محمد جابري
New member
السنن الإلهية :
أ- تعريف السنن :
1- من حيث المدلول اللغوي:
قال الجوهري : السنن الطريقة، يقال استقام فلان على سنن واحد، ويقال امض على سَننك وسُننك أي على وجهك. وعن سَنن الطريق وسُننه وسِننه ثلاث لغات.(الصحاح)
وقال المقري : السنة : الطريقة والسنة : السيرة حميدة كانت أو ذميمة.(المصباح المنير)
وقال الراغب الأصفهاني :" تنح عن سَنن الطريق وسُننه وسِننه, فالسنن جمع سُنّة, وسنة الوجه : طريقته, وسنة النبي صلى الله عليه وسلم طريقته التي كان يتحراها, وسنة الله قد تقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته نحو :{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الفتح : 23] (معجم مفردات ألفاظ القرآن)
وقال مرتضى الزبيدي : "سُنَّةُ النبيِّ : طَريقَتُه التي كانَ يَتحرَّاها ، *!وسُنَّةُ الله ِ ، عزَّ وجلَّ ، قد تُقالُ لطَريقَةِ حكْمَتِه وطَريقَةِ طاعَتِه ، نحْو قوْلِه تعالَى : { *!سُنَّةُ الله التي قد خَلَتْ مِن قبْل } ؛ وقَوْله تعالَى : { ولنْ تَجِد *!لسُنَّت الله تَحْويلاً } ؛ فنَبَّه على أنَّ وجُوه الشَّرائِعِ وإن اخْتَلَفَتْ صُورُها ، فالغَرَضُ المَقْصُودُ منها لا يَخْتلِفُ ولا يَتَبَدَّلُ ، وهو تَطْمِينُ النَّفْس وتَرْشِيحُها للوُصولِ إلى ثَوابِ اللهِ تعالى . ( و ) قَوْله تعالَى : { وما مَنَعَ الناسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إذ جاءَهم الهُدَى ويَسْتَغْفِروا رَبَّهم ( إلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُم سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } .
( قالَ الزَّجَّاجُ : ( أَي مُعَايَنَةُ العَذابِ ) وطَلَبُ المُشْركِين إذ قالوا : اللّهُمَّ إن كانَ هذا هو الحَقُّ مِن عنْدَك فأَمْطِرْعلينا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال : 32]
( *!وسَنَنُ الطَّرِيقِ ، مُثَلَّثَةً وبضمَّتَيْن ) ، فهي أَرْبَع لُغاتٍ ، ذكَرَ الجَوْهرِيُّ منها : *!سَنَنا بالتَّحْريكِ وبضمَّتَيْن وكرُطَبٍ . وابن سيده :سِنَناً كعِنَبٍ ، قالَ : ولا أَعْرفُه عن غيرِ اللّحْيانيّ . وكرُطَبٍ : ذَكَرَه صاحِبُ المِصْباحِ أَيْضاً ونَظَر فيه شيْخُنا ؛ وَلاَ وَجْه للنَّظَر فيه ، وقد ذكَرَه الجَوْهرِيُّ وغيرُهُ مِن الأئِمَّةِ : ( نَهْجُهُ وجِهَتُهُ ) . يقالُ : تَرَكَ فلانٌ *!سَنَنَ الطَّرِيقِ ، أَي جِهَتَه .
وقالَ أَبو عُبَيْدٍ : *!سَنَنُ الطَّريقِ *!وسُنَنُه : مَحَجَّتُه .
وتَنَحَّ عن سَنَنِ الجَبَلِ : أَي عن وجْهِه .
وقالَ الجَوْهرِيُّ : *!السَّنَنُ : الاسْتِقامَةُ . يقالُ : أَقامَ فلانٌ على *!سَنَنٍ واحِدٍ . ويقالُ : امْضِ على*!سَنَنِك أَي على وَجْهِك .
وقالَ شَمِرٌ : *!السُّنَّةُ في الأَصْلِ *!سُنَّة الطَّرِيقِ ، وهو طَريقٌ *!سَنَّه أَوائِلُ الناسِ فصارَ مَسْلَكاً لمَنْ بعْدِهم . (تاج العروس من جواهرالقاموس(35/231) المؤلف : أبو الفيض ، الملقّب بمرتضى ،الزَّبيدي تحقيق مجموعة من المحققين الناشر دار الهداية عدد الأجزاء / 40)
ب- تعريف السنن الإلهية اصطلاحا :
1– السنة من حيث الجانب الشرعي:
قال أبو البقاء : السنة شرعا اسم للطريقة المرضية المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب.
والمراد بالمسلوكة في الدين ما سلكها رسول الله أوغيره ممن هو علم في الدين كالصحابة رضي الله عنهم e (الكليات ص 497) لقوله " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ". (الحديث أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بنحوه ج 8/66.)
واختلف استعمال مصطلح السنة في الشرع باختلاف المستعملين له.
ففي اصطلاح الأصوليين :
ما نقل عن النبي صلى عليه وسلم من قول و فعل وتقرير بصفته مبلغا عن الله (السنة و مكانتها في التشريع الإسلامي ص 47 و انظر حجة الله البالغة للدهلوي 1/371و372.)
أما في عرف أهل الفقه : فإنما يطلقونها على ما ليس بواجب, وتطلق على ما يقابل البدعة. - (إرشاد الفحول للشوكاني ص 67.)
أما في اصطلاح المحدثين : هي ما أثر عن النبي صلىe من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية، أو خلقية، أو سيرة سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها. (انظر توجيه النظر لطاهر بن أحمد الجزائر ص : 3.)
ولا اعتبار لاختلاف مصطلحات أهل الفنون فإنها تمضي على نسق، وإنما كان اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات.
والذي يهمنا من تعاريف أهل الاصطلاح للسنن هو تعريف اللغويين, إذ هو أقرب إلى تعريف السنن الإلهية.
2- سنة الله اصطلاحا:
من القرآن الكريم نصوص تعظم الرب فكانت أعظم آية: آية الكرسي لكونها تصف الله جل جلاله، وكانت أعظم سورة الفاتحة لكونها: تثني على الله وتستدعي العبد إلى باب الله حيث الذلة والمسكنة للفوز بالكينونة من الذين أنعم الله عليهم، وكانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لكونها تصف الله وتثني عليه،....
فما شأن الآيات التي تضبط عهوده ووعوده لخلقه؟ فهذه الآيات المحكمات التي لن تجد لها تبديلا ولا تغييرا ولا تحويلا وتحكم بالعدل الإلهي وصفها الحق سبحانه وتعالى بأنها " سنة الله" فعلى ضوئها ووفق ما تشير إليه نفقه باقي نصوص الكتاب. وهنا تخشع القلوب لما ترى القرآن نسيجا محكما، متراصا بناؤه، ومحكما عدله، ودقيقا فهمه، سلسة عذبة قراءته...
هنا يقر كل متنكر بأن القرآن الكريم كتاب علم بامتياز....
فالسنن الإلهية هي جملة المواثيق والعهود التي عهد الله بها لكـل شيء في هذا الوجود. أو بعبارة أصح هي كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر.
والله جل وعلا تجلت أفعاله في قوله " كن، فيكون" ما أراد, فكان فعله قولا وقوله فعلا. والقرآن الكريم كلام الجليل جل وعلا جاءنا بمسح لكل أوامره لمخلوقاته وهكذا كشف لنا بآياته البينات هدي سننه سبحانه وتعالى في كونه المنظور.
لقد عهد الله لكل شيء في هذا الوجود بما يقتضيه أمره جل وعلا :
{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [النور الآية :41].
فالعهود الربانية أمور كلية، جامعة، مانعة، جاءت ليمضي هذا الكون في انسجام بديع بين كل مكوناته.
واعتنى القرآن الكريم العناية التامة برسالة الإنسان في هذا الوجود, ولم يفرط في جانب من جوانب الحياة إلا وجاء فيه بالحق وأحسن تفسيرا.
إنه خلق كل شيء, وأعطى الأمر لكل شيء, ليمضي الكل في تناغم وانسجام. و هكذا خلق السماوات وأعطى لكل سماء أمرها و خلق الأراضي ودللها لمخلوقاته, وخلق الإنسان والجان وأنزل التعاليم, وخلق النحل وأوحى لها أمرها...
نخلص مما سيق أن الله جل وعلا ربط الأسباب بالمسببات، وبعبارة أوجز وأوضح أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق وأعطى الأمر- كي يستقر الكون وينساق على نظام الدوام والاستمرارية إلى حين قيام الساعة-.
3-إيضاءات:
قال سيدنا موسى عليه السلام جوابا عن سؤال :
{َ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟
- قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه : 49 - 50]
أبان عليه السلام بأن الله خلَق الخلْق وهدى السبيل، وهو ما جاءنا من المثاني في القرآن الكريم :
{ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ الأعراف : 54]
ومن الأمر عهود ربانية لمخلوقاته جمعاء، وبخاصة الإنسان، وتضع القوانين ليمضي الكون بانسجام بديع إلى أن يرث الله
قال القرافي رحمه الله : الله سبحانه و تعالى ملك الملوك وأعظم العظماء, بل وأعظم من ذلك, رتب ملكه على عوائد أرادها, وأسباب قدرها وربط بها آثار قدرته, ولو شاء لم يربطها, فجعل الري بالشرب, والشبع بالأكل, والإحتراق بالنار, والحياة بالتنفس في الهواء.3
هذا، والقصص القرآني كما يقول د. عماد الدين خليل- " وإن جاءت تسميتها- أحيانا- بالقصص، أي الحديث عن الماضي، - تخرج عن الإطار الفني للقصة وبهذا تكتسب بعدها التاريخي المجرد.
ومهما يكن من أمر فقد قدم لنا القرآن الكريم نماذج عديدة للمعطيات التاريخية، وحدثنا عن الماضي في جل مساحاته لكي ما يلبث أن يخرج بنا إلى تبيان (الحكمة) من وراء هذه العروض, وإلى بلورة عدد من المبادئ الأساسية في حركة التاريخ البشري مستمدة من صميم التكوين الحدثي لهذه العروض، تلك المبادئ التي سماها (سنناً)، ودعانا أكثر من مرة إلى تأملها واعتماد مدلولاتها في أفعالنا الراهنة، ونزوعنا المستقبليّ.
ومن ثم يتأكد لنا مرة أخرى أن هذه العروض ما جاءت لكي تلقي المتعة في نفوس المؤمنين، كما هو الحال في أي نشاط فني، قبل أن تبرز للعيان الاتجاهات التعليمية الحديثة في ميادين الفنون، إنما جاءت لكي (تعلمهم) من خلال تجاربهم الماضية و(تحركهم) عبر الأضواء الحمراء والخضراء التي أشعلتها لهم هذه التجارب في طريق الحياة المزدحم الطويل "( التفسير الإسلامي للتاريخ لعماد الدين خليل، ص : 97- 98).
إن الحوادث التاريخية إذا نظرنا إليها من وجهة النظر التاريخية ؛ سنجد أنها حوادث فردية، وفريدة، لا تتكرر على شكل مماثل، ومن ثم فهي تعتبر بالفعل وقائع فريدة، غير قابلة للتكرار، ولكننا إذا نظرنا إلى هذه الوقائع المتناهية في امتدادها التاريخي، وفي سياقها التطوري، وفي الأسباب التي أدت إلى حدوثها، وفي النتائج التي انتهت إليها، وحاولنا أن نجردها من فرديتها، وننظر إليها في كليتها، سنجد أن مضمون هذه الوقائع – وليس شكلها – قابل للتكرار والاطراد، ويكشف عن علاقة سببية مطردة بين ظاهرة وأخرى...وهذا الترابط هو الذي يتيح لنا استخلاص القانون العام الذي تخضع له هذه الوقائع التاريخية، فكلما توفرت أسباب معينة في ظروف معينة إلا وارتبطت بها نتائج معينة ".(منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية لمحمد محمد أمزيان, ص: 188.)
يقول د.محمد رشاد خليل: "عندما نمعن النظر في الكتاب والسنة، فإنا سوف نعثر على منهج متكامل لتفسير التاريخ يقوم على أساس من الحقائق اليقينية التي جاء بها الوحي الصادق، فنحن هنا لسنا أمام فروض وظنون وأوهام تستخدم بعض المعلومات الإنسانية المبتورة عن الظواهر المادية والحية والإنسانية ؛ لتقيم على رمال الأوهام المتحركة صرحا شامخا لتفسير التاريخ "(المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ لمحمد رشاد خليل ص 90)
ب- تمهيد :
اقتضت سننه سبحانه وتعالى أن لا يعذب أحدا حتى يبين لهم ما يتقون, واقتضى بيانه أن يكون هناك رسول:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء : 15].
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة : 115].
وبعد أن جاء الرسول وبلغ الرسالة ترك الأمر لكل امرئ أن يختار بمحض إرادته سبيل الله أو سبيل الشيطان :
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان : 3].
ولو لم يأذن الله له بعبادة ما شاء ما استطاع الخروج عن سبيل الله، ولكن الله مكنه مما يشاء حتى يختار عن بينة :
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15].
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [فصلت : 40].
هكذا اقتضت حكمته وصار حكمه : حرية واختيار مطلقان، لا تخيير ولا تسيير، وإنما هي أعمالكم أحصيها لكم ؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة : 187].
والله جل جلاله لا يسأل عما يفعل, ومع ذلك يعلل لنا أفعاله ويبين ؛ ليحيا من حيي عن بينة, ويهلك من هلك عن بينة. ومن تتبع أفعاله جل وعلا يجدها عين الحكمة والرحمة تفضلا منه ونعمة.
ورب فعل واحد تبرز من خلاله حكم متعددة يدركها من أدركها من أصحاب الحس المرهف, والمطالعة لأفعاله جل وعلا في هذا الكون ؛ إذ الله جل جلاله :
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[ الرحمان : 29.]
ولما جمع بين أوصافه المختلفة من رحمة ورأفة, وكذلك كونه قهارا جبارا متكبرا اتصفت أفعاله بالمواصفات المتعددة :
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء : 147].
إنه استفسار يوقظ الهمم, ويدفع العبد لسد باب عذاب الله بالشكر والإيمان :
]وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[ [الأنفال : 33].
إيمان وشكر واستغفار: كلها أمان من عذاب الله الشاكر العليم,
وبالبيان العملي ساق القرآن الكريم في حديثه عن السنن يركز على العلاقة السببية بين ظاهرة وأخرى لاستخلاص العبر وكأن التاريخ لا زمن يفرقه وإنما يركز على مقارنة أفعال وأحداث وقعت :
الأفعال
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر : 9]فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر : 10]
النتائج
{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ [11]وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [12]وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [13]تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ [: 14] وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 15]فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 16]} القمر
أفعال:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 17]كَذَّبَتْ عَادٌ [القمر : 18]}
نتائج:
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 18]إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ [القمر : 19]تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ [القمر : 20]فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 21]}
أفعال:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 22]كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر : 23]فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر : 24]أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر : 25]سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر : 26]إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [القمر : 27]وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ [القمر : 28]فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [القمر : 29]}
نتائج
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 30]إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر : 31]}
أفعال:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 32]كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [القمر : 33}
نتائج:
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ [القمر : 34]نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ [القمر : 35]}
أفعال:
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ [القمر : 36]وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 37]}
نتائج:
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ [القمر : 38]فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 39]}
أفعال
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 40]وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ [القمر : 41]كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا [القمر : 42]}
نتائج:
{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍِِِِ [القمر : 42]}
ج- خصوصيات السنن الإلهية
من خصائص العهود الربانية:
1-لا مجال فيها لإشكال ولا خفاء، بل هي نصوص بيّنة المعالم, واضحة التعاليم وضوح الشمس، صريحة وفصيحة لا يكتنفها لبس ولا غبش. فهي ترشد المرء إلى سبيل الرشاد، وتهدي للتي هي أقوم، وتدل على أصل كل شيء وسننه المتبعة التي جبل عليها ؛ فهي لا تخضع لإرادة البشر، ولا تستحيي من أحد، ولا تحابي أحدا.
] لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ[[النساء : 123].
2-المتدبر للسنن القرآنية يجدها قواعد كلية، مترابطة، متسقة، يربطها خيط رفيع بين الأسباب ومسبباتها، وبين الأعمال ونتائجها، كأنها معادلات رياضية تتحكم في الكون ونواميسه ؛ فكلما حصلت المقدمة حصلت النتيجة.
] وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ[ (التغابن : من الآية11). وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً[ (الطلاق : من الآية2).]فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً[ (البقرة : من الآية 10).
3-تمتاز السنن الإلهية بكونها مطردة متلاحقة على نسق واحد لا تبديل لها ولا تغيير يعتريها.
4-تأتي السنن الإلهية مجملة أو مفصلة، وسواء تعلق الأمر بالكليات أو بالجزئيات، فهي كلها ذات طابع شمولي.
5-يأتي الجزاء في السنن الإلهية من جنس العمل، وتشكل أساس الحق – طبعا قد تختلف فيما لا يليق بجلال الله سبحانه وتعالى-
6-المرحلية والإجرائية :
إن من يطالع سنن الله في كونه وفي كتابه، ويدرس كيف تتحول عوامل الصراع من أصل إلى نقيضه، وكيف تأتي تحولاتها عبر مراحل زمنية تتغير وفق كل سنة على حدة،-
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }[الأنبياء : 104]
ما كان لمن يدرك السنن الإلهية أن يغفل أهمية العامل الزمني ووقعه وتأثيره في الواقع والأحداث.
ولما أهمل فقهاؤنا العناية بالزمن وأثره في الأحداث والوقائع ولم يعيروه ما يستحق من اهتمام ضاع منهم فهم السنن الإلهية.
وحيث كان لتأثيراتها علاقة بالقضاء والقدر، كشأن من يبرر عجزه بالاستقالة من منصبه. أقول هذا رغم ما أصلوه من قواعد فقهية منها :
- "ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يقم الدليل على خلافه": بناء على قاعدة استصحاب الحال؛
- " يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء".
-" من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه". (شرح القواعد الفقهية لمصطفى الزرقا، )
نعم كل الأمور تجري بقضاء وقدر، لكن ما جدوى التعليلات التي قدمها لنا القرآن إبرازا لتأثير الأسباب ومسبباتها في هذا الوجود ؟ فالله جل شأنه لا يسأل عما يفعل ومع ذلك يعلل ويبرهن لنا كيف أقام الكون بناء على أسباب ومسببات.
ولكم طالبنا القرآن بمراجعة أنفسنا كلما مستنا ضراء من أجل استخلاص العبر والعظات ؛ فهما عن الله لقانون آياته الكونية والقرآنية.
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ [آل عمران:165].
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى : 30].
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن : 11].
وقد لا يتجلى فهم واستخلاص مضامين الآيات الكونية بوضوح لا غبار عليه، إلا في ظرف بضع سنين، بخاصة معظم ضوابطها ؛ الشيء الذي فوت فرصة الفهم الشمولي على من لم يصبر على طول هذه الحقبة الزمنية.
ولو رجعنا إلى كتاب الله واستنطقناه عن دلالة المراحل الزمنية لانكشفت لنا علوم يقينية تتأتى عبر مراحل حددتها السنن الإلهية ببضع سنين.
د- السنن الإلهية: علم من علوم الآلة؛
بهذه الخصائص السابقة الذكر مجتمعة تدخل السنن الإلهية المجال العلمي من أوسع أبوابه ؛ فهي عدل، وهي شمولية، وهي مطردة، وهي هادفة ترسم أصل كل السنن.
ولا تتميز سنن الله القرآنية بكونها ضوابط للعلوم الإنسانية فقط، بل تمتد لكل العلوم، دقيقها وجليلها.
يقول سيد قطب رحمه الله : " ... فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ؛ ترجع إليه البشرية لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال، وتقيم عليها حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء، واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع. ميزانا لا يحابي أحدا ؛ لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد ؛ لأن الله رب الجميع.
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل، والاضطرابات والخلخلة التي تحيف بها في معترك الأهواء، ومضطرب العواطف، ومصطخب المنافسة، وحب الذات..." في ظلال القرآن , ج7/739
وبعبارة واضحة وجلية فالسنن الله القرآنية علم من علوم الآلة تستخدم في كل المجالات وسيلة ونبراسا ينير السبيل، وتعبر أصدق تعبير عن كوامن الأشياء خفيها وجلِيِّها. فلقد اشتمل زهاء ثلث القرآن على سرد للقصص القرآني كلها منضبطة بضوابط السنن الإلهية ؛ ليعبر أصدق تعبير بأن لا فاعل في الوجود حقيقة إلا الله، وأن لا راد لقضائه، ولا مبدل لكلماته ؛ ولتكون نبراسا يستضاء به، ويقتبس منه صدق المسار أو انحرافه.
قد يحتاج إلى سنن الله على أنها قوانين سرمدية، وضوابط أبدية - فضلا عن علماء العلوم الاجتماعية- رجال القانون، وعلماء التاريخ، ورجال المباحث الاجتماعية، والشرطة، ورجال العلوم الشرعية : كالأصولي والمحدث، فيحتاجها هذا الأخير لتكشف علل المتون، وتكون للأصولي منارا تنير سبيل فهمه وفقهه لأسرار الآيات الكونية والقرآنية ؛ مما يزيده رسوخ قدم في العلم...
بهذا فهي مقياس وضابط أساس، دعانا أستاذنا عماد الدين خليل لاستخلاصه من مضامين القصص القرآنية، وأجدني في غنى عن ذلك لما وجدتها مبثوثة بين ثنايا المصحف تنتظر من يلتطقها دررا مهداة من رب العزة، ويحكم بها مسار كل الأمور، بل كل حركة وسكنة : أإلى رشد تسعى أم إلى طيش تقصد ؟.
وعلى ضوء ضوابط السنن الإلهية يتفتق الرد، وعلى هديها ينبني ؛ لكون الزمن الذي كان الفقهاء ينظرون إلى آيات الأحكام بأنها لا تتعدى خمسمائة آية ولى وأدبر فاسحا المجال لكلام الله ؛ ليبرهن بكل حرف من حروفه، وكل كلمة من كلماته أنها تحمل دفقا من البيان، فضلا عن الإعجاز. والحالة هذه أضحى لزاما مراجعة الفقه القديم على ما انكشف من دلائل قرآنية.
هـ- مكانة السنن الإلهية بين العلوم
قال أبو حامد الغزالي في بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة : "وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله، وسننه في خلقه، وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا، فإن هذا علم مطلوب لذاته، ثم فضل أهل هذا العلم على جميع العلماء كالمتكلمين والفقهاء، وأيده في ذلك العز بن عبد السلام إذ استفتي فيه فأفتى بصحته..." (كتاب العلم في الإحياء ج1/41).
ويقول محمد رشيد رضا: –( تفسير المنار)" أقول أما العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله فهو معراج الكمال الإنساني، وأما العلم بسننه تعالى في خلقه فهو وسيلة ومقصد ؛ أعني أنه أعظم الوسائل لكمال العلم الذي قبله ومن أقرب الطرق إليه، وأقوى الآيات الدالة عليه، وأنه أعظم العلوم التي يرتقي بها البشر في الحياة الاجتماعية المدنية، فيكونون بها أعزاء، أقوياء سعداء، وإنما يرجى بلوغ كمال الاستفادة منه إذا نظر فيه إلى الوجه الرباني، والوجه الإنساني جميعا، وهو ما كان عمر ينظر فيه بنور الله في فطرته، وهداية كتابه، وأما أبو حامد فقد لاحظ الوجه الرباني فقط، وأن في سياسة عمر وفي كلامه لدلائل كثيرة على ما ذكرناه من بصيرته في هذا العلم. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهله، وأن يجعله وسيلة لتكميل أنفسنا، وإصلاح ما فسد من أمر أمتنا آمين". (تفسير المنار)
و- أبعاد السنن الإلهية
تمضي سنن الله الكونية في اتساق غريب، وتنسيق عجيب مع سنن الله القرآنية ؛ الشيء الذي يجعل هذه الأخيرة مفتاحا للغز الكون وسننه وأسراره.
فالمتدبر للسنن القرآنية يجدها قواعد كلية، مترابطة، متسقة، يربطها خيط رفيع بين الأسباب ومسبباتها، وبين الأعمال ونتائجها.
أ- تعريف السنن :
1- من حيث المدلول اللغوي:
قال الجوهري : السنن الطريقة، يقال استقام فلان على سنن واحد، ويقال امض على سَننك وسُننك أي على وجهك. وعن سَنن الطريق وسُننه وسِننه ثلاث لغات.(الصحاح)
وقال المقري : السنة : الطريقة والسنة : السيرة حميدة كانت أو ذميمة.(المصباح المنير)
وقال الراغب الأصفهاني :" تنح عن سَنن الطريق وسُننه وسِننه, فالسنن جمع سُنّة, وسنة الوجه : طريقته, وسنة النبي صلى الله عليه وسلم طريقته التي كان يتحراها, وسنة الله قد تقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته نحو :{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الفتح : 23] (معجم مفردات ألفاظ القرآن)
وقال مرتضى الزبيدي : "سُنَّةُ النبيِّ : طَريقَتُه التي كانَ يَتحرَّاها ، *!وسُنَّةُ الله ِ ، عزَّ وجلَّ ، قد تُقالُ لطَريقَةِ حكْمَتِه وطَريقَةِ طاعَتِه ، نحْو قوْلِه تعالَى : { *!سُنَّةُ الله التي قد خَلَتْ مِن قبْل } ؛ وقَوْله تعالَى : { ولنْ تَجِد *!لسُنَّت الله تَحْويلاً } ؛ فنَبَّه على أنَّ وجُوه الشَّرائِعِ وإن اخْتَلَفَتْ صُورُها ، فالغَرَضُ المَقْصُودُ منها لا يَخْتلِفُ ولا يَتَبَدَّلُ ، وهو تَطْمِينُ النَّفْس وتَرْشِيحُها للوُصولِ إلى ثَوابِ اللهِ تعالى . ( و ) قَوْله تعالَى : { وما مَنَعَ الناسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إذ جاءَهم الهُدَى ويَسْتَغْفِروا رَبَّهم ( إلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُم سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } .
( قالَ الزَّجَّاجُ : ( أَي مُعَايَنَةُ العَذابِ ) وطَلَبُ المُشْركِين إذ قالوا : اللّهُمَّ إن كانَ هذا هو الحَقُّ مِن عنْدَك فأَمْطِرْعلينا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال : 32]
( *!وسَنَنُ الطَّرِيقِ ، مُثَلَّثَةً وبضمَّتَيْن ) ، فهي أَرْبَع لُغاتٍ ، ذكَرَ الجَوْهرِيُّ منها : *!سَنَنا بالتَّحْريكِ وبضمَّتَيْن وكرُطَبٍ . وابن سيده :سِنَناً كعِنَبٍ ، قالَ : ولا أَعْرفُه عن غيرِ اللّحْيانيّ . وكرُطَبٍ : ذَكَرَه صاحِبُ المِصْباحِ أَيْضاً ونَظَر فيه شيْخُنا ؛ وَلاَ وَجْه للنَّظَر فيه ، وقد ذكَرَه الجَوْهرِيُّ وغيرُهُ مِن الأئِمَّةِ : ( نَهْجُهُ وجِهَتُهُ ) . يقالُ : تَرَكَ فلانٌ *!سَنَنَ الطَّرِيقِ ، أَي جِهَتَه .
وقالَ أَبو عُبَيْدٍ : *!سَنَنُ الطَّريقِ *!وسُنَنُه : مَحَجَّتُه .
وتَنَحَّ عن سَنَنِ الجَبَلِ : أَي عن وجْهِه .
وقالَ الجَوْهرِيُّ : *!السَّنَنُ : الاسْتِقامَةُ . يقالُ : أَقامَ فلانٌ على *!سَنَنٍ واحِدٍ . ويقالُ : امْضِ على*!سَنَنِك أَي على وَجْهِك .
وقالَ شَمِرٌ : *!السُّنَّةُ في الأَصْلِ *!سُنَّة الطَّرِيقِ ، وهو طَريقٌ *!سَنَّه أَوائِلُ الناسِ فصارَ مَسْلَكاً لمَنْ بعْدِهم . (تاج العروس من جواهرالقاموس(35/231) المؤلف : أبو الفيض ، الملقّب بمرتضى ،الزَّبيدي تحقيق مجموعة من المحققين الناشر دار الهداية عدد الأجزاء / 40)
ب- تعريف السنن الإلهية اصطلاحا :
1– السنة من حيث الجانب الشرعي:
قال أبو البقاء : السنة شرعا اسم للطريقة المرضية المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب.
والمراد بالمسلوكة في الدين ما سلكها رسول الله أوغيره ممن هو علم في الدين كالصحابة رضي الله عنهم e (الكليات ص 497) لقوله " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ". (الحديث أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بنحوه ج 8/66.)
واختلف استعمال مصطلح السنة في الشرع باختلاف المستعملين له.
ففي اصطلاح الأصوليين :
ما نقل عن النبي صلى عليه وسلم من قول و فعل وتقرير بصفته مبلغا عن الله (السنة و مكانتها في التشريع الإسلامي ص 47 و انظر حجة الله البالغة للدهلوي 1/371و372.)
أما في عرف أهل الفقه : فإنما يطلقونها على ما ليس بواجب, وتطلق على ما يقابل البدعة. - (إرشاد الفحول للشوكاني ص 67.)
أما في اصطلاح المحدثين : هي ما أثر عن النبي صلىe من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية، أو خلقية، أو سيرة سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها. (انظر توجيه النظر لطاهر بن أحمد الجزائر ص : 3.)
ولا اعتبار لاختلاف مصطلحات أهل الفنون فإنها تمضي على نسق، وإنما كان اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات.
والذي يهمنا من تعاريف أهل الاصطلاح للسنن هو تعريف اللغويين, إذ هو أقرب إلى تعريف السنن الإلهية.
2- سنة الله اصطلاحا:
من القرآن الكريم نصوص تعظم الرب فكانت أعظم آية: آية الكرسي لكونها تصف الله جل جلاله، وكانت أعظم سورة الفاتحة لكونها: تثني على الله وتستدعي العبد إلى باب الله حيث الذلة والمسكنة للفوز بالكينونة من الذين أنعم الله عليهم، وكانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لكونها تصف الله وتثني عليه،....
فما شأن الآيات التي تضبط عهوده ووعوده لخلقه؟ فهذه الآيات المحكمات التي لن تجد لها تبديلا ولا تغييرا ولا تحويلا وتحكم بالعدل الإلهي وصفها الحق سبحانه وتعالى بأنها " سنة الله" فعلى ضوئها ووفق ما تشير إليه نفقه باقي نصوص الكتاب. وهنا تخشع القلوب لما ترى القرآن نسيجا محكما، متراصا بناؤه، ومحكما عدله، ودقيقا فهمه، سلسة عذبة قراءته...
هنا يقر كل متنكر بأن القرآن الكريم كتاب علم بامتياز....
فالسنن الإلهية هي جملة المواثيق والعهود التي عهد الله بها لكـل شيء في هذا الوجود. أو بعبارة أصح هي كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر.
والله جل وعلا تجلت أفعاله في قوله " كن، فيكون" ما أراد, فكان فعله قولا وقوله فعلا. والقرآن الكريم كلام الجليل جل وعلا جاءنا بمسح لكل أوامره لمخلوقاته وهكذا كشف لنا بآياته البينات هدي سننه سبحانه وتعالى في كونه المنظور.
لقد عهد الله لكل شيء في هذا الوجود بما يقتضيه أمره جل وعلا :
{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [النور الآية :41].
فالعهود الربانية أمور كلية، جامعة، مانعة، جاءت ليمضي هذا الكون في انسجام بديع بين كل مكوناته.
واعتنى القرآن الكريم العناية التامة برسالة الإنسان في هذا الوجود, ولم يفرط في جانب من جوانب الحياة إلا وجاء فيه بالحق وأحسن تفسيرا.
إنه خلق كل شيء, وأعطى الأمر لكل شيء, ليمضي الكل في تناغم وانسجام. و هكذا خلق السماوات وأعطى لكل سماء أمرها و خلق الأراضي ودللها لمخلوقاته, وخلق الإنسان والجان وأنزل التعاليم, وخلق النحل وأوحى لها أمرها...
نخلص مما سيق أن الله جل وعلا ربط الأسباب بالمسببات، وبعبارة أوجز وأوضح أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق وأعطى الأمر- كي يستقر الكون وينساق على نظام الدوام والاستمرارية إلى حين قيام الساعة-.
3-إيضاءات:
قال سيدنا موسى عليه السلام جوابا عن سؤال :
{َ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟
- قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه : 49 - 50]
أبان عليه السلام بأن الله خلَق الخلْق وهدى السبيل، وهو ما جاءنا من المثاني في القرآن الكريم :
{ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ الأعراف : 54]
ومن الأمر عهود ربانية لمخلوقاته جمعاء، وبخاصة الإنسان، وتضع القوانين ليمضي الكون بانسجام بديع إلى أن يرث الله
قال القرافي رحمه الله : الله سبحانه و تعالى ملك الملوك وأعظم العظماء, بل وأعظم من ذلك, رتب ملكه على عوائد أرادها, وأسباب قدرها وربط بها آثار قدرته, ولو شاء لم يربطها, فجعل الري بالشرب, والشبع بالأكل, والإحتراق بالنار, والحياة بالتنفس في الهواء.3
هذا، والقصص القرآني كما يقول د. عماد الدين خليل- " وإن جاءت تسميتها- أحيانا- بالقصص، أي الحديث عن الماضي، - تخرج عن الإطار الفني للقصة وبهذا تكتسب بعدها التاريخي المجرد.
ومهما يكن من أمر فقد قدم لنا القرآن الكريم نماذج عديدة للمعطيات التاريخية، وحدثنا عن الماضي في جل مساحاته لكي ما يلبث أن يخرج بنا إلى تبيان (الحكمة) من وراء هذه العروض, وإلى بلورة عدد من المبادئ الأساسية في حركة التاريخ البشري مستمدة من صميم التكوين الحدثي لهذه العروض، تلك المبادئ التي سماها (سنناً)، ودعانا أكثر من مرة إلى تأملها واعتماد مدلولاتها في أفعالنا الراهنة، ونزوعنا المستقبليّ.
ومن ثم يتأكد لنا مرة أخرى أن هذه العروض ما جاءت لكي تلقي المتعة في نفوس المؤمنين، كما هو الحال في أي نشاط فني، قبل أن تبرز للعيان الاتجاهات التعليمية الحديثة في ميادين الفنون، إنما جاءت لكي (تعلمهم) من خلال تجاربهم الماضية و(تحركهم) عبر الأضواء الحمراء والخضراء التي أشعلتها لهم هذه التجارب في طريق الحياة المزدحم الطويل "( التفسير الإسلامي للتاريخ لعماد الدين خليل، ص : 97- 98).
إن الحوادث التاريخية إذا نظرنا إليها من وجهة النظر التاريخية ؛ سنجد أنها حوادث فردية، وفريدة، لا تتكرر على شكل مماثل، ومن ثم فهي تعتبر بالفعل وقائع فريدة، غير قابلة للتكرار، ولكننا إذا نظرنا إلى هذه الوقائع المتناهية في امتدادها التاريخي، وفي سياقها التطوري، وفي الأسباب التي أدت إلى حدوثها، وفي النتائج التي انتهت إليها، وحاولنا أن نجردها من فرديتها، وننظر إليها في كليتها، سنجد أن مضمون هذه الوقائع – وليس شكلها – قابل للتكرار والاطراد، ويكشف عن علاقة سببية مطردة بين ظاهرة وأخرى...وهذا الترابط هو الذي يتيح لنا استخلاص القانون العام الذي تخضع له هذه الوقائع التاريخية، فكلما توفرت أسباب معينة في ظروف معينة إلا وارتبطت بها نتائج معينة ".(منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية لمحمد محمد أمزيان, ص: 188.)
يقول د.محمد رشاد خليل: "عندما نمعن النظر في الكتاب والسنة، فإنا سوف نعثر على منهج متكامل لتفسير التاريخ يقوم على أساس من الحقائق اليقينية التي جاء بها الوحي الصادق، فنحن هنا لسنا أمام فروض وظنون وأوهام تستخدم بعض المعلومات الإنسانية المبتورة عن الظواهر المادية والحية والإنسانية ؛ لتقيم على رمال الأوهام المتحركة صرحا شامخا لتفسير التاريخ "(المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ لمحمد رشاد خليل ص 90)
ب- تمهيد :
اقتضت سننه سبحانه وتعالى أن لا يعذب أحدا حتى يبين لهم ما يتقون, واقتضى بيانه أن يكون هناك رسول:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء : 15].
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة : 115].
وبعد أن جاء الرسول وبلغ الرسالة ترك الأمر لكل امرئ أن يختار بمحض إرادته سبيل الله أو سبيل الشيطان :
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان : 3].
ولو لم يأذن الله له بعبادة ما شاء ما استطاع الخروج عن سبيل الله، ولكن الله مكنه مما يشاء حتى يختار عن بينة :
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15].
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [فصلت : 40].
هكذا اقتضت حكمته وصار حكمه : حرية واختيار مطلقان، لا تخيير ولا تسيير، وإنما هي أعمالكم أحصيها لكم ؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة : 187].
والله جل جلاله لا يسأل عما يفعل, ومع ذلك يعلل لنا أفعاله ويبين ؛ ليحيا من حيي عن بينة, ويهلك من هلك عن بينة. ومن تتبع أفعاله جل وعلا يجدها عين الحكمة والرحمة تفضلا منه ونعمة.
ورب فعل واحد تبرز من خلاله حكم متعددة يدركها من أدركها من أصحاب الحس المرهف, والمطالعة لأفعاله جل وعلا في هذا الكون ؛ إذ الله جل جلاله :
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[ الرحمان : 29.]
ولما جمع بين أوصافه المختلفة من رحمة ورأفة, وكذلك كونه قهارا جبارا متكبرا اتصفت أفعاله بالمواصفات المتعددة :
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء : 147].
إنه استفسار يوقظ الهمم, ويدفع العبد لسد باب عذاب الله بالشكر والإيمان :
]وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[ [الأنفال : 33].
إيمان وشكر واستغفار: كلها أمان من عذاب الله الشاكر العليم,
وبالبيان العملي ساق القرآن الكريم في حديثه عن السنن يركز على العلاقة السببية بين ظاهرة وأخرى لاستخلاص العبر وكأن التاريخ لا زمن يفرقه وإنما يركز على مقارنة أفعال وأحداث وقعت :
الأفعال
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر : 9]فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر : 10]
النتائج
{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ [11]وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [12]وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [13]تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ [: 14] وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 15]فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 16]} القمر
أفعال:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 17]كَذَّبَتْ عَادٌ [القمر : 18]}
نتائج:
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 18]إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ [القمر : 19]تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ [القمر : 20]فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 21]}
أفعال:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 22]كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر : 23]فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر : 24]أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر : 25]سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر : 26]إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [القمر : 27]وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ [القمر : 28]فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [القمر : 29]}
نتائج
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 30]إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر : 31]}
أفعال:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 32]كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [القمر : 33}
نتائج:
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ [القمر : 34]نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ [القمر : 35]}
أفعال:
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ [القمر : 36]وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 37]}
نتائج:
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ [القمر : 38]فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 39]}
أفعال
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر : 40]وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ [القمر : 41]كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا [القمر : 42]}
نتائج:
{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍِِِِ [القمر : 42]}
ج- خصوصيات السنن الإلهية
من خصائص العهود الربانية:
1-لا مجال فيها لإشكال ولا خفاء، بل هي نصوص بيّنة المعالم, واضحة التعاليم وضوح الشمس، صريحة وفصيحة لا يكتنفها لبس ولا غبش. فهي ترشد المرء إلى سبيل الرشاد، وتهدي للتي هي أقوم، وتدل على أصل كل شيء وسننه المتبعة التي جبل عليها ؛ فهي لا تخضع لإرادة البشر، ولا تستحيي من أحد، ولا تحابي أحدا.
] لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ[[النساء : 123].
2-المتدبر للسنن القرآنية يجدها قواعد كلية، مترابطة، متسقة، يربطها خيط رفيع بين الأسباب ومسبباتها، وبين الأعمال ونتائجها، كأنها معادلات رياضية تتحكم في الكون ونواميسه ؛ فكلما حصلت المقدمة حصلت النتيجة.
] وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ[ (التغابن : من الآية11). وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً[ (الطلاق : من الآية2).]فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً[ (البقرة : من الآية 10).
3-تمتاز السنن الإلهية بكونها مطردة متلاحقة على نسق واحد لا تبديل لها ولا تغيير يعتريها.
4-تأتي السنن الإلهية مجملة أو مفصلة، وسواء تعلق الأمر بالكليات أو بالجزئيات، فهي كلها ذات طابع شمولي.
5-يأتي الجزاء في السنن الإلهية من جنس العمل، وتشكل أساس الحق – طبعا قد تختلف فيما لا يليق بجلال الله سبحانه وتعالى-
6-المرحلية والإجرائية :
إن من يطالع سنن الله في كونه وفي كتابه، ويدرس كيف تتحول عوامل الصراع من أصل إلى نقيضه، وكيف تأتي تحولاتها عبر مراحل زمنية تتغير وفق كل سنة على حدة،-
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }[الأنبياء : 104]
ما كان لمن يدرك السنن الإلهية أن يغفل أهمية العامل الزمني ووقعه وتأثيره في الواقع والأحداث.
ولما أهمل فقهاؤنا العناية بالزمن وأثره في الأحداث والوقائع ولم يعيروه ما يستحق من اهتمام ضاع منهم فهم السنن الإلهية.
وحيث كان لتأثيراتها علاقة بالقضاء والقدر، كشأن من يبرر عجزه بالاستقالة من منصبه. أقول هذا رغم ما أصلوه من قواعد فقهية منها :
- "ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يقم الدليل على خلافه": بناء على قاعدة استصحاب الحال؛
- " يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء".
-" من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه". (شرح القواعد الفقهية لمصطفى الزرقا، )
نعم كل الأمور تجري بقضاء وقدر، لكن ما جدوى التعليلات التي قدمها لنا القرآن إبرازا لتأثير الأسباب ومسبباتها في هذا الوجود ؟ فالله جل شأنه لا يسأل عما يفعل ومع ذلك يعلل ويبرهن لنا كيف أقام الكون بناء على أسباب ومسببات.
ولكم طالبنا القرآن بمراجعة أنفسنا كلما مستنا ضراء من أجل استخلاص العبر والعظات ؛ فهما عن الله لقانون آياته الكونية والقرآنية.
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ [آل عمران:165].
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى : 30].
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن : 11].
وقد لا يتجلى فهم واستخلاص مضامين الآيات الكونية بوضوح لا غبار عليه، إلا في ظرف بضع سنين، بخاصة معظم ضوابطها ؛ الشيء الذي فوت فرصة الفهم الشمولي على من لم يصبر على طول هذه الحقبة الزمنية.
ولو رجعنا إلى كتاب الله واستنطقناه عن دلالة المراحل الزمنية لانكشفت لنا علوم يقينية تتأتى عبر مراحل حددتها السنن الإلهية ببضع سنين.
د- السنن الإلهية: علم من علوم الآلة؛
بهذه الخصائص السابقة الذكر مجتمعة تدخل السنن الإلهية المجال العلمي من أوسع أبوابه ؛ فهي عدل، وهي شمولية، وهي مطردة، وهي هادفة ترسم أصل كل السنن.
ولا تتميز سنن الله القرآنية بكونها ضوابط للعلوم الإنسانية فقط، بل تمتد لكل العلوم، دقيقها وجليلها.
يقول سيد قطب رحمه الله : " ... فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ؛ ترجع إليه البشرية لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال، وتقيم عليها حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء، واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع. ميزانا لا يحابي أحدا ؛ لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد ؛ لأن الله رب الجميع.
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل، والاضطرابات والخلخلة التي تحيف بها في معترك الأهواء، ومضطرب العواطف، ومصطخب المنافسة، وحب الذات..." في ظلال القرآن , ج7/739
وبعبارة واضحة وجلية فالسنن الله القرآنية علم من علوم الآلة تستخدم في كل المجالات وسيلة ونبراسا ينير السبيل، وتعبر أصدق تعبير عن كوامن الأشياء خفيها وجلِيِّها. فلقد اشتمل زهاء ثلث القرآن على سرد للقصص القرآني كلها منضبطة بضوابط السنن الإلهية ؛ ليعبر أصدق تعبير بأن لا فاعل في الوجود حقيقة إلا الله، وأن لا راد لقضائه، ولا مبدل لكلماته ؛ ولتكون نبراسا يستضاء به، ويقتبس منه صدق المسار أو انحرافه.
قد يحتاج إلى سنن الله على أنها قوانين سرمدية، وضوابط أبدية - فضلا عن علماء العلوم الاجتماعية- رجال القانون، وعلماء التاريخ، ورجال المباحث الاجتماعية، والشرطة، ورجال العلوم الشرعية : كالأصولي والمحدث، فيحتاجها هذا الأخير لتكشف علل المتون، وتكون للأصولي منارا تنير سبيل فهمه وفقهه لأسرار الآيات الكونية والقرآنية ؛ مما يزيده رسوخ قدم في العلم...
بهذا فهي مقياس وضابط أساس، دعانا أستاذنا عماد الدين خليل لاستخلاصه من مضامين القصص القرآنية، وأجدني في غنى عن ذلك لما وجدتها مبثوثة بين ثنايا المصحف تنتظر من يلتطقها دررا مهداة من رب العزة، ويحكم بها مسار كل الأمور، بل كل حركة وسكنة : أإلى رشد تسعى أم إلى طيش تقصد ؟.
وعلى ضوء ضوابط السنن الإلهية يتفتق الرد، وعلى هديها ينبني ؛ لكون الزمن الذي كان الفقهاء ينظرون إلى آيات الأحكام بأنها لا تتعدى خمسمائة آية ولى وأدبر فاسحا المجال لكلام الله ؛ ليبرهن بكل حرف من حروفه، وكل كلمة من كلماته أنها تحمل دفقا من البيان، فضلا عن الإعجاز. والحالة هذه أضحى لزاما مراجعة الفقه القديم على ما انكشف من دلائل قرآنية.
هـ- مكانة السنن الإلهية بين العلوم
قال أبو حامد الغزالي في بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة : "وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله، وسننه في خلقه، وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا، فإن هذا علم مطلوب لذاته، ثم فضل أهل هذا العلم على جميع العلماء كالمتكلمين والفقهاء، وأيده في ذلك العز بن عبد السلام إذ استفتي فيه فأفتى بصحته..." (كتاب العلم في الإحياء ج1/41).
ويقول محمد رشيد رضا: –( تفسير المنار)" أقول أما العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله فهو معراج الكمال الإنساني، وأما العلم بسننه تعالى في خلقه فهو وسيلة ومقصد ؛ أعني أنه أعظم الوسائل لكمال العلم الذي قبله ومن أقرب الطرق إليه، وأقوى الآيات الدالة عليه، وأنه أعظم العلوم التي يرتقي بها البشر في الحياة الاجتماعية المدنية، فيكونون بها أعزاء، أقوياء سعداء، وإنما يرجى بلوغ كمال الاستفادة منه إذا نظر فيه إلى الوجه الرباني، والوجه الإنساني جميعا، وهو ما كان عمر ينظر فيه بنور الله في فطرته، وهداية كتابه، وأما أبو حامد فقد لاحظ الوجه الرباني فقط، وأن في سياسة عمر وفي كلامه لدلائل كثيرة على ما ذكرناه من بصيرته في هذا العلم. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهله، وأن يجعله وسيلة لتكميل أنفسنا، وإصلاح ما فسد من أمر أمتنا آمين". (تفسير المنار)
و- أبعاد السنن الإلهية
تمضي سنن الله الكونية في اتساق غريب، وتنسيق عجيب مع سنن الله القرآنية ؛ الشيء الذي يجعل هذه الأخيرة مفتاحا للغز الكون وسننه وأسراره.
فالمتدبر للسنن القرآنية يجدها قواعد كلية، مترابطة، متسقة، يربطها خيط رفيع بين الأسباب ومسبباتها، وبين الأعمال ونتائجها.