قال الشيخ بكر أبو زيد في " المدخل المفصل" مبينا مجالات الاجتهاد: (الأَحكام تدور في قالبين: الأول: ما كان من كتاب أو سنة أو إِجماع قطعي الثبوت والدلالة، أو معلوماً من الدِّين بالضرورة، كمسائل الاعتقاد وأَركان الإسلام، والحدود، والفضائل، والمقدرات كالمواريث، والكفارات ... ونحو ذلك. فهذه لا مسرح للاجتهاد فيها بإِجماع، وطالما أَنَّها ليست محلاً للاجتهاد فلا يُقال فيها: كل مجتهد مصيب، بل المجتهد فيها مقطوع بخطئه وإثمِه، بل وكفره في مواضع. الثاني: ما سوى ذلك؛ وهو ما كان بنص قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو عكسِهِ، أو طرفاه ظنيان، أو لا نص فيه مطلقاً من الواقعات والمسائل، والأقضيات المستجدة، فهذه محل الاجتهاد في أُطرِ الشريعة، وعلى هذا معظم أَحكام الشريعة؛ فهذا محل الاجتهاد ومجاله).
وقال رحمه الله : ولا يسبق إلى فهمك هنا أَنَّ المراد بالقطعي: " الحديث المتواتر " وبالظني: " حديث الآحاد " على ما دَرَجَ عليه عامة أهل الأصول؛ كلا، ثم كلا، لأنَّهم بهذا يُفرِّقون بين شرعي وشرعي، ويستدلون للتفريق؛ بل في جميع مباحث الأصول، بآحاد الأَدلَّة من مفردات العربية، وأَبيات الأَعراب، فانظر كيف يستدلون على الشرع بالآحاد وينكرون دلالة السنة الآحادية في الشرع في الاعتقاد، أو يجعلونها ظنية الثبوت في الأَحكام؛ فما هذا أريد، ولكن أريد بالظنِّي هنا " ما وقع فيه خلاف له حظ من النظر بين التحسين والتضعيف، أَو الحديث الضعيف ضعف حفظ وما جرى مجرى ذلك.. والله أعلم .
وهناك قالب ثالث: هو مجال لنظر الفقيه، وذلك في فهم النص ومدى انطباقه على الواقعة، ومن جهة ما يرد عليه من إِطلاق أو تقييد، أو ربطه بعلة وتحرير قيامها أو زوالها، وهل النص مما سار فيه النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى العادة أو الجِبلة أو لاَ؟ أو أن النصّ مما قام الدليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم به أو لا؟ إلى غير ذلك من وجوه التفقُه في الأدلَّة، وما ترمي إليه مقاصد الشرع من حفظ المصالح ودرء المفاسد في مصادره الأَصليّة، وقواعده الكليّة، ومصادره التبعيّة: كالاستحسان، والاستصلاح، والعرف، والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع. ونحوها من مسالك التفقُّه المقدَّرة بميزان الشرع الصحيح لا بالهوى والتشهِّي.
ويقول رحمه الله :
تنبيه مهم: لقد أخطا خَطأً فاحشاً من قال بشمول: تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان في القالبين المذكورين، فإِنَّها بالنسبة للأَول ثابتة لا تتغير ولا تتبدَّل. وما علمت في المتقدمين من قال عن هذه القاعدة بشمولها، بل كلامهم عنها يفيد أَنَّها قاعدة فرعية صورية وليست حقيقية، إِذْ يضربون لها المثال بتغير الأَعراف، وهذا محكوم بقواعد العرف والعادة، ومن هنا فهي صورية لا حقيقية، وابن القيم- رحمه الله تعالى- مع جلالة قدره قد توسع بضرب المثال لها بما لا يسلم له- رحمه الله-. وليعلم هنا أن هذه القاعدة مع مسألة البحث هذه " فتح باب الاجتهاد " يستغلهما فقهاء المدرسة العصرانية الذين اعتلّت أَذواقهم، وساورتهم الأَهواء، ومجاراة الأَغراض، فهذا يشيد حججاً لإباحة الربا، وذلك لوقف تنفيذ الحدود ... وهكذا وكلها شبه على أًساس هار مُتَدَاع للسقوط وبأَول معول. فيجب على من ولاَّه الله أَمرَ المسلمين: معالجةُ هذه الأَذواق الفاسدة بتحجيمها، والقضاء عليها، لتسلم الأمَّة من أَمراضها واعتلالها، ورضي الله عن ابن مسعود إِذْ يقول: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأَمر العتيق ".
* وإذْ قَدْ تَمهدت هذه الجمل المهمة في تحرير محل الخلاف مما لا يقبل الخلاف، وأَن أَصل التشريع لا خلاف فيه البتة، وأَن الخلاف الحاصل إِنَّما جاء في بعض الفروعيات من قبل اختلاف " فهوم المجتهدين " لا غير، تعلم الجواب عن السؤال الجاري، وتصويره كالآتي: " مع عقد الِإيمان بكمال الدِّين وشموله، وإحكامه، ومقتضاه: أَن لله سبحانه وتعالى في كل قضيّة حكْماً مَعلُوْما لا يتعدد؛ إِذْ الحق واحد لا يتعدد، لكن نرى مواضع خلاف بين فقهاء الشرع، ونحن نُسَلِّم ونُؤْمِن بالشرع المطهر في مواطن الإجماع ومواضع الخلاف، لكن كيف ندفع سؤال من يرد على خاطره التساؤل في مواطن الاختلاف من جهتين: * الأُولى: من جهة أَن الدين المنزَّل من عند الله لا يختلف ولا تضطرب أحكامه، فكيف حصل هذا الاختلاف المتناقض في عين واحدة، يُقال فيها: حلال، وحَرام، في آن واحد؟ * الثانية: من جهة المجتهدين، كيف يقول المجتهد: هذا حلال، ويقول الآخر هذا حرام، والعين واحدة؟ وأَن هذا يؤدِّي إلى القدح في ثقة المجتهدين، فكيف الجواب عن السؤال؟؟ *الجواب: قال الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54] قال ابن أَبي يعلى، المتوفى سنة (526 هـ) في ترجمة ابن أَبي حاتم الرازي: عبد الرحمن بن محمد بن إِدريس الرازي، المتوفى سنة (327 هـ) : " قرأت في كتاب الرد على الجهمية: حدثنا صالح بن أَحمد بن حنبل قال: سمعت أَبي- رضي الله عنه- يقول: قال الله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فأخبر بالخلق، ثم قال: والأمر، فأَخبر أن الأَمر غير الخلق يقول. قد مَيَّزَ الله بين الخلق والأمر، سَمى هذا أمرا، وسَمَّى هذا خلقاً، وفَرَّقَ بينهما، فقال. أَلا له الخلق والأمر، وكل مخلوق داخل في الخلق. وبقي الأمر والأمر ليس بمخلوق قال الله تعالى: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ، فأَنزل كلامه غير مخلوق " انتهى.
وهذا الفهم الثاقب من الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى- ومن أَحمد بن سنان الواسطي- رحمه الله تعالى- في رواية ابن أَبي حاتم عنه- رحمهما الله تعالى- لتفسير قول الله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) هو من التفسير السهل الممتنع، وقد أَزال إِشكالاً يُثار في سبب اختلاف علماء الأَمصار مع عقد الِإيمان على كمال الشرع المطهر وإحكام أَحكامه ... وقد طالت في الجواب عنه مطارحات العلماء لتحصيل الجواب، على أن ذلك الاختلاف غير قادح في الدين، ولا في علماء الشرع المجتهدين المختلفين، بدءاً من سؤال أَبي حيان التوحيدي، المتوفى سنة (414 هـ) والجواب عنه لمسكويه، المتوفى سنة (421 هـ) كما في كتابهما: " الهوامل والشوامل ": (ص: 328- 332) . ومروراً بكلمات العلماء الكاشفة لوجه الحق في الجواب. منهم: ابن قتيبة في: " تأويل مشكل القرآن ": (ص: 40- 42) ، والداني في: (الجامع. ص 47 " وابن الجزري في: " النشر 1/ 49 " وأَبو حيان في: " البحر المحيط: 3/ 355 " والشاطبي في: " الموافقات: 3/ 85- 87 " وابن تيمية في: " الفتاوى: 13/ 391- 392 " و " اقتضاء الصراط المستقيم: ص 37- 39 " و " رفع الملام عن الأَئمة الأعلام " وغيرها له. والسيوطي في كتابه: " جزيل المواهب في اختلاف المذاهب " والشوكاني في: " الأَجوبة الشوكانية على الأسئلة الحفظية ". وابن الوزير في: " العواصم: 3/ 28 " والمعلمي في: " الأَنوار الكاشفة: ص 34 " وبدر الدين الحسيني في: " التعليم والِإرشاد: ص 136 - 140 " وما حررته في: " التقنين والِإلزام " من كتاب: " فقه النوازل ". ولم يعرج واحد منهم على حل الِإشكال بهذه الآية الكريمة، وتفسير الإمام أَحمد لها، الذي مفاده: أَن الله- سبحانه- قد ميَز بين الخلق والأَمر وهذا دليل تغايرهما، وإثبات الفرق بين المخلوق وغير المخلوق؟ ولهذا صارت هذه الآية الكريمة من أَشد الأدلة القرآنية على الجهمية في دعواهم الباطلة بخلق القرآن، والخلق قد تم في ستة أَيام، ومع ذلك مازال الانتفاع يتجدد، واكتشاف المخلوقين لمخلوقات الله يَحْصُل شيئاً فشيئاَ، وكله خلق الله منذ الأَزل، وكذلك " الأَمر " أَمر الله، والدين دينه، والشرع شرعه، الذي تنزل على قلب نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ديناَ قيِّماً كاملاً تماماً على الذي أنزل، لينفذ في خلقه أَمره في علاقتهم مع خالقهم، وفي علاقتهم مع خلقه، وقرنَ سبحانه خبر خلقه بأَمره؛ لحملهم على العمل بأَمره- أَي: دينه وشرعه- في شؤون دنياهم وأخراهم، وكما أَن خلقه لا يخرج عنه شيء لغيره سبحانه، فكذلك أَمره، وتشريعه: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) سبحانه، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وسمانا مسلمين، وجعلَ من أصول الإسلام ومعاقد الإيمان: ملازمة الإسلام حتى الممات، وإسلامَ الوجه لله على الإخلاص والِإحسان والرضا والتسليم بشرع الله وحكمه، وأَن الله- سبحانه- قد أَكملَ الدِّين وأَتمَّ النعمة ببعثة خاتم الأَنبياء والمرسلين، وأَن هذه الشريعة الإسلامية المباركة هي روح العالم، ونوره، وحياته، والدنيا مظلمة ملعونة إلَّا ما طلع عليه نور هذه الشريعة الميمونة، وأَن من معاقد الِإيمان: التسليم بنسخها لجميع الشرائع، وصلاحيتها لكل زمان وجنس ومكان، وأَنها وافية شاملة لجميع المستجدات والجزئيات، لا يعزب عن حكم الله فيها ذرة في الأَرض ولا في السموات.