أبو مالك العوضي
فريق إشراف الملتقى المفتوح
الشرح المختصر على موطأة الفصيح لابن المرحل
[الحلقة 15]
[الحلقة 15]
نستكمل بعون الله ما سبق من الشرح على هذه الروابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir32461/
[151- وَقَدْ نَفَيْتُ رَجُلاً مِنْ بَلَدِهْ ..... طَرَدْتُهُ عَنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهْ]
تقول (نفَى يَنْفِي نَفْيًا) مثل (رمَى يرمِي رَمْيًا)، ويختصر العلماء ما سبق بقولهم (نفَى من باب رمَى)، فقولهم (من باب) معناه أنه مثله في حركة عين الماضي والمضارع، ومثله أيضا في ضبط المصدر، وهذا هو اصطلاح صاحب مختار الصحاح، أما صاحب المصباح المنير فإذا قال (من باب كذا) فهو يقصد الماضي والمضارع فقط، فلينتبه لهذا فهو مهم، وقد نص في المقدمة على أنه إذا ذكر المصدر في التمثيل دخل في الباب وإلا فلا، أي أنه إذا قال (نفى نفيا من باب رمى) فالتصريف حينئذ يشمل المصدر، وإذا قال (نفى من باب رمى) فلا يدخل المصدر فيه.
[152- وَمِثْلُهُ أَنْ تَنْفِيَ النَّفِيَّا ..... وَتَتْرُكَ الطَّيِّبَ وَالنَّقِيَّا]
وفي نسخة (الرَّدِيَّا)، ونص ثعلب في الفصيح (ونفيتُ الرجلَ ورديءَ المَتاعِ أنفيه نفيًا)
ومعنى البيتين واضح، وبقي أن نذكر ما ورد في الكتاب والسنة من هذا الفعل؛ فمن ذلك قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ... أو يُنْفَوا من الأرض}، وفي الحديث (المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد)، والمعنى أنها تخرج الخبيث من الناس كما يخرج الكير ما في الحديد من الخبث، وفي رواية (تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة)، ومنه أيضا (نفي الزاني) ومعناه تغريبه، وفي الحديث (خذوا عني .. البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة).
والفعلان وإن كانا يرجعان إلى معنى واحد؛ إلا أن بينهما فرقا في الاستعمال؛ فقولك (نفيت الرجل) معناه طردته، أما (نفيت الرديء) فمعناه فصلته عن الجيد، وحديث (نفي الزاني) من الأول، وحديث (المدينة تنفي خبثها) من الثاني.
[153- مِنَ الرِّجَالِ وَمِنَ الدَّرَاهِمِ ..... وَالتَّمْرِ وَالطَّعَامِ وَالْبَهَائِمِ]
هذا البيت زيادة إيضاح للبيت السابق؛ لأن كلام ثعلب قد يتوهم منه أن نفي الرديء يقتصر على المتاع، فبين الناظم أنه عام؛ يدخل في الرجال وفي الدراهم والتمر والطعام والبهائم؛ كما في الحديث (المدينة تنفي خبثها) أي من الرجال، وتقول (نفيت رديءَ الدراهم، ودقلَ التمر، وآسنَ الطعام، ومريضَ البهائم).
وقد يُتوهم من كلام الناظم أن النفي خاص بهذه الأشياء، وهو خطأ، بل هو عام في كل شيء، وإنما ذكر الناظم هذه الأشياء لأنها هي المشهورة في الاستعمال عند ذكر هذا الفعل.
[154- وَقَدْ زَوَى عَنِّيَ وَجْهًا قَبَضَهْ ..... يَزْوِيهِ زَيًّا وَيَجُوزُ قَبَّضَهْ]
نص هذا البيت يكاد يطابق كلام ثعلب في الفصيح، دُون ما في آخر البيت (ويجوز قَبَّضه) فهي زيادة من الناظم.
تقول (زوَى يَزوِي زَيًّا) مثل (شوَى يشوِي شَيًّا) و(غوَى يغوِي غَيًّا) و(طوَى يطوِي طَيًّا)، وهو من الأفعال القليلة التي اجتمع فيها حرفا علة، فهو فعل معتل، ويسمى في اصطلاح الصرفيين (لفيف مقرون) لأن حرفي العلة متواليان، ويقابله (اللفيف المفروق) مثل (وعى – وفى – وقى – إلخ) لأن حرفي العلة مفصولان بحرف.
وقد سبق معنا الكلام عن الفعل (غوى) في الحلقة الأولى عند قول الناظم: (وقد غوى الإنسان يغوي يا فتى) إلخ.
والعامة تقول (زوَّى فلان بين عينيه) بتشديد الواو، وهي لغة؛ لكن الأفصح ما ذكره ثعلب (زوَى) بتخفيف الواو.
وفي بعض نسخ الفصيح ذكر شاهد من قول الأعشى على هذا الفعل، وهو قوله:
يزيد يغض الطرف عني كأنما ...... زوَى بين عينيه عليَّ المحاجمُ
وبعده:فلا يَنبَسِطْ من بين عينيك ما انْزَوَى ........ ولا تَلقَني إلا وأنفُك راغمُ
وفي حديث ثوبان عند مسلم (إن الله زوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها)، وفي حديث أنس عند البخاري ومسلم (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط وعزتك، ويُزوَى بعضها إلى بعض)، وفي رواية (يَنزَوِي)، وكلاهما صحيح من جهة اللغة؛ لأن المطاوع من (زوَى) هو (انزَوَى) قياسًا وسماعًا؛ كما سبق معنا في قول الأعشى:[155- وَقَدْ بَرَدْتُ بِالْبَرُودِ عَيْنِي ..... أَبْرُدُهَا بِالضَّمِّ دُونَ مَيْنِ]
وفي نسخة (فقله)، تقول (برَد) بفتح الراء في الماضي، (يبرُد) بضم الراء في المضارع، ولم يفسره الناظم تصريحا، ولكن أشار إلى معناه بالقرائن؛ لأن (البَرُود) هو الكحل البارد ويستعمل لعلاج العين من الحرارة؛ فإذا قلت (برَدت العينَ أبرُدها) فمعناه أنك فعلت هذا.
ومراد ثعلب أن هذا هو الأفصح أن يقال (برَدت)، وليس (أبردتُ) ولا (برَّدت).
وقول الناظم (بالبَرُود) من زياداته على ثعلب، وهو بفتح الباء؛ وهذا الوزن شائع في أسماء الأدوية وما قاربها؛ مثل (سَعوط) و(وَجور) و(نَشوق) و(لَدود) و(لَعوق)؛ وكل هذا بمعنى المفعول؛ لأنه بمعنى ما يستعمل في كذا؛ فالسعوط والنشوق في الأنف، والوجور واللعوق في الفم، وهكذا.
[156- وَبَرَدَ الْمَاءُ غَلِيلَ جَوْفِي ..... يَبْرُدُهُ فَقُلْهُ دُونَ خَوْفِ]
تقول أيضا (برَد يبرُد) في الماء إذا أذهب عنك حرارة الجوف، وتصريفه كتصريف الفعل السابق تماما، والمعنى أيضا متقارب؛ لأن كليهما يذهب الحرارة.
ومراد ثعلب أيضا أن هذا هو الأفصح، فلا يقال (أبردته) و(برَّدت) إلا دون الأول.
[157- وَيُنْشَدُ الْبَيْتُ الَّذِي قَدْ رُوِيَا ..... لِمَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ فِيمَا حُكِيَا]
وفي نسخة (فيما انْتُقِيَا)، وقد سار الناظم على طريقته في شرح الشواهد التي يذكرها ثعلب في الفصيح، وذلك بهذا الأسلوب المطول؛ فالشاهد في الفصيح بيت واحد، فشرحه الناظم هنا في سبعة أبيات! أشار في البيت الأول منها وهو هذا البيت أن قائله هو (مالك بن الريب) بفتح الراء وسكون الواو على وزن (الريب) الذي بمعنى الشك، وقوله (فيما حُكِيا) أي أنه قول مرجوح؛ إذ الراجح أنه (جعفر الحارثي) وهو قول الأكثر كما سيأتي.
ومالك بن الريب الشاعر من بني تميم، وهو من طبقة التابعين، توفي سنة 60هـ.
[158- وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّهُ لِجَعْفَرِ ..... الْحَارِثِيِّ وَهْوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ]
أشار الناظم في هذا البيت إلى قول آخر في نسبة البيت، وذكر أنه قول الجمهور؛ أن قائله هو (جعفر بن عُلْبة) وهو شاعر صاحب غزل وفروسية من شعراء الدولتين الأموية والعباسية، توفي سنة 145هـ.
[159- يَقُولُ فِي الشِّعْرِ إِذَا أَتَيْتَا ..... الْحَارِثِيَّاتِ فَهَبْنِي مَيْتَا]
أشار في هذا البيت وما بعده إلى البيت السابق للشاهد المراد، وهو قوله:
إذا ما أتيتَ الحارثيَّاتِ فانْعَني ........ لهُنَّ وخَبِّرْهن أنْ لا تَلاقِيا
وقوله في الشعر (الحارثيات) يدل على ترجيح نسبة البيت له؛ لأنه حارثي.[160- فَلْتَنْعَنِي لَهُنَّ يَا خَلِيلِي ..... فَلَيْسَ لِلِّقَاءِ مِنْ سَبِيلِ]
قوله (يا خليلي) وقوله (من سبيل) زيادة من الناظم لتتمة البيت، وقد سبق ذكره.
وقوله (فلتنعَني) هو بفتح العين من (نعَى ينعَى نَعْيًا)؛ مثل (سعَى يسعَى سَعْيًا)، والعامة تقول (ينعِي) بكسر العين، وهو خطأ؛ وكذلك في قول طرفة بن العبد:
إذا مت فانعَيني بما أنا أهله ...... وشُقي علي الجيبَ يا ابنةَ معبد
يحكيه كثير من طلبة العلم وأهله في دروسهم بكسر العين، والصواب فتح العين.[161- وَعَطِّلِ الْقَلُوصَ فِي الرِّكَابِ ..... وَذَاكَ لِلْإِشْعَارِ بِالتَّبَابِ]
أشار في هذا البيت وما بعده إلى الشاهد المقصود إيراده، وهو قوله:
وعَطِّل قلوصي في الركابِ فإنها ...... ستَبرُد أكبادًا وتُبكي بَواكِيا
والشاهد فيه قوله (ستبرُد) بضم الراء من الثلاثي (برَد)، وقد ضُبِط في بعض شروح الفصيح (ستُبرِد)، وهو خطأ فاحش يذكرني بقول من قال (.. عندما يكون المؤلفُ في وادٍ والمحققُ في وادٍ آخر)، وهذه آفةٌ عامة في الكتب المحققة، ولا سيما كتب اللغة، والله المستعان.وقوله (وذاك للإشعار بالتباب) شرح لجوِّ البيت والمقصودِ منه؛ لأن قوله (عطل قلوصي) إشارة إلى الهلاك.
فإن قيل (إن هذا الشاهد يدل على أن المضارع يَفْعُل، فكيف عرفنا منه أن الماضي فَعَل، وليس فعُل ولا فعِل؟) وأترك الجواب للقراء من باب التفاعل والامتحان.
[162- فَإِنَّهَا سَتَبْرُدُ الْأَكْبَادَا ..... مِنَ الْعِدَا وَتُشْمِتُ الْحُسَّادَا]
تتمة في الإشارة إلى معنى البيت المقصود، وقوله (من العدا وتشمت الحسادا) زيادة على معنى البيت، لمزيد الإيضاح؛ قال الشارح: (يقول: إن هذه الناقة التي أمر بتعطيلها تبرد أكباد الأعداء أي تسرهم وتفرحهم وتبعث لهم الطرب والنشاط ... وأن هذه الناقة أيضا تبكي البواكي وهم أقارب الشاعر وأهله وتحزنهم وتثير من أشجانهم ما كان كامنا وتحرك من أحزانهم ما كان ساكنا لما يجدوه من الحسرة على هلاكه وتعطيل ناقته فيجتمعون ويتحزنون ويتكاثرون لندبه وبكائه والنوح عليه).
[163- وَتَحْزُنُ الْأَحْبَابَ حَتَّى تُبْكِي ..... بَوَاكِيَ الْحَيِّ لِأَجْلِ هُلْكِي]
وفي نسخة (مِنَ اجْلِ)، والمقصود من البيت الإشارة إلى قول الشاعر (وتبكي بواكيا)؛ فقد أبهمه الشاعر، لأنه مفهوم ضمنا؛ إذ لا يبكي على موت الشاعر إلا من كان من أحبابه بسبب هلاكه، والهُلك والهلاك واحد.
وقوله (وتَحْزُن) هو بفتح التاء وضم الزاي كما سبقت الإشارة إليه في الحلقة الماضية.
والله تعالى أعلى وأعلم، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله.
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي