أبو مالك العوضي
فريق إشراف الملتقى المفتوح
الشرح المختصر على موطأة الفصيح لابن المرحل
[الحلقة الثانية]
[الحلقة الثانية]
نستكمل بعون الله ما سبق من الشرح على هذا الرابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir32461/
وألتمس من إخواني الكرماء ومشايخي الفضلاء أن يتفضلوا بتقويم ما أخطأت فيه وإرشادي إلى ما زللت فيه أو جانبت الصواب.
قال الناظم:
[23- وَقَدْ رَعَفْتُ سَالَ مِنْ أَنْفِي دَمُ ..... وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ التَّقَدُّمُ]
الرُّعاف: هو الدم الذي يسيل من الأنف، والفعل منه رعَف بفتح العين في الماضي، والعامة تقول (رعُف) بالضم وهي لغة ضعيفة، وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: كان إذا رعف انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى ولم يتكلم.
ولهذا الفعل (رعَف) قصة طريفة حصلت مع إمام النحو سيبويه؛ فإنه كان أولا يأخذ عن حماد بن سلمة الحديث، فقال له يوما: حدثك هشام عن أبيه في رجل رعُف في الصلاة، فقال له حماد: أخطأت إنما هو رعَف، فانصرف سيبويه إلى الخليل شاكيا، فقال: صدق حماد، ومثلُ حماد يقول هذا.
وقول الناظم (وأصله في اللغة التقدم) ينتقل بنا نقلة عظيمة إلى علم مهم وهو (علم الاشتقاق) وقد تكلمت عليه وعلى فوائده باختصار في هذا الرابط:
[مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق]
مـذاكـرة الْحُــذَّاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق - رسالة الإسلام
فقول العلماء (الأصل كذا) له معنيان:
الأول: أن هذا هو المعنى السابق في الكلام، وكأن العرب استعملت (رعف) في التقدم أولا ثم احتاجت إلى استعمال كلمة في معنى سيلان الدم فوجدت هذه اللفظة أقرب ما يؤدي هذا المعنى.
الثاني: أن هذا هو المعنى الجامع لتصرفات العرب في هذه المادة؛ فكأن العالم الذي يقول الأصل كذا استقرى كلام العرب فوجد كل كلمات هذه المادة (ر ع ف) ترجع إلى معنى التقدم.
فقول الناظم (وأصله في اللغة التقدم) يشير إلى قول العرب: (رعَف الفرسُ الخيلَ) أي تقدمها وسبقها.
[24- أَرْعُفُ فِي اسْتِقْبَالِهِ وَأَرْعَفُ ..... بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ كَذَاكَ يُعْرَفُ]
المضارع من رعَف هو يرعُف بضم العين، ويجوز أيضا يرعَف بفتح العين، والضم أشهر وهو الذي اقتصر عليه ثعلب في الفصيح.
قوله (في استقباله) أي في مضارعه، والناظم له عدة طرق في التعبير عن الفعل المضارع، فأحيانا يذكره مباشرة من غير تمهيد، وأحيانا يعبر عنه بالمستقبل كما في البيت السابق (إن ترد مستقبلا) وأحيانا بالاستقبال كما في البيت الذي معنا، وأحيانا يعبر عنه بالمعرب كقوله (والمعرب منه يفتح)، وأحيانا يستعمل المضارع كما في قوله (والمضارع … بالفتح في فعليهما يا سامع)، وهذا التنويع مهم لطالب العلم حتى يألف طرق أهل العلم المختلفة في التعبير عن المعنى الواحد؛ لأن كثيرا من طلبة العلم يشكل عليه هذا مع الأسف.
[25- وَقَدْ عَثَرْتُ وَهُوَ الْعِثَارُ ..... وَقَدْ نَفَرْتُ وَهُوَ النِّفَارُ]
(عثَر) فلان بفتح الثاء معناه وقع، ومصدره (العِثار) بكسر العين، ومن أمثال العرب المشهورة: (مَن سَلَكَ الجَدَد أمِنَ العِثارَ)، فهو فعل لازم
و(نفَر) بفتح الفاء معناه خرج أو هبّ أو أسرع، ومنه (نفرت الدابة) ومنه أيضا (يوم النَّفْر) الذي يخرج فيه الناس من منى، والمصدر هو النفار بكسر النون.
فقول الناظم (وهو كذا) يقصد أن هذا هو المصدر أو المعنى المجرد للفعل غير مقترن بزمن، وهذا أسلوب شائع في المعجمات فاجعله منك على ذُكر.
[26- وَالنَّفْرُ وَالنُّفُورُ وَهْوَ يَنْفِرُ ..... فَالْكَسْرُ أَعْلَى وَكَذَاكَ يَعْثِرُ]
ومن المعلوم أن كثيرا من الأفعال لها عدة مصادر مع الاتفاق في المعنى، وأحيانا يختلف المعنى باختلاف المصادر مثل الفعل (وجد) تقول: وجدت وَجْدا من الحب، وموجدة من الغضب، وجِدَةً من المال، وسوف يأتي الكلام عليه في باب المصادر إن شاء الله.
ففي البيت السابق ذكر الناظم (النفار) من مصادر (نفَر) وهنا ذكر مصدرين آخرين، وهما (النَفْر) و(النفور)، وأما المضارع فيجوز أن تقول (ينفِر) بالكسر ويجوز أن تقول (ينفُر) بالضم، ولكن الكسر أفصح وهو الذي اقتصر عليه ثعلب، ومنه قوله تعالى: {فلولا نفَر من كل فرقة منهم طائفة}، وقوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا}، {إلا تنفروا يعذبكم}، وقد قرئ بالضم خارج السبع.
وأما الفعل (يعثر) فظاهر كلام الناظم أن كسر الثاء أفصح، والذي ذكره ثعلب في الفصيح هو (يعثُر) بالضم، وهو الأفصح الذي نص عليه العلماء، مع صحة الكسر.
وفي بعض نسخ المنظومة (بالكسر والضم كذاك يعثر) ولعل هذا أقرب للصواب.
ولو قال الناظم (فالكسر أعلى عكس ذاك يعثر) لكان أولى وأدل على المقصود.
[27- وَشَتَمَ الإِنْسَانُ فَهْوَ يَشْتِمُ ..... فَالْكَسْرُ أَعْلَى وَالْقَلِيلُ يَشْتُمُ]
هذا الفعل (شتَم) يستعمله الناس في الماضي على الصواب، وإنما ذكره ثعلب هنا لينبه على الأفصح في المضارع، وبهذا يُعلم أن ثعلبا إنما أراد التقريب على المتعلم، ولم يرد التبويب المنطقي الخالي من الاعتراض، ومن ثم نخرج من كثير من الاعتراضات التي ذكرها الشراح.
فالمضارع (يشتِم) بكسر التاء، هذا هو الأفصح، ومن الغرائب أن يكون الأفصح هو لغة العامة في عصرنا هنا، أما العامة في عصر ثعلب فكانت تقول (يشتُم) بالضم، وهي لغة صحيحة أيضا لكن الكسر أفصح.
ومن عجائب مثقفينا أن أحدهم إذا أراد أن يتفاصح فإنه يخالف لغة العامة من غير بحث، فيقع في مثل هذه الورطات.
وقد عبر الناظم عن الأفصح بقوله (فالكسر أعلى) والتعبير عن الفصاحة بالعلو تعبير شائع في كتب اللغة فاحفظه، وقوله (والقليل يشتُم) أدق من قول بعضهم (يشتُم لغة ضعيفة) لأن القلة لا يلزم منها الضعف، وبهذا نعرف مقياس الفصاحة عند جمهور أهل العلم ومنهم ثعلب، وهي الكثرة والشياع والاشتهار في كلام العرب، فمعيار فصاحة الألفاظ أن تكون هي الأكثر استعمالا، هذا هو مذهب جمهور أهل العلم، خلافا لابن درستويه الذي يرى أن الأفصح هو الموافق للقياس مطلقا.
[28- وَوَهَنَ الإِنْسَانُ فَهْوَ يَهِنُ ..... يَضْعُفُ لَكِنْ كَسْرُهُ مُسْتَحْسَنُ]
هذا البيت من زيادات الشيخ الددو حفظه الله، ولم يذكره ابن المرحل، ولم ترد هذه اللفظة في كثير من شروح الفصيح، ولذلك ذكر بعض الإخوة أنها ليست من ألفاظ الفصيح كما هنا:
*** (وهَن يَهِن) ليست من مفردات فصيح ثعلب ***
وقد ناقشته فيما ذهب إليه في هذا الرابط فلينظر.
وأما هذا الفعل فيقال (وهَن) الرجل أي ضعف بفتح الهاء في الماضي (يهِن) بكسرها في المضارع، ولا يجوز فيه الفتح، فلا أدري ماذا يقصد الشيخ بقوله (كسره مستحسن)؛ فإنه لا يجوز فيه إلا الكسر في المضارع، بل هو القياس في هذا الباب؛ مثل وعَد يعِد، ووقَف يقِف، ووصَل يصِل، وورَد يرِد.
وفي القرآن الكريم {فما وهَنوا لما أصابهم} في الماضي، وفيه {ولا تهِنوا في ابتغاء القوم} في المضارع، وفيه {حملته أمه وَهْنا على وهن} في المصدر.
[29- وَنَعَسَ الإِنْسَانُ فَهْوَ يَنْعُسُ ..... بِالضَّمِّ فِيهِ وَيُقَالُ يَنْعَسُ]
تقول (نعَس) بفتح العين في الماضي (ينعُس) بضم العين في المضارع، والمصدر منه (نُعاس) وهو من درجات النوم ومرادفاته، وقد ذكر بعض هذه المرادفات والدرجات ابن نبهان الحضرمي في منظومته (تذكرة الحفاظ ببعض مترادف الألفاظ) فقال:
كالنوم تَهْويمٌ نُعاس سِنَةُ .... كَرًى سُبات وَسَن وهَجْعةُ
رَقْدٌ رُقود وهُجود والتحقْ .... قيلولةٌ، كسهر: سُهد أرَقْ
قال الناظم (ويقال ينعَس) وهذه زيادة لم يذكرها ثعلب، أي أنه يجوز أيضا فتح العين في (ينعَس) ولكنها لغة قليلة، وقد أشار إلى قلتها بقوله (ويقال)، ولكن الذي يقوي هذه اللغة من جهة القياس وجودُ حرف الحلق (العين) في عين الكلمة، وحروف الحلق ستة (أ ، هـ ، ع ، ح ، غ ، خ) جمعها الشاطبي في حرز الأماني بقوله:
وعند حروف الحلق للكل أظهرا ...... ألا هاج حكم عم خاليه غفلا
والفعل الثلاثي المجرد يشار إليه بوزن (فَعَلَ) فيقال (فاء الفعل) للحرف الأول، و(عين الفعل) للحرف الثاني، و(لام الفعل) للحرف الثالث، فمثلا (ضرب) الضاد هي فاء الفعل والراء هي عين الفعل والباء هي لام الفعل، فإذا فهمنا ذلك ندخل الآن إلى قاعدة حروف الحلق؛ فالقاعدة أنه (إذا كان الفعل مفتوح العين في الماضي والمضارع فلا بد أن تكون عينه أو لامه حرف حلق)، مثل سعى يسعى، قطع يقطع، قرأ يقرأ... إلخ.
فالفعل الذي معنا ينطبق عليه هذا الأمر: فيجوز نعَس ينعَس، وإن كان الأفصح والأشهر نعَس ينعُس.
وقد ورد المصدر في القرآن كما في قوله تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نُعاسا}، وورد الفعل الماضي في حديث عائشة عند البخاري (إذا نعَس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم).
[30- قَالَ وَلاَ يُقَالُ نَعْسَانُ وَلَـ ..... كِنْ نَاعِسٌ وَغَيْرُهُ قَدْ قَلَّلاَ]
هذا البيت من الأبيات التي غيّرها الشيخ الددو، وقد كان أصله:
قال ولا يُقال فيه نَعْسانْ .... كما يُقال في النظير وَسْنانْ
وإنما غيره لأن فيه التقاءَ ساكنين، وهذا لا يجوز في بحر الرجز، وإنما يجوز في بحر السريع، ومع هذا فقد جرت عادة أصحاب المنظومات أن يتجوّزوا في مثل هذا، ولكن الشيخ غيّره لأنه يسهل حفظه بذلك لسلاسته في الأذن، وسوف أسير في الشرح على تغييرات الشيخ من غير إشارة غالبا.
قوله (قال) أي ثعلب (لا يقال نعسان) أي لا يصح أن تقول في هذا المعنى (نعسان) وإنما تقول (ناعس)، وإنما حمل العامةَ على استعمال كلمة (نعسان) قربُ معناها من كلمة (وَسْنان)، والعامة كثيرا ما تحمل النظير على نظيره، خلافا للعرب في قصد التفريق بينهما.
قوله (وغيره قد قللا) أي أن غير ثعلب من العلماء أجاز أن يقال (نعسان) على قلة، أي خلاف الأفصح.
ونكتفي بهذا القدر هذه المرة، حتى نسير على عقود الأعداد تسهيلا للمراجعة.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي