الشرح المختصر على موطأة الفصيح - الحلقة الثالثة

أبو مالك العوضي

فريق إشراف الملتقى المفتوح
إنضم
12/08/2006
المشاركات
737
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
الشرح المختصر على موطأة الفصيح لابن المرحل
[الحلقة الثالثة]

نستكمل بعون الله ما سبق من الشرح على الروابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir32461/

وألتمس من إخواني الكرماء ومشايخي الفضلاء أن يتفضلوا بتقويم ما أخطأت فيه وإرشادي إلى ما زللت فيه أو جانبت الصواب.


[31- وَلَغَبَ الإِنْسَانُ فَهْوَ يَلْغُبُ ..... بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ بِمَعْنَى يَتْعَبُ]

يقال (لغَب) بفتح الغين في الماضي، (يلغُب) بضم الغين في المضارع بمعنى أصابه الإعياء والتعب الشديد، فليست مطابقة تماما لمعنى التعب، ولكن علماء اللغة عادتهم أن يفسروا اللفظ بما يقاربه ويدانيه ويدخل في بابه؛ لأنهم لو التزموا التفسير بالمطابقة للزم أن يوجد لكل لفظ من ألفاظ اللغة مرادف تام، وهذا غير موجود، وحتى لو وجد فقد يكون أحدهما أخفى من الآخر ولا يصح تفسير الواضح منهما بالخفي، كما قال في السلم المنورق:
وشرطُ كلٍ أن يُرى مطردا .... منعكسا وظاهِرًا لا أبعدا
وهذه قاعدة مهمة نستفيد منها في الرد على أهل البدع، وهي أن أوضح الألفاظ لا يمكن تفسيرها؛ لأنها لو فسرت لكان تفسيرها أوضح منها، وهو خلاف الفرض.
ومصدر لغَب هو اللغوب، كما في قوله تعالى: {ولقد خلقنا السموات والأرض في ستة أيام وما مسنا من لغوب}، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغَبوا -أي تعبوا- فأدركتها فأخذتها..) إلخ.

[32- وَقَدْ ذَهَلْتُ عَنْكَ أَيْ شُغِلْتُ ..... وَقِيلَ : قَدْ نَسِيتُ أَوْ غَفَلْتُ]​

ذهَل بفتح الهاء في الماضي، هذا هو الفصيح، وبعض العلماء أنكر الكسر، وبعضهم أجازه، ولكن لا خلاف أن الفتح أفصح وأشهر.
وأما المضارع فسوف يأتي الكلام عليه في البيت التالي، ولكن الناظم تكلم في هذا البيت فقط على معنى (ذهل) ، ولم يتعرض له ثعلب، فالبيت كله تقريبا تبرع وشرح من الناظم، وقد ذكر في معنى (ذهل) قولين: شُغِل، ونسي أو غفل، فعلى القول الأول: تقول قد ذهلت عن كذا وأنت لم تنسه وإنما تركته عمدا بسبب الانشغال بشيء آخر، وعلى القول الثاني تقول: ذهلت عن كذا أي غاب عن بالي ولم أتذكره، والمعنى الثاني هو الشائع بين العامة، وأما المعنى الأول فلا يكاد يعرفه أحد، مع أنه هو الأقوى في هذه الكلمة، ولذلك صدر المعنى الثاني بـ(قيل) دون الأول.

[33- أَذْهَلُ فِي اسْتِقْبَالِهِ بِالْفَتْحِ ..... وَهْوَ الذُّهُولُ فَادْرِهِ بِشَرْحِي]

المضارع من ذهَل بفتح الهاء هو يذهَل بفتح الهاء أيضا، وهذا كما سبق معنا موافق وجارٍ على القياس؛ لأن عين المضارع هاء وهي من حروف الحلق، و(الاستقبال) هو المضارعة كما سبقت الإشارة إليه في الحلقة الأولى، وتبرع الناظم أيضا بذكر مصدر (ذهل) فقال: وهو الذهول بضم الذال، وأشار إلى هذه الزيادة والتبرع بقوله (فادره بشرحي) أي أن هذا من زياداتي على الأصل، وهذا من المواضع القليلة التي أشار فيها إلى زياداته.

[34- وَقَدْ غَبَطْتُ الْمَرْءَ فِي أَحْوَالِهِ ..... أَغْبِطُهُ بِالْكَسْرِ فِي اسْتِقْبَالِهِ]

يقال (غبَط) بفتح الباء في الماضي، (يغبِط) بكسر الباء في المضارع، وسوف يذكر الناظم معناه في البيت القادم، والمصدر منه غَبْط مثل ضَرْب، وغِبْطة مثل فتنة، ومغبِطة ومغبَطة مثل مظلِمة ومظلَمة، وقد بوب البخاري في صحيح (باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور).

[35- أَعْنِي تَمَنَّيْتُ لِنَفْسِي مِثْلَمَا ..... لَهُ وَلاَ يُسْلَبُ تِلْكَ النِّعَمَا]

ذكر هنا تفسير (غبَط) المذكور في البيت السابق، والمراد بذلك التفسير أن يفرق بين (الغبطة) و(الحسد)؛ وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها)، فقد فسروا الحسد هنا بأن المراد به الغبطة، وفرقوا بينهما بأن الحسد فيه تمني زوال النعمة، والغبطة لا، وهذا التفريق وإن كان صحيحا إلا أنه لا يمنع التعبير بأحد اللفظين عن الآخر، فمن عادة العرب استعمال الألفاظ المتقاربة في موضع أخواتها ثقة بعلم السامع.
وقد قال المرقش (وهي مفضلية وأصمعية):
يأتي الشباب الأقورين ولا ..... تغبط أخاك أن يقال حكم

[36- وَخَمَدَتْ نَارُكَ فَهْيَ تَخْمُدُ ..... أَوْ غَيْرُهَا كَالْحَرْبِ أَوْ مَا يُوقَدُ]

يقال (خمَدت) النار بفتح الميم في الماضي، (تخمُد) بضم الميم في المضارع، بمعنى: خبت وسكن لهبها، وكانت العامة قديما تقول: خمِدت بكسر الميم، وفي عصرنا لا يكاد يستعمل هذا الفعل أصلا.
وقد قال ثعلب في الفصيح (وخمدت النار وغيرها تخمد) فقوله (وغيرها) فيه فائدة قد أشرنا إليها فيما سبق، وقد انتبه الناظم في هذه المرة لهذه الفائدة فنص عليها وشرحها بقوله (أو غيرها كالحرب أو ما يوقد) وفي بعض النسخ (أو ما يَقِدُ) وعليها شرح ابن الطيب الفاسي بقوله:
(وقوله: أو ما يقد معطوف على الحرب عطف عام على خاص؛ لأن الحرب من أفراد الشيء الذي يقد، وما: موصولة وصلتها يقد، وهو مضارع وقَد الشيء كوعد وَقْدا ووقودا إذا اشتعل، ومثله اتقد أيضا، وكأنه أراد ما يوصف بالاتقاد في المعنى من نحو الحرب والفكرة والقريحة والروية والغضب وغير ذلك ...).

[37- وَعَجَزَ الإِنْسَانُ فَهْوَ يَعْجِزُ ..... وَالْمَصْدَرُ الْعَجْزُ كَذَا لاَ الْعَجَزُ]

يقال (عجَز) بفتح الجيم في الماضي، (يعجِز) بكسر الجيم في المضارع، والعامة تقول يعجز بفتح الجيم، وقد ورد الماضي في القرآن والمضارع في السنة؛ ففي القرآن: {يا ويلتا أعجَزت أن أكون مثل هذا الغراب}، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجِز ..) بكسر الجيم، وقد قال ابن المقفع أو غيره: (الأمر أمران؛ أمر فيه حيلة فلا تعجِز، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزَع)، ولم يذكر الناظم معنى (عجز)، ومعناه عند العامة خاص بـ(عدم القدرة على الفعل) ولكن معناه عند العرب أعم من ذلك؛ فهو يشمل الكسل عن الفعل، أو ضعف الهمة في الفعل، أو التهاون في الفعل، أو الإهمال في الفعل، ويمكن تصور هذه المعاني بمعرفة عكس هذا الفعل عند العرب، وهو (الحزم) فالحازم هو الذي يأخذ أمره بالجد والاحتياط والتحسب للأمور والتفطن لمواطن الخلل، فهذا المعنى ضد (العجز)، ومن أمثال العرب (أعجز من هلباجة) وهو الأحمق، وفي خطبة لأبي بكر الصديق (أعجز العجز الفجور).
وقد نبه الناظم على المصدر، وهي زيادة على الفصيح، فذكر أنه (العجْز) بسكون الجيم وليس (العجَز) بفتحها، وفي هذا تنبيه لطيف على خطأ الكسر في الماضي عجِز وخطأ الفتح في المضارع (يعجَز)؛ وقد حكى بعض العلماء هذا الفعل عجِز يعجَز عجَزا، ولكن لا خلاف بين العلماء أن هذا ضعيف، فهم بين قولين: مخطّئ ومضعّف، لا سيما وهذا الفعل يستعمل بمعنى آخر.

[38- وَقَدْ حَرَصْتُ أَيْ طَلَبْتُ أَجْتَهِدْ ..... أَحْرِصُ بِالْكَسْرِ وَبِالضَّمِّ وُجِدْ]

يقال (حرَص) بفتح الراء في الماضي، والعامة تقول (حرِص) بكسر الراء، وهي لغة ضعيفة، (يحرِص) بكسر الراء في المضارع، ومن كسرها في الماضي فلا بد أن يقول (يحرَص) في المضارع وهو ما لا يقوله العامة، وهذا دليل واضح على الخطأ واللحن لا على هذه اللغة الضعيفة.
وقول الناظم (بالكسر وبالضم وجد) هكذا في المطبوع ولم يشر المحقق إلى اختلاف في النسخ، لكن رواية الشارح (بالضم وبالكسر وجد) ولم يذكر اختلافا أيضا في النسخ، وبناء على ذلك فقد اعترض على الناظم في تقديمه الضم مع أن الكسر أفصح بلا خلاف، وأغلب ظني أن النسخة التي اعتمد عليها الشارح كان فيها تقديم وتأخير، والله أعلم.
وقد ذكر الشارح أن الضم في راء (يحرص) لا يوجد في دواوين اللغة، وهذا سهو فقد ذكره ابن سيده وغيره، ونقله عنهم اللبلي في شرح الفصيح.
وقد قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرَصت بمؤمنين}، ومر معنا في شرح البيت السابق قول النبي صلى الله عليه وسلم (احرِص على ما ينفعك).
وقد فسر الناظم الحرص بأنه الطلب مع الاجتهاد؛ لأن قوله (أجتهد) في موضع الحال، ففي الحرص معنى المبالغة في الطلب، وبعض العلماء يفسره بالجشع، وهو تفسير صحيح لكنه خاص باستعماله في الشر، ومعلوم أنه يستعمل في الخير والشر، وقد قال أبو ذؤيب في عينيته المشهورة:
ولقد حرَصت بأن أدافع عنهم .... فإذا المنية أقبلت لا تدفعُ

[39- وَقَدْ نَقَمْتَ يَا فَتَى فِعْلِيَ أَيْ ..... أَنْكَرْتَهُ تَنْقِمُهُ أَنْتَ عَلَيْ]

يقال (نقَم) بفتح القاف في الماضي، (ينقِم) بكسر القاف في المضارع، ومعناه الإنكار كما ذكر الناظم، والمصدر نَقْمة بفتح النون.
قال تعالى: {وما نقَموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد} في الماضي، وقال: {وما تنقِم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا} في المضارع، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (ما ينقِم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله).
وأما نقِم ينقَم فهو فعل آخر بمعنى آخر في الاستعمال الفصيح، ومعناه: عاقَب، ومنه اشتقت النقمة بالكسر، والأشهر في هذا المعنى الفعل الخماسي (انتقم)، كما في قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه}، وفي أمثال العرب (فلان كالأرقم إن يُقتل ينقَم، وإن يُترك يلقَم) وقد استشهد به عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الموطأ.

[40- وَغَدَرَ الإِنْسَانُ وَهْوَ الْغَدْرُ ..... يَغْدِرُ لاَ يُقَالُ إِلاَّ الْكَسْرُ]

يقال (غدَر) بفتح الدال في الماضي، (يغدِر) بكسر الدال في المضارع، والعامة تقول (يغدُر) بالضم، وقد حكاها بعض العلماء لكنها لا تثبت، ولذلك جزم الناظم في ذلك بقوله (لا يقال إلا الكسر)، وعلى كل حال فالكلام هنا في الفصيح فلا يهمنا إن وجدت لأنه لا خلاف أن الكسر هو الفصيح.
والغدر معناه نقض العهد؛ وهو مشتق من المغادرة أي الترك، كأن الغادر قد ترك هذا العهد وراء ظهره فلم يلتفت إليه.
والمصدر (الغدْر) بسكون الدال كما نص عليه الناظم، وهي زيادة على الفصيح، وهذا هو المعلوم قياسا من علم الصرف؛ لأن هذا الفعل يتعدى بنفسه وبالباء فيقال (غدرته وغدرت به)؛ وقد قال ابن مالك:
فَعْل قياسُ مصدر المعدى ..... من ذي ثلاثة كرَدَّ رَدَّا
وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) هذا الماضي، وأما المضارع ففي حديث هرقل (قال فهل يغدِر؟ قال: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها)، والمصدر في حديث خبيب بن عدي رضي الله عنه (هذا أول الغَدْر).


وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
 
جزاك الله خيراً أستاذنا الجليل، متابع لشرحك، ومستفيد منك، فلا تفتُر -بارك الله فيك- وإن قلَّ المتابعون.
 
[32- وَقَدْ ذَهَلْتُ عَنْكَ أَيْ شُغِلْتُ ..... وَقِيلَ : قَدْ نَسِيتُ أَوْ غَفَلْتُ]​

ذهَل بفتح الهاء في الماضي، هذا هو الفصيح، وبعض العلماء أنكر الكسر، وبعضهم أجازه، ولكن لا خلاف أن الفتح أفصح وأشهر.
وأما المضارع فسوف يأتي الكلام عليه في البيت التالي، ولكن الناظم تكلم في هذا البيت فقط على معنى (ذهل) ، ولم يتعرض له ثعلب، فالبيت كله تقريبا تبرع وشرح من الناظم، وقد ذكر في معنى (ذهل) قولين: شُغِل، ونسي أو غفل، فعلى القول الأول: تقول قد ذهلت عن كذا وأنت لم تنسه وإنما تركته عمدا بسبب الانشغال بشيء آخر، وعلى القول الثاني تقول: ذهلت عن كذا أي غاب عن بالي ولم أتذكره، والمعنى الثاني هو الشائع بين العامة، وأما المعنى الأول فلا يكاد يعرفه أحد، مع أنه هو الأقوى في هذه الكلمة، ولذلك صدر المعنى الثاني بـ(قيل) دون الأول.​
هل ذكر أصحاب المعجمات ذلك ؟ لأنني بعضهم يقدم المعنى الثاني ثم يذكر الأول دون تفريق .
 
ليس المقصود أن المعنى الثاني خطأ، وإنما المقصود أن المعنى الأول هو الأكثر دورانا في كلام العرب، ولذلك تراهم لا يستعملونه إلا مع مصيبة أو كرب أو شوق أو عشق أو نحو ذلك من الأشياء التي ينشغل بها الإنسان ويسلو عن غيرها.
كما في قوله تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت}.
وكما في قول أبي صخر الهذلي:
وما في ذهول الناس من غير سلوة .... رواح من السقم الذي هو غالبي

والله أعلم.
 
عودة
أعلى