محمد بن جماعة
New member
- إنضم
- 23/01/2007
- المشاركات
- 1,211
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 38
- الإقامة
- كندا
- الموقع الالكتروني
- www.muslimdiversity.net
رحيل علامة الصحراء
السيد ولد أباه
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=517411&issueno=11112
أعلن في موريتانيا يوم الأربعاء الماضي عن رحيل العلامة محمد سالم ولد عبد الودود مفتي موريتانيا ووزير شؤونها الإسلامية الأسبق، إثر مرض عضال طويل. كان الرجل من آخر نماذج العلماء الشناقطة البارزين، الذين اشتهروا في المشرق العربي ومغربه بسعة علمهم وواسع اطلاعهم وعزوفهم عن المال والأضواء.
تعرفت على الرجل منذ سنوات، وربطتني به وشائج قوية على الرغم من فارق السن والمكانة العلمية، وتحولت العلاقة تدريجيا إلى صداقة مكينة بفضل أخلاقه العالية وتواضعه الجم.
جمع ولد عدود بين سمتين نادرا ما اجتمعتا في غيره من الأعلام والعلماء:
ـ ذاكرة حديدية قوية لا يفوتها أي نص شعري أو نثري جعلت منه أحد رواة التراث العربي إبداعا وتاريخا وأنسابا، من أضراب الأصمعي والتوحيدي.. ففضلا عن ديوان الشعر العربي الوسيط الذي يحفظه بالكامل، وعن كامل المتون التعليمية المأثورة في التقاليد العلمية الشنقيطية التي يتقنها، يسرد الرجل عن ظهر قلب المادة اللغوية كما تضمنتها المعاجم، مما أهله إلى أن يكون حسب عبارة المرحوم الطيب صالح «سيبويه هذا العصر دون منازع».
ـ حس تجديدي وروح اجتهادية منفتحة جمعت بين متانة التجذر في المرجعية الإسلامية والحرص على مواكبة العصر، مع الوعي الحاد بشروط ومتطلبات النهوض الفكري والاجتماعي والمهمة المنوطة بأمثاله من العلماء في تحقيق هذه المسؤولية. فالرجل الذي كان عضوا مؤسسا في أغلب المجامع الإسلامية (مجمع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة والمجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع آل البيت بالأردن..)، كما اضطلع بمهمة وزير الشؤون الإسلامية ورئيس للمجلس الإسلامي الأعلى في بلاده، كان في الآن نفسه مثقفا عضويا وقف ضد الاستعمار وناضل في صفوف الحركة الوطنية، واقترب من حركة المد القومي، وتعاطف مع مطالب حركة الشباب التحديثية، وكان عضوا فاعلا في كل المنتديات والمبادرات الثقافية المستقلة. وبهذه الشخصية المزدوجة الثرية السمحة انتزع إجماع بني وطنه على اختلاف مشاربهم وكثرة صراعاتهم الآيديولوجية والسياسية.
وعندما اختير في الثمانينات وزيرا للثقافة والشؤون الإسلامية عهد إليه بهذه التركيبة الفريدة التي كانت على مقاسه، فنجح في المهمتين، وجمع بين إدارة قطاعين لم يجتمعا لغيره.
وفي إحدى المرات دعاه المركز الثقافي الفرنسي بنواكشوط لافتتاح مسرحية للكاتب المعروف موليير فحضر المشهد الأول وخاطب الحضور بفرنسية ناصعة: «لقد افتتح وزير الثقافة الأمسية وهاهو وزير الشؤون الإسلامية ينسحب».
وكان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني معجبا بهذه الشخصية المخضرمة الجذابة، وقد اختاره لهذا الغرض عضوا نشطا في الأكاديمية الملكية إلى جانب كبار مفكري وعلماء عصره.
وقد أخبرني أحد مستشاري الملك أنه قال له عندما ألقى في مجلسه الرمضاني محاضرة فريدة حول منزلة المرأة في الإسلام «هذا هو نموذج العالم الذي كنت أبحث عنه منذ عشرات السنين».
وكان الشيخ ولد عدود أيام وزارته يحضر مؤتمرات اليونسكو ويشارك فيها بجد، وغالبا ما كان ينظم مرتجلا قراراتها واتفاقياتها، على غرار نظمه لكتب القانون الدستوري والمدني خلال فترة تدريبه في المحاكم التونسية في بداية الستينات.
خرج الشيخ محمد سالم من الحقل العام منذ عدة سنوات، بيد أنه ظل نشطا حاضرا في المنتديات العلمية والدينية، بمحاضراته الرمضانية المفتوحة في العاصمة نواكشوط التي تستقطب جمهورا واسعا، ودروسه في محظرته (المحظرة هي الجامعة الأهلية التقليدية في موريتانيا) بقرية أم القرى التي توفي فيها.
وكان الرجل إلى جانب خصاله العلمية والتربوية النادرة إعلاميا متميزا، ببرامجه الإذاعية والتلفزية الجذابة الممتعة، التي يعالج فيها أكثر الموضوعات الدينية تعقيدا بأسلوب أدبي رفيع ولباقة محببة ومسحة طرافة ومزاح لا تخرج البتة عن وقار العلماء.
برحيل ولد عدود تفقد موريتانيا أحد أبرز أعلامها الثقافية، وتفتقد المحظرة الشنقيطية أحد آخر رموزها، وتفتقد الساحة الإسلامية إجمالا علامة مجددا شاهدا على عصره.
السيد ولد أباه
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=517411&issueno=11112
أعلن في موريتانيا يوم الأربعاء الماضي عن رحيل العلامة محمد سالم ولد عبد الودود مفتي موريتانيا ووزير شؤونها الإسلامية الأسبق، إثر مرض عضال طويل. كان الرجل من آخر نماذج العلماء الشناقطة البارزين، الذين اشتهروا في المشرق العربي ومغربه بسعة علمهم وواسع اطلاعهم وعزوفهم عن المال والأضواء.
تعرفت على الرجل منذ سنوات، وربطتني به وشائج قوية على الرغم من فارق السن والمكانة العلمية، وتحولت العلاقة تدريجيا إلى صداقة مكينة بفضل أخلاقه العالية وتواضعه الجم.
جمع ولد عدود بين سمتين نادرا ما اجتمعتا في غيره من الأعلام والعلماء:
ـ ذاكرة حديدية قوية لا يفوتها أي نص شعري أو نثري جعلت منه أحد رواة التراث العربي إبداعا وتاريخا وأنسابا، من أضراب الأصمعي والتوحيدي.. ففضلا عن ديوان الشعر العربي الوسيط الذي يحفظه بالكامل، وعن كامل المتون التعليمية المأثورة في التقاليد العلمية الشنقيطية التي يتقنها، يسرد الرجل عن ظهر قلب المادة اللغوية كما تضمنتها المعاجم، مما أهله إلى أن يكون حسب عبارة المرحوم الطيب صالح «سيبويه هذا العصر دون منازع».
ـ حس تجديدي وروح اجتهادية منفتحة جمعت بين متانة التجذر في المرجعية الإسلامية والحرص على مواكبة العصر، مع الوعي الحاد بشروط ومتطلبات النهوض الفكري والاجتماعي والمهمة المنوطة بأمثاله من العلماء في تحقيق هذه المسؤولية. فالرجل الذي كان عضوا مؤسسا في أغلب المجامع الإسلامية (مجمع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة والمجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع آل البيت بالأردن..)، كما اضطلع بمهمة وزير الشؤون الإسلامية ورئيس للمجلس الإسلامي الأعلى في بلاده، كان في الآن نفسه مثقفا عضويا وقف ضد الاستعمار وناضل في صفوف الحركة الوطنية، واقترب من حركة المد القومي، وتعاطف مع مطالب حركة الشباب التحديثية، وكان عضوا فاعلا في كل المنتديات والمبادرات الثقافية المستقلة. وبهذه الشخصية المزدوجة الثرية السمحة انتزع إجماع بني وطنه على اختلاف مشاربهم وكثرة صراعاتهم الآيديولوجية والسياسية.
وعندما اختير في الثمانينات وزيرا للثقافة والشؤون الإسلامية عهد إليه بهذه التركيبة الفريدة التي كانت على مقاسه، فنجح في المهمتين، وجمع بين إدارة قطاعين لم يجتمعا لغيره.
وفي إحدى المرات دعاه المركز الثقافي الفرنسي بنواكشوط لافتتاح مسرحية للكاتب المعروف موليير فحضر المشهد الأول وخاطب الحضور بفرنسية ناصعة: «لقد افتتح وزير الثقافة الأمسية وهاهو وزير الشؤون الإسلامية ينسحب».
وكان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني معجبا بهذه الشخصية المخضرمة الجذابة، وقد اختاره لهذا الغرض عضوا نشطا في الأكاديمية الملكية إلى جانب كبار مفكري وعلماء عصره.
وقد أخبرني أحد مستشاري الملك أنه قال له عندما ألقى في مجلسه الرمضاني محاضرة فريدة حول منزلة المرأة في الإسلام «هذا هو نموذج العالم الذي كنت أبحث عنه منذ عشرات السنين».
وكان الشيخ ولد عدود أيام وزارته يحضر مؤتمرات اليونسكو ويشارك فيها بجد، وغالبا ما كان ينظم مرتجلا قراراتها واتفاقياتها، على غرار نظمه لكتب القانون الدستوري والمدني خلال فترة تدريبه في المحاكم التونسية في بداية الستينات.
خرج الشيخ محمد سالم من الحقل العام منذ عدة سنوات، بيد أنه ظل نشطا حاضرا في المنتديات العلمية والدينية، بمحاضراته الرمضانية المفتوحة في العاصمة نواكشوط التي تستقطب جمهورا واسعا، ودروسه في محظرته (المحظرة هي الجامعة الأهلية التقليدية في موريتانيا) بقرية أم القرى التي توفي فيها.
وكان الرجل إلى جانب خصاله العلمية والتربوية النادرة إعلاميا متميزا، ببرامجه الإذاعية والتلفزية الجذابة الممتعة، التي يعالج فيها أكثر الموضوعات الدينية تعقيدا بأسلوب أدبي رفيع ولباقة محببة ومسحة طرافة ومزاح لا تخرج البتة عن وقار العلماء.
برحيل ولد عدود تفقد موريتانيا أحد أبرز أعلامها الثقافية، وتفتقد المحظرة الشنقيطية أحد آخر رموزها، وتفتقد الساحة الإسلامية إجمالا علامة مجددا شاهدا على عصره.