أبو مالك العوضي
فريق إشراف الملتقى المفتوح
الشرح المختصر على موطأة الفصيح لابن المرحل
[الحلقة الخامسة]
[الحلقة الخامسة]
نستكمل بعون الله ما سبق من الشرح على هذه الروابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir32461/
وألتمس من إخواني الكرماء ومشايخي الفضلاء أن يتفضلوا بتقويم ما أخطأت فيه وإرشادي إلى ما زللت فيه أو جانبت الصواب.
[51- وَقَدْ سَبَحْتُ فِي الْمِيَاهِ أَسْبَحُ ..... أَيْ عُمْتُ وَالْمُعْرَبُ مِنْهُ يُفْتَحُ]
تقول (سبَح) بفتح الباء في الماضي، (يسبَح) بفتح الباء في المضارع أيضا، وعلى هذا فهو موافق للقياس لمكان حرف الحلق (الحاء) في آخره، وقول الناظم (والمعرب منه يفتح) أي أن المضارع من (سبح) مفتوح، والعلماء إذا قالوا: المضارع مفتوح أو الماضي مفتوح، فإنما يقصدون عين الكلمة كما هو معروف؛ لأن العين هي التي تتصرف، أما فاء الكلمة فهي مفتوحة بكل حال في الماضي وساكنة بكل حال في المضارع، وأما لام الكلمة فهي مفتوحة دائما في الماضي لأنه مبني على الفتح، وهي مضمومة في المضارع إذا كان مرفوعا.
وقول الناظم (في المياه) زيادة قيد لم يذكره ثعلب، وهذا القيد من الناظم مهم لأنه فسر الفعل بعد ذلك بقوله (أي عمت) ولا يستقيم تفسير (سبحت) بـ(عمت) إلا إذا كان في المياه.
لكن يبدو أن كلام ثعلب أدق؛ لأن هذا الفعل (سبح) يستعمل في معان أخرى غير السباحة في الماء، ومنها ما في قوله تعالى: {إن لك في النهار سَبْحًا طويلا} أي فراغا طويلا، ومنها ما في قوله تعالى: {كل في فلك يَسبَحون} أي يجرون أو يدورون، وكذلك قوله تعالى: {والسابحات سَبْحا} اختلف في تفسيره فقيل: الملائكة تسبح في السماء، وقيل النجوم تسبح في الأفلاك، وقيل السفن تسبح في الماء، وجعله الطبري شاملا لكل ذلك.
ويقال للفرس: سبَح، إذا جرى بسرعة؛ ومنه اشتهر قولهم (السوابح) للخيل لسرعتها.
[52- وَشَحَبَ اللَّوْنُ إِذَا تَغَيَّرَا ..... ..... مِنْ جُوعٍ اوْ مِنْ مَرَضٍ قَدِ اعْتَرَى]
تقول (شحَب) بفتح الحاء في الماضي، (يشحُب) بضم الحاء في المضارع، ولم يذكره الناظم وهذا قصور؛ لأن ثعلبا قد ذكره في الفصيح، وليس الضم موافقا للقياس حتى يقال إنه تركه لوضوحه، والفتح لغة لكن الضم أشهر.
وقد اقتصر ثعلب على قوله(شحب لونه يشحُب) وفسره الناظم بقوله (إذا تغيرا من جوع او من مرض) وهذان مثالان على التغير ولا يقصد به الحصر، فالشحوب في اللون هو التغير؛ بجوع كان أو بمرض أو بهزال أو ببذل جهد، والعلماء يعرفون عموم المعاني بقرائن تدلهم على ذلك؛ يعرفونها من تصفح كلام العرب، ومن معرفتهم بمقاصدهم لكثرة ملازمتهم، وهذه المسألة مهمة وتحتمل بسطا في رسالة علمية، ولكن لا أظن أحدا يقدر عليها أو ينشط لها.
[53- وَسَهَمَ الْوَجْهُ كَذَاكَ يَسْهُمُ ..... مَعَ عُبُوسٍ وَيُقَالُ: يَسْهَمُ]
تقول (سهَم) بفتح الهاء في الماضي، (يسهُم) بضم الهاء في المضارع، وقد اقتصر عليه ثعلب، وزاد الناظم (يسهَم) بفتح الهاء، وأشار إلى أنها دون اللغة الأولى بقوله (ويقال).
ومن العجيب أن اللبلي لم يذكر هذه اللغة في (تحفة المجد الصريح) مع تتبعه واستيعابه.
ولم يفسر ثعلب معنى (سهم) وفسره الناظم بقوله (كذاك) أي أن معنى (سهم) هو نفسه معنى (شحب) السابق ذكره، لكن (مع عبوس)، وبين العلماء نقاش واختلاف في التفريق بينهما.
[54- وَوَلَغَ الْكَلْبُ وَكَلْبٌ وَالِغْ ..... فِي مَائِعٍ أَوْ فِي إِنَاءٍ فَارِغْ]
تقول (ولَغ) بفتح اللام في الماضي، والمضارع فيه وجهان سيأتي ذكرهما، ولكن هنا مسألتان:
الأولى: قوله (ولغ الكلب) فيه تقييد الولوغ بالكلب، وكذلك قيده ثعلب، ولم يقل (وغيره) مثلا كعادته في التعبير عن العموم، ويدخل في الكلب السباع كلها؛ إما بالقياس والتوسع، وإما بتواطؤ اللفظ، وهو استعمال العرب على كل حال.
الثانية: تفسير الولوغ سيأتي للناظم أنه إدخال اللسان في باطن الإناء، لكن هل يلزم أن يكون فيه شيء؟ فيه خلاف بين العلماء، وقد ذكر الناظم التفصيل من غير ترجيح بقوله (في مائع أو في إناء فارغ، وسيأتي له ذكر تفصيل آخر بعد بيت.
والجادة المشهورة في كلام العرب استعمال الولوغ في الإناء إذا كان فيه ماء أو غيره من الموائع؛ وفي الحديث (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب)، وبحسب الخلاف في تفسير الولوغ قد يتصور الخلاف الفقهي في ولوغ الكلب في الطعام الجامد أو في الإناء الفارغ، فكن من هذه المسألة على ذُكر، ففيها تمرين وتدريب على المسائل الفقهية المعتمدة على اللغة.
[55- أَدْخَلَ فِي بَاطِنِهِ لِسَانَهْ ..... كَذَا سَمِعْتُ فَاسْتَفِدْ بَيَانَهْ]
ذكر الناظم في هذا البيت تفسير (ولغ الكلب) وأن معناه (أدخل في باطنه) أي الإناء (لسانه)، ثم أكمل البيت حشوا بنصيحة علمية على عادته في مثل هذا، وأصحاب المنظومات منهم المكثر من الحشو ومنهم المقل، ومنهم من يستغل أمثال هذه المواطن في ذكر فوائد نفيسة جدا، وقد ذكرت شيئا منها هنا:
اللطائف والإشارات في مهمات المنظومات - ملتقى أهل الحديث
[56- وَقِيلَ فِي الْمَائِعِ أَيْضًا وَحْدَهُ ..... وَمَا أَتَى مِنْ ذَاكَ لاَ تَرُدَّهُ]
اتفق العلماء على أن ولوغ الكلب معناه إدخال لسانه في الإناء، ولكنهم اختلفوا في صفة هذا الإناء نوعين من الاختلاف:
الأول: هل يلزم أن يكون فيه شيء، أو يمكن أن يكون فارغا؟
الثاني: هل يلزم أن يكون الشيء الذي فيه مائعا، أو يمكن أن يكون جامدا؟
وقد حكى الناظم الأقوال في هذا البيت وفي البيت الذي مضى، ولم يرجح، بل نهاك عن الترجيح بقوله (وما أتى من ذاك لا ترده) أي أن عليك أن تقبل ما نقله العلماء ولا تتعرض له بالرد والتغليط ما دام له وجه، وقد قال ابن عاصم في مرتقى الوصول:
وواجب في مشكلات الحكم ... تحسيننا الظن بأهل العلم
[57- وَيَلَغُ الْكَلْبُ هُوَ الْفَصِيحُ ..... فَافْهَمْ هُدِيتَ فَهُوَ الصَّحِيحُ]
بعد الاستطراد السابق في تفسير الولوغ رجع الناظم إلى بيان المضارع لهذا الفعل، وقد سبق أن الماضي هو (ولَغ) بفتح اللام، وأما المضارع فهو (يلَغ) بفتح اللام أيضا، هذا هو الفصيح كما قال الناظم، وفيه إشارة إلى جواز كسر اللام وإن لم ينص عليه إلا أنه مفهوم من السياق، ولذلك عقب ذلك بقوله (فافهم هديت) أي انتبه لما يدل عليه الكلام بمنطوقه ومفهومه.
[58- وَيُولَغُ الْكَلْبُ، وَكُلُّ فِعْلِ ..... نَقَلْتُهُ فَرَاجِعٌ لِلأَصْلِ]
الفعل (ولغ) فعل لازم أو متعد إلى الماء بالحرف، فإذا أردت أن تعديه أضفت الهمزة في أوله فقلت: (أولغتُ الكلب) أي حملته على أن يلغ، ومنه يقال (يُولَغ الكلبُ) بالبناء للمفعول؛ مثل (يُكرَم) و(يُؤذَى) ونحوها من الأفعال.
وقول الناظم (وكل فعل نقلته فراجع للأصل) فيه فائدة مهمة، وهي تنبيه القارئ على أن ما ذكره من الأفعال كله موجود في فصيح ثعلب؛ لأن ابن المرحل كما ذكرنا سابقا قد زاد زيادات كثيرة على الناظم، ولم يميز هذه الزيادات، فأراد أن يذكر فائدة ولو جزئية في معرفة الأصل من الزيادات، فذكر هنا أن كل الأفعال التي ذكرها موجودة في الأصل، فلم يأت بفعل من عنده، لكن قد يأتي بشرح معنى أو زيادة تصريف.
[59- وَيُنْشَدُ الْبَيْتُ الَّذِي يُضَافُ ..... إِلَى ابْنِ قَيْسٍ وَلَهُمْ خِلاَفُ]
قولهم (يُولَغ الكلبُ) ذكره ثعلب، وذكر عليه شاهدا من كلام العرب، وهو قول الشاعر:
ما مَرَّ يومٌ إلا وعندهما ..... لحمُ رجالٍ أو يُولَغان دَمَا
وطريقة ابن المرحل في نظمه أنه يحاول أن يشير إلى الشواهد التي ذكرها ثعلب، وذلك بأن يعبر عن معناها بأبيات أخرى على بحر الرجز، وهذه الطريقة وإن كانت مفيدة إلا أنها تصد عن المقصود؛ لأن المقصود من الشواهد اللغوية ألفاظها في المقام الأول لا مجرد معانيها، ولكن لعل الناظم أراد بهذه الطريقة أن يذكر القارئ بمعنى الشاهد فيسهل عليه استحضاره، إلا أني مع ذلك أرى هذه الفائدة ضعيفة وتركها أولى؛ لأنها أطالت النظم من غير طائل.
نعود إلى كلام الناظم، ونلاحظ أنه تكلم عن هذا الشاهد في أربعة أبيات كاملة، فقوله (وينشد البيت) ذكره ثعلب، لكن قوله (الذي يضاف) لم يذكره ثعلب، ومعناه أن العلماء اختلفوا في قائل هذا البيت، فقيل هو (ابن قيس) أي عبيد الله بن قيس الرقيات، وهو شاعر أموي مشهور، وإنما نسب إلى الرقيات لأنه كان يشبب بثلاث نسوة يدعين رقية.
[60- يَصِفُ شِبْلَيْنِ وَأُمًّا مُرْضِعَا ..... تُضْرِيهِمَا بِالدَّمِ وَاللَّحْمِ مَعَا]
في البيت السابق تكلم الناظم عن قائل البيت، وفي هذا البيت تكلم الناظم عن جو البيت، أو عن القرائن المحتفة بالبيت، أو عن الحالة العامة المتعلقة بالبيت تمهيدا لشرحه، فقوله (عندهما) الضمير عائد على شبلين يصفهما الشاعر، و(يولغان) أي أن أمهما المرضع هي التي تحملهما على الولوغ في هذا الدم، والأكل من هذا اللحم.
[61- مَا مَرَّ مِنْ يَوْمٍ يَقُولُ إِلاَّ ..... عِنْدَهُمَا لَحْمُ رِجَالٍ قَتْلَى]
في هذا البيت والذي يليه شرح الناظم المعنى الإجمالي للبيت، وقوله (يقول) أي الشاعر، وأراه واضحا لا يحتاج إلى شرح.
[62- أَوْ يُولَغَانِ دَمَ قَوْمٍ وَهُمَا ..... قَدْ نَاهَزَا الْفِطَامَ أَوْ قَدْ فُطِمَا]
هذا البيت من الأبيات التي غيرها الشيخ الددو حفظه الله، وأصله قول الناظم:
أو يولغان دم قوم آخرين ... فاللحم في غيلهما في كل حين
ومن الواضح أن فيه تكرارا لما سبق، وقصورا عن إتمام شرح البيت، فغيره الشيخ إلى ما ترى إشارة إلى قول الشاعر قبل البيت المذكور:
تُرضع شبلين وسطَ غيلهما .... يُناهزان الفطامَ أو فُطِما
والله تعالى أعلم.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي