محمد فهد الحمود
New member
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد :
أثنى الله جلّ وعلا في سورة التوبة على المؤمنين الذين اتصفوا بالخلال الآتية : فقال : ( التائبون العابدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) ، وجميع هذه الصفات المذكورة هي من المحل الأسنى والمقام الأعلى من مقام العبودية لله عزّ وجلّ وأصحابها يغبطون وفي نعيم الدنيا والآخرة يتقلبون ، والذي يعنيني في هذا المقال بيان معنى (السائحون) الذين أثنى الله عليهم وذكر بعض صور السياحة المشروعة المنوه عنها في سورة التوبة ومن هنا أقول وبالله التوفيق :
أولاً : اختلف العلماء في تفسير لفظة (السائحون) المذكورة في آية التوبة المشار إليها أعلاه ، فمنهم من يقول : الصيام ، ومنهم من يقول : سياحة القلب في معرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، وقد رجح الشيخ السعدي -رحمه الله - أن المراد بالسياحة : ( السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ونحو ذلك ) ، وهذا الترجيح هو الذي تطمئن إليه النفس لأن سياق السورة كان يتحدث عن ضرب الأرض في الجهاد والهجرة ، والنفير لتحصيل العلم الشرعي وتعليمه .
ثانياً : صور السياحة المشروعة المذكورة في سورة التوبة :
1. الجهاد :
سورة التوبة تحدثت عن شيء مما جرى في غزوة تبوك وتنقلك إلى العيش في أجوائها ، وما اكتنفها من مصاعب ومشاق وحرارة شديدة تلقي بثقلها على جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام الذين معه - رضوان الله عليهم - إضافة إلى بعد المسير حيث أن مدينة تبوك تبعد عن مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يقارب سبعمائة كيلو متر ، يقطعونها رجالاً وركباناً يبتغون ما عند الله ويرجون جنة عرضها السماوات والأرض ، فيا لله ما أعظم أولئك الرجال ! وما أروع تضحيتهم ! في سبيل نصرة الدين ، ولقد ضرب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المضمار أروع المثل ، ومن اشهرهم في هذا الميدان ليث المشاهد وداهية الحروب وبطل المعارك ، سيف الله المسلول خالد بن الوليد - رضي الله عنه - الذي ذاع صيته ، وظهر فضله وتحدثت عن شجاعته وفتوحاته الأجيال تلو الأجيال ، كيف لا ؟ وهو الذي دكدك بعد توفيق الله إمبراطوريتي فارس والروم وجرى له مع المرتدين حروب عظيمة انتصر فيها عليهم وأخرج من بقي منهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وإليك يا أخي القارئ شيء من مواقفه البطولية التي حفظها له التاريخ :
سار خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من المدينة المنورة إلى بزاخة جنوب غرب منطقة حائل ، لقتال طليحة الأسدي ومن معه من قبيلة اسد وغطفان وحلفائهما ، وذلك لردتهم واتباعهم طليحة حينما ادعى النبوة ، وكان طليحة من أشجع العرب يُعد بألف فارس بيد أن خالداً وجنود الإسلام الذين معه كسروا شوكته ومن كان في صفه ، مما جعل طليحة يفر إلى الشام ثم واصل خالد المسير إلى موضع البطاح بالقرب مما يُعرف الآن بقصر ابن عقيل ، بمحافظة الرس بمنطقة القصيم ، يريد مناجزة مانعي الزكاة من بني تميم غير أن جل أمراء بني تميم أظهروا الإسلام وبذلوا الزكاة سوى مالك بن نويرة الذي أصر على منع تأدية الزكاة مما كان سبباً في استحلال دمه وقتل خالد إياه ، وبعد ذلك توجه خالد إلى أرض اليمامة وبالتحديد موضع أُباض الواقع بمركز العيينة (50 ) كيلو متر شمالا عن الرياض ، لقتال بني حنيفة وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب ودارت بها البدايات الأولى للمعركة ثم انتقلت ساحة المعركة إلى الجبيلة (40) كيلو متر شمالاً عن الرياض ، وفي هذه الوقعة جرت حروب عظام يشيب من هولها ناصية الولدان حيث سحقت الجماجم وزهقت الارواح واستحر القتل فيها بالقراء إلا أن العاقبة كانت بحمد الله لجنود الرحمن ، وبعد نهاية المعركة أتت الأوامر من أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - أن يمضي لأرض العراق لفتحها وتخليصها من الفرس فاستجاب خالد وجنوده لذلك وانطلقوا لا يلوون على شيء لفتح تلك البلاد وحققوا هناك انتصارات مذهلة ولله الحمد والمنة ، حتى قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مقالته الشهيرة : ( يا معشر قريش عدىأسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ) ثم انتقل خالد إلى ارض الشام عن طريق صحراء السماوة والتي كانت بحق مهلكة حسبما يتضح من كلام المؤرخين وفي الشام جرت لخالد حروب طاحنة مع الروم ظفر بهم في غير مرة أذاقهم فيها الويلات - رحمه الله رحمة واسعة وأفرغ على قبره شآبيب الرحمات - ولو حسبت المسافة التي قطعها في حروبه للمرتدين وفتحه لبلاد العراق والشام لتجاوزت (3.000 ) كيلو متر .
2. الهجرة :
وتعريفها : هي الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام .
قال الله - عزّ وجلّ - : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبة لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) . حكى الله - عزّ وجلّ - في هذه الآية بعضاً مما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم في حادثة الهجرة وصور لنا المصاعب التي لاقاها خليل الرحمن محمد - صلى الله عليه وسلم - والتي أحاطت به حتى بلغ به الحال أن أخرجه قومه من مكة التي كانت أحب البقاع إليه فقد قال عليه الصلاة والسلام حينما خرج من مكة ونظر إلى البيت " والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " . أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح . وكانت هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم محفوفة بالمخاطروالمشاق والمكاره فقد ارسلت قريش في أثره وجعلت فيمن أتى به إليهم مائة ناقة إلا أن أمر الله غالب ومشيئته نافذة ونصره لرسوله - عليه الصلاة والسلام متحتم - إذ أنزل السكينة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - وأيد رسوله بجنود من عنده وطمس أبصار الطلب عن رؤية حبيب الرحمن وحبيب حبيب الرحمن حتى وصلا سالمين إلى المدينة النبوية بحمد الله والهجرة ليست خاصة بشريعتنا بل هي من سنن الأنبياء والمرسلين فقد هاجر إبراهيم - عليه السلام - كما قص الله في كتابه - قال تعالى : ( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ) وهاجر موسى وهارون - عليهم السلام - وقومهما من ارض مصر ، وهاجر نوح وهود وصالح - عليهم السلام - من ديار قومهم حينما حل بهم العذاب .
وللهجرة فضائل عظيمة نذكر منها ما يلي :
1. قال تعالى : ( والذي هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ) .
2. قال عليه الصلاة والسلام : " لولا الهجرة لكنت أمرءاً من الأنصار " أخرجه البخاري ومسلم .
3. قال عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - : " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجر تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله " أخرجه مسلم .
4. قال عليه الصلاة والسلام لأبي فاطمة الضمري - رضي الله عنه - : " عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها " رواه النسائي .
أما حكم الهجرة فيمكن أن نقول على وجه الإجمال : أن الإنتقال من دار الكف ر إلى دار الإسلام واجبة في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته كما تستحب الهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي إلى بلد الصلاح فيه أظهر ، أو المعصية فيه أقل ، ولكن ينبغي التنبيه على أن البقاء في بلاد الكفر لمصلحة شرعية كالدعوة غلى الإسلام فربض كفاية على من قدر عليها بشرط أن تتحقق الدعوة وألا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها حسب فتوى الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - والشيء بالشيء يذكر إن مما ابتليت به الأمة الإقامة في الدول الكافرة تحت مظلة ما يسمى بالابتعاث الذي حذر منه كبار العلماء ، وسبق أن صدر بهذا الخصوص قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (88) وتاريخ 11/11/14301هـ المتضمن التوصيات التالية :
1. منع ابتعاث البنات للخارج منعاً باتاً لاستثناء فيه ويتعين عدم السماح لأي إنسان أن يبعث بنته أو من له ولاية عليها للدراسة ف ي الخارج سواء في البلاد المجاورة أو بلاد الغرب ولو على حسابه الخاص .
2. عدم إرسال أي طالب للدراسة في الخارج من المدنيين والعسكريين على حساب الدولة أو على الحساب الخاص إلا بعد المرحلة الجامعية وبعد الزواج والخدمة مدة من الزمن حتى يصلب عوده وتصلح عقيدته .
3. عدم إرسال أسي شخص في أعمال نظرية كالإدارة واللغات والاقتصاد ونحوها أما في علوم الإسلام وتاريخه فيجب منعه في كل مرحلة وأن يعاقب من ارسل أولاده للدراسة وأن لا تعتبر شهادته في البلاد .
4. يجب إجراء تحريات كاملة عن كل شخص يراد ابتعاثه للتخصص ليعرف مدى حفاظه على دينه وأخلاقه وإعطائه دورة يدرس فيها أحوال تلك البلاد التي سوف يذهب غلها .
5. أن يقتصر في التخصصات ما لا يمكن حصوله في البلاد كعلوم بعض الصناعات التي لا يوجد لها نظير في بلادنا .
6. أن يجلب كل من لا تتوافر فيه الشروط السابقة ويعاد لاكمال دراسته في الداخل سواء كان على حساب نفسه وذويه أو على حساب الحكومة أو إحدى المؤسسات .
7. يوكل إلى جهة حق الرقابة على مخالفة ما تقدم وإذا تم ذلك على الوجه المطلوب حصل به إن شاء الله الخير العظيم للأمة في دينها ودنياها والسلامة في عقيدتها وأخلاقها .
3. الرحلة في طلب العلم وتعليمه :
قال تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ، والمقصود بالنفير ( الإنتقال من مكان إلى مكان لأمر يحدث ) ، ومن ذلك السفر بقصد طلب العلم ولقد قص الله تبارك وتعالى في كتابه قصة رحلة موسى للخضر - عليهما السلام لأجل الاستزادة من العلم ولينال من العلم ما ليس عنده حتى قال نبي الله موسى : ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) ، يعني ولو كلفه السير زمناً طويلا ولسلفنا الصالح في هذا المجال القدح المعلى يقول سعيد بن المسيب - رحمه الله - : ( إن كنت لاسافر في الحديث الواحد مسيرة الأييام والليالي ) وقد مشى أبو حاتم في طلب العلم ألف فرسخ يعني (4800) كيلو متر ويقول محمد بن إبراهيم المقرئ : ( مشيت بسبب نسخة مفضل بن فضالة سبعين مرحلة ولو عرضت على خباز برغيف لم يقبلها ) وهذه المشافة تزيد على (2260) كيلو متر .
وختاما أحب أن اقول إن صور السياحة التي أشارت إليها سورة التوبة توحي بدلالات تربوية عظيمة كالجدية والتضحية وتحيي في النفوس روح الإنتماء إلى الأمة المحمدية وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أثنى الله جلّ وعلا في سورة التوبة على المؤمنين الذين اتصفوا بالخلال الآتية : فقال : ( التائبون العابدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) ، وجميع هذه الصفات المذكورة هي من المحل الأسنى والمقام الأعلى من مقام العبودية لله عزّ وجلّ وأصحابها يغبطون وفي نعيم الدنيا والآخرة يتقلبون ، والذي يعنيني في هذا المقال بيان معنى (السائحون) الذين أثنى الله عليهم وذكر بعض صور السياحة المشروعة المنوه عنها في سورة التوبة ومن هنا أقول وبالله التوفيق :
أولاً : اختلف العلماء في تفسير لفظة (السائحون) المذكورة في آية التوبة المشار إليها أعلاه ، فمنهم من يقول : الصيام ، ومنهم من يقول : سياحة القلب في معرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، وقد رجح الشيخ السعدي -رحمه الله - أن المراد بالسياحة : ( السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ونحو ذلك ) ، وهذا الترجيح هو الذي تطمئن إليه النفس لأن سياق السورة كان يتحدث عن ضرب الأرض في الجهاد والهجرة ، والنفير لتحصيل العلم الشرعي وتعليمه .
ثانياً : صور السياحة المشروعة المذكورة في سورة التوبة :
1. الجهاد :
سورة التوبة تحدثت عن شيء مما جرى في غزوة تبوك وتنقلك إلى العيش في أجوائها ، وما اكتنفها من مصاعب ومشاق وحرارة شديدة تلقي بثقلها على جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام الذين معه - رضوان الله عليهم - إضافة إلى بعد المسير حيث أن مدينة تبوك تبعد عن مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يقارب سبعمائة كيلو متر ، يقطعونها رجالاً وركباناً يبتغون ما عند الله ويرجون جنة عرضها السماوات والأرض ، فيا لله ما أعظم أولئك الرجال ! وما أروع تضحيتهم ! في سبيل نصرة الدين ، ولقد ضرب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المضمار أروع المثل ، ومن اشهرهم في هذا الميدان ليث المشاهد وداهية الحروب وبطل المعارك ، سيف الله المسلول خالد بن الوليد - رضي الله عنه - الذي ذاع صيته ، وظهر فضله وتحدثت عن شجاعته وفتوحاته الأجيال تلو الأجيال ، كيف لا ؟ وهو الذي دكدك بعد توفيق الله إمبراطوريتي فارس والروم وجرى له مع المرتدين حروب عظيمة انتصر فيها عليهم وأخرج من بقي منهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وإليك يا أخي القارئ شيء من مواقفه البطولية التي حفظها له التاريخ :
سار خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من المدينة المنورة إلى بزاخة جنوب غرب منطقة حائل ، لقتال طليحة الأسدي ومن معه من قبيلة اسد وغطفان وحلفائهما ، وذلك لردتهم واتباعهم طليحة حينما ادعى النبوة ، وكان طليحة من أشجع العرب يُعد بألف فارس بيد أن خالداً وجنود الإسلام الذين معه كسروا شوكته ومن كان في صفه ، مما جعل طليحة يفر إلى الشام ثم واصل خالد المسير إلى موضع البطاح بالقرب مما يُعرف الآن بقصر ابن عقيل ، بمحافظة الرس بمنطقة القصيم ، يريد مناجزة مانعي الزكاة من بني تميم غير أن جل أمراء بني تميم أظهروا الإسلام وبذلوا الزكاة سوى مالك بن نويرة الذي أصر على منع تأدية الزكاة مما كان سبباً في استحلال دمه وقتل خالد إياه ، وبعد ذلك توجه خالد إلى أرض اليمامة وبالتحديد موضع أُباض الواقع بمركز العيينة (50 ) كيلو متر شمالا عن الرياض ، لقتال بني حنيفة وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب ودارت بها البدايات الأولى للمعركة ثم انتقلت ساحة المعركة إلى الجبيلة (40) كيلو متر شمالاً عن الرياض ، وفي هذه الوقعة جرت حروب عظام يشيب من هولها ناصية الولدان حيث سحقت الجماجم وزهقت الارواح واستحر القتل فيها بالقراء إلا أن العاقبة كانت بحمد الله لجنود الرحمن ، وبعد نهاية المعركة أتت الأوامر من أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - أن يمضي لأرض العراق لفتحها وتخليصها من الفرس فاستجاب خالد وجنوده لذلك وانطلقوا لا يلوون على شيء لفتح تلك البلاد وحققوا هناك انتصارات مذهلة ولله الحمد والمنة ، حتى قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مقالته الشهيرة : ( يا معشر قريش عدىأسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ) ثم انتقل خالد إلى ارض الشام عن طريق صحراء السماوة والتي كانت بحق مهلكة حسبما يتضح من كلام المؤرخين وفي الشام جرت لخالد حروب طاحنة مع الروم ظفر بهم في غير مرة أذاقهم فيها الويلات - رحمه الله رحمة واسعة وأفرغ على قبره شآبيب الرحمات - ولو حسبت المسافة التي قطعها في حروبه للمرتدين وفتحه لبلاد العراق والشام لتجاوزت (3.000 ) كيلو متر .
2. الهجرة :
وتعريفها : هي الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام .
قال الله - عزّ وجلّ - : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبة لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) . حكى الله - عزّ وجلّ - في هذه الآية بعضاً مما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم في حادثة الهجرة وصور لنا المصاعب التي لاقاها خليل الرحمن محمد - صلى الله عليه وسلم - والتي أحاطت به حتى بلغ به الحال أن أخرجه قومه من مكة التي كانت أحب البقاع إليه فقد قال عليه الصلاة والسلام حينما خرج من مكة ونظر إلى البيت " والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " . أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح . وكانت هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم محفوفة بالمخاطروالمشاق والمكاره فقد ارسلت قريش في أثره وجعلت فيمن أتى به إليهم مائة ناقة إلا أن أمر الله غالب ومشيئته نافذة ونصره لرسوله - عليه الصلاة والسلام متحتم - إذ أنزل السكينة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - وأيد رسوله بجنود من عنده وطمس أبصار الطلب عن رؤية حبيب الرحمن وحبيب حبيب الرحمن حتى وصلا سالمين إلى المدينة النبوية بحمد الله والهجرة ليست خاصة بشريعتنا بل هي من سنن الأنبياء والمرسلين فقد هاجر إبراهيم - عليه السلام - كما قص الله في كتابه - قال تعالى : ( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ) وهاجر موسى وهارون - عليهم السلام - وقومهما من ارض مصر ، وهاجر نوح وهود وصالح - عليهم السلام - من ديار قومهم حينما حل بهم العذاب .
وللهجرة فضائل عظيمة نذكر منها ما يلي :
1. قال تعالى : ( والذي هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ) .
2. قال عليه الصلاة والسلام : " لولا الهجرة لكنت أمرءاً من الأنصار " أخرجه البخاري ومسلم .
3. قال عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - : " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجر تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله " أخرجه مسلم .
4. قال عليه الصلاة والسلام لأبي فاطمة الضمري - رضي الله عنه - : " عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها " رواه النسائي .
أما حكم الهجرة فيمكن أن نقول على وجه الإجمال : أن الإنتقال من دار الكف ر إلى دار الإسلام واجبة في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته كما تستحب الهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي إلى بلد الصلاح فيه أظهر ، أو المعصية فيه أقل ، ولكن ينبغي التنبيه على أن البقاء في بلاد الكفر لمصلحة شرعية كالدعوة غلى الإسلام فربض كفاية على من قدر عليها بشرط أن تتحقق الدعوة وألا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها حسب فتوى الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - والشيء بالشيء يذكر إن مما ابتليت به الأمة الإقامة في الدول الكافرة تحت مظلة ما يسمى بالابتعاث الذي حذر منه كبار العلماء ، وسبق أن صدر بهذا الخصوص قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (88) وتاريخ 11/11/14301هـ المتضمن التوصيات التالية :
1. منع ابتعاث البنات للخارج منعاً باتاً لاستثناء فيه ويتعين عدم السماح لأي إنسان أن يبعث بنته أو من له ولاية عليها للدراسة ف ي الخارج سواء في البلاد المجاورة أو بلاد الغرب ولو على حسابه الخاص .
2. عدم إرسال أي طالب للدراسة في الخارج من المدنيين والعسكريين على حساب الدولة أو على الحساب الخاص إلا بعد المرحلة الجامعية وبعد الزواج والخدمة مدة من الزمن حتى يصلب عوده وتصلح عقيدته .
3. عدم إرسال أسي شخص في أعمال نظرية كالإدارة واللغات والاقتصاد ونحوها أما في علوم الإسلام وتاريخه فيجب منعه في كل مرحلة وأن يعاقب من ارسل أولاده للدراسة وأن لا تعتبر شهادته في البلاد .
4. يجب إجراء تحريات كاملة عن كل شخص يراد ابتعاثه للتخصص ليعرف مدى حفاظه على دينه وأخلاقه وإعطائه دورة يدرس فيها أحوال تلك البلاد التي سوف يذهب غلها .
5. أن يقتصر في التخصصات ما لا يمكن حصوله في البلاد كعلوم بعض الصناعات التي لا يوجد لها نظير في بلادنا .
6. أن يجلب كل من لا تتوافر فيه الشروط السابقة ويعاد لاكمال دراسته في الداخل سواء كان على حساب نفسه وذويه أو على حساب الحكومة أو إحدى المؤسسات .
7. يوكل إلى جهة حق الرقابة على مخالفة ما تقدم وإذا تم ذلك على الوجه المطلوب حصل به إن شاء الله الخير العظيم للأمة في دينها ودنياها والسلامة في عقيدتها وأخلاقها .
3. الرحلة في طلب العلم وتعليمه :
قال تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ، والمقصود بالنفير ( الإنتقال من مكان إلى مكان لأمر يحدث ) ، ومن ذلك السفر بقصد طلب العلم ولقد قص الله تبارك وتعالى في كتابه قصة رحلة موسى للخضر - عليهما السلام لأجل الاستزادة من العلم ولينال من العلم ما ليس عنده حتى قال نبي الله موسى : ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) ، يعني ولو كلفه السير زمناً طويلا ولسلفنا الصالح في هذا المجال القدح المعلى يقول سعيد بن المسيب - رحمه الله - : ( إن كنت لاسافر في الحديث الواحد مسيرة الأييام والليالي ) وقد مشى أبو حاتم في طلب العلم ألف فرسخ يعني (4800) كيلو متر ويقول محمد بن إبراهيم المقرئ : ( مشيت بسبب نسخة مفضل بن فضالة سبعين مرحلة ولو عرضت على خباز برغيف لم يقبلها ) وهذه المشافة تزيد على (2260) كيلو متر .
وختاما أحب أن اقول إن صور السياحة التي أشارت إليها سورة التوبة توحي بدلالات تربوية عظيمة كالجدية والتضحية وتحيي في النفوس روح الإنتماء إلى الأمة المحمدية وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .