أبو مالك العوضي
فريق إشراف الملتقى المفتوح
الشرح المختصر على موطأة الفصيح لابن المرحل
[الحلقة الثامنة]
[الحلقة الثامنة]
نستكمل بعون الله ما سبق من الشرح على هذه الروابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir32461/
وألتمس من إخواني الكرماء ومشايخي الفضلاء أن يتفضلوا بتقويم ما أخطأت فيه وإرشادي إلى ما زللت فيه أو جانبت الصواب.
[تكملة باب فعِلت بكسر العين]
[81- وَقَدْ غَصِصْتُ فَأَنَا أَغَصُّ ..... وَقَدْ مَصِصْتُ فَأَنَا أَمَصُّ]
[81- وَقَدْ غَصِصْتُ فَأَنَا أَغَصُّ ..... وَقَدْ مَصِصْتُ فَأَنَا أَمَصُّ]
تقول (غصِصْت) بكسر الصاد الأولى في الماضي، (أغَص) بفتح الغين في المضارع، وأصله (أغْصَص) بتسكين الغين وفتح الصاد، لكن نقلت الحركة كما سبق ذكره.
وتقول (مصِصْت) في الماضي (أمَص) في المضارع، مثل الفعل السابق تماما.
ولكن نلاحظ أن الفعل (غص) لازم، والفعل (مص) متعد، ولذلك يختلف المصدر منهما؛ لأن القياس في مصدر (فعِل) إذا كان متعديا هو (فَعْل)، والقياس في مصدر (فعِل) إذا كان لازما هو (فَعَل)، كما قال ابن مالك:
وفعِل اللازم بابه فَعَل .... كفَرَح وكجَوًى وكشَلَل
فمصدر غصصت: الغَصَص، ومصدر مصصت: المَص، كما سيأتي.
[82- وَغَصَصُ الْحَلْقِ كَمِثْلِ الشَّرَقِ ..... لَكِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَثِقِ]
في البيت السابق ذكر الناظم تصريف الفعلين، وفي هذا البيت ذكر معنى الفعل الأول (غصصت) وقد فسره بتفسير مصدره؛ وهذه طريقة أهل العلم؛ لأن معرفة معنى المصدر تكفي لمعرفة معنى الماضي والمضارع وغيره؛ فإذا قلت مثلا: (الضرب: معناه كذا وكذا) فهذا يكفي في معرفة معنى (ضَرَبَ) و(يضرِب) و(مضروب) .. إلخ؛ لأن هذه الاشتقاقات قياسية.
وقد فسر الناظم (الغصص) بأنه مثل الشرق، والشَّرَق بفتحتين: مصدر (شرِق) بكسر الراء في الماضي، وقد عرفنا قاعدة هذا الباب أن ما كان مكسور العين في الماضي فلا بد أن يكون مفتوحا في المضارع، فالمضارع يشرَق، ومثله (غرِق يغرَق) وبعض العامة يقول غرَق يغرِق.
إذن فالغصص كما قال الناظم هو مثل الشرق، (لكنه بكل شيء)، يقصد أن (الشرق) يستعمل في الماء ونحوه من المائعات، أما الغصص ففي كل ما يؤكل ويشرب، ولذلك تقول: غص فلان باللقمة، وغص بالشراب؛ قال ابن الأعرابي: الغصص يكون في الطعام والشراب والكلام والريق.
ومن الشواهد المشهورة في كتب العربية قول عدي بن زيد العبادي:
لو بغير الماء حلقي شرق .... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
[83- وَالْمَصُّ جَذْبُ الشَّفَتَيْنِ الْمَائِعَا ..... وَرُبَّمَا كُنْتَ لِصَوْتٍ سَامِعَا]
ذكر الناظم قبل بيت تصريف الفعل (مص)، ثم ذكر معناه في هذا البيت ببيان معنى المصدر، كما سبقت الإشارة إليه في البيت السابق، ومعنى المص كما قال الناظم هو (جذب الشفتين المائعا) وهو ما نسميه في العامية (الشفط)، ويقول العلماء في تفسيره (هو الشرب الرفيق) أو (الشرب برفق)، وفي كلام بعض الحكماء (مصوا الماء مصا ولا تعبوه عبا) ولا يصح حديثا.
ويفهم من كلام الناظم أن (المص) مخصوص بالمائعات وفيه نظر؛ ففي حديث جابر: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّر علينا أبا عبيدة، فكان يعطينا تمرة تمرة، فكنا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها الماء.
وقد يقال: إن المقصود بالحديث مَصّ ما يتحلب عن التمرة من الحلاوة بجذب الشفتين، وذلك أقرب إلى المائعات، ولذا لا يقال لمن أكل التمرة أو بلعها إنه: قد مصها.
قال الناظم (وربما كنت لصوت سامعا) أي أن المص يطلق على ما سبق ذكره سواء منه ما سمع فيه الصوت وما لم يسمع فيه الصوت، و(رُبّ) للتقليل عند الأكثرين من العلماء، وبعضهم يقول إنها للتكثير وفيه نظر، وبعضهم يقول ليست للتقليل ولا للتكثير وإنما يفهم ذلك من السياق.
وهنا سؤال أرجو أن يجيب عنه بعض القراء: (اضبِط المقولة السابق ذكرها بالشكل "مصوا الماء مصا ولا تعبوه عبا").
[84- وَقَدْ سَفِفْتُ بِفَمِي دَوَاءَا ..... ثُمَّ سَوِيقًا إِنْ تَشَأْ أَوْ مَاءَا]
تقول (سفِفت) بكسر الفاء في الماضي، (أسَف) بفتح السين في المضارع، وأصله (أسْفَف) كما سبق بيانه في غيره من الأفعال، ومصدره (السَّف) لأنه متعد كما سبق بيانه.
ومعنى (السف) الجذب بالفم والشفتين أيضا مثل (المص)، إلا إن (السف) يستعمل في الجامدات والمائعات جميعا، وقد عبر الناظم عن هذا المعنى بذكر أمثلة المفعولات، وقد ذكر ثلاثة أمثلة (الدواء، والسويق، والماء).
قال عنترة في معلقته:
ما راعني إلا حمولة أهلها .... وسط الديار تسف حب الخمخم
[85- وَقَدْ زَكِنْتُ أَيْ ظَنَنْتُ ظَنَّا ..... وَقِيلَ: خَمَّنْتُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى]
تقول (زكِن) بكسر الكاف في الماضي (يزكَن) بفتح الكاف في المضارع، وفي معناه أقوال عند العلماء، منها: أنه بمعنى (الظن)، ومنها أنه بمعنى (التخمين) والفرق بينهما أن الأول يكون مبنيا على دلائل وقرائن وإن لم تكن يقينية، وأما الثاني فيكون مبنيا على مجرد الحدْس، ومنها أنه بمعنى (العلم) كما سيأتي في البيت التالي.
[86- عَلِمْتُ، ثُمَّ أَنْشَدُوا يَا صَاحِبِي ..... بَيْتًا رَوَوْهُ لابْنِ أُمِّ صَاحِبِ]
ذكر الناظم ثلاثة معانٍ لكلمة (زكن)، ولم يذكر ثعلب منها سوى (العلم) وذكر عليه شاهدا من كلام العرب، وهو قول الشاعر (قعنب بن ضمرة المعروف بابن أم صاحب):
ولن يراجع قلبي حبهم أبدا .... زكنت من بغضهم مثل الذي زكنوا
ومن العجيب أن بعض العلماء قال إن (زكنت) بمعنى الظن فقط ولا يصح بمعنى العلم، وبعضهم قال إنه بمعنى العلم فقط ولا يصح بمعنى الظن، وهذا هو المشهور عند العلماء وهو ما اقتصر عليه ثعلب في الفصيح.
وقد نظم ابن المرحل معنى الشاهد على طريقته المعتادة بالتعبير عن معناه على بحر الرجز، كما سيأتي في الأبيات التالية.
[87- يَقُولُ فِي قَوْمٍ تَسَلَّى بَعْدَهُمْ: ..... وَلَنْ يُرَاجِعَ الْفُؤَادُ وُدَّهُمْ]
قوله (يقول) أي الشاعر ابن أم صاحب (في قوم تسلى بعدهم) أي يقول هذا الشعر مخبرا عن قوم قد فارقهم ونسيهم (ولن يراجع الفؤاد ودهم) أي أن ما بيننا من الكراهية مستمر لن يتغير.
[88- زَكِنْتُ مِنْ أَمْرِهِمُ مَا زَكِنُوا ..... فَأَمْرُهُمْ لِي مِثْلُ أَمْرِي بَيِّنُ]
قوله (زكنت من أمرهم ما زكنوا) أي مثل ما زكنوا، وحذف (مثل) كثير في كلام العرب لوضوحه؛ كقوله تعالى: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون}.
قوله (فأمرهم لي مثل أمري بين) أي أن شأنهم عندي واضح، مثل شأن نفسي في الوضوح.
وقد استغرق الناظم ثلاثة أبيات في التعبير عن هذا البيت الواحد، وكان يمكنه الاستغناء عن ذلك كله؛ لأن الطالب في جميع الأحوال لا يستغني عن حفظ الشاهد بألفاظه.
[89- وَنَهِكَ الْجِسْمَ السَّقَامُ أَنْحَلَهْ ..... أَجْهَدَهُ سَقَامُهُ وَأَهْزَلَهْ]
تقول (نهِك) بكسر الهاء في الماضي، (ينهَك) بفتح الهاء في المضارع، ومعناه المبالغة في الإجهاد أو الإيذاء؛ تقول (نهِك المرضُ الرجلَ) أي أضعفه وأجهده حتى أصابه الهزال والضعف.
وفي حديث صلح الحديبية (إن قريشا قد نهِكتهم الحربُ وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدةً ويخلّوا بيني وبين الناس).
[90- وَانْهَكْهُ بِالْعِقَابِ أَيْ بَالِغْ فِي ..... عِقَابِهِ حَتَّى يُرَى ذَا ضَعْفِ]
تقول (اِنْهَك فلانا بالعقوبة) أي أنزل عليه العقاب الشديد، وبالغ في ذلك حتى يظهر عليه الضعف، ومن الواضح أن الناظم يقصد هنا الفعل الثلاثي مثل السابق ذكره في البيت قبله، وأما ثعلب فقد اختلفت نسخ الفصيح، فالذي في أكثر النسخ مثل ما هنا (انهكه) بهمزة وصل، وفي بعض النسخ (أنهكه السلطان عقوبةً) بهمزة قطع وعليها نظم ابن جابر الأندلسي، وكذلك ابن أبي الحديد إذ قال في نظمه:
نهِكه المرضُ حتى سقِما .... أنهكه السلطانُ ضربا مؤلما
وهذه المسألة من المسائل التي استُنكرت على ثعلب رحمه الله، أنكرها الزجّاجُ في رده على ثعلب (كما في المزهر وغيره)، وأنكرها علي بن حمزة البصري في (التنبيهات على أغاليط الرواة)، وقد دافع العلماءُ عن ثعلب رحمه الله، ولهم في ذلك طريقتان: الطريقة الأولى طريقة الجواليقي في رده على الزجاج، إذ أنكر صحة ذلك أصلا عن ثعلب، وقال إن هذا خطأ في النسخ، وأما الصحيح المقروء على ثعلب فهو بالوصل، والطريقة الثانية طريقة اللبلي في شرحه على الفصيح، وهي أن (أنهكه) بهمزة قطع صحيح قياسا؛ لأن الهمزة للنقل.
وهذا الرد الأخير فيه ضعف؛ لأن ثعلبا لم يكن ممن يذكر في كتبه شيئا بناء على مجرد القياس حتى لو كان صحيحا، فضلا عن أن يكون غيره أفصح منه، وقد اشترط على نفسه ذكر الأفصح في الفصيح.
والله أعلى وأعلم.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله.
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي