافظٌ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى ؛ وكان من تمام النعمة عليه أن يكون انصرافُهُ من بين يدي ربِّه بسلام يستصحُبُه ، ويدومُ له ، ويبقى معه .
فَتَدَّبر هذا السِّرَّ الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره لكان كافيًا ؛ فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجدُ عندَ أبناء الزمان .
فختمت الصلاة بالتسليم ، وجعل تحليلا لها يخرج به المصلي منها , وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة ، التي هي أصل الخير وأساسه ؛ فشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به الإمام ، وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه بالسلام , ثم شرع ذلك لكل مصلٍّ ، وإن كان منفردًا .
فلا أحسن من هذا التحليل للصلاة , وكما أنه لا أحسن من كون التكبير تحريمًا لها ، فتحريمها تكبير الرب تعالى , الجامع لإثبات كل كمال له ، وتنزيه عن كل نقص وعيب ، وإفراده وتخصيصه بذلك ، وتعظيمه وإجلاله ؛ فالتكبير يتضمن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيئاتها , فالصلاة من أولها إلى آخرها تفصيل لمضمون ( الله أكبر ) ؛ وأيُّ تحريم أحسن من هذا التحريم ، المتضمن للإخلاص والتوحيد ؛ وهذا التحليل المتضمن الإحسان إلى إخوانه المؤمنين ، فافتتحت بالإخلاص ، وختمت بالإحسان .
فالصلاة وضعت على هذا النحو ، وهذا الترتيب ، لا يمكن أن يحصل ما ذكرناه منمقاصدها - التي هي جزء يسير من قدرها وحقيقتها - إلا مع الإكمال والإتمام والتمهل الذي كان رسول الله e يفعله , ومحال حصول ما ذكرناه مع النقر والتخفيف الذي يرجع إلى شهوة الإمام والمأمومين , ومن أراد أن يصلي هذه الصلاة الخاصة فلا بد له من مزيد تطويل ( [2] ) .
هذا ، والله المسؤول أن يجعلنا من أهل الإيمان الذين لهم حظ وافر من قرة العين في الصلاة .. إنه ولي ذلك والقادر عليه .

[1] - رواه أحمد : 1 / 123 ، 129 ، وأبو داود ( 61 ، 618 ) ، والترمذي ( 3 ) ، وأبن ماجة ( 275 ) عن علي t .

[2]- انظر ( الصلاة ) لابن القيم : من ص 141 – 154 بشيء من الاختصار والتصرف والإضافة .
 
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

تلك الصلاة التي تحفها تلكم الآداب ، يكون أثرها دائم مع صاحبها ، فتأمره وتنهاه ؛ قال الله Y : ] وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[ [ العنكبوت : 45 ] ، هذا خَبَرٌ مِن الله U مؤكَّد بـ ( إِنَّ ) ؛ قال ابن كثير – رحمه الله : يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين : الأول : على ترك الفواحش والمنكرات ، أي : مواظبتها تحمل على ترك ذلك ؛ وروى البزار عن جابر t قال : قَالَ رَجُلٌ للنَّبِيِّ e : إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ ! قال : " سَيَنْهَاهُ مَا يَقُولُ " ؛ ورواه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ ! قَالَ: " إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا يَقُولُ " ( [1] ) ؛ الثاني : وتشتمل الصلاة أيضًا على ذكر الله تعالى ، وهو المطلوب الأكبر ، ولهذا قال تعالى : ] وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [ أي : أعظم من الأول . انتهى المراد منه .
يوضح ذلك شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية – رحمه الله – فيقول : الْحَسَنَاتُ تُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ؛ وَالثَّانِيَةُ : مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ وَالْمَضَرَّةِ ؛ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَاتُ تُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَالْمَضَرَّةِ . وَالثَّانِيَةُ : مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصَّدِّ عَنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ؛ مِثَالُ ذَلِكَقَوْلهتَعَالَى: ] إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [ ، فَبَيَّنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، فَقَوْلُهُ : ] إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [ بَيَانٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا قَامَ بِهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ - لَا سِيَّمَا عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ - أَكْسَبَهَا ذَلِكَ صِبْغَةً صَالِحَةً تَنْهَاهَا عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، كَمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [ ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ ، مَا يُغْنِيهِ عَنْ اللَّذَّاتِ الْمَكْرُوهَةِ ، وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالْمَهَابَةِ ؛ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ نَاهٍ يَنْهَاهُ . وَقَوْلُهُ : ] وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [ بَيَانٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ، أَيْ : ذِكْرُ اللَّهِ الَّذِي فِيهَا أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا نَاهِيَةً عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ ، كَمَا قَالَ : ] إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ ، وَالْأَوَّلُ تَابِعٌ ، فَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْمَصْلَحَةُ أَعْظَمُ مِنْ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ الْفَاسِقُ يَئُول أَمْرُهُ إلَى الرَّحْمَةِ ، وَالْمُنَافِقُ الْمُتَعَبِّدُ أَمْرُهُ صَائِرٌ إلَى الشَّقَاءِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ جِمَاعُ السَّعَادَةِ وَأَصْلُهَا ( [2] ) .
قال أبو العالية : إن الصلاة فيها ثلاث خلال ، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذا الخلال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله ؛ فالإخلاص يأمره بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه ( [3] ) .
فيتضح من ذلك أن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي تلكم الصلاة التي قدمنا تفصيلًا لها ، والتي تكون لصاحبها قرة عين ؛ ولذلك روى ابن جرير والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود t : من لم تأمره صلاته بالمعروف ، وتنهه عن المنكر ، لم يزدد من الله إلا بعدًا ( [4] ) .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، واجعل اللهم الصلاة قرة عين لنا ؛ آمين ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .

[1] - حديث جابر رواه البزار ( 721 ، 722 – كشف ) وقال الهيثمي في المجمع : 2 / 258 : رجاله ثقات ؛ وحديث أبي هريرة رواه أحمد : 2 / 447 ، والبزار ( 720 ) ، والطحاوي في مشكل الآثار ( 2056 ) ، وابن حبان ( 2560 ) ، وإسناده صحيح .

[2]- مجموع الفتاوى : 20 / 192 ، 193) .

[3] - رواه ابن أبي حاتم : 9 / 3066 .

[4]- رواه ابن جرير : 20 / 99 ، والطبراني في الكبير : 9 / 103 ( 8542 ) ، والبيهقي في الشعب ( 3264 ) ، وإسناده صحيح .
 
عودة
أعلى