محمود عبد الصمد الجيار
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
السيوطي والدرس اللغوي
[هذا البحث مستل من مجموعة أبحاث ألقيت في الندوة التي أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالاشتراك مع الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، 6 – 10 مارس 1976م].
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يكاد الحديث عن منهج العرب في درس اللغة يخلو من الحديث عن المصادر التي صدر عنها هذا المنهج، والأغلب ألا يخلو ذلك من البحث عن مصادر يونانية أو هندية أو سريانية. والبحث عن المصادر فى حد ذاته مسلك علمي قويم، غير أن السعي الى إرجاع كل نشاط علمي إلى مصادر خارجية قد لا يبرأ من ادعاء « الموضوعية » حين يخشى المتحدثوِن عن « الأصالة » شبهة السقوط فى شرك التعصب والهوى. «وادعاء الموضوعية» «وعدم الموضوعية» فى معيار البحث سيان، كلاهما ليس من العلم بسبب.
ولا أحسب الحديث عن السيوطي اللغوي إلا حديثا عن المنهج العربي رغم الحقيقة العلمية المهمة التي تؤكد أن الفترات الباكرة من درس اللغة عند العرب هي الصالحة لدراسة هذا المنهج. غير أن السيوطي -رغم تأخيره الزمني عن فترات النشأة والازدهار فى القرون الأربعة الأولى- يصور بأعماله اللغوية خصائص المنهج العربى فى مراحله الأولى، ثم يضيف إليها ما أضافته المراحل المتأخرة مما اتخذه بعض الباحثين أساسا للحكم على المنهج على العموم.
ولسنا هنا ندعي «الأصالة» للمنهج العربي؛ لأن «الأصالة» تعبير غير واضح وغير علمي فيما نظن، وهي على الأغلب مسألة «نسبية» وبخاصة فيما يتصل بالنشاط العلمي. ونقول هذا بمناسبة ما يلفت إليه بعض أساتذتنا وباحثينا من أن الدرس العربي للغة يستند إلى أصول يونانية أو هندية. ونحن - فى الأغلب- لا نملك ما نرفض به هذا الرأي كما لا يملك أصحابه ما يدعمونه به. ومن ثم ندعو إلى التوقف حيال القضية كما يتوقف أصحاب الحديث حيال « مجهول الحال» أو كما يتوقفون انتظارا «للمتابعة» أو«للاعتبار».
غير أن الذي نكاد نطمئن إليه أن نشأة الدرس اللغوي عند العرب تختلف عنها عند أبناء اللغات الهندية الأوروبية، لاختلاف المصادر والوسائل والغايات، وأن النهج العربي تطور تطورا «داخليا» واستوى هذا الاستواء المعروف فى القرون الأولى من «داخل» البيئة الإسلامية لا من «خارجها»،
أو هذا ما تؤدي إليه المادة المعروفة لدينا حتى الآن، وهي فى الحق مادة قليلة جدًا إلى ما تؤكده كتب التاريخ والتراجم من نشاط لغوي واسع يحتاج إلى جهد أجيال وأجيال.
والذي نراه أن خصائص المنهج العربي لا ينبغي أن نفتش عنها عند أرسطو أو عند الهنود وإنما نتحراها فى البيئة الإسلامية وبخاصة عند الفقهاء والمتكلمين.
والذي لا شك فيه أن علوم اللغة عند العرب نشأت فى ظلال القرآن، وأنها وغيرها من العلوم كانت تهدف إلى خدمة النص الكريم، فعلوم القرآن والحديث والأصول والكلام واللغة كانت متداخلة ذلك التداخل الذي تقتضيه الغية التي كانت جميعها تنتهى إليها، ومن ثم كان هذا التبادل في التأثير بين هذه العلوم ، في المنهج إحيانا، وفي المصطلح أحيانا أخرى، وفي غير ذلك من فنون البحث، وأنت لا تستطيع أن تفهم منهج العرب فى درس اللغة إلا في ضوء هذا الواقع.
والسيوطي -كما قلنا- يمثل هذه الحقيقة أصدق تمثيل، فقد توفر الرجل على معارف كثيرة، يدرسها ويؤلف فيها، وقد توافرت لديه جهود قرون طويلة من العمل العلمي المتواصل. والحق أننا لا نستغرب هذه الكثرة الواضحة فيما قدم الرجل من علوم إلا استغراب تقدير الجهد الإنسانى، لأن هذه العلوم التى تبدو مختلفة كانت تصدر عن مصدر واحد وكانت تشترك فى طرائف التناول وظواهر التأثير.
ولقد أخذ السيوطي يضرب فى كل ميدان يصل اللغة بهذه العلوم، بل إنه لا يكاد يكتب شيئا فى اللغة إلا فى ضوء هذا التأثير العام الذي ذكرناه ، ومن اليسير أن تضع يديك على ذلك فى كل ما كتب على وجه التقريب، فهو يصل اللغة بالقرآن، وبالحديث وبالأصول، وبكل ما يتصل بالدين على العموم.
1- ونبدأ بأبحاثه اللغوية عن ألفاظ القرآن التي تكاد تركز على ناحيتين، أولاهما مافي القرآن من لهجات القبائل العربية، على مايظهر فيما قدمه في «الإتقان» عن «غريب القرآن، وما وقع فيه بغير لغة أهل الحجاز»[الإتقان 1/115 - 136] وهو موضوع لغوي مهم أخذ يلفت أنظار الباحثين المحدثين لما يفيده فى معرفة العربية التي كانت سائدة قبيل نزول القرآن، وفي «وزن» هذه «اللهجات» بميزانها اللغوي الصحيح[انظر كتابنا: اللهجات العربية في القراءات القرآنية – دار المعارف بمصر 1968].
أما الناحية الثانية فتتصل بموضوع غير بعيد عن هذا الموضوع، وهو دراسة ما ورد فى القرآن بغير لغة العرب، وقد ظهر ذلك عنده فى كتابين: المتوكلي فيما ورد فى القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية، والتركية، والزنجية، والنبطية، والقبطية، والسريانية، والعبرانية، والرومية، والبربرية، وهو كتيب [مطبعة الترقي في دمشق 1348 هـ] ألفه للخليفة العباسي المتوكل على الله، ورتب ألفاظه حسب اللغات؛ فبدأ بالحبشية ثم الفارسية وهكذا... والكتاب الثاني هو(المهذب فيما ورد فى القرآن من المعرب) [مخطوط بدار الكتب المصرية (85) لغة، (286 لغة)]. وهو كتيب يعرض لموضوع الكتاب السابق غير أن ترتيبه حسب الألف باء. وهذا موضوع مهم أيضا سوف يظل له مكانه في الدرس اللغوي بما يقدم للبحث من مادة تفيد فى معرفة حياة اللغة، وتطورها، «وقوانين» اتصالها بغيرها من اللغات. وإذا كان العرب لم يعرفوا «المنهج المقارن» كما هو فى البحث الحديث، فإن المادة التى قدموها - على ما بينه السيوطي- كافية في الإشارة إلى اهتمامهم العملي حينذاك، وهو اهتمام لا يزال يحظى بنصيبه فى العصر الحديث، ونعني به قضية «التعريب».
2- أما وصله اللغة «بالحديث» فهو طابع يغلب عليه، ويكاد يظهر فى كل ما كتب، وذلك أمر منطقى من رجل استغرقته دراسة «الحديث» حتى صار صاحب عقلية «حديثية» واضحة، وذلك أيضا أمر غير مبتون الصلة باللغة إن لم يكن منها بسبب وثيق، «فالرواية» و«النقل» من أسس العمل اللغوي لا جدال.
ولعل كتابات السيوطي تعد أشمل ما قدم من درس لغوي متأثر بعلوم الحديث، بل إن أبواب «المزهر» جاءت على نسق أبواب الحديث [انظر في المزهر: معرفة الصحيح الثابت، معرفة ما ورد من اللغة ولم يصح ولم يثبت، معرفة المتواتر والآحاد، معرفة المرسل والمنقطع، معرفة الأفراد... إلخ] وقد عرض الرجل فيها لما يمكن أن يكون منهجا كاملا لرواية اللغة. وعلى ذلك يفهم تأليفه فى الطبقات دليلا على تأثره «بعلم الرجال»، وهو لم يكتف بما قدم في «البغية» وإنما عرض لذلك أيضا حين تحدث عن «الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء»، وعن «الأسماء والكنى والألقاب» وعن «المؤتلف والمختلف» ، وعن « المتفق والمفترق » وعن «المواليد والوفيات» [انظر المزهر: 2/395- 458] .
ولقديكون صحيحا أن نقرر أن أعمال السيوطي جميعا متأثرة بدرسه لعلوم الحديث، يظهر ذلك فى اتجاهه إلى «الجمع» وإلى «النقل» و«والإسناد»، واستعمال «المصطلح» فى أغلب الأحيان.
3- ثم يأتي وصله اللغة «بالأصول» وهو منهج سبقه إليه عدد من علماء العربية الكبار، أشهرهم ابن جني وابن الأنباري، والحق أن هذا الاتجاه كان جديرا -لو قدر له- أن يطور الدرس اللغوي تطويرا أساسيا، ذلك أنه لم يكن يدرس بابا من أبواب اللغة أو ظاهرة من ظواهرها، وإنما كان يستهدف علم «الأصول» فى محاولة الوصول إلى منهج لاستنباط الأحكام، أي إنه كان يبحث عن «الخصائص» العامة التى تميز اللغة مما يهدي إلى وضع قوانينها وضعا «علميا» يطمئن إليه روح البحث، ولم يكن أمامهم إلا «علم الأصول» الذى سيظل -دون ريب- سمة بارزة من سمات الفكر الإسلامي.
وقد كتب السيوطي كتابه «الأشباه والنظائر» [طبعة حيدر آباد 1318 هـ] متأثراً بما قدمه تاج الدين السبكي في «الأشباه والنظائر» في الفقه، وجاءت «فنونه السبعة» على نحو ما كتب الأصوليون، فنجد المصادر العلمية في القواعد النحوية، والتدريب، وهو فن القواعد الخاصة والاستثناءات، وسلسلة الذهب فى كلام العرب، والسمع والبرق في الجمع والبرق، والطراز فى الألغاز، والتبر الذائب فى الأفراد والغرائب، والمناظرات والمجالسات.
على أن «الاقتراح في علم أصول النحو» [طبعة حيدر آباد 1359 هـ] يعد أقرب أعماله وأشهرها إلى علم «الأصول» وقد قرر ذلك هو فى صدر كتابه حين قال: «ورتبته على أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم» [ص 2]، وقد حد أصول النحو على طريقة الأصوليين بأنه: (علم يبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية من حيث أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل) [ص 4] ولعله كان يستهدف الإمام الشافعي [حين قرر الأصول الأربعة في (الرسالة)] حين جعل هو أدلة النحو أربعة، وقد كانت عند ابن جني وابن الانباري ثلاثة، إذ رأى ابن جني أنها السماع والإجماع والقياس، ورآها ابن الأنباري السماع والقياس واستصحاب الحال ، لكن السيوطي جعلها السماع والإجماع والقياس والاستصحاب.
على أن الذي يهمنا هنا أن الشعور بالحاجة إلى علم يحدد أصول الاستنباط، أي يضع القوانين العامة للبحث اللغوي هو الذى دفع القدماء إلى الكتابة في «أصول النحو»، وكما قلنا إنهم لم يبحثوا عنه في مصادر «خارجية» وإنما أخذوه مما هو واقع بينهم كل يوم وهو أصول الفقه، غير أن هذا الشعور هو نفسه الذي يجعل اللغويين المتحدثين يبحثون عن علم يحدد أصول البحث وطرائقه ويضع القوانين العامة التي ينبغى أن يسير عليها الباحث، وهم لا يزالون يتطورون حتى الآن من «الوصفية» [Descriptive] المطلقة التي سادت حتى أواخر العقد السادس من هذا القرن، إلى «التحويلية» [Transformational] التفسيرية التي بدأت تزدهر فى السنوات الأخيرة، وهي كلها -على أية حال- تمثل السعي نحو الوصول إلى قوانين البحث في لغة الإنسان.
4- وبعد القرآن، والحديث، والأصول يتحرك الجهد اللغوي في خدمة كل ما يتصل بالدين، فيقدم في الوقت نفسه ملاحظات لغوية تنضاف إلى خصائص المنهج، من ذلك ما كتبه السيوطي في التطور اللغوي حين عرض للألفاظ الإسلامية في رسالة من رسائله عن «أصول الكلمات» [رسالة صغيرة طبعت ضمن كتابه: «المتوكلي»] حاول فيها أن يبحث عن المعاني اللغوية التي كانت عليها هذه الألفاظ قبل الإسلام:«أصل العبادة الخضوع والتذلل، أصل الطغيان الانقباض، أصل الفسق الخروج عن الشيء، أصل التلاوة الاتباع...إلخ»[ص 14] ومن هذا الوادي ما قدمه في «الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليفة» [مخطوطة دار الكتب 23316 ب] بجمعه أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم مبيّنا اشتقاقها وضبطها وتصريفها. وهذا كله غير بعيد عن البحث اللغوي، فمعرفة (الأصل) كانت تسود منهج الفيلولوجيا إبان القرن الماضي، ثم عادت تظهر عند «التحويليين» في السنوات الأخيرة. ولقد ظلت هذه المسألة موضعا يوجه إليه النقد في الدرس الغربى حتى تأكدت أهميتها الآن. والمشكلة أن القدماء توقفوا عند هذا الذى قدموه، وتوقف السيوطي عند «جمع» ما قدمه السابقون، ولم يحدث تطوير لهذا الاتجاه بما كان حقيقيا أن يؤدي إلى نفع كبير.
5- ويكتب السيوطي في التاريخ فلا ينس لغويته وإنما يعرض حيث تدعو الحاجة إلى ما ينبغي لمثله أن يعرض له، وإذا هو أيضا لا يبتعد عن الدين، ترى ذلك فيما كتبه في «الشماريخ في علم التاريخ» [ليدن 1894] عن أسماء الأيام واشتقاقها ومعناها، وهو موضع من البحث له مكانه في الحياة الدينية لأهميته في معرفة «المواقيت» [انظر في هذا كتاب الأزمنة والأمكنة للمزروق- وكتاب تثقيف الألسنة بتعريف الأزمنة لمحمد بن عبد الله الشبلي] ثم يتناول الاستعمال اللغوي في التعبير عن التقويم: «يقال أول ليلة في الشهر كتب لأول ليلة منه أو لغرته، أو لمهله، أو لمستهله، وأول يوم لليلة خلت ثم لليلتين خلتا لثلاث خلون إلى العشر، فخلت إلى النصف، فللنصف من كذا وهو أجود من خمس عشرة خلت أو بقيت...».
هذا إذن هو المنهج العام الذي صدر عنه السيوطي في كل ما قدم من درس لغوي، وهو منهج وصل اللغة بالعلوم التي نشأت فى ظلال القرآن، وأخذت تستهم في ظواهر التأثير والتطور.
على أن ذلك كله ليس الوجه الوحيد لهذا المنهج، وإنما وجهه الثاني هو ما قدمه علماء العربية من درس للظواهر اللغوية في أشكالها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية. ويحتل السيوطي فى ذلك مكان الجامع الذي اطلع على جهود السلف واستوعبها- وأدرك حينذاك ضرورة الإحاطه بهذه الجهود وتقديمها للناس.
وملاحظاته الصوتية تسير في هذا الاتجاه، غير أنه لم يخصص عملا مستقلا لهذه الدراسة شأن ابن جني في «سر صناعة الإعراب» مثلا، وإنما في ملاحظات كما قلنا تأتي هنا أو هناك، وتدور حول الأصوات وأوصفها، وحول القلب والإبدال، أو حول «الإتباع»[المزهر 1/ 460 ، 1/ 410] وغير ذلك مما كان يتحدث عنه القدماء.
على أن أكثر ما كان يتهم به هو الصلة بين «اللفظ والمدلول»، فنقل هذا الاتجاه عمن كان يذهب إليه من القدماء، وركز عليه، ولعله كان متأثر بابن جني الذي فصل هذا الاتجاه في كثير مما كتب، وإذ كان السيوطى في الأغلب يرجعه إلى أهل الأصول وأصحاب الكلام، ومن ثم يسبغ عليه تجديدا عقليا بحيث يكون نتيجة «النظر» وليس نتيجة «الواقع» اللغوي كما يقولون، فيقول :«نقل أهل أصول الفقه عن عباد بن سليمان الصميري من المعتزلة أنه ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، قال: وإلا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا من غير مرجح. وكان بعض من يرى رأيه يقول: إنه يعرف مناسبة الأفاظ لمعانيها، فسئل ما مسمى «أذغاغ» وهو بالفارسية الحجر، قال: أجد فيه يبسا شديدا، وأراه الحجر»[المزهر 1/ 47 - 49].
ومهما يكن من رأي فقد كان ذلك اتجاها متسقا مع سير الحياة العقلية عند العرب، ومع أنه واجه رفضا لدى الدارسين المحدثين، فإن عددا منهم قد ذهب إليه، ولا تزال هناك أبحاث فى بعض الجامعات العالمية تقوم على أساسه»[انظر ما كتبناه في (فقه اللغة في الكتب العربية) عن المستوى الصوتي].
أما النحو والصرف فقد كانا علما واحدا عند العرب منذ قدم سيبويه «الكتاب» ولا نحسب التآليف الصرفية المفردة كانت فصلا للصرف عن النحو، لأن الاتجاه الغالب ظل على الجمع بينهما كما كان، وهو ما انتهى إليه الدرس الحديث من جعل «النحو» جامعا «للصرف» و«للنظم» على السواء.
ولقد تعددت أعمال السيوطي وتنوعت في هذا المجال، فيكتب في أصول النحو على ما بيناه في «الاقتراح»، وكتب مؤرخا لنشأة النحو والصرف في رسالته «الأخبار المروية فى سبب وضع العربية»[طبعت مع مجموعة التحفة البهية والطرفة الشهية] ثم توفر على عدد من مصنفات النحو بالشرح والتعليق، فشرح ألفية ابن مالك في «البهجة المرضية في شرح الألفية»[1272 هـ]، وقدم «النكت على ألفية ابن مالك، والكافية والشافية لابن الحاجب، وشذور الذهب ونزهة الطرف لابن هشام»[مخطوطة دار الكتب 5815 هـ]، و«شرح شواهد المغني»[البهية 1322 هـ]، وغير ذلك من الشروح، ومن الواضح أن الرجل قد ركز على هذه المصنفات التي كانت منشرة فى عصره وبخاصة في دور العلم المصرية، وقد يفسر ذلك استمرار الاهتمام بها حتى الآن.
وهذا الاطلاع جعله يستقيل بعد ذلك بتآليف نحوية، كانت إحداها ألفية سماها «الفريدة»[القاهرة 1322 هـ]، ولا بأس من «شرح» لها سماه «المطالع السعيدة في شرح الفريدة» [مخطوطة دار الكتب 581 نحو]، غير أن أهم أعماله -لاشك- هو كتابه «جمع الجوامع» وشرحه «همع الهوامع» الذي يعد مصدرا من مصادر النحو العربي لما فيه من مادة تكاد تستوعب جهود القدماء.
وأما ما كتبه في «الدلالة» فإن أهم ما فيه أنه قد يكون أول من قدم دراسة لنشأة المعجم العربي وتطوره [المزهر 1/ 76- 103]، وأنه حين تناول مداد «الدلالة» تناولها في الأغلب الأعم متأثرا بما قرره الأصوليون في هذا المجال، ومن ثم نفهم عرضه للحقيقة والمجاز، والخاص والعام، والمطلق والمقيد. ثم إنه فضلا عن ذلك تطرق إلى كل ما تطرق إليه القدماء كحديثه عن «الأشتقاق» و«المولد» و«المشترك» و«الأضداد» و«الترادف» و«المشجر». ومن بينها موضوعات لا تزال في حاجة إلى تتبع علمي يكشف عن دورانها في الاستعمال اللغوي. وقد يكون السيوطي أحد المصادر المرشدة في هذا الميدان.
وبعد، فلا شك أن قيمة الدرس اللغوي عند السيوطي لا ترجع إلى «جديد» قدمه الرجل، وإنما تكمن في هذا «الجمع» الطيب لجهود القدماء، وفي تمثيله لهذا الجو العام الذي نشأ فيه هذا الدرس وتطور، وليس هذا قليلا لعصر الرجل، بل ليس أمرا هينا أن تعد أعماله من نوع «دوائر المعارف» التي ترشد الباحث ابتداء إلى المواطن التي ينبغى أن يتلمسها، وإلى المصادر الضرورية التي ينبغى أن يعتمد عليها في عمله العلمي. وهذا وحده كاف في تقدير قيمة الرجل، فضلا عن أنه لا يحجب إسهامه في تطور الدرس اللغوي، وفي خدمة لغة القرآن.
والحمد لله رب العالمين