أبو مالك العوضي
فريق إشراف الملتقى المفتوح
الشرح المختصر على موطأة الفصيح لابن المرحل
[الحلقة 13]
[الحلقة 13]
نستكمل بعون الله ما سبق من الشرح على هذه الروابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir32461/
[130- وَقَدْ صَرَفْتُ الْقَوْمَ وَالصِّبْيَانَا ..... سَرَّحْتُهُمْ، فَاقْتَبِسِ الْبَيَانَا]
تقول (صرَف) بفتح الراء في الماضي، (يصرِف) بكسرها في المضارع، وهذا في جميع المعاني التي سيرد ذكرها لهذا الفعل؛ فمنها (صرفت القوم وصرفت الصبيان) وفسره الناظم بقوله (سرحتهم) أي أمرتهم بالانصراف، وقد سقط من مطبوع الفصيح (ص 267) قوله (صرفت القوم) وهي في كثير من النسخ.
ومن ذلك قوله تعالى: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم}، وقوله: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض}
وقول الناظم (فاقتبس البيانا) زيادة لتكميل البيت، وفي نسخة الشارح (فالتمس).
ومراد ثعلب بهذا أنك لا يصح أن تقول (أصرفتُ القوم)، ومما يدل على هذا أن مطاوعه (انصرف)؛ كما في قوله تعالى: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم}، و(انفعل) لا يجيء مطاوعا للرباعي إلا شذوذا؛ كما تقول (شققته فانشق) (بعثته فانبعث) (كسرته فانكسر) (دفعته فاندفع) .. إلخ
[131- وَصَرَفَ اللهُ الأَذَى عَنْكَ دَفَعْ ..... وَقَدْ قَلَبْتُ كُلَّ وَفْدٍ فَرَجَعْ]
من معاني (صرف) أيضا الرد؛ تقول: (صرَف الله عنك الأذى) وفسره الناظم بقوله (دفع) أي رده ومنعه عن الوصول إليك، ومنه قوله تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء}، وقوله: {وإلا تصرف عني كيدهن}، {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن}، {فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء}، {ربنا اصرف عنا عذاب جهنم}.
ثم شرع في الكلام على فعل آخر وهو (قلَب) بفتح اللام في الماضي، (يقلِب) بكسر اللام في المضارع، ومثَّل عليه بقوله (قلبت كل وفد فرجع) أي صرفتهم إلى بلدهم، ومنه قوله تعالى: {وإليه تقلبون}، وفي الحديث عن صفية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا فأتته تزوره فخرج معها ليقلِبها، أي ليعود بها إلى البيت.
ومطاوع (قلب) هو (انقلب) وهو كثير في القرآن.
[132- وَقَلَبَ الثَّوْبَ: بِمَعْنَى حَوَّلَهْ ..... كَذَلِكَ الْحَدِيثَ: تَعْنِي بَدَّلَهْ]
من معاني (قلَب) أيضا تحويل الثوب، ومضارعه كسابقه، ومنه قلب الثوب في صلاة الاستسقاء، وكذلك تقول (قلَب الحديث) أي بدَّله، ومنه المقلوب في علوم الحديث؛ ومن أشهر مُثُله: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)، ومما وقع فيه الخلاف بين العلماء (لا يبرك أحدكم كبروك البعير، ولينزل بيديه قبل ركبتيه).
ومراد ثعلب بذلك أنه لا يقال (أقلبتُ) بالهمزة في جميع هذه المعاني.
[133- وَقَدْ وَقَفْتُ فَرَسِي فَوَقَفَا ..... أَقِفُهُ، وَقَدْ وَقَفْتُ مَوْقِفَا]
تقول (وقَف) بفتح القاف في الماضي، (يقِف) بكسر القاف في المضارع، وأصلها (يَوْقِف) فاستثقلت الواو مع الكسرة فحذفت، وهو باب مطرد في الصرف؛ مثل (وعَد يعِد) (وصَل يصِل) (ورَد يرِد) (وثَب يثِب) (وجَد يجِد) (ولَج يلِج) (ولَد يلِد) .. إلخ.
وهذا الفعل (وقف) يأتي متعديا ولازما؛ تقول: (وقفتُ الرجلَ) أي جعلته (يقف)، وتقول: (وقف الرجلُ) أي صدر منه الوقوف، فمن المتعدي قوله تعالى: {وقِفوهم إنهم مسؤولون}، وقوله: {ولو ترى إذ وُقِفوا على النار}، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم}، ولم يرد اللازم في القرآن.
ومن اللازم قول النابغة في معلقته:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها ............. عيت جوابا وما بالربع من أحد
وقول زهير في معلقته:وقفت بها من بعد عشرين حجة ............. فلأيا عرفت الدار بعد توهم
ويختلف المتعدي عن اللازم في المصدر؛ فالمتعدي مصدره (وَقْف) واللازم مصدره (وقوف)، وهذا موافق للقياس؛ كما قال ابن مالك:(فَعْل) قياس مصدر المعدى ............. من ذي ثلاثة كرد ردا
.......
وفعَل اللازم مثل قعَدا ............. له (فُعول) باطراد كغدا
وكلام ثعلب (وقفت الدابة) فهو أعم من كلام الناظم؛ إلا أنه لما كان المقصود منه التمثيل لم يضر التخصيص........
وفعَل اللازم مثل قعَدا ............. له (فُعول) باطراد كغدا
ومراد ثعلب أنه لا يقال (أوقفتُ) يعني في اللغة الفصيحة العالية.
وقول الناظم (وقد وقفت موقِفا): المَوقِف: يصلح مصدرا، ويصلح اسما للمكان، ويصلح اسما للزمان أيضا، وهذا مطرد في علم الصرف إذا كان الفعل واوي الفاء مكسور العين في المضارع.
[134- وَقَدْ وَقَفْتُ لِلْيَتَامَى وَقْفَا ..... أَيْ حُبُسًا فَافْهَمْهُ حَرْفًا حَرْفَا]
من معاني (وقَف) أيضا ما يسمى في الفقه (التحبيس) أو (الحَبْس) وهو أن تتصدق بأصل له رَيع؛ بحيث يبقى الأصل وينفق الريع على الفقراء أو غيرهم بحسب وصية صاحب الوقف، وفي الحديث أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أرض خيبر، فقال: احبِس أصلها وسَبِّل ثمرتها.
[135- وَقَدْ مَهَرْتُ الزَّوْجَ أَيْ سَمَّيْتُ ..... لَهَا صَدَاقًا وَكَذَا أَعْطَيْتُ]
تقول (مهَر) المرأةَ بفتح الهاء في الماضي، (يمهَرها) بفتح الهاء في المضارع، و(يمهُرها) بضم الهاء أيضا، ويجوز كذلك أن تقول (أَمهَرَها) ولكن الثلاثي هو الفصيح كما أشار ثعلب باختياره.
ومعناه فيه وجهان ذكرهما الناظم؛ الأول: (سميت لها صداقا)، تقول: (مهرت المرأة كذا) أي اتفقت مع وليها على هذا المهر قبل نقده، والثاني: (أعطيت) تقول: (مهرتها كذا) أي نقدتها، والمعنيان آيلان في الحقيقة إلى معنى واحد، ولكنه من باب استعمال الفعل عند مجرد الشروع فيه أو الاقتراب؛ كقولك (قد قامت الصلاة)، وقولك لصاحبك عند قرب وصولك إليه (قد وصلت فافتح لي الباب)، وهذا الاستعمال مشهور في كلام العرب، والتفريق بينه وبين سابقه يعرف بالقرائن والسياق، وبسبب الاحتمال فيه اختلف الفقهاء في بعض المسائل؛ كاختلافهم في قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا) فقوله (أمَّن) هل يقصد به انتهى من تأمينه، أو مجرد شروعه فيه؟
وقول الناظم (مهرتُ الزوجَ) المقصود به (المرأة)، وهذه هي اللغة الفصيحة؛ كما قال تعالى: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}، وقد يقال (زوجة) كما سيأتي للناظم في قوله:
وامرأة خزيا ومرء خزيانْ ............. وطلقت زوجة ذاك الإنسانْ
لكن الفصيح المشهور في كلام العرب حذف التاء؛ وأكثر الفقهاء يقولون (زوجة) بالتاء حتى لا يحصل لبس؛ لأن المسائل الفقهية فيها دقة وخطر، والعرب لا تحفل بمثل هذا اللبس؛ لأنها تعتمد أكثر ما تعتمد على القرائن والسياق.(136- وَقَدْ مَهَرْتُ الْعِلْمَ ذَا مُهُورَا ..... حَذِقْتُهُ فَلَانَ لِي مَقْهُورَا)
هذا البيت من زيادات الشيخ محمد الحسن الددو حفظه الله، وليس من الموطأة، وأصله لا يوجد في معظم نسخ فصيح ثعلب، ولذلك لم ينظمه ابن المرحل.
ومن عجائب الاتفاق أن هذا البيت يلائم حال الشيخ الددو في سعة علمه ومهوره فيه وحذقه، نسأل الله له مزيدا من الرفعة في الدنيا والآخرة.
وقوله (حذِقته) فيه لغتان: حذِق يحذَق، وحذَق يحذِق.
ومضارع (مهرت العلم) كمضارع الفعل بالمعنى السابق.
[137- وَقَدْ عَلَفْتُ فَرَسِي وَبَغْلِي ..... وَقَدْ زَرَرْتُ قُمُصِي لِشُغْلِي]
تقول (علَف) بفتح اللام في الماضي، (يعلِف) بكسرها في المضارع، وفسر الناظم الفعل بذكر مفعوله (فرسي وبغلي) وبه يتضح المقصود من (العَلْف) أنه إطعام الحيوان، وكلام ثعلب في الفصيح أعم؛ لأنه قال (علفت الدابة).
والعلف مختص بالطعام دون الشراب؛ وأما قول الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا ............. حتى شتت همالة عيناها
فهو محمول عند النحويين جميعا على الحذف وتقديره: وسقيتها ماء؛ وإنما حذفه لفهمه من السياق.وتقول (زرَرت) بفتح الراء في الماضي، (أزُر) بضم الزاي في المضارع، وأصله (أزْرُر) بسكون الزاي وضم الراء، فأدغمت الراء في الراء فصارت ساكنة فنقلت حركتها إلى الزاي قبلها لكي لا يلتقي ساكنان، وهذا مطرد في علم الصرف أيضا؛ تقول (عد يعُدّ) (بل يبُلّ) (سر يسُرُّ) .. إلخ، وأصله (يعدد – يبلل – يسرر).
والقُمُص جمع قميص، وهو ثوب له أكمام وجيب، وقوله (زررت قُمُصي لشغلي) أي ربطت أزرار ما عندي من القمصان من أجل الشغل.
[138- وَازْرُرْ قَمِيصًا قَدْ حَلَلْتَ زِرَّهُ ..... وَزُرُّهُ وَزُرِّهِ وَزُرَّهُ]
حركة عين فعل الأمر كحركة عين الفعل المضارع؛ فإن كان مفتوح العين فتحت العين كقولك (يسمَع – اسمَع)، وإن كان مكسور العين كسرت العين كقولك (يضرِب – اضرِب)، وإن كان مضموم العين ضممت العين كقولك (ينظُر – انظُر)، فلماذا ذكر الناظم الأمر هنا؟ ذكره لأن الفعل المضاعف له عدة أوجه في كلام العرب عند استعمال الأمر، وهي أوجه مطردة في جميع الأفعال، وهي من اختصاص علم النحو والصرف، فلا ينبغي ذكرها هنا؛ إلا أن المتقدمين كما سبق معنا مرارا كانوا يحرصون على إفادة الطالب، ولا ينظرون إلى مطرد أو غيره؛ لأن الكتاب إنما وضع للمبتدئين.
فماذا تقول إن أردت استعمال فعل الأمر من (غَضَّ) مثلا؟
الجواب أن لك في ذلك أربعة أوجه: وجه خاص بفك الإدغام، وثلاثة بالإدغام، فأما مع فك الإدغام، فتقول: (اغضض) كقوله تعالى: {واغضُضْ من صوتك} وحينئذ تعامله معاملة الفعل غير المضاعف فتظهر حركة العين وتبنيه على السكون.
وأما مع الإدغام فتقول (غضّ) بالتشديد، لكن عندنا هنا يلتقي ساكنان، فكيف نتصرف؟ ذكر ثعلب أنك تحرك الفعل بالفتح أو بالضم أو بالكسر، فكله جائز عند ثعلب، ومن ذلك قول الشاعر:
فغُضَّ الطرف إنك من نمير ........... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
يجوز أن تقول (فغضَّ الطرف) و(فغضِّ الطرف) و(فغضُّ الطرف).قالوا: الكسر لالتقاء الساكنين، والفتح لأنه أخف، والضم إتباعا.
(تنبيه)
وقع في المطبوع (حللتُ) بالضم، ولعل الأوفق للسياق (حللتَ) بالخطاب، ليكون من يحل هو من يزر. ووقع في المطبوع أيضا (حللت زُره) بضم الزاي، والصواب (زِره) بالكسر، وهو واحد الأزرار، وهو ما نقول له في العامية (زرار)، ولم أر أحدا من علماء اللغة ضبطه بالضم، وقد سموا به ومنه (زِر بن حبيش).
[139- كَقَوْلِهِمْ: مُدَّ وَمُدُّ لِي يَدَا ..... وَمُدِّ أَيْضًا، وَالْجَمِيعُ وَرَدَا]
هذا البيت زيادة بيان لما ذكر في البيت السابق بذكر مثال آخر على أحوال الفعل المضعف، وإنما ذكره تبعا لثعلب لكي لا يُظن أن هذه اللغات خاصة بالفعل (زر)؛ لأن كتاب الفصيح ونظمه موضوعان للألفاظ اللغوية الخاصة لا للقوانين الكلية.
وقوله في آخر البيت (والجميع وردا) فيه رد على من أنكر من العلماء على ثعلب في بعض هذه الأوجه؛ كما لو اتصل الفعل بضمير المذكر؛ فإن البصريين يوجبون تحريكه بالضم ولا يجيزون الفتح ولا الكسر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان (إنا لم نرُدُّه عليك إلا أنَّا حُرُم) فالفصيح الضم، لكن المشهور عند المحدثين هو الفتح، وثعلب لا يحكي مثل هذا إلا سماعا؛ وقد قال ابن الطيب الفاسي: (أبو العباس من فرسان هذا الشأن؛ فينبغي أن يُتبع دون توقيف).
ومن هذه الأوجه ومن كون الفصيح هو الضم تعلم خطأ من قال إن قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} لا يمكن حمله على النهي لأنه لو كان نهيا لقال: (لا يمسَّه) بالفتح.
[140- وَقَدْ نَشَدْتُ اللهَ هَذَا الزَّاهِي ..... أَنْشُدُهُ سَأَلْتُهُ بِاللهِ]
تقول (نشَد) بفتح الشين في الماضي، (ينشُد) بضم الشين في المضارع، ويلاحظ أن الناظم لم يذكر المضارع تبعا لثعلب في كثير من أفعال هذا الباب؛ لأن المقصود منه بيان الفصيح في الماضي وأنه ثلاثي لا رباعي، فلا يقال (أنشدت الله)، ولا يقال (أعلفَ) ولا يقال (أمهرَ)، ولا يقال (أوقفَ) أي لا يقال ذلك في اللغة العالية الفصيحة، وإن كان بعض ذلك ورد عن العرب على قلة.
وقولك (نشدتُه اللهَ) فسره الناظم بقوله (سألته بالله) وهو واضح، ونشدته يتعدى إلى مفعولين، أو هو منصوب على نزع الخافض.
والباء هنا تسمى باء القسم الطلبي؛ كما قال ابن مالك في الكافية:
بالطلب البا اخصص كذا نشدتكا ............. الله أو بالله أو عمرتكا
فالمعنى (ذكَّرتك الله مستحلفا)، وفي حديث كعب بن مالك أنه قال لأبي قتادة: (أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ وفي حديث حسان بن ثابت أنه سأل أبا هريرة: نشدتك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حسان أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس).والله تعالى أعلى وأعلم، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله.
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي