الشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ
قد كانت الرسل - عليهم السلام – قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم يبشرون به بالعهد الذي أخذه الله تعالى عليهم ، قال عز وجل : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } ( آل عمران : 81 ) ؛ حتى كان آخرهم عيسى صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } ( الصف : 6 ) ؛ وهذا كان معروفًا عند أهل الكتاب في زمانه صلى الله عليه وسلم ؛ بل كان يهود يستفتحون به على الأوس والخزرج قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهودَ كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك ، وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته ؛ فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم . فأنزل الله في ذلك من قولهم : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } ( البقرة : 89 ) ( 1 ) ؛ وأخرج أحمد والحاكم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ رضي الله عنه - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ - قَالَ : كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، قَالَ : فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ  بِيَسِيرٍ فَوَقَفَ عَلَى مَجْلِسِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ - قَالَ سَلَمَةُ : وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنًّا عَلَيَّ بُرْدَةٌ مُضْطَجِعًا فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي - فَذَكَرَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ ؛ فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ فَقَالُوا لَهُ : وَيْحَكَ يَا فُلَانُ ! تَرَى هَذَا كَائِنًا : إِنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ ، لَوَدَّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أَعْظَمَ تَنُّورٍ فِي الدُّنْيَا ، يُحَمُّونَهُ ثُمَّ يُدْخِلُونَهُ إِيَّاهُ فَيُطْبَقُ بِهِ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا ؛ قَالُوا لَهُ : وَيْحَكَ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَبِيٌّ يُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ ، قَالُوا : وَمَتَى تَرَاهُ ؟ قَالَ : فَنَظَرَ إِلَيَّ - وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا - فَقَالَ : إِنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ ؛ قَالَ سَلَمَةُ : فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا ؛ فَقُلْنَا : وَيْلَكَ يَا فُلَانُ ! أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ ؟ قَالَ : بَلَى وَلَيْسَ بِهِ ( 2 ) .
وقد آمن به من علماء يهود عبد الله بن سلام رضي الله عنه بعد أن هاجر صلى الله عليه وسلم ؛ وقصة إسلامه معروفة مشهورة ، وأسلم غيره من اليهود أيضًا ؛ وشهد له بعض علماء يهود وإن لم يؤمن .
وشهد له صلى الله عليه وسلم علماء النصارى في عصره وآمن منهم النجاشي وعدي بن حاتم وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين .
وشهد له بالنبوة أيضا بعض عظماء النصارى ، وإن لم يؤمن ؛ وإليك شهادة هرقل عظيم الروم كما رواها البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ - فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ ؛ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَقُلْتُ : أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا ؛ فَقَالَ : أَدْنُوهُ مِنِّي ، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ ؛ فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ : كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ ، قَالَ : فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ لَا ، قَالَ : فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَقُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَالَ : أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ : بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ يَغْدِرُ ؟ قُلْتُ : لَا ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا ، قَالَ : وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ! قَالَ : فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ، قُلْتُ : الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ ، قَالَ : مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلْتُ : يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ .
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ : قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ؛ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ : هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ؛ فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ ، لَقُلْتُ : رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ : هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، قُلْتُ : فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، قُلْتُ : رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ ، وَسَأَلْتُكَ : هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ : أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ : أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ ، وَسَأَلْتُكَ : هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ : بِمَا يَأْمُرُكُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ ؛ فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ؛ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ .
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ ، فَإِذَا فِيهِ : " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ .. سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى ؛ أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ؛ أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ ؛ وَ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } " .
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ ، وَأُخْرِجْنَا ؛ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ .
وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْل سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ ، فَقَالَ بَعْضُ : بَطَارِقَتِهِ قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ ، قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ : وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ : إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ قَالُوا : لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ : اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا ؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ ، فَقَالَ : هُمْ يَخْتَتِنُونَ ؛ فَقَالَ هِرَقْلُ : هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ .
ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ نَبِيٌّ ؛ فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ ؟ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ ؛ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ ؛ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ ، قَالَ : رُدُّوهُمْ عَلَيَّ ؛ وَقَالَ : إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ ، فَقَدْ رَأَيْتُ ؛ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ ( 3 ) .
فهكذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وعلم ببعثته علماء اليهود والنصارى ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من صد عنه ... ثم انتشر دين الله تعالى في ربوع الأرض ، وبقي من لم يؤمن بهذا الدين العظيم يحاول الطعن فيه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أحكامه .. ولكن أنى يضر السحابَ نبحُ الكلابِ ؟
كناطح صخرة يومًا ليفْلِقَهَا .... فلم يُضِرْهَا وأوهى قرنه الوعل​
وللحديث صلة .
________
- رواه ابن جرير : 1 / 325 ، وابن أبي حاتم ( 904 ) .
- أحمد : 3 / 467 ، والحاكم : 3 / 417 ، 418 وصححه ووافقه الذهبي .
- رواه البخاري ( 7 ) ورواه في مواضع أخر من كتابه ، ورواه مسلم ( 1773 ) دون قصة ابن الناطور .
 
ويتتابع دخول الناس في دين الله أفواجًا ؛ ويوقن أهل العقول بأنه لا يمكن أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم إلا رسولا ، ويشهد له عبر القرون بذلك الداني والقاصي من المنصفين ردا على الشبهات التي تثار حوله  لتنال منه ، وهيهات هيهات ؛ وأنا أنقل هنا بعض هذه الشهادات ( 1 ) .
قال كارلايل ( 2 ) : هل رأيتم قط .. أن رجلاً كاذبًا يستطيع أن يوجد دينًا عجبًا.. إنه لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب ! فهو إذا لم يكن عليمًا بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه ببيت ، وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد ، وليس جديرًا أن يبقى على دعائمه اثنى عشر قرنًا يسكنه مائتا مليون من الأنفس ، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن ؛ وإني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته .. كذب ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيّلوه حقًا .. ومحنة أن ينخدع الناس شعوبًا وأممًا بهذه الأضاليل ( 3 ) .
وقال لورافيشيا فاغليري : حاول أقوى أعداء الإسلام ، وقد أعماهم الحقد ، أن يرموا نبي الله ببعض التهم المفتراة ؛ لقد نسوا أن محمدًا كان قبل أن يستهل رسالته موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته ؛ ومن عجب أن هؤلاء الناس لا يجشمون أنفسهم عناء التساؤل كيف جاز أن يقوى محمد على تهديد الكاذبين والمرائين، في بعض آيات القرآن اللاسعة بنار الجحيم الأبدية ، لو كان هو قبل ذلك رجلاً كاذبًا ؟ كيف جرؤ على التبشير ، على الرغم من إهانات مواطنيه ، إذا لم يكن ثمة قوى داخلية تحثه، وهو الرجل ذو الفطرة البسيطة ، حثًا موصولاً ؟ كيف استطاع أن يستهل صراعًا كان يبدو يائسًا ؟ كيف وفق إلى أن يواصل هذا الصراع أكثر من عشر سنوات في مكة ، في نجاح قليل جدًا ، وفي أحزان لا تحصى ، إذا لم يكن مؤمنًا إيمانًا عميقًا بصدق رسالته ؟ كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد الكبير من المسلمين النبلاء والأذكياء ، وأن يؤازروه ويدخلوا في الدين الجديد ويشدوا أنفسهم بالتالي إلى مجتمع مؤلف في كثرته من الأرقاء والعتقاء والفقراء المعدمين إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة الصدق ؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك، فحتى بين الغربيين يكاد ينعقد الإجماع على أن صدق محمد كان عميقًا وأكيدًا ( 4 ).
وقال جوستاف لوبون : إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ ، وقد أخذ علماء الغرب ينصفون محمدًا مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله ( 5 ).
وقال الدكتور مايكل هارث ( Michael Hart ) : إن اختياري لمحمد ليكون رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات ، ربما أدهش كثيرًا من القراء ؛ ولكن في اعتقادي أن محمدًا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي ( 6 ) .
وقال مونتغمري وات : كلما فكرنا في تاريخ محمد وتاريخ أوائل الإسلام ، تملكنا الذهول أمام عظمة مثل هذا العمل ؛ ولا شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصًا للنجاح لم تتحها لسوى القليل من الرجال غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تمامًا . فلو لم يكن نبيًا ورجل دولة وإدارة ، ولو لم يضع ثقته بالله ويقتنع بشكل ثابت أن الله أرسله ، لما كتب فصلاً مهمًا في تاريخ الإنسانية ؛ ولي أمل أن هذه الدراسة عن حياة محمد يمكنها أن تساعد على إثارة الاهتمام من جديد برجل هو أعظم رجال أبناء آدم ( 7 ) .
وقال جاك ريسلر : كان لزامًا على محمد أن يبرز - في أقصر وقت ممكن - تفوُّق الشعب العربي عندما أنعم الله عليه بدين سامٍ في بساطته ووضوحه ، وكذلك بمذهبه الصارم في التوحيد في مواجهة التردد الدائم للعقائد الدينية . وإذا ما عرفنا أن هذا العمل العظيم أدرك وحقق في أقصر أجل أعظم أمل لحياة إنسانية ، فإنه يجب أن نعترف أن محمدًا يظل في عداد أعظم الرجال الذين شرف بهم تـاريخ الشعوب والأديان ( 8 ).
وقال د نظمي لوقا في كتابه ( محمد الرسالة والرسول ) : ماذا بقي من مزعم لزاعم ؟ إيمان امتحنه البلاء طويلاً قبل أن يفاء عليه بالنصر ، وما كان النصر متوقعًا أو شبه متوقع لذلك الداعي إلى الله في عاصمة الأوثان والأزلام .. ونزاهة ترتفع فوق المنافع ، وسمو يتعفف عن بهارج الحياة ، وسماحة لا يداخلها زهو أو استطالة بسلطان مطاع ؛ لم يفد [ أي يستفيد ] ولم يورث آله ، ولم يجعل لذريته وعشيرته ميزة من ميزات الدنيا ونعيمها وسلطانها ؛ وألغى ما كان لقبيلته من تقدم على الناس في الجاهلية حتى جعل العبدان والأحابيش سواسية وملوك قريش .. لم يمكن لنفسه ولا لذويه ، وكانت لذويه - بحكم الجاهلية - صدارة غير مدفوعة ، فسوّى ذلك كله بالأرض ؛ أي قالة بعد هذا تنهض على قدمين لتطاول هذا المجد الشاهق أو تدافع هذا الصدق الصادق ؟
لا خيرة في الأمر ، ما نطق هذا الرسول عن الهوى .. وما ضلَّ وما غوى .. وما صدق بشرٌ إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين ( 9 ).
ولو أردنا استيعاب تلكم الكلمات المنصفة الشاهدة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وسمو رسالته وعظيم شريعته ، لضاق بنا المقام ، ولخرج عن حد المقصود منه ( 10 ) .
شهد الأنام بفضله حتى العدا ... والفضل ما شهدت به الأعداء
_______________________
1 - إيرادنا بعض كلمات منصفة لبعض المستشرقين ، لا يعني أنا نسلم لهم بكل ما يقولونه ، بل نأخذ منه ما وافق الحق ، ونرد ما خالفه ، وقد يكون له في ما ذهب إليه عذر ، وقد لا يكون .
2 - توماس كارلايل ( 1795 – 1881 ) Th. Carlyle الكاتب الإنجليزي المعروف. من آثاره ( الأبطال ) وقد عقد فيه فصلاً رائعًا عن النبي  .
3 - الأبطال ص 43 .
4 - قصة الحضارة : 13 / 33 .
5 - ( حضارة العرب ) جوستاف لوبون – ترجمة عادل زعيتر – دار إحياء الكتب العربية – القاهرة – طبعة ثالثة 1956 م ، ص 116 .
6 - مايكل هارث Michael Hart ؛ أمريكي، حصل على عدة شهادات في العلوم وعلى الدكتوراه في الفلك من جامعة برنستون ، عام 1972، عمل في مراكز الأبحاث والمراصد، وهو أحد العلماء المعتمدين في الفيزياء التطبيقية. وانظر دراسة في المائة الأوائل ص 19 .
7 - انظر محمد في مكة ص 512 .
8 - الحضارة العربية ص37 .
9 - انظر محمد الرسالة والرسول ص 183 : 186 ، و د ( نظمي لوقا ) نصراني من مصر .
10 - من أراد المزيد من أقوال المنصفين من كتاب الغرب فلينظر مقال ( البعثة المحمدية وأقوال جمهرة من العلماء والمؤرخين الأوربيين في النبي  المنصف منهم والمغرض ) لأمير البيان شكيب أرسلان ، والمضمن في كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ) من ص 31 : 42 .
 
عودة
أعلى