حطت رحالي في دياري الساعة، فأبيت أن لا أنعم بشيء من الروْح حتى أكتب معبرا للشيخ الهمام الحسن ماديك عن شكري وامتناني لشخصه الكريم على ما غمرنا به من كرم الوفادة، وحسن الإستقبال، وجمال المنظر، وطيب المعشر أثناء المقام السعيد ببلد العلم والعلماء، ودوحة الفضل والفضلاء، ومعدن الجود والسخاء موريتانيا الإسلامية...فلقد كنا بين أهل كثير بشْرهم، رحيب صدرهم ، جزيل نوالهم، قد أحاطونا بالعناية الفائقة، والرعاية السابغة، حتى أنسونا جود حاتم، وبذل من سواه، فجزى الله أعينا في راحتنا قد سهرت، وأبدانا في إسعادنا سعت ودأبت، ومساعي خير في سبيل إنجاح المؤتمر الدولي الأول للمتخصصين في القراءات قد بذلت ووفرت...
وبعد فهذا غيض من فيض مما أنتوي كتابته عن هذا المؤتمر الرائع وعن القائم والمشرف عليه...في ذكريات ههنا أسطرها...ومشاهد مما علق بالذاكرة أزبرها...وعسى أن يكون ذلك قريبا فانتظره تكن راشدا مهديا...
يسر الله لي زيارة الجمهورية الإسلامية الموريتانية للمشاركة في المؤتمر الدولي الأول للمتخصصين في القراءات، وسعدت بما حصل لي من مشاهدات، واتفق من طرائف ومواقف رأيت أن أقصها ههنا تذكرة وعبرة لأولي الألباب....
فمن أول ذلك...هذا المؤتمر العلمي الفريد في بابه، العديم النظير بين أشكاله، لا أعلم مؤتمرا في القراءات دوليا أقيم في منتدى علمي خلا مؤتمرا عقد العام الماضي في الجديدة في المغرب...فكان هذا المؤتمر ثاني اثنين في موضوعه، وكان حضوره مكرمة من المكارم، وغنيمة من الغنائم التي قد لا تتكرر في العمر إلا مرة...ولا تتفق إلا مرة بعد مرة..والبلد الذي عقد فيه هذا المؤتمر مشهور بالعلم والعلماء، والحفظ والفضلاء، والشعر والشعراء، والأدب والأدباء والكرم والكرماء...قوم لزموا المحاظر يقيمونها في صحراء قاحلة، ومفازة مهلكة، وبيداء مقوية....فغدت الصحراء سوقا للعلم نافقة، وجامعة لأفواج الطلبة مستقبلة، فأخرجت تلك الصحاري والفيافي والقفار أفذاذا كانوا منارات هدى، وعلامات رشد وتقى، ورجالات كمل وأعلاما اشتهروا بالسؤدد والنجابة والتقدم والريادة...فإذا ذكرت شنقيط ذكر الأمين الشنقيطي الحبر المفسر الشهير، وآلاف الشناقطة ممن برع في الفقه والأصول وتقدم في التاريخ والأخبار، وتميز في الحديث والآثار، وكان إليه المنتهى في الشعر وفنون القول ... يتبع
كان أول عهدي بهذا المؤتمر المنيف،يوم أن رأيت الإعلان عنه من قبل الشيخ الحسن محمد ماديك على صفحات هذا الملتقى المبارك الشريف،وكان وقت تقديم الملخصات قد أوشك تاريخه على النهاية، وشارف إغلاق بابه على البداية، وكنت يومئذ ما بين كتاب أحرر خاتمته، وندوة أدقق النظر في موضوعها، أو أبسط القول في عناصرها وتفاصيلها، فذُهلت عن المؤتمر وموضوعاته وتواريخه لما أنا فيه من تلك الغمرة، وشُغلت عن كل ذلك جراء تلك الزحمة....وجئتُ المؤتمر الدولي الأول للقراءات المعاصرة للقرآن الكريم بالجديدة في المغرب مشاركا ضمن مشاركين، ومساهما بين مساهمين جاؤوا من الشرق والغرب، وكان من بينهم كثيرٌٌ ممن لا أعرفه، وقليلٌ ممن أُثبته معرفة من قبل،وكان موضوع بحثي عن القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في دول المغرب العربي، واخترت نماذج من المغرب والجزائر وتونس وليبيا، وبقي من ذلك موريتانيا...فلم أجد منها مثالا ربما لقصور في البحث، أو لعدم اطلاع، ورأيتُ أنه يوجد في جلسات المؤتمر رجلٌ طُوالٌ أسمر لابسا الزي الموريتاني المعروف، فقلت على الخبير سقطت، وعزمت لئن جمعني به مجلس لأسألنه هل يوجد في موريتانيا حداثي أو علماني يقرأ القرآن الكريم قراءة جديدة، فألحقه ببحثي في يوم من الأيام....ولقيتُ الرجل وسألته من غير أن أعرف أنه الشيخ ماديك الذي يكتب في الملتقى ولا بادر هو سلمه الله لتقديم نفسه...وأفادني الشيخ الوقور أن ليس في موريتانيا من هذا الضرب أحدٌ...فحمدت الله على السلامة، وشكرته على نقاء سماء شنقيط وأرضها من هذا الذي أصابنا في مقتل، ورمانا في منحر...وكيف يكون في بلد المحاظر والمدارس العتيقة التي تعج بآلاف الحفاظ لكتاب الله من يحرف هذا الكتاب العزيز ويؤول مقاصد الكلم فيه، ويقول فيه شططا ويفتري على الله إفكا وسفها من غير علم....وراعني في الرجل أنه جم التواضع..مع هضم النفس، وسعة العلم، وكثرة الإطلاع...وعرفتُ من بعد أنه ماديك فعظُم الرجل في عيني وازدادت منزلته عندي ولدي، وصرتُ ألقاه في جلسات المؤتمر بالبشر والحبور، والبهجة والسرور صنيعَ مَنْ بلقاء الأحبة ظفر، وعلى الكنز الثمين سقط، وبالخل الوامق المواتي سعد... يتبع
وفي إحدى جلسات ذاك المؤتمر جلستُ إلى جنب ذاك الشيخ الوقور، نستمع معا إلى مشاركات السادة الأساتذة...وكنت بين الفينة والفينة أسر إلى الشيخ الفاضل أسأله عن موريتانيا وأهلها...أنتهزها فرصةً فلربما لم يقدر لي أن ألقى موريتانيا بعدها...فكان الشيخ يجيبني عن كل ما أسأله، ثم امتد الحديث بيننا حتى أخبرته حفظه الله أنني ختمت السبع نظرا في المصحف مذ سنين على شيخي أحمد حنيف رحمه الله، وأني ربما درستُ القراءات لبعض الفصول في بعض السنوات...فانجذب الشيخ إلي وأخبرني أن مؤتمرا في القراءات سيُعقد في نواكشوط وأنه سيشهد حضورا مميزا لجماعة من أهل الإقراء المتخصصين من العالم، ثم اقترح علي الشيخ المشاركة في المؤتمر، وعرض علي دعوته لي في ذلك...فشرح الله صدري للمشاركة في المؤتمر وكنت به خبيرا من قبل، لكن جاءت فرصة ثمينة بدعوة منظم المؤتمر لي بالمشاركة فكيف لا أقبل عليها ؟؟؟ ثم لما رجعت إلى داري وكتبي وخلوت إلى نفسي فتح الله علي بموضوع المشاركة، فراسلت الشيخ نفع الله به بملخص الموضوع...وبعد حين جاءني رأيه بالقبول، فمضيت في البحث مفتشا منقبا...حتى استوى من ذلك بحثٌ شاركت به في أعمال المؤتمر ونشرته بعدُ على صفحات هذا الملتقى...وسهل الله تعالى في زيارة موريتانيا...بفضل منه سبحانه ومَن وتيسير... يتبع
أذهلني الشيخ ماديك بتواضعه، وشدني إليه خفض الجناح وكسر النفس الأمارة بالسوء، وكذلك كان هدي أهل العلم من الطراز الأول...ووالله لقد شهدتُ الشيخَ في نواكشوط في إحدى جلسات المؤتمر جالسا بين يدي وأنا الحقيرُ الضعيفُ الغر الذي لم يطرْ في هذا العلم شاربُه، ولم يشب فيه عذارُه،والشيخ يعالج الأنترنيت لكي أدخل أنا إلى حسابي فأقف على ما احتواه بريدي الإلكتروني...
والشيخ بعدُ كريم جواد إليه المنتهى في ذلك..جلستُ إليه في إحدى جلسات مؤتمر الجديدة بالمغرب وكان لا يعرفني حق المعرفة..وإنما هي أخوة ساعة وصداقة لحظة... فرأيته ممسكا بكتاب أعجبني تجليده وراقني منظره فأردت أن أقف على ما بين دفتيه...فأشرت بيدي للشيخ..ففهم قصدي...وأدرك مرادي...فبادرني بالكتاب...فنظرت فيه مليا ثم رددت العارية...فسألني الشيخ وقد رأى أسفي لمَ لمْ أعط الكتاب هدية كسائر المشاركين في المؤتمر...قلت: لم يصلني شيء ولن أطلب شيئا..فماهو إلا أن سمع الشيخ كلامي حتى قال: فأمهلني حتى أنظر في الكتاب..فمضت دقائق معدودة..نظر فيها الشيخُ الكتابَ ومر عليه...ثم التفت إلي وهو يناولني الكتاب قائلا: خذه فهو لك...وفي نواكشوط في داره دخلتُ عليه في جملة من دخل فألفينا مكتبه المتواضع عامرا بالكتب المهداة إليه...رمقت عيناي منها كتابا من جزأين كنت أبحث عنه ...فبادرته قائلا: فأما هذا فلي...فوالله ما نطق الشيخ بحرف ولا تلفظ ببنت شفة..وأشار بيده أن نعم....وعلمت بعدُ لما خرجنا من عنده أن غيري من الأساتذة صنع صنيعي وفعل الشيخ ذاك الفعل نفسه معي...قلتُ ماذا تركوا للشيخ؟؟؟ بلى .... الثناء الجميل والذكر الحسن... تابع
يتميز الشيخ ماديك حفظه الله بروح شابة تبعث على النشاط والخفة لكل أمر فيه خير للعلم وأهله، وتشيع هذه الروح النشاط والجد في كل من اتصل بالشيخ بعلاقة أو سبب...وأخبر عن نفسي أنني لم أجرؤ لسنين خلت على التقدم للجامعة التي أنتسب إليها طالبا تذكرة سفر إلى الخارج قصد المشاركة في مؤتمر..بيد أن دعوة الشيخ لي للمشاركة في مؤتمر نواكشوط واهتباله بهذه المشاركة، واحتفاله بها، شجعني كل ذلك على التقدم المذكور....فاجتهدت في إعداد الوثائق وتهيئتها...وهو أمرٌ أنفر منه ـ جبلةً وطبعا لقلة صبري ـ بيْد أنه حُبب إلي هنا من أجل المشاركة المباركة الطيبة في ذاك اللقاء الموعود....ولما قرب الرحيل ..وحدثتْ للشيخ أمورٌ مع بعض الجهات المنظمة للمؤتمر...وانسد أفق الإنفاق على ضيوف المؤتمر...وحيل بيننا وبين ما كنا نأمل من زيارة موريتانيا...كتبت إلى الشيخ أقول له :"لا تحرج نفسك وتحملها ما لاطاقة لك به...وأعتذر عن المشاركة لقلة ذات اليد....ولأنه لم يمض علي كثير وقت على قدومي من الجزائر مشاركا في مؤتمر علمي هناك"...فكتب إلي الشيخ سلمه الله:" بل تأتي أنت وصاحب لك...ونفقة الضيافة علي وإلي".
...ولقد أطلقها الشيخ صارخة مدوية في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر عندما تعرض للصعوبات التي اعترضت سبيله أثناء الإعداد للمؤتمر، وذلك عندما قال مخاطبا المشاركين بكلمات تخرج من القلب لتقع في القلب:" ...ومهما يكن من أمر فإن هذا المؤتمر كنت أنتوي إقامته ولو أن أدعوكم إلى خيمة في مسقط رأسي نجتمع فيها، وأضيفكم على حلوى نأكلها...". يتبع
يشرف هذا الملتقى المبارك بانضمام أ.د/ محمد خروبات إليه ـ الذي تربطني به علاقة متعددة الجوانب، فهو متخصص في الحديث وعلومه وأنا كذلك، وهو سلمه الله مهتم بالفكر الإسلامي والتحديات المعاصرة وهذا العبد الفقير إلى مولاه يزعم أنه كذلك...وهو حفظه الله مناصر للحق، ومبطل للبهرج، جمعتني به الرحلة إلى بلاد شنيقط فوجدت فيه خير مرافق مصاحب...واستفدت من علمه وأدبه وهديه ما لم أستفده من غيره...وجمعني به قبلُ مؤتمر الجديدة في المغرب....فوجدتُ فيه خيْرَ معين على الحداثيين والعلمانيين واللادينيين ...فحياك الله وبياك ياأبا صهيب وجمعني بك كما ترغب وتريد في رحلة رمضانية نطوف فيها أرجاء أوروبا...لقد كانت مشاركتك في مؤتمر موريتانيا مميزة..هش لها الحضور، ورغب فيها القاصي قبل الداني...ولقد سمعت غير واحد من الحاضرين يعترض على رئيس الجلسة سلمه الله لم أوقفك خلال المشاركة...وألزمك باحترام الوقت المحدد...ويقول المعترض سرا لاجهرا...مثل هذه المشاركة حقها أن تمنح وقتا أكثر، لأنها كثيرة المنافع، جمة الفوائد،غزيرة العوائد...سدد الله منطقك أبا صهيب ذائذا عن الحق وأهله...ونفع بك وجعلك في الآخرين كحسان بن ثابت في الأولين...
أظن أنني كنت موفقا عندما افتتحت ذكرياتي عن المؤتمر الدولي الأول للقراءات في نواكشوط بذكر طرف من خصال صاحب المؤتمر والداعي إليه، والساهر عليه الشيخ ماديك حفظه الله، وحديثي عنه ليس حديث تملق ولا تزلف ولا مداهنة، إذ من عرفني علم أنني إذا علمتُ في الرجل خيرا ذكرته ونوهت به، وإذا كانت الأخرى لزمت الصمت..فلم أقل شيئا...والشيخ ماديك حفظه الله يستحق ثنائي الجميل، ويستوجب ذكري الحسن، لما قد بذله من جهد في تيسير انعقاد هذا المؤتمر المبارك...كتب إلي يوما قبل اللقاء الموعود..يقول: لقد قضيتُ اليوم كله عند فلان أناقشه ويناقشني في المؤتمر وسبل تيسير انعقاده...ويوم أن وصلنا في رفقة صالحة إلى مطار نواكشوط بعد منتصف الليل، وجدناه واقفا ينتظرنا وحيانا من بعيد ونحن أمام شرطة الجوازات لم يؤذن لنا بعدُ في دخول موريتانيا...ولما جاوزنا قنطرة الوادي، استقبلنا بالبشر المعهود، والوجه البشوش، ورافقنا إلى سيارة كانت واقفة خارج المطار تنتظرنا، وأودعنا فيها مكرمين معززين وتركنا بعد أن اطمأن علينا مودعا قائلا/ إنه سيظل في المطار ينتظر قادما من مصر...تُرى كم انتظر الشيخ بعدها؟؟ وظني أن الشيخ ماكان ينام أيام المؤتمر أو قبلها إلا قليلا...ولعله أسر إلي أو إلى غيري بذلك...
ومما قد فطر عليه الشيخ ماديك الغيرة على دين الله، والإنتصار لرسوله، والذوذ عن حياض القرآن الكريم وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم...ولقد قام الشيخ أطال الله بقاءه في جمعية المستقبل مقاما جليلا بين يدي فضلاء حضروا لمناسبة زيارة وفد المؤتمر للجمعية ـ فذكر فيه الشيخُ ما قد علق بذهنه من وحي مؤتمر الجديدة في المغرب من وجود من يقول القرآن نص كبقية النصوص، وصاحبه قد مات، و...و...فشرقَ الشيخُ بريقه واغرورقت عيناه فهو من الحزن كظيم...وغشي المجلسَ الحافلَ وقارٌ وحشمةٌ ...وحفته ملائكةُ الرحمن يستمعون الذكر..
وبعد فلقد اتفقت لي في مؤتمر نواكشوط مواقف ومشاهد أنا ذاكرها هنا بحسب ورودها عفوا من غير تعمل ولا تصنع، لأني لا أكتب مذكرات في السفر ـ ولعمرُ الله إنه لعيب ـ، وما أسوقه هنا هو عفوُ الخاطر ووحيُ هذه الساعة، فمن ذلك:
ألفيت في موريتانيا في حضوري ذاك المؤتمر، روابط تاريخية تربط بين المغرب وبلاد شنقيط كما كانت تسمى قديما، فأصل بعض دول المغرب من أرض موريتانيا كالدولة المرابطية التي أسست للإسلام في مراكش الحمراء دولة، وشادت في الأندلس حضارة ووطدت دعائم الاسلام وكانت لها في تلك الأرجاء صولة، وكان منها يوسف بن تاشفين أمير المسلمين دفين مراكش في قبر وقفت عليه تذكرة وعبرة، فقلتُ ههنا يرقد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي هزم القشتاليين من النصارى الحاقدين في الزلاقة يوم أن اجتمع الأحزاب وأرادوا بالإسلام شرا، وبيتوا لخروجه من أرض الفردوس المفقود، وكادت راية الحق تسقط من أرض أندلس لولا أن تداركها الله بهمة رجال عالية من طراز صاحب هذا القبر ، وضجيع هذا الثرى، يوسف الملثم المجاهد، فمد الله في عمر دولة الإسلام في الأندلس أربعة قرون أخرى كان فيها أعلام الحديث وجهابذة الفقه ومشاهير التفسير ونبلاء اللغة والأدب، ورؤساء التاريخ والرحلات والأخبار...فمن هذا الطراز أبو علي الصدفي السرقسطي، وأبو علي الغساني وابن عطية الغرناطي، وابن الحذاء القرطبي، وابن بشكوال وابن الأبار وابن الزبير و ابن عبد الملك المراكشي وغيرهم ممن نهفو إلى لقائهم ونهش عند ذكر أسمائهم كأنه يربطنا بهم نسب صريح أو مصاهرة بينة واضحة...
تذكرت كل هذا وغيره وأنا جالس منتظرا دوري في إلقاء كلمة لمناسبة زيارة وفد مؤتمر نواكشوط لمقر جمعية المستقبل...فلما جاء دوري ذكرت من هذا طرفا...وأنا أرتعش متأثرا بما غمرني من شعور يجذبني إلى الماضي التليد الذي عاشته هذه البقاع في وحدة واحدة ودولة إسلامية قوية،مهابة الجانب، يرهبها البعيد قبل القريب، ويخطب ودها القاصي قبل الداني....ويُحسب لها ألفُ حساب...
كانت العلاقات البينية بين المغرب وبلاد شنقيط علاقات إفادة واستفادة، لا تقف في وجهها الموانع والصوارف، ولا الصحارى والبراري،ولا وعثاء الظعن والأسفار، ولاوحشة الطرق والفلوات، إنما هي همم عالية، وأهداف بينة واضحة، رُكب كل ذلك في رجال كان لهم من الصحراء صعوبةُ مسالكها، ومن البيداء كثرةُ صبر أهلها، ومن المفازة شدة حرها وفيْحها....كانت فاسُ مدينةُ العلم والعلماء، وموئلُ الفضل والفضلاء، وجنةُ مغرب في آدابها وفنونها...حاضرةً في الذاكرة الشنقيطية في درسها ومجالس علمها...ومبتغى للجوالين من بلاد شنقيط في رحلاتها وأسفارها...رحل إليها العلامة الطبيب بن الخيمه بن الطالب أحمد التنواجيوي المتوفى سنة 1131هـ، وهناك ألف كتابه/: البيان أو التبيان في علوم القرآن" سنة 1113هـ....وكانت تكون بين فاس وشنقيط أشعار علمية وألغاز نظمية كاللغز الذي وجه من قبل أحد الشناقطة إلى فضلاء فاس، وهوالمتعلق بالنكتة البلاغية في إظهار كلمة أخيه وعدم الإستعاضة عنها بالضمير في قوله تعالى:" ثم استخرجها من وعاء أخيه، أورد ذلك كله د/ محمذن بن أحمد بن المحبوبي رئيس الشعبة العامة بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في نواكشوط في بحثه القيم عن:" حضور مدينة فاس في الذاكرة الشنقيطية..." المنشور في مجلة التاريخ العربي في العدد الخامس والخمسين من شتاء 1432هـ ص 225 وما بعدها من صفحات درر جواهر ناصعات...
شاهدت في موريتانيا قوما أوتوا من التواضع والعفوية والبساطة في القول والعمل ما لم يؤته كثير من الناس، ولعل مرد ذلك إلى بساطة الطبيعة التي يحيون فيها ، فهي صحراء فسيحة، وبيداء مترامية الأطراف، لا ماء ولا شجر فيها إلا فيما ندر، فهي إما سماء لا نهاية لأفقها، أو مفازة لا قرار لها...بساطة العيش في موريتانيا وعفوية الإنسان، مرجعها إلى طبيعة المكان...ولعمر الله فلقد منح ذلك الموريتاني اتقادا في الفكر، وتوهجا في النظر، وقوة وعي للمحفوظ، في جودته وكثرته...وهذا الذي أثر في سيلان أذهان من كان ومن هو كائن في بلاد شنقيط العلم والعلماء....وآية عفوية الموريتاني وتواضعه من رحلة شنقيط وحضور مؤتمرها...أنني رغبت أنا ورفقة خاصة كانت معي في زيارة جامعة نواكشوط والوقوف على كلياتها والتخصصات التي تدرس فيها، ولم يكن دائرا في الخلد زيارة مسؤول فيها، بيد أن الشيخ ماديكا رتب لقاء من غير أن نعلم مع رئيس الجامعة...وعلم به الشيخ عمر النائب في البرلمان حفظه الله فتبعنا عجلان مسرعا ليكون في صحبتنا في ضيافة الرئيس....فدخلنا على الرئيس من غير موعد سابق وإن رتبه الشيخ ماديك على عجل وفي آخر ساعة لأننا ما أعلمناه إلا بأخرة...فكان اللقاء حافلا جلس إلينا فيه الرئيس في مكان واحد وفي مستوى واحد، متحدثا عن كل شيء وما أبقى لنا ما نسأله عنه إلا ما قل...وكان من جملة ما قال إنه يرغب في أن نكون سفراء جامعته في ربط علاقات شراكة وتعاون بين جامعة نواكشوط وبين جامعاتنا...وتكلم الرجل كمتحدث إلى بعض أهله ناثرا ما في قلبه أمامنا، ومبديا ما في جعبته من غير تكلف ولا تصنع دأب عليه أمثاله ممن كان في مثل موقعه إلا من رحم ربك...وقليل ما هم...
شدني إلى موريتانيا تراثها العربي الأصيل الضارب في القدم، والمتأثر بالإسلام وثقافته وهديه وحضارته وتاريخه..فلقد كانت لنا معاشر المؤتمرين زورة مشهودة إلى المتحف الوطني الموريتاني في ذات صباح سعيد عقب انتهاء أعمال المؤتمر، ذهبنا نجول في نواكشوط نتفرج على معالمها، ونسيح في أرضها..وماذا في ذلك ...وهل فرضٌ لازم على المؤتمرين أن يلتزموا بالجد الذي هو مقرر في الرحلة لا يعدونه إلى شيء من الروْح يغذون به الرُوحَ، ويسرون به على النفس، ويطربون به العين والفؤاد، ويزيدون في رصيدهم المعرفي معلومات لا توجد في كتاب، ولا يحتويها ديوان، ومظنة وجدانها سفرٌ في بلاد، ولقاءٌ مع أحباب، وتجوالٌ في متحف أو معرض أو مهرجان ـ قصدي المهرجان العلمي لا الغنائي فافهم ـ ؟؟؟.
كانت جولتنا في المتحف الوطني الموريتاني فرصة انتهزها الشادي الراغب في الإستزادة لكي يعرف تاريخ وحضارة بلد شنقيط، ففي هذا البلد عرفت للإسلام دولة وحضارة،...وقفنا خلال هذه الزورة على معالم مدن قديمة طمرتها الرياح بترابها، وغمرتها العواصف العاتية برمالها، ونكست أعلامَها صروفُ الدهر بما جرى في قدر الله من أنه" تلك الأيام نداولها بين الناس" فهل من متعظ بزوالها وانتقالها...لا إله إلا الله...أممٌ كانت وبادت...وحضارات وُجدت ودالت....و يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام...
استوقف الجمعَ الكريمَ وهو يطوف خلالَ المتحف نابُ فيل كبير الحجم عُثر عليه في أرض موريتانيا...فدل ذلك على أن هذه الفيافي والقفار في غابر العصور والدهور لم تكن صحراء قاحلة ، ولا بيداء مقفرة، ولا مفازة خالية...إذ ـ يارعاك اللهُ ـ كيف يعيشُ الفيلُ في أرض فلاة، وفوق رمال ساخنة، وتحت سماء شديدة الحر؟؟؟؟ إذ لابد أن تكون هذه البلاد قد جرت فيها عيون وأنهار، وسيول وأمطار...حتى تتهيأ فيها للفيل حياة؟؟؟ يتبع
واستوقف الجمعَ الكريمَ في تجواله في المتحف الموريتاني الوطني،مظاهر حياة الشعب الموريتاني في حله وترحاله ،في تجارته وصيده، في سكنه ودوره، وطلبه العلم في عصور مختلفة وبيئات متعددة، ودول متعاقبة، فهذا الدينار المرابطي تتلألأ أنواره تحت أشعة آلة تصويرنا، وهذا مخطوط كتاب قديم تتبدى حروفه المكتوبة على رق غزال، وهذة خيمةُ وبر تقي من الحر والقر...
واستوقف الجمعَ الكريمَ مدخلَهم إلى المتحف لوحةٌ علتها زجاجةٌ غطت وجهها، وتبدت حروفها من خلالها، كتب عليها بعد البسملة في عنوانها:" بلاد شنقيط منبع الإشعاع العلمي"...وآية ذهب عني نصها...وقوله صلى الله عليه وسلم:" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"...ثم هذا البيت:
العلم يرفع بيتا لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف
ثم تعريف ببلاد شنقيط وبيان لمنزلتها ..ثم تمثل ببيت الشافعي:
علمي معي حيثما يممـــت يتبعني في بــاطن الصدر لا في جوف صنـدوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلـم في السوق
ثم كلام في مزايا الشخصية الشنقيطية ثم شعر لأحد الشناقطة لم يعلق منه بذهني إلا بيت أخير منه:
قد اتخــذنا ظهـور العيس مدرسة بهــا نبين ديــن الله تبـيانـا يتبع
وأكبر ما في المتحف الوطني الموريتاني وأعجبه وأشده إثارة الإنسان الموريتاني الشنقيطي...هذا المدير للمتحف الذي كان يدور معنا حيثما درنا، وييمم وجهه حيثما يممنا، بلباسه التقليدي المميز، وسحنته الشنيقطية التي لا تخفى كل ذكي لبيب...لفت نظري إليه إتقانه العربية أداء ونطقا وأسلوبا وتهديا..وحفظه الكثير للشعر...وكيف لا يكون كذلك وهو من بلد المليون شاعر...مع الصرامة في التزام النظام...والسكوت بين الفينة والفينة براعةً في استنصات من يتكلم ... يتبع
ليس يطفئ نهمة الصادي العطشان إلا أن يرتوي، وليس ينفع الظمآن اللهفان إلا أن ينهل...لقد قضى الجمع الكريمُ ساعة من ساعات العمر بين مخطوطات ووثائق موريتانيا التي كانت محفوظة بجوار المتحف الوطني...لقد كان اطلاعنا على المجموعة المخطوطة من الكتب فصلا مهما من فصول رحلتنا إلى موريتانيا...دخل الجمع الكريمُ إلى محل تواجد المخطوطات بخطى متسارعة...وقلوب متلهفة..فهذا الكتاب المخطوط في هذا العصر أعز ما يطلب..وأنفس ما يجتنى وأغلى ما يقتنى...تلاقانا بالبشر والسرور، على الباب جلة من المشايخ من خزنة المخطوطات من ذوي الشيبة، ممن أفنى عمره في قراءة ما بين السطور، وفك ما في تلك الرموز...وأرشدونا إلى فهارس المحتويات التي رُتبت على الفنون والموضوعات العلمية المعروفة...وقالوا ابحثوا عما تريدون نأتيكم سريعا بالمطلوب...لم يكن محل خزن المخطوطات فسيحا، ولا مهيئا للجلوس المريح لمطالعة المخطوط ولا دراسته...وإنما هي عبارة عن كراسي معدودة متناثرة..وخزائن للمخطوطات من حديد أو ما شابهه...ومكتب صغير واحد فيه بعض المعروضات من المخطوطات...أذهلني تفاني الخزنة من ذوي الشيبة في خدمة الأساتذة من الشباب أولي القوة...والله لقد كنتُ أرى الشيخَ الخازن يأتي بالمجموع الذي حوى بين دفتيه جملة من المخطوطات..فيهوي به إلى الأرض...باحثا عن الغرض المطلوب...والأستاذ الشاب فينا منتصب ينتظر نتيجة البحث والتفتيش...كانت المخطوطات محفوظة على وجه قديم..فالقاعة غير مكيفة ولا مهيئة أصلا للحفظ...وههنالابد من دعوة أولي الحمية والغيرة على تراث هذه الأمة...أن يلتفتوا إلى مثل هذه الجهات التي لا تملك من اليسار والجدة ما يقوّم الحال، ويُصلح البال، ويحفظ التراث، ويُبقيه للأجيال...على توالي الأيام...
لست أدري كم مضى علينا من الوقت ونحن نتفيأ تلك الظلال، ونكرع من تلك المناهل...بيد أن الذي أتحققه أنْ قد تصرم وقت طويل ونحن ننظر في جملة من تلك المخطوطات...كلٌّ بحسب فنه وتخصصه..ورغبته ونهمته...وصبره وجلده...وفي تلك المخطوطات من كل فن نصيب ففيها جملة صالحة في القرآن وعلومه، والحديث وفنونه والفقه وفروعه والتاريخ وأخباره...و...و..وفيها أصول وشروح وحواش وتقريرات...ومنها الصحيح المتماسك...ومنها الرث المتهالك...الذي ذهب شداده وتفرقت أوراقه...وفني رونقه وبهاؤه...ولم يبق منه إلا رسمه وخطه...وأنفس ما في هذه المخطوطات كتب ألفها الشناقطة في شرح آيات أو أحاديث أو في التعليق على مسألة علمية أو فقهية.أو في وصف رحلة ..فهذه الكتب المحلية المخطوطة ضمير الأمة الموريتانية ...ومعبر صريح عن تاريخها وماضيها التليد...ونكرر هنا دعوة أولي الغيرة على تراث الأمة بالمسارعة إلى إنقاذ هذا الموروث الكتبي وتمكين الباحثين منه ونشره وطبعه...بعد أن تهيأ له وسائل حفظ حديثة تقيه التلاشي والإندثار... يتبع
قضينا من المخطوطات وطرنا وأصبنا منها اللُبانة...وخرجتُ في رفقة خاصة متوجها إلى جامعة نواكشوط في زورة لم يكن مخططا لها من قبل الشيخ ماديك، بل فرضت عليه فرضا...وهل يستطيع الشيخ أن يرفض لنا طلبا...وما ندري أتصل الشيخ برئاسة الجامعة يخبر أنه آت وفد من المؤتمر لزيارة الجامعة...أم أن اللقاء حصل عفوا من غير ترتيب...والظن الراجح أن يكون بترتيب من الشيخين/ ماديك وعمر...لأننا استُقبلنا على بوابة الرئاسة استقبالا جيدا...وأُدخلنا بعدُ إلى مكتب سكرتير الرئيس ننتظر أن يؤذن لنا في الدخول ..فلم ننشب أن أُذن لنا من قريب...فولجنا مكتبا قد فسح في مكانه...ورُتب ترتيبا إدرايا معروفا في مثل هذه المكاتب....وألفينا الرئيسَ أول المستقبلين بوجه طلق، وابتسامة عريضة...واقفا يسلم علينا ويرحب...وجلسنا وجلس إلينا...وابتدرناه نقدم أنفسنا واحدا تلو الآخر...وكنا خمسة: ثلاثة مغاربة وجزائري ثم انضم إلينا بعد حين الشيخ عمر الفتح...كانت الجلسة مع الرئيس حافلةً بما تفضل به عن الجامعة وتخصصاتها، وآفاق العمل الجامعي في موريتانيا...وعن المبنى الجديد الكبير للجامعة الذي سوف يفتتح قريبا..وفي الحق فلقد كان الرئيس متواضعا غاية التواضع...حدثنا عن طلبه العلم في الجزائر وفي قسنطينة ...وذكر من فضائل الجزائر عليه وأهلها ما أُعجب به الشيخُ الجزائري الذي كان معنا...ولقد كان معي بعضُ كتبي فأهديتها للرئيس لكي توقف وقفا مسبلا مؤبدا على مكتبة الجامعة فبادلنا بها مذكرةً رائعة كانت الجامعة أصدرتها بمناسبة العام الهجري الجديد فيها من الحديث عن موريتانيا شذرات رائعة...وعن بلاد شنقيط لوحات وذكرى...
أدركتنا الجمعة في نواكشوط فذهبنا نصلي في المسجد الكبير الذي قيل لنا إن المملكة العربية السعودية أعلت مناره، وشيدت بنيانه، ووطدت دعائمه...فدخلنا المسجد وقد اشتد حمارة القيظ...وحفت الرمال الحارقة المسجد...فوجدناه قد فسح في مكانه، ورفع سقفه وجدرانه...وطليت الجدران بالأخضر الفاقع...ورفع المنبر المبني عن الأرض قدرا يسيرا...فصلينا ركعتي التحية...وجلستُ متأملا في المسجد والناس من حولي...التفت فرأيت عن يميني رجالا لبسوا اللباس القومي لايعدونه إلى سواه...السروال الموريتاني المعهود الذي يشبه السراويل المغربية في كثير من التفاصيل بيد ان له طابعا خاصا...والعباءة الموريتانية التي نسيت أن أسأل من أضافنا عن اسمها عندهم...وهي مميزة باتساعها وكونها سابغة فضفاضة..تَسعُ الرجل والرجلين بل الثلاثة....والتفت عن يساري فلم تقع عيني إلا على رجال يلبسون زيا وطنيا واحدا....وتساءلت وأنا في المسجد...عن السر في ذلك...وهل يحتاج الأمر إلى أن يفكر فيه...تنبهت إلى أن قارئا يقرأ القرآن الكريم منفردا...فتابعته بيْد أنه انقطع بعد هنيهة...فقام رجل يقول شيئا لم أفهمه لأنه باللسان الحساني المحلي المعروف...فقلت لمن هو جالس بجانبي وهو من أهل الديار ولم أعرفه من قبل:" ماذا يقول الرجل؟؟" قال بلسان عربي مبين:" إنه يعظ الناس"...مرت دقائق وأنا أنظر إلى الواعظ ولست أفهم مما يقوله كلمة...قلت لصاحبي:" ومتى نصلي الجمعة ؟؟" قال:" الآن الآن" قلت:" لقد اشتد علي الحر، وأنا مسافر غريب...ومن أجل ذلك سألتك" قال الرجل:" واضح...أنك غريب من زيك"، قلت مشيرا إلى ما كنت ألبسه:" الجلباب المغربي..." قال الرجل برأسه نعم نعم..."فلم ننشب حتى حضر الخطيب وأذن المؤذن للصلاة...كان الخطيب شيخا قد نيف على الستين أو يزيد، لابسا البياض ومعتما بعمامة عظيمة...واضعا نظارتين...ممسكا بعصا طويلة...جالسا على أرض المنبر لا يكاد يُرى...وهذا أمر مستغرب عندنا إذ جرت العادة في المغرب أن يجلس الخطيب على الكرسي الذي يوضع على مرتفع مبني يقال له منبر حائطي ـ يعني أنه ليس منبرا خشبيا ـ....شرع الخطيب في الخطبة قائما متوكئا على العصا...مفتتحا بالذي هو خير...لا يخطب من ورقة...ويختم جمله بكلام فيه سجع ونبرة مميزة تبعث على المتابعة والإنتباه...مضى الخطيب في خطبته وعظ وأرشد وبين وفصل واستشهد واحتج وحدث وأثر...حتى إذا شعر أنه قد أبلغ ونصح وأدى الأمانة وبلغ الرسالة..ختم بالدعاء ...صلينا الجمعة ولما ختمت الصلاة...قام قائم في مقدمة المسجد وآخر في وسطه وثالث هناك في آخره ...و...و..واختلطت الأصوات وأنا لا أفهم مما يقوله المتكلمون شيئا ..لبعد الأصوات عني ولاستعجام اللسان الحساني علي...وكان واعظ من هؤلاء أقرب المتكلمين مني، فنظرت إليه، فإذا هو شيخ فان قد لبس لباسا يبدو منه جسمه عاريا من الأعلى...بالغ في الوعظ وذكر الموت والفناء...ثم ختم فانهال عليه الناس بما جادت به أنفسهم...
كان غذاؤنا في اليوم الأول من المؤتمر في مركز تكوين العلماء الذي يسهر عليه الشيخ محمد الحسن بن الددو...وهو مركز أهلي يسعى لتخريج العلماء في مختلف العلوم الشرعية على يد علماء راسخين في العلم، وشيخ المركز من بيت علمي معروف بالبروز في العلم والتقدم في الفضل...وهو مد الله في حياته حافظٌ كبير... إليه المنتهى في الحفظ للنصوص واستحضارها، والوعي للمحفوظات والإستشهاد بها...كما أنه معروف بالظهور في عدد من الفضائيات والقنوات المحلية والدولية في برامج سيارة...طارت أيما مطار...واشتهرت بين الناس أيما اشتهار...مع الإنتساب إلى عدة منظمات علمية دولية معروفة كالإتحاد العالمي لعلماء المسلمين....دخل الجمع الكريمُ إلى هذا الصرح العلمي الكبير...فتلقانا المسؤولون عن المركز بالبشاشة والترحاب...ودعونا إلى مائدة الغذاء...ولم يكن شيخُ المركز ـ سلَّمه الله ونفع به ـ حاضرا وعلمنا بعدُ أنه كان مسافرا خارج البلد...كان المكان الذي وُضع فيه الخوان مستطيلا طويلا...ولم يكن في الحقيقة خوان إنما هو طعام ممتد على طول القاعة موضوعا على بساط على الأرض...سلمنا على الحاضرين وكانوا جمعا من أهل العلم لا نعرف أكثرهم ..بيد أني عرفت منهم الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغري رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين والخبير الحجة في فقه المعاملات المالية المعاصرة...وكنت تشرفت بالسلام عليه قبل الدخول إلى قاعة الطعام...وفي الحق لقد بالغ القوم في الإكرام وتقديم شهي الطعام والإتحاف بصنوف الفاكهة ومختلف العصائر والمشروبات...ومما استوقفني من ذلك وسألت عنه الشيخ ماديكا طعام كالكسكس المغربي المعروف بيْد أنه من صنف واحد من الخضار، إذ اقتصر فيه على الجزر حسبُ....بينما الكسكس المغربي يُعمل بخضار سبع ، فيكون إليه المنتهى في الجمع بين أنواع الخضار المفيدة للجسم والعقل...وانتقل الجمع الكريمُ بعد الغذاء إلى قاعة مكيفة في الطابق السفلي للمركز يظهر منها أنها للإدارة...فجلسنا في أجواء مريحة ودارت علينا كؤوس الشاي الموريتاني المميز بالنكهة الصحراوية الساحرة...وقام فينا شاب من الطلبة معرفا بالمركز من خلال عرض فيلم تسجيلي تصدى للتعريف برسالة المركز وأهدافه وغاياته..ووسائل عمله..كما عرف بالقائمين عليه وبالأساتذة والمواد العلمية التي تدرس فيه من تفسير وحديث وأصول وفقه وغير ذلك...كل ذلك بالصور المفهمة والرسوم المقربة المبينة...وتناول السادة الضيوف الكلمة..فتحدث بعضٌ وسكت بعضٌ، وقال البعض المتكلم بما فُتح عليه من سبل للرفع من أداء المركز...ولبثنا على ذلك ساعة من الزمن ...حتى أزف وقت العصر..فدُعينا للقيام بجولة على المركز، فرأينا ما سرنا من مرافق وقاعات هيئت لخدمة العلم وطلبته...وأذن العصر..فصلينا في مسجد المركز..وأدى الصلاة معنا جمع كبير من الطلبة...كلهم ملتف باللباس الموريتاني المعروف لا يشذ عنهم في ذلك أحد ولا يخالفهم فيه طالب...وخرجنا من المركز وقد أدركنا بعضُ الإرهاق للحر الشديد...فكانت الوجهة إلى الفندق للراحة وإجمام المهجة وإراحة الجسد... يتبع
كان اليوم الأول من المؤتمر مزدحما بالأنشطة الثقافية التي تعرف الحاضرين من المشاركين بتاريخ وحضارة موريتانيا...فبعد أن أخذنا قسطا من الراحة في الفندق...واستراح منا العقل والجنان...رجعنا إلى مباشرة ما من شأنه أن يغذي الرصيد الثقافي لكل نهم في العلم ولهان...فأخبرنا أننا سنقوم بزيارة لإحدى محاظر العلم والعرفان...في نواكشوط دار الإمارة وعاصمة السياسة ومنهل النور والإيمان...فسر منا الفؤاد وفرح منا الخاطر وسعدت منا الأركان...وحمدنا الله تعالى ذي الجلال والإكرام أن مد في الأعمار ونسأ في الآجال حتى أرانا المحاظر التي طالما سمعنا عنها أو قرأنا عنها الصحائف الطوال...خلدت لموريتانيا ذكرا حسنا...وأطارت لها في الآفاق أحدوثة عطرة تفوح بالورد والياسمين والريحان...كانت المحظرة التي تشرفنا بزيارتها في نواكشوط العاصمة...تتكون من مسجد جامع كبير صلينا فيه صلاة المغرب وصلاة الجنازة على الميت...ومبنى منفصل عن المسجد فيه مقر المحظرة التي يُعلَّم فيها العلمُ وتدرس في رحابها مختلف الفنون...تقدمني الجمعُ الكريمُ إلى مقر شيخ المحظرة...وتأخرتُ عن اللحوق به لطارئ حدث...فوصلتُ المقر بُعيْد جلوس الجمع الكريم إلى الشيخ...فصعدت الدرج بجهد بالغ...فانقطع نفسي...من البُهْر والعياء والجَهد...فألفيت الجمع الكريمَ قد التمُّوا بالشيخ الجليل...وتحلقوا حول النجم المتلألئ ...فسلمت على الشيخ وجلستُ فقيل لي عرف بنفسك...فقلت بصوت متقطع:" إني أنهج ...و..." ففهم الشيخ أنه لابد من الصبر علي حتى أستأنس وأستريح من صعود الدرج...فوَدَعني وشأني...فأقبلت متأملا ما حولي...بعد أن اطمأن بي المقام، وذهب الجهد....وحصل الأنس... يتبع
كان شيخُ المحظرة في السبعين من عمره أو يزيد...ذا شيبة واضحة..لابسا اللباس الموريتاني المعروف متخففا منه إلا ما ستر الجسم،ووقى من الحر..يعلوه وقارُ العلم وأهله، وتغشاه جلالةُ التعليم وفنه...وتحفُّه نجابةُ الفضلاء...وتحوطه نباهةُ النبلاء..المعروفة من سيَرهم وتاريخهم وطبقاتهم ...قد أحاط به يمنة ويسرة بعضٌ من خُلَّص التلاميذ والأتباع...فهو بينهم كنَجْم بين كواكب منيرة، أو كالدُّر بين أصداف مضيئة... ألفيتُ الشيخَ لما وصلتُ متأخرا عن الجمع الكريم يتحدث عن المحظرة وما اشتهر من ذكرها في هذه البلاد المترامية الأطراف...فأومأ إلى بدئها وتقاليدها وأعرافها وكيفية طلب العلم فيها، وأفاض في فضلها ومنزلتها وأثرها في بلاد شنقيط...وما أخرجته من أعلام العلماء..وجهابذة الفضلاء...وسادة رُفعاء...وكان يتخلل حديثَه أسئلةٌ تأتيه من هنا وهناك...تفتح له بابا من أبواب الحديث، أو تنهج له طريقا من طرق الكلام والمحاضرة...وكان مما ذكره سلمه الله، أنه لم يَعرف سوى المحظرة مدرسةً للعلم في بلاده...ومنارةًَ للمعرفة في قُطره ووطنه..فهي كانت موئلَ العلم والمعرفة...ومأرز الإيمان والعرفان...وملاذ طلاب الحقائق...وشداة الدقائق...منها تخرج المجاهدون الأبطال...وفيها دارت مجالس الأخيار...ومنها كان مُنْطلقُ المدارس والمعاهد والجامعات....ولولا المحظرةُ لضاع العلم في هذه البلاد...ولذهب الهدى منها...ولانْدرَسَ منها رسمُه وفنيَ أهلُه...وكان الشيخُ يتحدث عن كل ذلك وغيره مما أُنسيتُه بعربية فصيحة، بالطريقة الموريتانية المعروفة... يتبع
كان الشيخ يتكلم في فنون عديدة في التاريخ والتفسير والحديث والفقه والنحو وغير ذلك...ولقد طوَّف به الجمعُ الكريم في غير ما فن،من خلال ما قد سألوا عنه من أسئلة فيها استشكلات عويصات لقضايا ليس يقوم لها إلا من حذق هذا الشأن عربيةً وعلومَ شرع وغير ذلك...فكان جواب الشيخ هو الجواب المقنع الذي يشفي ويكفي....تصرم الزمنُ سريعا يتفلَّت ونحن جلوس بين يدي الشيخ كأن على رؤوسنا الطير...نصغي بآذاننا ونرى بأعيينا كيف يؤتي العلمُ ثماره...وتجتنى نعماؤه وآلاؤه...هذي السيادة ...هذا السؤدد..هذا الشرفُ...هذا المُلْك...هذا العز...هذا الصولجانُ...ولم يرُعْنا إلا والشيخُ عمر حفظه الله ينهي اللقاء بحسن التخلص يقول لقد أزف المغرب...وقريبا يرتفعُ صوت الحق...فما إنْ أتمَّ قولَه حتى صدَّقه واقعُ الحال..إذ رُفع الأذان أنْ حيَّ على الصلاة...فودََّعنا الشيخَ ونحنُ أحرص ما نكون على صحبته، وخرجنا من عنده ولمَّا نقض وطرا...وفي النفس حاجاتٌ...ولقد أذهلني الشيخ وفاجأني..إذ لما جئته مسلّما مودّعا..همس في أذني:" هل استرحتَ؟؟"، قلت: فما العجب من حفظه سلمه الله لما ذكرته من انقطاع نفَسي أثناء صعود الدرج فلقد كان حافظا..لكن العجب منعقْله لي، وما رآني إلا مرة..لم يحقق فيََّ نظرا ولم يُشبعه.!!! يتبع
أزف وقت طعام العشاء في أول يوم من أيام المؤتمر أو ثانيه، فأخذنا بالسيارة إلى طريق صحراوي خارج نواكشوط، بعيدا عنها بفراسخ ...والبدر مكتمل، والسماء قبة سوداء متلألئة نجوما ناصعة...واختفت ضوضاء المدينة وسكن المكان...وهدأت النفس...وبرد الجو...ودخلت بنا السيارة في طريق فرعي بعد مضي وقت غير قليل من المسير...لا غالب فيه إلا الرمال...ولا مؤنس فيه إلا الله...ولا مستجير به إلا الله...ولا منجي إلا الله...لا إله إلا الله....قلتُ للسائق وكانت لي عليه دالة، وقد أنستُ به فكأني أعرفه من زمان بعيد...:" إلى أين المسير ؟" قال طانزا وعن الجد حائدا:" إلى المغرب إن شاء الله" ثم ابتسم ضاحكا...قلت:" ناشدتك الله إلا أخبرتني،وعلى جلية الأمر أطلعتني" قال وقد عرف جدي في السؤال...:" أنتم ياضيوف المؤتمر مدعوون إلى حفل عشاء في الصحراء..." وسكت ليقف بنا في حفل قد تبدت أنواره، وتكشفت أستاره، وبددت حركته وجلبتُه صمت الليل البهيم....وصل الجمع الكريمُ إلى خيمة كبيرة نُصبت بين كثبان رملية...في مكان فسيح، وأرض خالية...إلا من الحفل الحفيل...والعشاء الفخم الأصيل...فألفينا المستقبلين وقوفا في الإنتظار...فسلمنا على من عرفنا وعلى من لم نعرف...ثم جلسنا إلى مائدة طعام مُدت على الأرض مدا...وبُسط ما فيها للآكلين بسطا...وقال المضيفون بسم الله وعلى بركة الله هنيئا مريئا....جلس إلى جانبي الشيخ عمر الفتح...فأكلنا من أكلة واحدة وإن كنتُ خالفته إلى أخرى قريبة مني ...قطبُ رحاها السمك الذي يكثر وجدانه في موريتانيا ألوانا وصنوفا...ولما شبعنا حمدنا الله تعالى على ما هيأ ويسر، وأنعم به وتفضل...ودارت علينا كؤوس الشاي المعهودة في موريتانيا ...ثم جيء بمكبر صوت فقام خطيب القوم فينا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله...ثم رحب بالضيوف الكرام وخص منهم الأستاذ الدكتور محيي الدين قره داغي ..الذي ما علمنا بمكانه في الجمع حتى ذكره المتحدث...ثم تلا تال شيئا من القرآن الكريم...لترجع الكلمة إلى القائل الأول...فيعلن فيها أن الحفل سيمتد لأقل من نصف ساعة لأن الشيخ الأستاذ الدكتور قره داغي مسافر ليلا بعد ساعات، وسيكون الحفل مخصصا لجواب فضيلة رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أسئلة الحاضرين... يتبع
وفتح باب طرح الأسئلة فقام إلى حيث وضع مكبر الصوت إمام المسجد الذي صلينا فيه الجمعة التي مضى وصف حالها آنفا، فوجدته على غير هيئته في المرة الأولى، فعلمتُ أن الرجل يحتفل بالجمعة ما ليس يحتفل بغيرها، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يهتبل بالجمعة وصلاتها ما ليس يهتبل بغيرها، حيث وردت أحاديث كثيرة صحيحة معروفة مواضعها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد تصف لباس وهيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة....نسوق هذا لمن يلتزم في هذا العصر هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة بيْد أنك تراه يوم الجمعة لابسا ثوبا لبسه في سائر الأيام....تقدم الخطيب المذكور، والمفوَّه المصقعُ المعروف فطرح سؤالا في فقه المعاملات المالية المعاصرة، وأُعطيت الكلمة لفضيلة رئيس الإتحاد العالمي للعلماء الخبير بهذا الباب، والمتضلع فيه ومنه...فأفاض في الجواب، وأحال على بعض كتبه المؤلفة في موضوع السؤال...وأفاد وأجاد فهو أحد فرسان هذا الشأن في هذا الزمان...
ثم لبث الجمعُ الكريمُ على سماع جواب فضيلة الرئيس حتى تقدم مقدم اللقاء باختتام الجلسة...فانفض المجلس...وقيل لنا لابد من تمام الحفاوة والإكرام من شرب ألبان الإبل التي كانت قريبة منا في مرابضها...فتوجهنا صوب المرابض على نور القمر في سماء مضيئة بنجومها...وعين الرحمن تحوطنا...وعنايته سبحانه وتعالى تكلؤنا...إذ لولا الحفظ الإلهي والعناية الربانية ما تقدمنا في هذه الصحراء شبرا واحدا...ولمَاَ جُسنا خلال المرابض نرى الناقة تحلب...ويؤتى بلبنها فيشرب اهتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في أمره القوم الذين اجتووا سكنى المدينة فهزلت أبدانهم ـ أن يسقوا من ألبان الإبل وأبوالها فسمنوا وصحوا...
رُتّب للجمع الكريم لقاءٌ في مقر جمعية المستقبل الموريتانية التي استقبلت فضيلة رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونظمت له كما قد قدّرتُ سلسلة محاضرات ودروس في نواكشوط...كان دخولي إلى مقر الجمعية متأخرا عن الجمع الكريم...ورمقت عيناي أثناء الدخول ورقة ألصقت على حائط الجمعية تفيد أن الجمعية تعتزم إصدار مجلة علمية محكمة تعنى بشؤؤن الفكر والثقافة الإسلامية...فسرني ذلك وراقني هذا الإعلان..إذ قل جمعية في الوطن العربي تصدر مجلة محكمة تكون تابعة لها...تنشر أخبارها...وتنوه بنشاطها...وتكون منبرا علميا لبحوث ودراسات علمية محكمة تنشر على صفحاتها...ودلفتُ المقرَ فلقيني الشيخ عمر...وقال:" التحق بالجمع الكريم "، وأشار إلى قاعة المحاضرات...وأمر من كان بجانبه أن يرافقني إلى حيث مكاني داخل القاعة تكرمة وحفاوةً... كان مقر الجمعية حديث البناء، جميل العمارة، حسن التنظيم والترتيب...جلستُ حيث انتهى بي المجلسُ...وأصختُ السمعَ إلى المتكلم الذي كان يتحدث وكان مسؤولا عن الجمعية ـ ولستُ أتحقق الآن منصبه فيهاـ بلسان عربي مبين...عن الجمعية ودورها ومهمتها في المجتمع الموريتاني...وعن موريتانيا وطبقات المجتمع فيها...ثم لما أتمَّ كلمتَه رغب إلى الجمع الكريم من المشاركين في المؤتمر أن يقول كل أستاذ كلمة بمناسبة زيارته للجمعية...فتقدم الجمعُ الكريم واحدا تلو الآخر كلٌّ يقول بحسب ما يفتح عليه...يشكر موريتانيا وأهلها...ينوه بالقائمين على الجمعية ويذكر من جهودها في السعي في مصالح المجتمع...بيْد أن الذي كان مثيرا في كلمته ولا أحاشي أحدا من السادة الأساتذة الفضلاء....مغربا في استفتاحه لكلمته فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد شكري من الجامعة الأردنية الذي قال في أول كلمته:" أنا من الآن اسمي أحمد ولد شكري..." ذهابا منه حفظه الله إلى أن موريتانيا وأهلها قد اختلطتْ بالروح، وأنسَتْ بها النفسُ...وصارت حاضرة بقوة في الذاكرة العربية الإسلامية...ومعلوم أن إخواننا في موريتانيا يغلب عليهم استعمال ولد بعد الإسم الشخصي حتى أصبح ذلك علامة دالة على الأصالة الموريتانية والعرق الشنقيطي الأصيل..فكان ما ذكره الأستاذ الدكتور نادرة من النوادر وطرفة عجيبة من طرائف هذا المؤتمر... يتبع
أثرت فيَّ كلمتان من كلمات الجمع الكريم في ذاك المحفل الجليل...الأولى للشيخ حسن محمد ماديك، والثانية للشيخ علاوة محمد زيان من الجزائر...كانت كلمة ماديك مرتجلة ذكر فيها العناية بالقرآن وعلومه وأفاض في ذكر المتربصين بالكتاب العزيز من الحداثيين الذين يريدون قراءته قراءة معاصرة ...وفهمه فهما جديدا مخالفا لفهم المنزَل عليه صلى الله عليه وسلم بدعوى التجديد والتحديث والإجتهاد ومسايرة مقتضيات المدنية والتطور؟؟!!! ثم اغرورقت عيناه عندما خلُص إلى ذكر مؤتمر الجديدة بالمغرب وما قد راج فيه من استعمال الهريمونيطيقا منهجا لقراءة القرآن بأعين جديدة ...وألسنة جريئة...وأفهام للإسلام ظالمة...وعقول لثوابته دافعة مكذبة...وذكر أن فلانا وفلانا من أهل المغرب قاما ـ وقد حضرا المؤتمر ـ كالأسديْن الجسوريْن يردان الهراء الذي قد قيل..ويدفعان الباطل الذي قد أريد أن يؤصل منهجا جديدا لفهم القرآن الكريم...وأنهما إنما فعلا ذلك انتصارا لله ولرسوله ...وذكر من بلائهما وشكَر سعيهما ...شكرَ اللهُ لهُ وجعلَ ما أبليا في ميزان حسناته...
وما فلان وفلان إلا شيخنا الأستاذ الدكتور محمد خروبات من جامعة القاضي عياض بمراكش ، وأما ثاني اثنين منهما فهو الأديب الرحالة محمد رستم ، عفوا أقصد الأستاذ الدكتور محمد ولد زين العابدين ولد رستم الشنقيطي
أضحك الله سنك ياشيخ ماديك كما أضحكتني وأنا أهُمُّ بمواصلة الكتابة...وجمعنا وإياك في مستقر رحمته على سرر متقابلين...وباعد بيننا وبين الحداثيين، واللادينيين...والهريمونوطيقيين القائلين في القرآن الكريم قولا منكرا...يحسبونه نصا من النصوص...وقطعة أدبية من المقطعات...وكلا بل هو كتاب مبين ...لا يقوم له إلا الراسخون ممن زاحموا العلماء بالركب...وهجروا المضاجع في السَّحر قبل الفجر يقومون به آناء الليل وأطراف النهار....وتلوه بالسبع أو العشر...أوبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواتر...وحفظوه حفظا متقنا لا يخرمون منه حرفا...وعملوا بما فيه من أحكام ولم يقولوا إنها لا تصلح لهذا الزمان...ولم يؤولوها تأويل الباطنية الجدد فقالوا الصلاة يوكا..والزكاة تضامن...والصوم رياضة ودواء وترياق...والحج سياحة وتجوال..والحجاب حجاب القلب عن المعصية والزور والبهتان....بل قالوا آمنا به كلٌّ من عند ربنا صالح في ذاك الزمان وهذا الزمان....وما سوف يأتي من زمان...
اللهم آمين...
كانت الكلمة الثانية للشيخ محمد علاوة زيان ...وصف الشيخ فيها حال الأمة الإسلامية البائس الذي لا يبعث على الفرح والسرور...إذ كيف يُفرح بتشتت الأمة وتفرقها...وقد كانت قبلُ أمة واحدة يسير الراكب فيها من شنيقط إلى الحجاز في رحلة عبر صحراء قاحلة مجدبة..لا يرى فيها إنسان...ولايرافقه ركب...لا يخشى إلا الله والذئب على شياهه..لاحدود ولا حواجز ...ولا تأشيرة ولا إذن مسبق للدخول إلى التراب الوطني...إذا ترنح طائر في أقصى شرق الأمة على حدود الصين ساقطا...أجابه آخر في أقصى الغرب على رؤوس جبال البيرينه بفرنسا...تُرى أين ذهبت هذه الدولة الواحدة وتلك الصولة القوية...وما المُذْهب لها؟؟ واصل الشيخ كلمته وذكر صراع الإخوة المتجاوريْن ...فانحبس صوته...وانقطع ...ولم يقو على المواصلة...وشرق بريقه وكأنه يبكي سلمه الله...بل بكى وأشجى، وحزن وأحزن، وأسفَ وبعث على الأسف!! يتبع
أذكرني ذكر الهيرومونيطيقا التي وردت على لسان الشيخ ماديك في لقاء جمعية المستقبل في نواكشوط، بكلمة كان قالها رجل فاضل ـ يبدو أنه عالم من علماء جهة دُكاَّلة في المغرب ـ في مناقشات إحدى جلسات مؤتمر الجديدة بالمغرب عن القراءات المعاصرة للقرآن الكريم ـ وكنت أود التعليق عليها بيْد أنه لم يفسح لنا في وقت التعقب والإنتقاد...قال الرجل وهو لا يسعفه لسانه في النطق بهيرومونيطيقا ويسميها اسما عجيبا لأنها لاتستقيم على لسانه...كما لم تستقم على لساني أيضا...:" إننا لا نخاف من استعمال هذا المصطلح الأجنبي عن ثقافتنا، ولا نخوف منه، وندعو إلى استعماله منهجا للنقد والقراءة ما لم يكن فيه إثم أو بأس، فلقد درسنا في المدارس العتيقة العلوم الشرعية...وغيرها من علوم اللسان والآلة..كما درسنا العلوم العقلية من فلسفة ومنطق الذي كان يسمى حينئذ إيساغوجي وكانت الكلمة صعبة على ألسنتنا حتى ذللها الإستعمال، ويسرها التوظيف...فأصبحت هينة طائعة...وعربية فصيحة..."؟؟؟ ومرت كلمة الرجل دون تعليق أو نقد مع أن ظاهرها السلامة، والنية الحسنة..ولا نقول في الرجل إلا خيرا...ونحسَبُه من أهل القرآن لفصاحته وبلاغته وإحسانه قولا ومنطقا...بيد أن المقارنة بين إيساغوجي وبين تلك التي لا تكاد تستقيم على اللسان ولا على القلب والجنان...مقارنة ظالمة...والقول بأنه كما جازت تلك فهذه جائزة قول جائر، وعن العدل مائل...فعلم المنطق مركب في الفطر السليمة,,وأصوله وقواعده المنضبطة لا تعارض ما عندنا...لأن ما عندنا لا يعارض صريح المعقول...سمه ما شئت منطقا أو إيساغوجا أو ...أو..كل ذلك ليس يهمُّ ...لكن إذا كانت الهيرومونيطيقا منهجا نقديا للنظر في النصوص الدينية القديمة المحرفة...فهل جائز استعمالها منهجا لقراءة القرآن الكريم بدعوى أنها مادامت استعملت هناك جازت هنا...فهل القرآن الكريم نص ديني قديم محرف؟؟؟ اللهم إن هذا منكر من القول يدفعه نورالعلم في عصر العلم قبل أن تدفعه هداية الإيمان...
كانت نواكشوط عاصمة موريتانيا مدينة فسيحة الأرجاء، مترامية الأطراف، متسعة اتساع الصحراء التي توجد فيها، والسماء النقية الصافية التي تأوي تحتها...بين كل حي من أحيائها فراغ من صحراء مجدبة، ورمال حارقة ملتهبة....وأعجب ما فيها عدم استبحار العمران فيها استبحارَهُ في كثير من عواصم العالم...ولذلك لم يتجاوز عالي بنائها هامات السحاب، بل بناؤها منخفض..فأكسبها ذلك امتدادا أفقيا...بحيث تُرى كلُّها أو جزءٌ كبيرٌ منها من شاهق ليس إليه المنتهى في العلو...وجوُّها حار يوم أن كنا فيها...تشتد حمارة القيظ فيها حتى أقصى حد...فليس ينفع حينئذ إلا ظلٌّ ظليل، وماءٌ يسقى الظمآن الغليل..ومكيفٌ يأتيك بالزمهرير...وفي الحق ما كنا نشعر بالحر إلا لماما لأننا بين غرفة فندق مكيفة وبين قاعة جلسات باردة...حتى إذا خرجنا ركبنا سيارة رباعية الدفع ذات تكييف بارد...كانت نواكشوط مزدحمة الشوارع والأزقة بالناس...فهي عاصمة البلاد..وفيها مؤسسات الدولة...وبها تقضى مصالح وحاجات الخلق...وأغربُ شيء رأيته في شوارعها ازدحامها بالسيارات الكبيرة الفارهة والصغيرة وغير ذلك...ولعل للحر في ذلك دوْرٌ...إذ قضاء حاجة في الحر بالسيارة أهون من قضائها مشيا على الأقدام ولو قربت الديار، وتضاءلت المسافات...ونواكشوط مدينة ساحلية ممتدة على المحيط الأطلسي وإن كنت أقدّر كما فهمتُه من الجمع الكريم أن البحر بعيد عنها قليلا...ولذلك كانت أرزاق البحر وخيراته بادية على موائدها وفي طعام أهلها...فالسمك ـ ونعم اللحم هوـ أغلبُ طعام أهل البلد ..حتى إنهم يتدافعونه سآمة وإملالا..لا كراهية وضجرا وزهادة وجحودا...فلقد سمعت الشيخ ماديك يقول ونحن جلوس على مائدة فيها سمك وغيره:" فأما هذا ويشير إلى السمك...فنحن تعودناه ..".
تعد الثروة السمكية الموريتانية من أغنى الثروات الموجودة في عالم البحار في العالم...لامتداد شواطئ موريتانيا على طول يزيد على 700كليو ...وعلى هذا الإمتداد توجد ثروة سمكية عظيمة فيها أكثر من ثلاثمائة نوع من السمك...وهذه ثروة عظيمة وخيرات جزيلة لا تقدر بثمن يجب استغلالها لنفع العباد والبلاد...
لقيت في هذا المؤتمر العلمي المبارك جمعا من اهل العلم الذين شرفت بالتعرف عليهم ، وكانوا من بلاد مختلفة فأولها وأحقها بالذكر لشرف المكان وطيب الموضعين: مكة وطيبة...الحجاز من السعودية، وثانيها مما هو منها أقرب من الأردن بلد النخوة والشهامة وأرض الرسالات ومدفن الصحابة الكرام ومنطلق الفتوحات..، وثالثها من الجزائر بلد المليون شهيد والجار المصاقب...وكان المؤتمر فرصة مباركة لتبادل الرأي حول موضوعات علمية مختلفة...تطرح في الساحة الثقافية والعلمية اليومَ...كما كان فرصة سانحة للتعرف على الكتب المطبوعة حديثا التي أصدرها المشاركون في المؤتمر في موضوعات مختلفة في القراءات والتجويد والفقه وقضاياه والقرآن وعلومه..وغير ذلك...وكنت أهادي من يعطيني كتابا بكتاب من كتبي...إلا أن يفنى ما عندي فأدعو للمُهْدي وأعده بنسخة من أحد كتبي إن جمعنا الله تعالى في لقاء قريب...ومن الكتب التي حزتها وتملكتها بالمنحة والعطية والإهداء...كتاب:" أبحاث معاصرة في الفقة الإسلامي واصوله دراسات مقارنة...للدكتور القارئ محمد خالد منصور" وهو من مطبوعات دار عمار بعمان، والكتاب من جزأين جمع فيهما الباحث جملة من أبحاثه العلمية المحكمة التي نشرت في سنوات خلت في مجلة:" دراسات بالجامعة الأردنية" ، و" مجلة كلية الشريعة بالكويت"، وهي في جملتها بحوث في قضايا الفقه المعاصر فيها جدة وطرافة واجتهاد...جزى الله منشئها ونفع بها الشادين والمنتهين...
خيرُ ما يُهدى للأستاذ الباحث في أسفاره وتجواله ورحلاته وتطوافه..كتابٌ لا علم له به، أو ديوانٌ لم يكن منه على ذُكْر..ولقد أتحفني بعض الإخوة المشاركين بجملة من الكتب كانت أغلى ما حملته معي من موريتانيا ...فمن ذلك كتاب أهدانيه د/ محمد خالد منصور من الجامعة الأردنية ،وسمَه بـ: أثر تقنية المعلومات في تعليم القراءات والتجويد"وشفعه بقرص ممغنط فيه ختمة مرتلة برواية حفص عن عاصم بصوت الدكتور القارئ كما أنه احتوى على تعليم للتجويد بطريقة حديثة ميسرة..وأمور تقنية أخرى تخدم القرآن الكريم أداء وتجويدا..وبالجملة فالكتاب غريب في موضوعه، عجيب في طرحه وعرضه..طريف في تناوله وتهديه...تقبل الله من مخترعه سعيه وكتب له بالذخر، وأجزل له به المثوبة...
وأهداني د/ إبراهيم بن صالح الحميضي الأستاذ المشارك بقسم القرآن وعلومه بجامعة القصيم كتابه " آداب المصحف" ولعله باكورة كتبه، في طباعة أنيقة، وإخراج جميل، يخلب اللب والعقل...من سلسلة بحوث محكَّمة من مطبوعات جامعة القصيم...والكتاب فريد في بابه بين أشكاله، قد جمع مادة علمية مهمة قد تفرقت في مصادر في هذا الباب معروفة..فكان للأستاذ الدكتور فضل الجمع والعرض والتحليل...مع التنظيم والإخراج الجديد الذي يناسب روح العصر...مع مباحث جديدة تتعلق مثلا أدب التعامل مع المصاحف المسجلة والحاسوبية وغير ذلك...فجزى الله المؤلف خيرا لقاءَ ما أحسن وأبدع...
وأهداني د/ عبد العزيز بن سليمان المزيني أستاذ القراءات المساعد بقسم القرآن الكريم وعلومه بجامعة القصيم الشاعر المفلق كتابه عن" مباحث في علم القراءات " ..فتأملتُ الكتاب في نواكشوط لأنه شدَّني بحسن التَّقسيم والترتيب وببراعة التَّهَدي لموضوعات في القراءات قلَّ من عرَّج عليها أو بحثها، أو بحثثت بيد أن بحث المزيني فيه تجديد وانتهاء إلى آراء في المختلف فيه...ولقد أخبرت الدكتور الفاضل أنه إن أسندت إلي مادة القراءات تدريسا لتاريخها ومباحث فيها، فلن أعدل عنه مقررا وكتابا طلابيا جامعا...وكان الدكتور مع الذي وقع له في هذا الكتاب الرائع الممتاز..جم التواضع، كثير الهضم للنفس...ينعت ما ألف بأنه " خرابيش"...وكلا بل إن ذلك هو العلم الصريح...الذي يفتح به الجليل الرحيم، معلّم آدم ومفهّم سليمان...سبحانه سبحانه...
وأهداني الأستاذ الدكتور عبد العلي المسؤول من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس كتابه:" الإيضاح في علم القراءات" اشتمل على مباحث في القراءات جليلة في تعريفها وأركانها والتأليف فيها ووسائل هذا العلم ومقاصده وبيان حكم القياس في القراءات وتوجيهها وغيرذلك...فأفاد وأجاد وبلغ الغاية والمراد..
وأهداني د/ عبد العزيز المزيني أيضا كتابه:" الهبة العلية شرح الروضة الندية" وهو عبارة عن شرح لنظم نظمه فيما خالف فيه شعبة حفصا عن عاصم، قال الناظم بعد الإفتتاح:" ...
وبعد فهذا كل خُلف لشعبــة عن الحبر حفص متقنا ومفصلا
على ما أتى في الحرز يروى لعاصم وكل اتفاق كان بينهما اهملا
والقصيدة كلها لامية تحاكي حرز الأماني ووجه التهاني للشاطبي رحمه الله...
فجزى الناظمَ الشارحَ ونفع بها من قرأها أو حفظها أو شرحها أو قرأ بموجبها...
ومما أهدي إلي من قبل بعض طلبة المحظرة لوح قرآني رائع قد كتب فيه أول حزب سبح، فكتبت فيه سورة سبح، واللوح المعهود في موريتانيا طويل حجمه...لا عرض له، بحيث ليس يتسع اتساع اللوح المغربي..وعادتهم في الكتابة وآلتها والمحو كعادة المغاربة...والحفظ كما هو معلوم في اللوح أبقى...وفي غيره أذهب...كما دلت عليه التجارب والأخبار المستفيضة..وشهدت عليه الوقائع والإفادات المشهورة...
من طُرف هذه الرحلة ما أتحفنا به الشيخ عمر الفتح ـ وكنا راكبين في سيارة وكان هو مترجلا أطل علينا من نافذة السيارة ـ ولم نبتدئه بشيء يُفهم منه رغبتنا في سماع الطرائف، بيْد أنه سلمه الله أراد دفع السآمة عنا وإراحتنا من الجد الذي ملأ علينا حياتنا طيلة أيام المؤتمر، قال:" أوقفني شرطي المرور ذات يوم، وأنا أسوق السيارة، فقال ماتوجهك؟؟ يريد السؤال عن الوجهة المكانية...قال الشيخ عمر فقلت له:" توجهي إسلامي"!!!!
كانت نواكشوط تزخر بالأسواق العامرة بألوان المعروضات من لباس وأحذية وطعام وخضار وغيرذلك...وكان كل ذلك معروضا في الحوانيت أو في الأرض...وكانت زيارتي لأحد الأسواق المحلية في نواكشوط لشراء هدايا للأهل ..عساها تشفع لي عند من طالت غيبتي عنه...فكانت فرصة سانحة للتعرف على أسواق نواكشوط والوقوف على ما يباع فيها من خيرات كثرت معروضاتها وتفنن بائعوها في وضعها وترتيبها...وكان مرافقنا عثمان سلمه الله شابا في مقتبل العمر...كثير التبسم ...بادي البشر...صبورا على الجواب عن أسئلتنا المتعددة...قد غاب عن أهله من أيام ساعيا في مرافقتنا وخدمتنا...رافقنا عثمان إلى أحد باعة السراويل الموريتانية المعروفة باتساعها وألوانها البيضاء والزرقاء..مع ما قد طرزت به من ألوان الخيط الصحراوي المميز...فقضينا وطرنا منها ...وحملنا منها معنا هدايا لبعض أهلينا...وكان ما قد علمناه من عثمان أن السوق الموريتاني مشهور ببيع الفضة...بيد أننا اجتهدنا أن نقف على الجيد الموثوق به فلم نجد إليه سبيلا لإقفال محلات بيع الفضة لتأخر الوقت وغروب الشمس...
وكان السوق آخر معلم زرته من معالم نواكشوط قبل أن أستقل طائرة العودة بساعات قليلة....
يتبع في آخر شذرة
أزفت ساعة المغادرة...وآذن الركب بالرحيل...إذ لابد لكل مسافر من أوبة...ولكل راحل من عودة...ولكل غريب من لقاء بأنيس...كانت ساعة مغادرتي لنواكشوط مع د/ محمد خروبات حسْبُ على الساعة الثالثة وأربعين فجرا أو سحرا...وكنا قد تقدمنا إلى الجمع الكريم الذي لم يكن مقيما معنا في نفس الفندق مسلّمين ومودّعين عشية المغادرة خارج دار الشيخ ماديك العامرة...فسلمنا وتعانقنا وتواعدنا لقاءات علمية قادمة...وتصافحنا وتسامحنا إذ ربما قدّر لنا الإجتماع في هذه الحياة بعد الإفتراق...واللقاء بعد البيْن مع بُعد الدار وشطّ المنزل والناد...كانت قوْمة السحر قبل الفجر بوقت ليس بالقصير صعبة...مع السهر والنوم المتأخر لداع أوجب ذلك اضطرارا لا اختيارا ..فاضجعتُ لساعة أو يزيد قليلا قبل الموعد المحدد..فلم يرُعْني إلا والدكتور محمد خروبات يدق عليَّ باب الغرفة..يقول قد أزف الوقت...فأجبته من غيرقيام أنْ قدْ أبلغتَ والواجبَ قد أديتَ...دلالةً مني على أنني صاح غير نائم....كان من المقرر أن يصطحبنا إلى المطار بابا ـ وهي بترقيق الباء فيهما معا لا بتفخيمها كما أفادنا صاحب الإسم ـ الشاب الوسيم الذي كان في صحبتنا طيلة الرحلة..ونشأت بيني وبينه مودة وأخوة قواها جو المرح والمزاح الذي كان بيننا...وكنا قد تقدمنا إليه ليلة السفر أن يأتينا في الموعد المحدد على أن نتصل به هاتفيا ...فلما جاء الموعد اتصلنا به فكان لايرد فجزمنا أنه نائم...وتكرر ذلك منا ...والرجل في كل مرة لا يرد..فاقتضى صحيحُ نظرنا وقد صرنا قاب قوسين أو أدنى من موعد إقلاع الطائرة أن نتصل بعثمان صديقه...فماهو إلا أن رنَّ الهاتف رنة...حتى أجابنا الشاب..وقد فهم سبب المكالمة..وقال أنا آت إليكما على جناح السرعة...حدث كل هذا ونحن في الدور الأول من أدوار الفندق...بيْد أننا قررنا النزول إلى الدور السفلي لكي نكون أقرب إلى الباب..فنربح وقتا...ونيسر على عثمان أمرا...فما إن نزلنا حتى كانت المفاجأة التي من أجلها قصصتُ هذه الشذرة الأخيرة من شذرات الرحلة الرستمية إلى الديار الشنقيطية...إذ لما نزلنا ألفينا بابا نائما في مدخل الفندق على أريكة وُضعت هناك....فسُقط في أيدينا ...وأكبرنا الشاب...وصعُبَ علينا أن نوقظه...بيْد أنه شعر بمكاننا فقام مسرعا...فقلنا" عليك بالسكينة لابأس عليك إن شاء الله...فما إن أتممنا كلامنا حتى دخل عثمان الفندق...فاجتمع الإثنان على أمر واحد فخيرناهما أيهما يوصلنا إلى المطار...فاختار بابا أن يفعل...فودعنا عثمان...وخرجنا بالسيارة مسرعين...وفي ظلمة الليل مدلجين...وإلى المطار قاصدين...وهناك ودعنا من رافقنا ..وودعنا معه أحبة لنا وامقين...وفي خدمتنا كانوا طيلة أيام المؤتمر ساعين..شكر الله سعيهم ونوََّر وجوههم...وجمعنا وإياهم في مستقر رحمته...آمين آمين...والحمد لله بدءا وختاما وصلى الله وسلم على نبينا محمد المبعوث إلى الخلق طرا نذيرا وبشيرا بين يدي الساعة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا... تمت الشذرات المرضية في الرحلة الرستمية إلى الديار الشنقيطية
تنبيه: بقي من الرحلة صور ستلحق بنصها وكلمة أخيرة توجه إلى من زار شنقيط بكيفه في ولاية لعصابة من الإخوة المشاركين في المؤتمر سأكتبها قريبا إن شاء الله
إلى الإخوة المشاركين في المؤتمر الأول للقراءات في نواكشوط...ممن كحل عينيه برؤية الديار ديار العلم والقرآن في شنيقط في كيفة في ولاية لعصابة..لقد أسعدكم القدرُ وهيأ لكم فرصة العمر لزيارة معاهد لطالما قرأنا عنها أو رُوّينا أخبارا عنها من قبل زائريها...فلابد من شكر هذه النعمة...وأولُ ذلك الإكثارُ من حمد الله تعالى أن بلغكم ديار قوم أوقفوا أنفسهم على تعلم وتعليم القرآن...وثاني ذلك شُكر من كان سببا في ذلك والباعث عليه...وثالث ذلك الكتابة عن المشاهدات التي اتفقت لكم في ذاك اليوم المشهود الذي كنتم فيه بين تلك الربوع وخلال تلك الديار...وأرغب إليكم في أن يكون أسلوب قصّكم لما وقع وحدث كأسلوب القص في الرحلات العربية الإسلامية التي كانت شموسا ساطعة في سماء حضارة الإسلام...ويكون ذلك بذكر التفاصيل الدقيقة والملابسات الصغيرة...حتى نكون كأننا كنا معكم ...وتشرفنا بصحبتكم... فهل من مجيب...؟؟؟
أجدد دعوتي إلى المشاركين في الرحلة إلى كيفه بشنقيط أن يقصوا علينا مجريات أحداث رحلتهم والله وحده هو الموفق للصواب والملهم للحق...والميسر للظعن والترحال....
أمتعتنا يا أبا ياسر - حفظك الله - باصطحابنا في هذه الرحلة الشنقيطية الماتعة ، وكنت أعتزم المشاركة في هذا المؤتمر لولا بعض الصوارف والارتباط بدورة علمية مسبقة في المدينة المنورة . وقد سرني نجاح مقصدكم ، وتحقيق غاية هذا المؤتمر العلمي، وأسأل الله أن يتقبل منكم جميعاً ما قدمتم فيه ، وأن يكتب لأخي الحسن ماديك جزيل الأجر والثواب على سعيه لعقد هذا المؤتمر العلمي .
زادك الله من فضله وتوفيقه .
شكر الله لك ياعبد الرحمن ياشهري ولولا هذا الملتقى الكريم الذي فسح لي صدره ما كنت كتبت ولا دبجت...فأنت أنت ومن وراءك أنتم شجعتم فكان العطاء..وحثتتكم فكان البذل والفتح الرباني...فشكرا شكرا على حسن التوفيق وجميل التسديد وأنتم أولى بالشكر من العباد...فجزاكم الله خيرا...وأما أنت يا أبا تيماء فترفق بي ولا تلغز فأنا لاأحسن فك اللغز ...سلمك الله وعافاك أرجو مراسلتي على بريدي وستجد مني ما يسر ويرضي..لكن بشرط عدم الإلغاز...حفظك الله وسدد على طريق الخير خطاك ونفع بك أهل هذا الملتقى السعيد المبارك بك وبأمثالك....