محمد محمود إبراهيم عطية
Member
الشُّرْبِ قاعدًا وواقفًا
هذه مسالة خاض فيها من لم يحسن ، فأردت أن أفصلها هاهنا بأدلتها لبيان الحق ، والله من وراء القصد ؛ فاقول وبالله التوفيق :
الأصل في الأكل والشرب أن يكون من جلوس ، وهو الأفضل ، وهو الأدب العام في الشرب ، ولكن ورد من فعله صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائمًا ، وذلك لبيان الجواز .
ودليل الجواز ما رواه البخاري عَنْ النَّزَّالِ بنِ سَبْرَةَ قَالَ : أَتَى عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ ، فَشَرِبَ قَائِمًا ؛ فَقَالَ : إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ ، وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ ( [1] ) .
وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا ( [2] ) ، ورواه ابن ماجة بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها قربة معلقة ؛ فشرب منها وهو قائم ( [3] ) .
وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ : سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ ( [4] ) ؛ قيل : إنما شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا لضيق المحل عن التمكن من الجلوس للشرب ؛ ففيه جواز الشرب قائمًا لعذر .
قال مقيده – عفا الله عنه : لكن حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه المتقدم يفيد جواز الشرب قائمًا لغير عذر ؛ وروى أحمد عن عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَافِيًا وَنَاعِلًا ، وَيَصُومُ فِي السَّفَرِ وَيُفْطِرُ ، وَيَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا ، وَيَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ؛ ورواه الترمذي مختصرًا بلفظ : رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِمًا وقَاعِدًا ( [5] ) ، ورواه أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ( [6] ) .
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قَالَ : كُنَّا نَأكُلُ عَلَى عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نمشِي ، وَنَشْرَبُ ونَحْنُ قِيامٌ . رواه أحمد الترمذي وابن ماجة ( [7] ) .
فهذه الأحاديث تدل على جواز الشرب قائمًا ، وإن كان الأفضل الشرب قاعدًا ؛ وثبت ذلك من فعل الصحابة رضي الله عنهم ، ففي الموطأ قال الإمام مالك أخبرنا ابن شهاب ( الزهري ) أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وسعد بن أبي وقاص كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأسًا ( [8] ) ؛ وفيه عن أبي جعفر القارئ أنه قال : رأيت عبد الله بن عمر يشرب قائمًا ( [9] ) ؛ وفيه – أيضًا – عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان يشرب قائمًا ( [10] ) ؛ وفيه عن مالك أنه بلغه : أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان كانوا يشربون قيامًا ( [11] ) .
وقد جاءت أحاديث تدل على النهي عن الشرب من قيام ، منها : ما رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا ؛ وفي رواية : نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا ؛ قَالَ قَتَادَةُ : فَقُلْنَا ( أي : لأنس ) : فَالأَكْلُ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ ( [12] ) .
قيل : وإنما جعل الأكل أشر لطول زمنه بالنسبة لزمن الشرب ( [13] ) .
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا ؛ وفي رواية : نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا ( [14] ) .
وفيه أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا ، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيْء " ( [15] ) .
قال البغوي – رحمه الله : وهذا النهي نهي أدب وإرفاق ، ليكون تناوله على سكون وطمأنينة ، فيكون أبعد من أن يكون منه فساد ( [16] ) .
وقال النووي – رحمه الله – ما ملخصه : ليس في الأحاديث إشكال ، ولا فيها ضعيف ، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه ، وشربه قائمًا لبيان الجواز ، وأما من زعم نسخًا أو غيره فقد غلط ، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروهًا أصلا ، فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات ، ويواظب على الأفضل ؛ والأمر بالاستقاءة محمول على الاستحباب ، فيستحب لمن شرب قائمًا أن يستقيء ، لهذا الحديث الصحيح الصريح ، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب ( [17] ) .
ونقل ابن حجر في ( الفتح ) عن المازري – رحمه الله – قال : والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائمًا تدل على الجواز ، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل ؛ أو لأن في الشرب قائمًا ضررًا فأنكره من أجله ، وفعله هو لأمنه ، قال : وعلى هذا الثاني يحمل قوله : " فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيْء " على أن ذلك يحرك خلطًا يكون القيء دواءه ؛ ويؤيده قول النخعي : إنما نهى عن ذلك لداء البطن ( [18] ) .
وقيل : إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به ، فإن الشرب قاعدًا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق ، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائمًا ( [19] ) .
قال ابن القيم – رحمه الله : وأما إذا فعله نادرًا ، أو لحاجة لم يضره ( [20] ) .
وصفوة القول أن الأدب في الشرب أن يكون من قعود ، مع جواز الشرب قائمًا لحاجة ، أو لغيرها أحيانًا .. والعلم عند الله تعالى .
---------------------------------------------
[1] - البخاري ( 5292 ) .
[2] - الترمذي ( 1892 ) ، وقال : حسن صحيح غريب ، وصححه الألباني .
[3] - ابن ماجة ( 3423 ) ، وصححه الألباني .
[4] - البخاري ( 1556 ) ، ومسلم ( 2027 ) .
[5] - أحمد : 2 / 174 ، والترمذي ( 1883 ) ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة ( 3301 ) ، وصححه الألباني .
[6] - أحمد : 6 / ، والنسائي ( 1361 ) ، وصححه الألباني .
[7] - أحمد : 2 / 108 ، والترمذي ( 1880 ) ، وقال : صحيح غريب ، وابن ماجة ( 3301 ) ، وصححه الألباني .
[8] - الموطأ : 2 / 926 ( 1652 ) .
[9] - الموطأ : 2 / 926 ( 1653 ) .
[10] - الموطأ : 2 / 926 ( 1654 ) .
[11] - الموطأ : 2 / 926 ( 1651 ) .
[12] - مسلم ( 2024 ) .
[13] - انظر ( فتح الباري ) : 10 / 82 .
[14] - مسلم ( 2025 ) .
[15] - مسلم ( 2026 ) .
[16] - انظر ( شرح السنة ) : 11 / 381 .
[17] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13 / 195 ، باختصار .
[18] - انظر ( فتح الباري ) : 10 / 83 .
[19] - انظر ( فتح الباري ) : 10/ 83 ، و( زاد المعاد ) : 4 / 209 .
[20] - انظر ( زاد المعاد ) : 4 / 209 .