الشرح المختصر على موطأة الفصيح - الحلقة 17

أبو مالك العوضي

فريق إشراف الملتقى المفتوح
إنضم
12/08/2006
المشاركات
737
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
الشرح المختصر على موطأة الفصيح لابن المرحل
[الحلقة 17]

نستكمل بعون الله ما سبق من الشرح على هذه الروابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir32461/

[بَابُ فُعِلَ بِضَمِّ الْفَاءِ]

المقصود من هذا الباب بيان الأفعال التي وردت عن العرب بصيغة المبني للمجهول، ولا يقصد ثعلب ما ورد على صيغة (فُعِل) بخصوصها؛ لأنه ذكر صيغا أخرى من باب المبني للمجهول؛ مثل (أُفْعِلَ) و(استُفْعِل) وغيرها.
وطالب العلم الذي حصَّل مبادئ (علم الصرف) من قبل، لن يجد صعوبةً في معرفة جميع تصاريف الأفعال في هذا الباب؛ لأنها كلها جارية على القياس، وهذه نماذج منها:
- فُعِلَ يُفْعَل فهو مَفعول: مثل كُسِر يُكسَر فهو مَكسور
- أُفْعِلَ يُفْعَل فهو مُفْعَل: مثل أُكرِم يُكرَم فهو مُكرَم
- افْتُعِلَ يُفتَعَلُ فهو مُفتَعَل: مثل امتُحِن يُمتحَن فهو مُمتحَن
- استُفعِلَ يُستفعَلُ فهو مُستَفعَل: مثل استُخرِج يُستخرَج فهو مُستخرَج


[175- وَقَدْ عُنِيتُ بِكَذَا شُغِلْتُ ..... أُعْنَى بِهِ فَعَنْهُ مَا عَدَلْتُ]

لفظ ثعلب في الفصيح (عُنِيتُ بحاجتك) فغيرها الناظمُ ليستقيم له الوزن، وليكون أعم.
تقول (عُنِيَ فلانٌ بالشيء) بضم العين وكسر النون؛ كما تقول (قُتِلَ) و(ضُرِبَ)، فهو فعل مبني للمجهول، ويقولون أيضا (مبني للمفعول) أو (مبني لما لم يُسَمَّ فاعلُه).
والجادة في كلام العرب أن الفعل المبني للمجهول لا بد أن يكون متفرعا عن الفعل المبني للمعلوم؛ فتقول (كَسَرته فكُسِر، وصَنَعتُه فصُنِع، وأَكَلتُه فأُكِل)، إلخ.
ولا يلزم أن يكون من الأفعال المتعدية، بل قد يكون لازما؛ كما تقول: (ذُهِبَ إلى المسجد، ونِيمَ في البيت، وجُلِسَ على الكرسي)، ومنه قوله تعالى: {يُسبَّح له فيها} على قراءة من فتح الباء.
ويرِدُ هنا سؤال: ما دامت صيغةُ المبني للمجهول قياسيةً مطردة في كلام العرب، فلماذا ذكر ثعلب هذه الأفعالَ دون غيرها في هذا الباب؟ والجواب: أنه لا يقصد جميع ما ورد عن العرب مبنيا للمجهول قياسا؛ لأن هذا مطرد لا ينحصر، وإنما يقصد ما استُعمِل بهذه الصيغة على غير القياس من جهة المعنى، بأن يكون بمعنى المبني للمعلوم، وأيضا قد يورد ثعلب بعض الأفعال القياسية المطردة لأمر عارض، وذلك إذا كانت العامة تخطئ فيها أو تستعمل خلاف الأفصح لتمام الفائدة.
وهذا الفعل (عُنِي) عند التأمل ليس من الشواذ؛ لأنك تقول (عَنَاني الشيءُ، وعَنَاني الأمرُ، فعُنِيتُ به) كما تقول (كفاني الشيء، فكُفِيت به)، و(هداني الرجل، فهُدِيت به)، وهكذا.
ويدل على هذا أنهم فسروا (عُنِيتُ) بقولهم (شُغِلتُ) وهو مبني للمجهول قياسا مطردا بلا خلاف، وبهذا التقرير يظهر أنه لا يصح انتقادُ ثعلب على ذكر بعض الأفعال القياسية في هذا الباب.

[176- وَأَنَا مَعْنِيٌّ بِهِ، وَمُولَعُ ..... بِالشَّيْءِ مِنْ أُولِعَ فَهْوَ يُولَعُ]

هذا تمام بيان للفعل السابق بذكر بعض تصاريفه المستعملة في كلام الناس؛ لأن الخطأ (أو خلاف الأفصح) لا يقتصر على الفعل، بل قد يقع في المشتقات أيضا؛ فكما تقول (شُغِلت فأنا مشغول) تقول (عُنِيت فأنا مَعنِيٌّ)، وإنما اشتبه ذلك على العامة لأنه فعلٌ معتل، لكنه يسهلُ فهمُه برَدِّه إلى نظائره؛ كما تقول (رُمِيت فأنا مَرميّ)، و(كُفِيتُ فأنا مَكفيّ)، هذا في الأفعال اليائية، وأما الأفعال الواوية فتقول: (دُعِيتُ فأنا مَدعوّ)، و(بُليتُ فأنا مَبلوّ)، و(تُلِي الكتاب فهو مَتلوّ)، وهكذا.
وهذه قاعدة عامة تستفيد منها في كثير من مسائل العلم وفي معظم العلوم، وهي تفهُّم المسألة وتدبرها بجمع نظائرها وأشباهها وما يقرب منها ويكون منها بسبب، ولذلك تجد العلماء يؤلفون في (الأشباه والنظائر) أو (الوجوه والنظائر) في علم الفقه، وفي علم التفسير، وفي علم النحو، وغير ذلك.
وفي هذا البيت أيضا فعلٌ آخر قريب من معنى (عُني) ويستعمل استعمالَه كذلك، وهو (أُولِعَ بالشيء) بضم الهمزة وكسر اللام، والمضارع: (يُولَع) بضم الياء وفتح اللام، ومعناه (شُغِف)، وبهذا التفسير يتضح أنه جارٍ على القياس أيضا؛ لأنه مبني للمفعول، ولذلك تقول: (أَوْلَعْتُ فلانا بالشيء فأُولِع به) مثل (أَغرَيتُه بالشيء فأُغرِي به).
هذا في الفعل الرباعي، أما الثلاثي فتقول: (ولِع وَلوعًا) بفتح الواو في المصدر شذوذا؛ لأن المصادر في مثل هذا تأتي بضم الأول؛ مثل (خرج خُروجا، وخضع خُضوعا، وقعد قُعودا)، وقد شذ عن هذه القاعدة مصادر قليلة ورد منها في القرآن (قَبول) في قوله تعالى: {فتقبلها ربها بقَبول حسن}، ومنها أيضا (وَزوع)، وأما (الوضوء والطهور والوقود) ففيها خلاف قديم معروف بين العلماء، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله في باب المفتوح أوله من الأسماء.

[177- وَبُهِتَ الْإِنْسَانُ فَهْوَ يُبْهَتُ ..... يَشْخَصُ مِنْ تَعَجُّبٍ وَيَسْكُتُ]

في بعض النسخ (وبهت الرجلُ) وهو الموافق لكلام ثعلب في الفصيح.
تقول (بُهِتَ) بضم الباء وكسر الهاء، ومنه قوله تعالى: {فبهت الذي كفر}، وسبب الشذوذ في هذا الفعل أنه لا يجري على المبني للمعلوم منه؛ لأنك تقول (بَهَتَ) بمعنى كذب أو افترى أو نحو ذلك كما في حديث أبي هريرة عند مسلم (إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه)، والمبني للمجهول من هذا المعنى أن تقول (بُهِتَ فلانٌ) أي افتُرِي عليه، وهذا المعنى مخالف لمعنى الفعل الذي هنا.
ويدل على شذوذه أيضا أن الناظم فسره بفعلين مبنيين للمعلوم بقوله (يَشخَص من تعجب ويَسكت).
ومنه قول أبي صخر الهذلي:
فما هو إلا أن أراها فجاءة .... فأُبْهَت لا عرف لدي ولا نكر

[178- وَوُثِئَتْ يَدُ الْفَتَى فَيَدُهُ ..... مَوْثُوءَةٌ لِأَلَمٍ يَجِدُهُ]

تقول (وُثِئَت اليد) بضم الواو وكسر الثاء، والمضارع (تُوثَأ) بضم التاء وفتح الثاء؛ كما تقول (وُضِع يُوضَع)، و(وُتِر يُوتَر) كما في الحديث (من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه).
هذا من جهة التصريف، وأما المعنى فسيأتي تمامه في البيت الذي بعده.

[179- مِنْ ضَرْبَةٍ يَأْلَمُ مِنْهَا الْعَظْمُ ..... وَقِيلَ بَلْ يُوصَمُ مِنْهَا اللَّحْمُ]

يقول الناظم إن معنى (وثئت اليد) هو أن تصاب بضربة موجعة، لكن اختلف العلماء في تحديد ذلك أو في قدر ما تصل إليه الضربة، فقيل: (يبلغ الوجع إلى العظم من غير أن ينكسر) وقيل: (يصاب منها اللحم دون العظم)، وقوله (يوصم) معناه يألم، أو يعاب من الوَصْمَة.

[180- وَشُغِلَ الْإِنْسَانُ عَنَّا، وَشُهِرْ ..... أَيْ أَمْرُهُ فِي النَّاسِ بَادٍ قَدْ ظَهَرْ]

تقول (شُغِل فلان يُشغَل) ومعناه معروف، وتقول في تفسيره: (انشغل) وهذا من الأدلة على أنه مبني للمفعول قياسا؛ لأن وزن (انفعل) من صيغ المطاوعة؛ كما تقول (كسرته فكُسِر، وانكسر)، و(قطعته فقُطِع، وانقطع)، و(فتحته ففُتِح، وانفتح)، و(فصلته ففُصِل وانفصل)، وهكذا.
وقد سبق ذكرُ هذا الفعل في الباب السابق (باب فعلت بغير ألف) عند قول الناظم:
149- وحزن الأمر وأمرٌ شَغَلَا .... وقد شفى الرحمن هذا الرجلا
وهذا دليل واضح على أن ثعلبا لا يقصد بذكر هذا الفعل في باب فُعِل أنه ملازم لصيغة المبني للمجهول، وإلا لما ذكر المبني للمعلوم فيما سبق.
وقد سبق أيضا ذكر هذا الفعل عرضا عند قول الناظم:
32- وقد ذَهَلت عنك أي شُغِلت .... وقيل قد نسيت أو غفلت
ولعل مراد ثعلب بذكر هذا الفعل (شغل) في هذا الباب أن العرب تتعجب منه على صيغة ما لم يسم فاعله فيقولون: (ما أَشْغَلَه) أي ما أكثر شغله، وهذا شاذ؛ لأن من شروط التعجب أن يكون الفعل المتعجب منه مبنيا للمعلوم؛ كما قال ابن مالك:
وصُغهما من ذي ثلاث صُرفا .... قابلِ فضل تم غيرِ ذي انتفا
وغيرِ ذي وصف يضاهي أشهلا .... وغيرِ سالكٍ سبيلَ فُعِلا

وتقول (شُهِرَ فلانٌ) بضم الشين وكسر الهاء، (يُشْهَر) بضم الياء وفتح الهاء، فهو (مشهور)، وهذا الفعل قياسي؛ لأنك تقول في المبني للمعلوم (شَهَرْتُ فلانا فشُهِر) أي جعلته مشهورا، والمطاوع منه تقول (اشْتَهَر) بفتح التاء والهاء على صيغة الفاعل؛ لأنه فعل مطاوع، ويجوز أيضا أن تقول (اشتُهِر) بالبناء للمفعول سماعا عن العرب؛ لأن الفعل (اشتهر) يستعمل لازما ومتعديا، لكن الأكثر استعمالا في كلام العرب استعماله لازما بمعنى (شُهِر)، وهو أيضا الموافق للقياس؛ لأنه مطاوع (شَهَر).

ووقع في بعض نسخ الفصيح زيادة الفعل (ذُعِرَ)، وهو قياسي؛ لأنك تقول (ذَعَرتُ فلانا أذعَرُه) أي أخفته، وذُعِر يُذعَر فهو مذعور.

[181- وَدَمُ زَيْدٍ طُلَّ أَيْ لَمْ يُقْتَلِ ..... قَاتِلُهُ وَلاَ وُدِيْ بِجَمَلِ]

هذا من المواضع القليلة التي فسرها ثعلب؛ إذ قال كما ورد في بعض النسخ: (وقد طُلَّ دمه فهو مطلول: إذا لم يُدرَك بثأره)، ويحتمل أن يكون ثعلب قد قاله في أثناء قراءة الفصيح عليه فأضافه بعضهم للنسخة؛ لأنه لا يوجد في أكثر النسخ.
وقوله (وُدِيْ) بسكون الياء لضرورة الشعر، وحقه أن يبنى على الفتح لأنه فعل ماض غير متصل بشيء، وهذه الضرورة مستساغة كثيرة في الشعر، لا تستقبح.
وقوله (وُدِي) مشتق من الدية التي عادة تكون بالجِمال كما أشار الناظم، فقوله (بجمل) من باب التمثيل، ومن باب التوضيح كذلك؛ كي لا يقع في الكلام تصحيف.
وتفسير (طُل) بـ(لم يُقتل قاتله) و(لا وُدِي) يدل على أنه فعل قياسي في بنائه للمجهول، ولذلك تقول (طَلَلْتُ دم فلان فطُلَّ) أي أهدرته، وأضعته، ولم أجعل فيه دية، وإنما ذكره ثعلب لأن بعض الناس يقول (طَلَّ دمُه) أو (أُطِل دمه)، والفصيح هو (طُل) كما ذكر.
وقد ورد هذا الفعل في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن دية الجنين غرة عبد أو أمة، فقال ولي المرأة: (كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطَلّ) أي يهدر ولا تكون له دية.
وقال الحارث بن حلزة في معلقته:
ثم خيلٌ من بعد ذاك مع الغَلَّـ ..... ـاق لا رأفةٌ ولا إبقاءُ
ما أصابوا من تَغلَبي فمطلو .......... لٌ عليه إذا أُصِيبَ العفاءُ
أي أن كل من أصابوا من بني تغلب فقد طل دمه، أي أهدر ليس له من ينتصر له، ولا من يأخذ بثأره.

[182- وَمِثْلُهُ أُهْدِرَ، لَكِنْ فُرِّقَا ..... بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْحِ لَمَّا حُقِّقَا]

قوله (ومثله أُهدِر) أي ومثل الفعل السابق (طُل) فكلاهما بمعنى واحد كما سبقت الإشارة.
وقد ذكر ثعلب اسم المفعول (مُهدَر) لأن كتابه موضوع للتعليم، ولم يذكره الناظم لوضوحه.
والعرب عندها كثير من الألفاظ في هذا المعنى؛ لأن القتال كان كثيرا بين القبائل، ومن لوازمه أمرُ الديات وتحصيلها أو إهدارها، ومن هذه الألفاظ (جُبَار) بضم الجيم وفتح الباء المخففة، كما في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم (العجماءُ جبار، والبئرُ جبار، والمعدِنُ جبار، وفي الركاز الخمس)، أي أن ذلك مُهدَر شرعا، ولا تجب الديةُ فيه.
ومن ذلك حديث يعلى بن أمية عند البخاري ومسلم (كان لي أجير فقاتل إنسانا فعض أحدهما إصبع صاحبه فانتزع إصبعه فسقطت ثنيته، فانطلق إلى النبي فأَهْدَرَ ثَنِيَّتَه)
وبعضُ العلماء فرق بين (طُل) و(أهدر) كما سيأتي في البيت الذي بعده.

[183- فَقِيلَ فِي طُلَّ مَقَالٌ وَاحِدُ ..... وَقِيلَ فِي أُهْدِرَ أَمْرٌ زَائِدُ]

القائل هو ابن درستويه كما سيأتي، وقوله (مقال واحد) أي أنه هو المعنى نفسه المذكور سابقا في البيت (181)، وأما (أهدر) ففيه زيادة معنى ستأتي.

[184- فَإِنَّهُ الْمُبَاحُ مِنْ سُلْطَانِ ..... أَوْ غَيْرِهِ فَالْقَتْلُ فِي أَمَانِ]

في بعض النسخ (بأنه) وهو أوضح في المعنى، والمقصود (فإن أهدر تقال في المباح ...) إلخ.
قال ابن درستويه: (إلا أن بين طُل وأُهدِر فرقا؛ وهو أن الإهدار إنما هو الإباحة من سلطان أو غيره لدم إنسان ليقتل بغير مخافة من قود أو دية أو طلب به).
يقصد أن (طُل) تكون بعد حصول القتل بإسقاط الدية، و(أُهدِر) تكون قبل حصوله، فلا يخشى القاتل المطالبة بالدية أو القصاص.


والله تعالى أعلم.
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
 
عودة
أعلى