الصدقة المتعثرة

عمر المقبل

New member
إنضم
06/07/2003
المشاركات
805
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :
فحينما يقلب المسلم سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينقضي عجبه من جوانب العظمة والكمال في شخصيته العظيمة صلوات ربي وسلامه عليه.
ومن جوانب تلك العظمة ذلك التوازن، والتكامل في أحواله كلها، واستعماله لكل وسائل تأليف القلوب وفي جميع الظروف.
ومن أكبر تلك الوسائل التي استعملها -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، هي تلكم الحركة التي لا تكلف شيئاً، ولا تستغرق أكثر من لمحة بصر، تنطلق من الشفتين، لتصل إلى القلوب، عبر بوابة العين، فلا تسل عن أثرها في سلب العقول، وذهاب الأحزان، وتصفية النفوس، وكسر الحواجز مع بني الإنسان !
تلكم هي الصدقة التي كانت تجري على شفتيه الطاهرتين : إنها الابتسامة !
الابتسامة التي أثبتها القرآن الكريم عن نبي من أنبيائه، وهو سليمان –عليه السلام- حينما قالت النملة ما قالت!
إنها الابتسامة التي لم تكن تفارق محيا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في جميع أحواله، فلقد كان يتبسم حينما يلاقي أصحابه، ويتبسم في مقام إن كتم الإنسان فيه غيظه فهو ممدوح فكيف به إذا تبسم ؟! وإن وقع من بعضهم خطأ يستحق التأديب، بل ويبتسم -صلى الله عليه وسلم- حتى في مقام القضاء !
فهذا جرير-رضي الله عنه- يقول ـ كما في الصحيحين ـ : ما حَجَبني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- منذُ أسملتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّم في وجهي.
ويأتي إليه الأعرابي بكل جفاء وغلظة، ويجذبه جذبة أثرت في صفحة عنقه، ويقول : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
ومع شدة عتابه -صلى الله عليه وسلم- للذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لم تغب هذه الابتسامة عنه وهو يسمع منهم، يقول كعب -رضي الله عنه- بعد أن ذكر اعتذار المنافقين وحلفهم الكاذب ـ : فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ « تَعَالَ » . فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ .
ويسمع أصحابه يتحدثون في أمور الجاهلية ـ وهم في المسجد ـ فيمر بهم ويبتسم !
بل لم تنطفئ هذه الابتسامة عن محياه الشريف، وثغره الطاهر حتى في آخر لحظات حياته، وهو يودع الدنيا -صلى الله عليه وسلم- يقول أنس ـ كما في الصحيحين ـ : بينما الْمُسْلِمُونَ في صَلاَةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّى لَهُمْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِى صُفُوفِ الصَّلاَةِ . ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ!
ولهذا لم يكن عجيباً أن يملك قلوب أصحابه، وزوجاته، ومن لقيه من الناس!
لقد شقّ النبي -صلى الله عليه وسلم- طريقه إلى القلوب بالابتسامة، فأذاب جليدها، وبث الأمل فيها، وأزال الوحشة منها، بل سنّ لأمته وشرع لها هذا الخلق الجميل، وجعله من ميادين التنافس في الخير، فقال: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
ومع وضوح هذا الهدي النبوي ونصاعته، إلا أنك ترى بعض الناس يجلب إلى نفسه وإلى أهل بيته ومن حوله الشقاء بحبس هذه الابتسامة في فمه ونفسه.
إنك تشعر أن بعض الناس ـ من شدة عبوسه وتقطيبه ـ وكأنه يظن أن أسنانه عورةٌ من قلة ما يتبسم!
فأين هؤلاء عن هذا الهدي النبوي العظيم !
نعم .. قد تمر بالإنسان ساعات يحزن فيها، أو يكون مشغول البال، أو تمر به ظروف خاصة تجعله مهتماً، لكن أن تكون الغالب على حياة الإنسان التكشير، والانقباض، وحبس هذه الصدقة العظيمة، فهذا ـ والله ـ من الشقاء المعجّل لصاحبه ـ عياذاً بالله ـ .
إن بعض الناس حينما يتحدث عن الابتسامة يربط ذلك ببعض الآثار النفسية الجيدة على المبتسم، وهذا حسن، وهو قدر يشترك فيه بنو آدم، إلا أن المسلم يحدوه في ذلك أمرٌ آخر، وهو التأسي به -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به،وستأتيه الآثار النفسية والصحية التي تذكر في هذا المجال .
لقد أدرك العقلاء من الكفار والمسلمين أهمية هذه الابتسامة، وعظيم أثرها في الحياة !
يقول ديل كارنيجي ـ في كتابه المشهور (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس):
"إن قسمات الوجه خير معبر عن مشاعر صاحبه، فالوجه الصبوح ذو الابتسامة الطبيعية الصادقة خير وسيلة لكسب الصداقة والتعاون مع الآخرين، إنها أفضل من منحة يقدمها الرجل، ومن أرطال كثيرة من المساحيق على وجه المرأة، فهي رمز المحبة الخالصة والوداد الصافي.
ويقول : لقد طلبت من تلاميذي أن يبتسم كل منهم لشخص معين كل يوم في أسبوع واحد.
فجاءه أحد التلاميذ من التجار، وقال له: اخترت زوجتي للابتسامة، ولم تكن تعرفها مني قط، فكانت النتيجة أنني اكتشفت سعادة جديدة لم أذق مثلها طوال الأعوام الأخيرة ! فحفزني ذلك إلى الابتسام لكل من يتصل بي، فصار الناس يبادلونني التحية ويسارعون إلى خدمتي وشعرت بأن الحياة صارت أكثر إشراقاً وأيسر منالاً، وقد زادت أرباحي الحقيقية بفضل تلك الابتسامة ... إلى أن قال :
تذكر أن الابتسامة لا تكلف شيئاً، ولكنها تعود بخير كثير، وهي لا تفقر من يمنحها مع أنها تغني آخذيها، ولا تنس أنها لا تستغرق لحظة، ولكنها تبقى ذكرى حلوة إلى آخر العمر. وليس أحد فقير لا يملكها، ولا أحد غني مستغن عنها) انتهى كلامه.
كم نحتاج إلى إشاعة هذا الهدي النبوي الشريف، والتعبد لله به : في ذواتنا، وبيوتنا، مع أزواجنا، وأولادنا، وزملائنا في العمل، فلن نخسر شيئاً ! بل إننا سنخسر خيراً كثيراً ـ دينياً ودنيوياً ـ حينما نحبس هذه الصدقة عن الخروج إلى واقعنا المليء بضغوط الحياة.
إن التجارب تثبت الأثر الحسن والفعّال لهذه الابتسامة حينما تسبق تصحيح الخطأ، وإنكار المنكر .
جاء في ترجمة الموفق ابن قدامة رحمه الله ـ صاحب كتاب "المغني" ـ أنه كان لا يناظر أحداً إلا وهو يتبسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه.
وبعد : فإن العابس لا يؤذي إلا نفسه، وهو ـ بعبوسه ـ يحرمها من الاستمتاع بهذه الحياة، بينما ترى صاحب الابتسامة دائماً في ربح وفرح.

هذه المقالة نشرت في هذا الموقع
 
السلام عليكم و رحمة الله

جزاك الله خيرا ، و بارك الله فيك على هذا الكلام الطيب الذي تنشرح له النفوس ، سدد الله خطاك و وفقك لكل خير
 
شكر الله لكم وبارك فيكم يا أبا عبدالله على هذا المقال الماتع ، والتنبيه اللطيف على هذا الخلق النبوي الكريم السهل، وقد ذكرتني مقالتك هذه بقصيدة للشاعر أبي ماضي ، يخاطب فيها صاحبه المكتئب ويدعوه للابتسامة مهما احلولكت الحياة في ناظريه :


[poem=font="Traditional Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/14.gif" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قـال السمــــــاءُ كئيبةٌ ! وتجهما = قلتُ: ابتسمْ يكفي التـجهمُ في السمــا !
قال: الصبا ولَّى! فقلتُ له: ابتــســم = لن يرجع الأسفُ الصبا المتـصـرما !!
أيكون غيركَ مجرما، و تـبـيـت فـي = وجلٍ كأَنَّكَ أنت صرتَ المـجــرما ؟
قال: العدى حولي علت صيحـاتـهــم = أَأُسر و الأعداء حولي في الحمــى ؟
قلت: ابتسـم, لم يطـلبـوك بذمـهــم = لو لم تكن منهم أجلَّ و أعـظمـــا !
قال: المواســم قد بـدت أعـلامـهـا = و تعرضت لي في الملابس و الدمــى
و عـلـيَّ للأحـبـــاب فـرضٌ لازمٌ = لكنْ كفي ليس تملك درهـمــــــا
قلت: ابتسم, يكـفـيك أنــك لم تــزل = حياً, و لست من الأحبــــة معدمـا!
قال: الليالي جرَّعـتـنـي عَـلّـقـمــاً = قلت: ابتسم و لئن جرعتَ العلـقـمــا
فــلـعـلَّ غـيركَ إن رآك مرنـمـا = طرح الكآبــة جانـبا و تـرنـمــا
أتُراك تـغـنـم بالـتـبـرم درهـمـا = أم أنت تخـسـر بالـبـشاشـة مغنما ؟
يا صاح, لا خـطـرٌ على شـفـتيك أن = تـتـثـلـمـا, و الوجه أن يـتـحطـما
فاضحك فإن الشهب تضحك و الدجــى= مـتـلاطم, و لـذا نحـب الأنجـمـا !
قال: البشاشــة ليس تسعـد كـائـنـا = يأتي إلى الدنـيا و يـذهـب مرغـمـا
قلت ابتسم مادام بـيـنـك و الـــردى = شـبـر, فإنـك بعـدُ لـن تـتـبـسما[/poem]
 
جزاك الله خيرا

وأود أن أضيف لفتة رائعة ذكرها أحد الأخوة لعل الكثير منا يغفل عنها قال:

الأساتذة والمدرسون يغبطون في هذا الجانب لأن الواحد منهم إذا ابتسم أمام طلابه كتب له صدقات بعدد الطلاب فابتسامة واحدة فيها صدقات كثيرة بفضل الله، فكم من الطلاب نقابل في فصول الدراسة كل يوم. فأين المشمرون ..؟
 
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم.
 
عودة
أعلى