أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو المقال الثاني من المقالات القرآنية المنتقاة من الشبكة المعلوماتية
وهذا رابط المقال الأول : http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=1559
[align=center]الفواصل القرآنية – دراسة بلاغية
د . السيد خضر، قسم اللغة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم [/align]
نزل القرآن بلسان عربي مبين ، ونزل على قوم شغلهم البيان حتى كان أعظم بضاعتهم ، وتفعل الكلمة فيهم ما لا تفعل السيوف ،وقد كانوا مجبولين بحكم البيئة والنشأة وأمية الكتابة على حب البيان الرفيع المليء بالصور الإيقاعية المساعدة على تذكر المادة اللفظية كالقوافي والأسجاع وكل ما يعطي نغماً موسيقياً لفظياً ، وكان على القرآن لكي يؤثر فيهم أن يعلو على بيانهم ، وهكذا جاء القرآن ممثلاً أرقى استعمال للغة من لغات البشر ، وتشرفت العربية بهذا الشرف الرفيع .
وصور الإعجاز في القرآن لا تحصى ، ومنها إعجازه اللغوي ، ومن مظاهر الإعجاز اللغوي استعماله للفواصل التي أغنى الله بها العرب عن ولعهم بالقوافي والأسجاع وعشقهم لموسيقى الألفاظ ، فوجدوا خيراً من ذلك في القرآن الكريم ، فآمنوا به .
وقد درستُ الفواصل وسط أخواتها من الظواهر الإيقاعية المشابهة لها في نهايات الجمل العربية كالقافية والسجع والجناس - حين يكون آخر الجملة – والإتباع ، وذلك ليظهر لنا فضل القرآن على غيره من الكلام ، مع أنه استعمل اللغة نفسها التي استعملها العرب بكل صورها ومظاهرها تقريباً ، ولن ندخل هنا في تفاصيل الخلاف الذي ثار بين البلاغيين حول استعمال مصطلح السجع في القرآن الكريم ، وإنما نذكر أن الشائع استعمال مصطلح الفاصلة في القرآن والسجع في غيره ، مع التنبيه على أنه ليست كل الفواصل مسجوعة ، بل منها المسجوع ومنها المرسل .
وتحليل الفواصل ودراستها يستدعي الإلمام بعلوم الأصوات والصرف والنحو والمعجم والدلالة ، وذلك كله يمدّ الدراسة الأسلوبية بعناصرها الأولى ، وهو ما فعلناه في دراستنا هذه .
تعريف الفاصلة : هي لفظ آخر الآية ينتهي بصوت قد يتكرر محدثاً إيقاعاً مؤثراً في صورة السجع وقد لا يتكرر ، ولكن الفاصلة تحتفظ دائماً بإحدى صور التوافق الصوتي مع الفواصل السابقة واللاحقة ، أما تفصيل الموضوع فعلى النحو الآتي :
1- الدراسة الصوتية : استعمل القرآن في الفواصل حروفاً ذات وقع نغمي ووضوح سمعي لتظهر للسمع حين الوقف عليها ، والوقف على أواخر الآيات من سنن القراءة كما هو معلوم ، ولذلك استعمل النون فاصلة في حوالي 51% من آياته ، تلتها الميم بحوالي 12,5% وهما أهم حروف الترنم في العربية ، في حين لم يستعمل الخاء فاصلة قط لصعوبتها وصعوبة الوقف عليها .
وهذا إحصاء بالحروف المستعملة في الفواصل ونسب استعمال كل منها ،مع العلم بأن عدد آيات القرآن الكريم (6247) آية .
الحــرف / عدد مرات استعماله فاصلة / النسبة المئوية لاستعماله فاصلة
النـون / 3182 / 50,93 %
الميـم / 775 / 12,40%
الـراء / 690 / 11,04%
الـدال / 286 / 4,62%
الألف المقصورة / 245 / 3,92%
الـباء / 239 / 3,82%
اللام
212
3.39%
الهاء
173
2,76%
الياء
87
1,39%
القاف
66
1,05%
ألف المد
42
67%,
التاء
42
67%,
العين
33
52, %
الفاء
22
35, %
الجيم
20
32, %
الطاء
19
30, %
الزاي
18
28, %
الهمزة
17
27, %
الظاء
17
27, %
السين
14
22, %
الصاد
12
19, %
الكاف
9
14, %
الواو
6
096, %
الثاء
6
096, %
الحاء
5
080, %
الضاد
4
064, %
الشين
3
048, %
الذال
2
032, %
الغين
1
016, %
الخاء
×
×
ملاحظات حول العد والإحصاء :
- عددت تاء التأنيث التي يوقف عليها بالسكون هاء كما في " الحاقة والقارعة" لأن مبنى الفواصل على الوقف ، وهي تصير بالوقف هاء لا تاء .
-لم أعد حرف المد الناشئ عن الوقف على التنوين فاصلة لأنه ليس من بنية الكلمة،ولا يظهر إلا في حالة النصب ، واحتسبت بدلاً منه الحرف السابق عليه ، واعتضدت في ذلك بموقف العروضيين حين فعلوا ذلك في القوافي ، فالقافية في قول شوقي :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا
قافية بائية كما هو معلوم .
بعض النتائج المستخلصة من الجدول السابق :
أ- نلاحظ أن حرف النون يمثل أكثر من نصف فواصل القرآن ، حيث جاء فاصلة بنسبة 51% تقريباً،وهذه النتيجة تصديق لكلام سيبويه وغيره ممن لاحظوا ذلك ، وإذا علمنا أن مجمل استعمال حرف النون في القرآن الكريم كله هو 27265، فإن نسبة استعماله فاصلة إلى نسبة استعماله الكلية تكون 11,67 % وهي نسبة عالية إذا قورن بحروف أخرى ، أضف إلى ذلك أن التنوين الذي يلحق فواصل بعض السور كالإسراء والكهف ومريم … هذا التنوين هو نون ساكنة أيضاً وإن كان يتحول بالوقف إلى الألف الممدودة ، وبذا فإن النون والتنوين يفوزان بأكبر نصيب في الفواصل لما فيهما من الغنة الجميلة في السمع ، ويحق لنا بعد ذلك أن نقول إن عنصر الإيقاع والتنغيم والتطريب يقصد إليه في القرآن قصداً ، وليس مجرد محسنات زخرفية.
ب- جاء حرف الميم تالياً للنون بنسبة 12,38% ،يليه الراء بنسبة 11,04%والدال بنسبة 4,62% والملاحظ أن الميم حرف شفوي ، والراء والدال من الحروف التي تنطق باعتماد اللسان مع الأسنان ، وكل هذه الحروف تنطق من الجزء الأمامي لجهاز النطق ، وهذا أمر ملاحظ في الفواصل ، حيث نلاحظ أن حروف الحنجرة والحلق أقل استعمالاً من الحروف الشفوية والأسنانية ، ولهذا كله علاقة بسهولة النطق والوضوح السمعي .
والمراد بالوضوح السمعي وصول صوت الحرف واضحاً إلى السمع ، حيث إن لكل مجموعة حروف متقاربة المخارج نسبة وضوح سمعي،كما يقول الدكتور رمضان عبد التواب : "وليست كل الأصوات الإنسانية على السواء في نسبة الوضوح السمعي ، فبعضها أوضح من بعض "(1)
ولحرص القرآن على الإيقاع اللفظي وتناسق الفواصل تُحذف بعض الحروف في الفاصلة مثل )والليل إذا يسر ( (الفجر:4) وأصلها يسري ، ولكن حذف الياء يساويها صوتياً بما سبقها وتلاها من الفواصل ، وكثيراً ما تحذف ياء المتكلم في الفاصلة للغرض نفسه مثل)فاتقوا الله وأطيعونِ( (آل عمران :51) وأصلها أطيعوني .
وعلى العكس من ذلك قد يزيد القرآن حرفاً للغرض نفسه مثل) وتظنون بالله الظنونَا( (الأحزاب :10) وأصلها الظنون بدون ألف لأنها معرفة بالألف واللام ، ولكن فواصل السورة أكثرها بحرف مد ، فوافقتها ، ومثل ذلك زيادة هاء السكت في) ياليتني لم أوت كتابيه.ولم أدر ما حسابيه.ياليتها كانت القاضية.ما أغنى عني ماليه.هلك عني سلطانيه((الحاقة:25 –29) وذلك لتتوافق الهاء إيقاعياً مع التاء المربوطة التي تصير هاءً بالوقف ، بل إن القرآن قد يغير من بنية الكلمة لأجل الإيقاع كما في ) وطور سينين ( (التين:2) وهو نفسه طور سيناء المذكور في سورة المؤمنون ، لكن فواصل السورة كلها نونية فغير بنية الكلمة لتتوافق الفواصل ، ومثله ) وقد خاب من دسّاها ( (الشمس:10) وأصله دسّسها ، ولكنه لا يتوافق مع فواصل السورة إلا بالصيغة المذكورة ، وكل ذلك يؤكد حرص القرآن على إيقاع الألفاظ الذي جُبل الناس على حبه ، هذا مع الحرص على جانب الدلالة أيضاً .
2- التقديم والتأخير : وهو يحدث كثيراً في الفواصل القرآنية ، وله بلاغته الخاصة وجماله وإيقاعه المؤثر،وهو في كلامنا عملية فنية معقدة تحتاج إلى خبرة عليا بفن القول ، وترتبط بالمستويات العليا للغة ، ويقول فيه العلامة عبد القاهر الجرجاني : هو باب كثير الفوائد ، جمّ المحاسن ، واسع التصرف ، بعيد الغاية…" (2) ويدرسه المحدثون في نظرية النحو التحويلي تحت مصطلح " PERMUTATION"
والتقديم والتأخير عند العرب مرتبطان بفن القول ، أي بالكلام ذي الطبيعة الفنية كالشعر والنثر الفني في ألوانه المتعددة ، والضابط للتقديم والتأخير عندهم هو الإعراب الذي يحفظ لكل لفظ موقعه في بناء الجملة سواء ورد مقدماً أم مؤخراً،وفي جملة" ضرب عبد الله زيداً"يقول سيبويه: "فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول ، وذلك قولك : ضرب زيداً عبد الله ، لأنك إنما أردت به مقدماً ما أردت به مؤخراً ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه،وإن كان مؤخراً في اللفظ ، فمن ثم كان حدّ اللفظ أن يكون مقدماً،وهو عربي جيد كثير ، كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم "(3)
ونستطيع أن نضيف مطمئنين إلى هذه الأهمية التي صارت من بعد مبرراً لكل تقديم وتأخير ، نضيف إليها الاهتمام ببناء الجملة من حيث الإيقاع الذي يحدثه التقديم والتأخير أيضاً ، كما تفصّله دراستنا هذه .
ومن صوره في الفواصل تقديم المفعول على الفاعل مثل) ولقد جاء آلَ فرعون النذرُ( (القمر: 41) وذلك لأن فواصل السورة كلها رائية فيتحقق الإيقاع الجميل بذلك ، ومنه تقديم المفعول للاختصاص مثل) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون ( (البقرة: 57) فقد حقق تقديم المفعول (أنفسَ ) غرضين ، الأول: إيقاعي وهو إجراء الفاصلة بالنون لتتوافق إيقاعياً مع غيرها، والثاني بلاغي وهو اختصاصهم بظلم أنفسهم ، ومنه تقديم الضمير على ما يفسره في) فأوجس في نفسه خيفةً موسى ( (طه :67) حيث قدّم الضمير العائد على موسى وأخّر الفاعل لرعاية الإيقاع في الفاصلة ، وصور التقديم والتأخير في الفواصل كثيرة .
وقد أحصيت مواضع التقديم والتأخير في الفواصل فكانت في حوالي(990 ) موضعاً أي بنسبة 15,84% من مجموع الفواصل .
3- الإحلال اللفظي : وهو إحلال لفظ محل آخر لدلالة بلاغية وحاجة السياق بعناصره المتنوعة ، ويدرسه المحدثون تحت مصطلح “REPLACEMENT” وصوره كثيرة في الفواصل نذكر منها إحلال صيغة فاعل محل مفعول مثل) خُلق من ماء دافق( (الطارق :6) أي مدفوق كما ذكر البلاغيون ، ولكن صيغة فاعل تُوافق الفواصل المنتهية بحرف مسبوق بألف المد ، ولا توافقها كلمة مدفوق لأن حرف المد فيها الواو وهو لا يتجانس مع الألف بل مع الياء ، وهنا نكتة بلاغية في استعمال لفظ فاعل وهي أن ذلك الماء لا يخرج إلا دفقاً أي سريعاً ، ولذا يناسبه لفظ فاعل لا مفعول ، وعكس ذلك إحلال مفعول محل فاعل في) إنه كان وعده مأتياً( (مريم :60) أي آتياً كما ذكروا ، ولكنه بذلك يحقق الإيقاع في الفواصل المنتهية بحرف مد مسبوق بياء مشددة ، وفيه نكتة أخرى وهي جعل الوعد نفسه عَلَماً منصوباً يتوافد إليه الناس ، وذلك أبلغ في الدلالة ، ومن صور الإحلال كذلك لدواع سياقية وإيقاعية إحلال المفرد محل المثنى ، والعكس ، والجمع محل المثنى والعكس ، والعاقل محل غير العاقل ، والمؤنث محل المذكر والعكس.. وكل ذلك في بلاغة عالية وأسلوب بديع يمتع العقل والروح معاً لمن يتدبر ويتذوق .
4-الاستغناء بلفظ عن آخر: وهناك ظاهرة مشابهة لها هي الاستغناء بلفظ عن آخر، لدواع سياقية، والقرآن يختار اللفظ بدقة متناهية ، ومن ذلك أن القرآن يستعمل كثيراً صيغة غفور في الفواصل ، ولكن يستغني عنها بغفّار لتتوافق الفواصل في) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً( (نوح: 10) والفواصل هنا هي" إسراراً وغفاراً ومدراراً "أما غفور وغفّار في حق الله تعالى فهما صيغتا مبالغة ولا تفاضل بينهما دلالياً ، ولكن حاجة السياق تحدد المختار منهما ، ومثله) ومكروا مكراً كُبّاراً ( (نوح :22) حيث أوثرت صيغة كبّار على كبير لإبداء المبالغة وتحقيق الإيقاع ،ومثله استعمال عسِر مكان عسير المعتادة في ) هذا يوم عسر((القمر:8)
***
الهوامش
1-المدخل إلى علم اللغة : 101، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1400هـ –1980م.
2- دلائل الإعجاز : 185 ، مكتبة القاهرة ،1400هـ-1980م.
3-كتاب سيبويه :1/34 ، تحقيق : عبد السلام هارون ، مكتبة الخانجي 1408هـ-1988م .
[align=center]****[/align]
القسم الثاني :
5- الحذف في الفواصل : ومن مظاهر البلاغة في الفواصل كذلك حذف بعض الألفاظ في الفواصل ، والحذف ظاهرة لغوية عامة ، والعربية لغة إيجاز يكثر فيها الحذف ، ولا غرو أن سماه ابن جني "شجاعة العربية" وقال:" قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه ، وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته "(1) ويُرجع في معرفة المحذوف إلى السياق بقرائنه المتنوعة، وفي بلاغة الحذف وجماله يقول عبد القاهر :" هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسحر ، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة …"(2)
وأشهر صوره حذف المفعول به والأفعال يعلمون ويفعلون ويعملون.. يحذف معها المفعول كثيراً في الفاصلة لدواع سياقية كالتهديد في)كلا سوف تعلمون( ويُحذف للمواساة والتخفيف في) ما ودعك ربك وما قلى( أي وما قلاك فحذف الكاف للفاصلة ولعدم ذكر الضمير العائد على النبي r مع لفظ القلى الدال على البغض ،وحقق مع ذلك إيقاعاً جميلاً بتوافق الفواصل ، ومنه إطلاق النوع كما في ) فأما من أعطى واتقى ( أي أعطى أي خير واتقى الله واتقى المحرمات والشبهات… إلخ ،ولو ذكر المفعول صريحاً لصرف الذهن إلى شيء واحد فقط.
6- ائتلاف الفاصلة مع مضمون آيتها : اتفق نقاد الشعر والنثر على وجوب أن تكون القافية وآخر السجعة مطابقة لمضمون البيت أو الجملة المسجعة ، فإذا جاءت مجتلبة للتوافق الصوتي دون حاجة السياق إليها عُد ذلك عيباً فيها ، ذلك أن الفاصلة والسجعة تأتيان آخر الجملة،وآخر الجملة لا بد أن يحمل مضموناً مطابقاً لمضمون ما قبله ، ليكون الكلام متناسقاً غير متنافر ولا شاذ ، وقد جاءت الفواصل القرآنية متآلفة تمام التآلف مع آياتها ، مؤدية دورها في إتمام المعنى وإيصاله على نحو بديع معجز ،حتى لو تكلف متكلف أن يستبدل الفاصلة بغيرها ما استطاع وما وجد غيرها يؤدي المعنى والإيقاع معاً ، فالفاصلة إذن إحدى صور الإعجاز في بيان القرآن الخالد، قال الزركشي: " اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره ، وإيقاع الشيء فيها بما يشاكله ، فلا بد أن تكون مناسبة للمعنى المذكور أولاً ، وإلا خرج بعض الكلام عن بعض ، وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك،لكن منه ما يظهر ، ومنه ما يسخرج بالتأمل للبيب "(3)
والقرآن يختار الفاصلة بدقة عجيبة تدل على إعجاز بياني ، فهي من جهة الدلالة تتوافق مع مضمون الآية ، ومن جهة الصوت تتوافق مع الإيقاع العام للآيات السابقة واللاحقة ، حتى إن السامع إذا كان ذا نظر ثاقب بفن الكلام وسمع الفاصلة أدرك موقعها من الكلام كما رووا أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ ) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ( ( البقرة:209) فقرأ ) أن الله غفور رحيم( ولم يكن يقرأ القرآن ، فقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا ، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه "(5)
ومن ذلك :
-)أولم يهدِ لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون . أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منهم أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ( (السجدة :26-27) ختمت الآية الأولى بالاستفهام الإنكاري "أفلا يسمعون " لمناسبة ذلك لمضمون الآية ، ذلك أن أخبار القرون من قبلنا أخبار تتناقلها الألسن والأسماع على مدار التاريخ، وتسجيلها كتابة إنما هو لحفظها من الضياع ، وختمت الآية الثانية بقوله "أفلا يبصرون " موافقة لمضمون الآية كذلك، إذ إنهم يرون الماء ينزل من السماء فيساق إلى الأرض الجرداء فيخرج الله به الزرع منها ثم إنهم يذهبون ليأكلوا هم وأنعامهم …أفلا يبصرون إذن نعمة الله تعالى تتحقق أمام أعينهم يوماً بيوم ؟
7- الإعراب والفاصلة : علاقة النحو بالبلاغة قديمة قدم العلمين معاً، فالبلاغة كما أسموها هي النحو العالي ، إنها قمة الخبرة بالتراكيب ودلالاتها معاً ، والإعراب بلا شك صلب النحو العربي ونشاط من أنشطته البارزة، ولسنا ننظر إلى الإعراب هنا بوصفه أثراً جالباً للحركة الإعرابية في أواخر الكلمات فحسب ، بل بوصفه خبرة بالنظم والتراكيب واستعمالاتها ، وهو ما أسماه عبد القاهر بالنظم وبنى عليه نظريته في البلاغة العربية .
والمعنى دائماً تبع للحالة الإعرابية ، وقديماً قالوا : إن الإعراب فرع المعنى وربما أدى تغيير الحركة الإعرابية إلى فساد المعنى،كما في المسألة المشهورة عند النحاة في قوله تعالى ) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن اللهَ برئ من المشركين ورسولُه ( (التوبة : 3) فمن قرأ بجر "رسول " متعمداً كفر لأنه يعطفه على المشركين، والصواب فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ولا شك أن الفاصلة القرآنية بإعرابها وأصواتها تأتي نتيجة التركيب اللغوي للجملة ، وأنه لجعلها على صورة ما توافق الإيقاع لا بدّ من مراعاة دورها في التركيب ، والقرآن الكريم يطوع العربية لاستعمالاته فيأتي بالمعجز البديع من البيان ، ومنه الفواصل .
وسوف نكتفي هنا بشواهد على علاقة الإعراب بالفاصلة وأثره في صياغتها ودلالتها ، ومن ذلك :
أ- التوطئة للفاصلة بما يمنع الفعل من النصب : قلنا إن كثيراً من الفواصل القرآنية جاءت بصورة الفعل المضارع المرفوع المسند إلى واو الجماعة بصيغتي" تفعلون ويفعلون " ولكي يتحقق الإيقاع بالمدّ والترنّم ينبغي أن يبقى الفعل مرفوعاً بثبوت النون، وحين يأتي الفعل في سياق كان حقه فيه النصب كما اعتاد العرب استعماله تأتي في التركيب توطئة تمنع الفعل من النصب ، ومن ذلك :
-)كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ((البقرة :187)
- )انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (( الأنعام :128)
-) فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ((الأعراف :176)
ولو قيل في الأولى ليتقوا لانتصب الفعل وذهب الإيقاع ، ولذا وطّئ لرفعه بلعل التي تفيد الرجاء عادة وتمنع الفعل من النصب بجعله مع فاعله في محل رفع خبراً لها، وهذه الصورة تتكرر في الفواصل كثيراً، وقد راجعت مواضع استعمال "لعل" بهذه الصورة المذكورة فوجدتها كثيرة ، بل إن استعمال " لعل " بهذه الصورة هو الشائع في استعمالها في القرآن الكريم (6)
وقد تكرر لعل في الفاصلة لهذا السبب نفسه ، ومن ذلك :
-)لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون( ( يوسف :46)
-) لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون( (يوسف :62) قال الكرماني :" كرر لعل رعاية لفواصل الآي ، إذ لو جاء بمقتضى الكلام لقال :"لعلي أرجع فيعلموا ، بحذف النون على الجواب "(7)
وقد يُخالَف الاطراد الإعرابي في فاصلة ما لتحقيق الإيقاع وزيادة فائدة دلالية في سياقها، ومنه قوله تعالى في أهل الكتاب )لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ( (آل عمران :111) حيث جاء الفعل " ينصرون" مرفوعاً محققاً الإيقاع مع ما سبقه وماتلاه من الفواصل ، ولكنه معطوف على فعل مجزوم هو جواب الشرط "يولوا " وكان حقه الجزم مثله بقياس النحاة، ولكنه ورد مرفوعاً ، وفي علة ذلك يقول الزمخشري:"فإن قلت:هلاّ جُزم المعطوف في قوله"ثم لا ينصرون"؟ قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل :ثم أخبركم أنهم لا ينصرون ، فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟ قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً " (8) فالفعل بهذه الصورة حقق إيقاعاً في فاصلته، وأعطى دلالة جليلة القدر ، وهذا من كمال بلاغة القرآن الكريم لمن يتذوق أسرار البيان الرفيع .
ب-التوطئة للفاصلة بما يعمل الرفع أو النصب : إذا كانت الفواصل مرفوعة مُهّد للفاصلة بما يعمل الرفع ، وإذا كانت منصوبة مهّد لها بما يعمل النصب ، هذا مع أن التركيب اللغوي قد يكون واحداً في الفاصلة كأن تكون "غفور رحيم " بالرفع أو "غفوراً رحيماً " بالنصب ، فالمعنى فيهما واحد ، ولكن الإيقاع مختلف ، فالرفع حالة سكون ، والنصب فيه التنوين ثم الوقف عليه فيصير حرف مدّ ، وحين تكون فواصل السورة ساكنة كالنون والميم يأتي الرفع مثل :
-) إن الله غفور رحيم ( (البقرة :192) .
-)والله غفور رحيم ( ( الأنفال :70)
وحين تكون فواصل السورة منصوبة يستعمل القرآن إمكانات النصب المتعددة في العربية لتحقيق النصب في الفاصلة ، ومنه :
-)إن الله كان غفوراً رحيماً ( (النساء :43)
-)وكان الله غفوراً رحيماً ( ( الأحزاب :59)
والفعل كان من الأفعال المساعدة في العربية ، وهو يفيد في هذا السياق الاستمرار، ولكنه أُدخل في التركيب لمراعاة الفاصلة حيث يعمل النصب في الخبر الواقع فاصلة حين تكون الفواصل منصوبة
وفواصل سورة النساء أكثرها منصوب ، وللنصب عوامل متعددة ، منها النصب على أنه خبر كان أو مفعول بـه أو مفعول لأجله أو مصدر أو تمييز …إلخ ، وتستأثر كان بالنصيب الأكبر في نصب الفاصلة في القرآن الكريم، وفي سورة النساء نصبت الفاصلة بكان في (56) موضعاً من مجموع فواصل السورة وهو (176) أي بنسبة 39% تقريباً من فواصل السورة ، وسنجد ذلك كثيراً أيضاً في فواصل سور الكهف ومريم والأحزاب والفرقان والفتح مما ورد منصوباً منوناً .
8- الفاصلة وتصوير اللوحة القرآنية : إن في القرآن لوحات جمالية ناطقة معبرة ، هذا بعض ما توصلت إليه بعد تدبّر لهذا الكتاب الخالد ، واللوحة القرآنية تحديداً مجموعة آيات متتابعات في موضوع واحد ، وهي لوحة تتسم بالحياة والخلود ، وتعرف طريقها إلى الفطرة، فالفطرة من خلق الله ، والقرآن كلام الله ، وهما إذن يتلاقيان عندما تسلم الفطرة من الآفات الكثيرة التي تفسدها ، وعندما تصفو النفس والعقل والقلب لتلقي القرآن ، هنالك يُرجى لبذور العلم النافع أن تنبت وتزهر ، وللثمرات أن تكون ناضجات طيبات .
إن اللوحة القرآنية لوحة بديعة حية متحركة نابضة ، ترضي العقل وتشبع الذوق السليم والوجدان المرهف ، وتمتزج فيها العناصر المكونة امتزاجاً بديعاً ، حيث يؤدي كل عنصر دوره في السياق في انسجام تام يجعل جمال اللوحة يتسرب إلى المتلقي، فتؤدي اللوحة - حسب استعداد المتلقي - الغرض المراد منها ، وهو أولاً وآخراً الهداية إلى طريق الحق ، ومن صور الهداية هذه التمتع بجمال القرآن وإعجازه…)أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( (محمد :24)
والقرآن يعتمد التصوير أساساً من أسس التعبير فيه ، وبعد تدبر لآي القرآن وجدت أن الفاصلة عنصر أساسي من عناصر التصوير باللوحة القرآنية ، حيث إن اللوحة القرآنية بتعريفها الذي قدمت تتبع كل آياتها تقريباً فاصلة واحدة أو فواصل متقاربة الإيقاع،حتى إذا تمت اللوحة وبدأت لوحة جديدة أو موضوع جديد من موضوعات السورة تغيرت الفاصلة، وهي بذلك تدخل عنصراً أساسياً من عناصر تكوين اللوحة القرآنية.
وهذه اللوحات تعتمد الدلالة واللفظ بما يحمله من أصوات وإيقاع عناصر مكونة للوحة ، ويتضح هذا كثيراً في السور المكية القصار على وجه الخصوص ، وسنجد أن للوحة القسم- على سبيل المثال - في بدايات هذه السور إيقاعاً خاصاً وفواصل خاصة ، وفي الاستشهاد بذلك لن نكثر من نقل الآيات ، إذ يستدعي ذلك نقل سور كاملة ، ولكنا سنوجز ذلك إيجازاً ، ونشير إلى بعض كلمات الفواصل فحسب ، رغبة في الإيجاز ودفعاً إلى مراجعة ذلك في المصحف لزيادة الفائدة والثواب إن شاء الله.
ومن اللوحات التي ساعدت الفواصل على تصويرها:
1- تبدأ سورة نوح بإخبار الله عز وجل أنه أرسل نوحاً إلى قومه ، ثم يقصّ طرفاً من خطاب نوح إليهم في الآيات(1-4)وفواصل هذه الآيات" أليم ، مبين ، أطيعون ، تعلمون" وفيها كان الخطاب مباشراً من نوح إلى قومه ، ولكنهم كذبوه ولم يجد منهم إجابة لدعوته ، ولذا اتجه إلى ربه بالخطاب شاكياً مناجياً، وهنا تتغير الفاصلة ) قال ربِّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ( (5) ويستمر ذلك الخطاب إلى نهاية السورة ويتبع فاصلة واحدة هي الألف المنصوبة المنونة التي تتحول إلى حرف مد بالوقف على التنوين ، فيناسب حرف المد هذا جوّ الشكوى والمناجاة والحزن !! وتساعد الفاصلة في رسم اللوحة ونقل الصورة كاملة ، وهذا بلا شك لون من ألوان الإعجاز في هذا الكتاب الخالد .
2- وسورة المدثر تبدأ بنداء الله تعالى رسولَهr وإسداء بعض الأوامر والنواهي إليه في الآيات(1-7) ونجد الفواصل في هذه اللوحة تنتهي براء قبلها حرف متحرك مع تقارب في الوزن، ومنها " المدثر ، أنذر ، كبّر ، طهّر…"فإذا تغيّر الموضوع ، وبدأت لوحة جديدة بانتقال الحديث إلى تصوير بعض أحوال الآخرة تغير إيقاع الفاصلة فصارت راءً قبلها حرف مدّ)فإذا نُقر في الناقور.فذلك يومئذِ يوم عسير.على الكافرين غير يسير ( (8-10) فإذا انتهت اللوحة الأخروية وبدأت لوحة تهديد ووعيد للمكذبين تغيرت الفاصلة أيضاً في ) ذرني ومن خلقت وحيداً ( (12) وما تلاها من آيات، وهكذا تشارك الفاصلة في رسم هذه اللوحات البديعة .
3-وسورة القيامة تبدأ بلوحة القسم وما يتصل به، ويستغرق ذلك ست آيات بفاصلة واحدة هي الهاء المسبوقة بالميم أو النون المسبوقين بالمدّ في " القيامة ، اللوامة ، عظامه،بنانه،أمامه ،القيامة" وحين يتغير الموضوع وتأتي لوحة أخروية جواباً على سؤال من مكذب عن يوم القيامة تتغير الفاصلة فتكون راء قبلها حرف متحرك في ) فإذا برق البصر. وخسف القمر.وجمع الشمس والقمر( (7-9) ويتوالى الإيقاع بالفاصلة نفسها حتى الآية الثالثة عشرة حيث تنتهي اللوحة القرآنية وتبدأ لوحة جديدة بموضوع جديد فيتغير إيقاع الفاصلة كذلك في)بل الإنسان على نفسه بصيرة( (14) وما بعدها من الآيات حتى الآية التاسعة عشرة ، ثم تبدأ لوحة أخرى(20-25) بفاصلة واحدة هي الهاء وزنة واحدة هي وزن (فاعلة) في" العاجلة ،الآخرة ، ناضرة ، ناظرة ، باسرة ، فاقرة "حتى إذا بدأت لوحة جديدة تصور حالة الموت تغيرت الفاصلة كذلك في) كلا إذا بلغت التراقي ( (26) وتستمر فاصلة القاف حتى انتهاء اللوحة في الآية الثلاثين، ثم تبدأ فاصلة جديدة بموضوع جديد إلى آخر السورة هي فاصلة الألف المقصورة، وهكذا نجد السورة مجموعة موضوعات أو لوحات متتالية، وأكثر ما يحدد معالمها ويصور حدودها الفاصلةُ المتبعة فيها !
وهذا كله بلا شك من صور الإعجاز والجمال في هذا الكتاب الخالد ، وهناك مباحث أخرى لم نعرض لها هنا لضيق المقام ، والله الموفق .
***
الهوامش
1-الخصائص : 2/362 ، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1406هـ-1986م .
2- دلائل الإعجاز : 106.
3- البرهان في علوم القرآن : 1/107 ، دار الفكر ، بيروت 1408هـ-1988م.
4- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : 2/129 ،ط4 ، الحلبي ، القاهرة 1389هـ-1978م.
5- انظر : معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم ، 501وما بعده ، ط مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1408هـ- 1988م.
6- البرهان في توجيه متشابه القرآن ، منشور باسم " أسرار التكرارفي القرآن " ص :112، دار الاعتصام ، القاهرة 1398هـ- 1978م.
7- الكشاف : 1: 401 ، ط3 ، دار الريان للتراث 1407هـ-1987م.
[1] - نشر في مجلة منار الإسلام الإماراتية .
هذا هو المقال الثاني من المقالات القرآنية المنتقاة من الشبكة المعلوماتية
وهذا رابط المقال الأول : http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=1559
[align=center]الفواصل القرآنية – دراسة بلاغية
د . السيد خضر، قسم اللغة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم [/align]
نزل القرآن بلسان عربي مبين ، ونزل على قوم شغلهم البيان حتى كان أعظم بضاعتهم ، وتفعل الكلمة فيهم ما لا تفعل السيوف ،وقد كانوا مجبولين بحكم البيئة والنشأة وأمية الكتابة على حب البيان الرفيع المليء بالصور الإيقاعية المساعدة على تذكر المادة اللفظية كالقوافي والأسجاع وكل ما يعطي نغماً موسيقياً لفظياً ، وكان على القرآن لكي يؤثر فيهم أن يعلو على بيانهم ، وهكذا جاء القرآن ممثلاً أرقى استعمال للغة من لغات البشر ، وتشرفت العربية بهذا الشرف الرفيع .
وصور الإعجاز في القرآن لا تحصى ، ومنها إعجازه اللغوي ، ومن مظاهر الإعجاز اللغوي استعماله للفواصل التي أغنى الله بها العرب عن ولعهم بالقوافي والأسجاع وعشقهم لموسيقى الألفاظ ، فوجدوا خيراً من ذلك في القرآن الكريم ، فآمنوا به .
وقد درستُ الفواصل وسط أخواتها من الظواهر الإيقاعية المشابهة لها في نهايات الجمل العربية كالقافية والسجع والجناس - حين يكون آخر الجملة – والإتباع ، وذلك ليظهر لنا فضل القرآن على غيره من الكلام ، مع أنه استعمل اللغة نفسها التي استعملها العرب بكل صورها ومظاهرها تقريباً ، ولن ندخل هنا في تفاصيل الخلاف الذي ثار بين البلاغيين حول استعمال مصطلح السجع في القرآن الكريم ، وإنما نذكر أن الشائع استعمال مصطلح الفاصلة في القرآن والسجع في غيره ، مع التنبيه على أنه ليست كل الفواصل مسجوعة ، بل منها المسجوع ومنها المرسل .
وتحليل الفواصل ودراستها يستدعي الإلمام بعلوم الأصوات والصرف والنحو والمعجم والدلالة ، وذلك كله يمدّ الدراسة الأسلوبية بعناصرها الأولى ، وهو ما فعلناه في دراستنا هذه .
تعريف الفاصلة : هي لفظ آخر الآية ينتهي بصوت قد يتكرر محدثاً إيقاعاً مؤثراً في صورة السجع وقد لا يتكرر ، ولكن الفاصلة تحتفظ دائماً بإحدى صور التوافق الصوتي مع الفواصل السابقة واللاحقة ، أما تفصيل الموضوع فعلى النحو الآتي :
1- الدراسة الصوتية : استعمل القرآن في الفواصل حروفاً ذات وقع نغمي ووضوح سمعي لتظهر للسمع حين الوقف عليها ، والوقف على أواخر الآيات من سنن القراءة كما هو معلوم ، ولذلك استعمل النون فاصلة في حوالي 51% من آياته ، تلتها الميم بحوالي 12,5% وهما أهم حروف الترنم في العربية ، في حين لم يستعمل الخاء فاصلة قط لصعوبتها وصعوبة الوقف عليها .
وهذا إحصاء بالحروف المستعملة في الفواصل ونسب استعمال كل منها ،مع العلم بأن عدد آيات القرآن الكريم (6247) آية .
الحــرف / عدد مرات استعماله فاصلة / النسبة المئوية لاستعماله فاصلة
النـون / 3182 / 50,93 %
الميـم / 775 / 12,40%
الـراء / 690 / 11,04%
الـدال / 286 / 4,62%
الألف المقصورة / 245 / 3,92%
الـباء / 239 / 3,82%
اللام
212
3.39%
الهاء
173
2,76%
الياء
87
1,39%
القاف
66
1,05%
ألف المد
42
67%,
التاء
42
67%,
العين
33
52, %
الفاء
22
35, %
الجيم
20
32, %
الطاء
19
30, %
الزاي
18
28, %
الهمزة
17
27, %
الظاء
17
27, %
السين
14
22, %
الصاد
12
19, %
الكاف
9
14, %
الواو
6
096, %
الثاء
6
096, %
الحاء
5
080, %
الضاد
4
064, %
الشين
3
048, %
الذال
2
032, %
الغين
1
016, %
الخاء
×
×
ملاحظات حول العد والإحصاء :
- عددت تاء التأنيث التي يوقف عليها بالسكون هاء كما في " الحاقة والقارعة" لأن مبنى الفواصل على الوقف ، وهي تصير بالوقف هاء لا تاء .
-لم أعد حرف المد الناشئ عن الوقف على التنوين فاصلة لأنه ليس من بنية الكلمة،ولا يظهر إلا في حالة النصب ، واحتسبت بدلاً منه الحرف السابق عليه ، واعتضدت في ذلك بموقف العروضيين حين فعلوا ذلك في القوافي ، فالقافية في قول شوقي :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا
قافية بائية كما هو معلوم .
بعض النتائج المستخلصة من الجدول السابق :
أ- نلاحظ أن حرف النون يمثل أكثر من نصف فواصل القرآن ، حيث جاء فاصلة بنسبة 51% تقريباً،وهذه النتيجة تصديق لكلام سيبويه وغيره ممن لاحظوا ذلك ، وإذا علمنا أن مجمل استعمال حرف النون في القرآن الكريم كله هو 27265، فإن نسبة استعماله فاصلة إلى نسبة استعماله الكلية تكون 11,67 % وهي نسبة عالية إذا قورن بحروف أخرى ، أضف إلى ذلك أن التنوين الذي يلحق فواصل بعض السور كالإسراء والكهف ومريم … هذا التنوين هو نون ساكنة أيضاً وإن كان يتحول بالوقف إلى الألف الممدودة ، وبذا فإن النون والتنوين يفوزان بأكبر نصيب في الفواصل لما فيهما من الغنة الجميلة في السمع ، ويحق لنا بعد ذلك أن نقول إن عنصر الإيقاع والتنغيم والتطريب يقصد إليه في القرآن قصداً ، وليس مجرد محسنات زخرفية.
ب- جاء حرف الميم تالياً للنون بنسبة 12,38% ،يليه الراء بنسبة 11,04%والدال بنسبة 4,62% والملاحظ أن الميم حرف شفوي ، والراء والدال من الحروف التي تنطق باعتماد اللسان مع الأسنان ، وكل هذه الحروف تنطق من الجزء الأمامي لجهاز النطق ، وهذا أمر ملاحظ في الفواصل ، حيث نلاحظ أن حروف الحنجرة والحلق أقل استعمالاً من الحروف الشفوية والأسنانية ، ولهذا كله علاقة بسهولة النطق والوضوح السمعي .
والمراد بالوضوح السمعي وصول صوت الحرف واضحاً إلى السمع ، حيث إن لكل مجموعة حروف متقاربة المخارج نسبة وضوح سمعي،كما يقول الدكتور رمضان عبد التواب : "وليست كل الأصوات الإنسانية على السواء في نسبة الوضوح السمعي ، فبعضها أوضح من بعض "(1)
ولحرص القرآن على الإيقاع اللفظي وتناسق الفواصل تُحذف بعض الحروف في الفاصلة مثل )والليل إذا يسر ( (الفجر:4) وأصلها يسري ، ولكن حذف الياء يساويها صوتياً بما سبقها وتلاها من الفواصل ، وكثيراً ما تحذف ياء المتكلم في الفاصلة للغرض نفسه مثل)فاتقوا الله وأطيعونِ( (آل عمران :51) وأصلها أطيعوني .
وعلى العكس من ذلك قد يزيد القرآن حرفاً للغرض نفسه مثل) وتظنون بالله الظنونَا( (الأحزاب :10) وأصلها الظنون بدون ألف لأنها معرفة بالألف واللام ، ولكن فواصل السورة أكثرها بحرف مد ، فوافقتها ، ومثل ذلك زيادة هاء السكت في) ياليتني لم أوت كتابيه.ولم أدر ما حسابيه.ياليتها كانت القاضية.ما أغنى عني ماليه.هلك عني سلطانيه((الحاقة:25 –29) وذلك لتتوافق الهاء إيقاعياً مع التاء المربوطة التي تصير هاءً بالوقف ، بل إن القرآن قد يغير من بنية الكلمة لأجل الإيقاع كما في ) وطور سينين ( (التين:2) وهو نفسه طور سيناء المذكور في سورة المؤمنون ، لكن فواصل السورة كلها نونية فغير بنية الكلمة لتتوافق الفواصل ، ومثله ) وقد خاب من دسّاها ( (الشمس:10) وأصله دسّسها ، ولكنه لا يتوافق مع فواصل السورة إلا بالصيغة المذكورة ، وكل ذلك يؤكد حرص القرآن على إيقاع الألفاظ الذي جُبل الناس على حبه ، هذا مع الحرص على جانب الدلالة أيضاً .
2- التقديم والتأخير : وهو يحدث كثيراً في الفواصل القرآنية ، وله بلاغته الخاصة وجماله وإيقاعه المؤثر،وهو في كلامنا عملية فنية معقدة تحتاج إلى خبرة عليا بفن القول ، وترتبط بالمستويات العليا للغة ، ويقول فيه العلامة عبد القاهر الجرجاني : هو باب كثير الفوائد ، جمّ المحاسن ، واسع التصرف ، بعيد الغاية…" (2) ويدرسه المحدثون في نظرية النحو التحويلي تحت مصطلح " PERMUTATION"
والتقديم والتأخير عند العرب مرتبطان بفن القول ، أي بالكلام ذي الطبيعة الفنية كالشعر والنثر الفني في ألوانه المتعددة ، والضابط للتقديم والتأخير عندهم هو الإعراب الذي يحفظ لكل لفظ موقعه في بناء الجملة سواء ورد مقدماً أم مؤخراً،وفي جملة" ضرب عبد الله زيداً"يقول سيبويه: "فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول ، وذلك قولك : ضرب زيداً عبد الله ، لأنك إنما أردت به مقدماً ما أردت به مؤخراً ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه،وإن كان مؤخراً في اللفظ ، فمن ثم كان حدّ اللفظ أن يكون مقدماً،وهو عربي جيد كثير ، كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم "(3)
ونستطيع أن نضيف مطمئنين إلى هذه الأهمية التي صارت من بعد مبرراً لكل تقديم وتأخير ، نضيف إليها الاهتمام ببناء الجملة من حيث الإيقاع الذي يحدثه التقديم والتأخير أيضاً ، كما تفصّله دراستنا هذه .
ومن صوره في الفواصل تقديم المفعول على الفاعل مثل) ولقد جاء آلَ فرعون النذرُ( (القمر: 41) وذلك لأن فواصل السورة كلها رائية فيتحقق الإيقاع الجميل بذلك ، ومنه تقديم المفعول للاختصاص مثل) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون ( (البقرة: 57) فقد حقق تقديم المفعول (أنفسَ ) غرضين ، الأول: إيقاعي وهو إجراء الفاصلة بالنون لتتوافق إيقاعياً مع غيرها، والثاني بلاغي وهو اختصاصهم بظلم أنفسهم ، ومنه تقديم الضمير على ما يفسره في) فأوجس في نفسه خيفةً موسى ( (طه :67) حيث قدّم الضمير العائد على موسى وأخّر الفاعل لرعاية الإيقاع في الفاصلة ، وصور التقديم والتأخير في الفواصل كثيرة .
وقد أحصيت مواضع التقديم والتأخير في الفواصل فكانت في حوالي(990 ) موضعاً أي بنسبة 15,84% من مجموع الفواصل .
3- الإحلال اللفظي : وهو إحلال لفظ محل آخر لدلالة بلاغية وحاجة السياق بعناصره المتنوعة ، ويدرسه المحدثون تحت مصطلح “REPLACEMENT” وصوره كثيرة في الفواصل نذكر منها إحلال صيغة فاعل محل مفعول مثل) خُلق من ماء دافق( (الطارق :6) أي مدفوق كما ذكر البلاغيون ، ولكن صيغة فاعل تُوافق الفواصل المنتهية بحرف مسبوق بألف المد ، ولا توافقها كلمة مدفوق لأن حرف المد فيها الواو وهو لا يتجانس مع الألف بل مع الياء ، وهنا نكتة بلاغية في استعمال لفظ فاعل وهي أن ذلك الماء لا يخرج إلا دفقاً أي سريعاً ، ولذا يناسبه لفظ فاعل لا مفعول ، وعكس ذلك إحلال مفعول محل فاعل في) إنه كان وعده مأتياً( (مريم :60) أي آتياً كما ذكروا ، ولكنه بذلك يحقق الإيقاع في الفواصل المنتهية بحرف مد مسبوق بياء مشددة ، وفيه نكتة أخرى وهي جعل الوعد نفسه عَلَماً منصوباً يتوافد إليه الناس ، وذلك أبلغ في الدلالة ، ومن صور الإحلال كذلك لدواع سياقية وإيقاعية إحلال المفرد محل المثنى ، والعكس ، والجمع محل المثنى والعكس ، والعاقل محل غير العاقل ، والمؤنث محل المذكر والعكس.. وكل ذلك في بلاغة عالية وأسلوب بديع يمتع العقل والروح معاً لمن يتدبر ويتذوق .
4-الاستغناء بلفظ عن آخر: وهناك ظاهرة مشابهة لها هي الاستغناء بلفظ عن آخر، لدواع سياقية، والقرآن يختار اللفظ بدقة متناهية ، ومن ذلك أن القرآن يستعمل كثيراً صيغة غفور في الفواصل ، ولكن يستغني عنها بغفّار لتتوافق الفواصل في) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً( (نوح: 10) والفواصل هنا هي" إسراراً وغفاراً ومدراراً "أما غفور وغفّار في حق الله تعالى فهما صيغتا مبالغة ولا تفاضل بينهما دلالياً ، ولكن حاجة السياق تحدد المختار منهما ، ومثله) ومكروا مكراً كُبّاراً ( (نوح :22) حيث أوثرت صيغة كبّار على كبير لإبداء المبالغة وتحقيق الإيقاع ،ومثله استعمال عسِر مكان عسير المعتادة في ) هذا يوم عسر((القمر:8)
***
الهوامش
1-المدخل إلى علم اللغة : 101، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1400هـ –1980م.
2- دلائل الإعجاز : 185 ، مكتبة القاهرة ،1400هـ-1980م.
3-كتاب سيبويه :1/34 ، تحقيق : عبد السلام هارون ، مكتبة الخانجي 1408هـ-1988م .
[align=center]****[/align]
القسم الثاني :
5- الحذف في الفواصل : ومن مظاهر البلاغة في الفواصل كذلك حذف بعض الألفاظ في الفواصل ، والحذف ظاهرة لغوية عامة ، والعربية لغة إيجاز يكثر فيها الحذف ، ولا غرو أن سماه ابن جني "شجاعة العربية" وقال:" قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه ، وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته "(1) ويُرجع في معرفة المحذوف إلى السياق بقرائنه المتنوعة، وفي بلاغة الحذف وجماله يقول عبد القاهر :" هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسحر ، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة …"(2)
وأشهر صوره حذف المفعول به والأفعال يعلمون ويفعلون ويعملون.. يحذف معها المفعول كثيراً في الفاصلة لدواع سياقية كالتهديد في)كلا سوف تعلمون( ويُحذف للمواساة والتخفيف في) ما ودعك ربك وما قلى( أي وما قلاك فحذف الكاف للفاصلة ولعدم ذكر الضمير العائد على النبي r مع لفظ القلى الدال على البغض ،وحقق مع ذلك إيقاعاً جميلاً بتوافق الفواصل ، ومنه إطلاق النوع كما في ) فأما من أعطى واتقى ( أي أعطى أي خير واتقى الله واتقى المحرمات والشبهات… إلخ ،ولو ذكر المفعول صريحاً لصرف الذهن إلى شيء واحد فقط.
6- ائتلاف الفاصلة مع مضمون آيتها : اتفق نقاد الشعر والنثر على وجوب أن تكون القافية وآخر السجعة مطابقة لمضمون البيت أو الجملة المسجعة ، فإذا جاءت مجتلبة للتوافق الصوتي دون حاجة السياق إليها عُد ذلك عيباً فيها ، ذلك أن الفاصلة والسجعة تأتيان آخر الجملة،وآخر الجملة لا بد أن يحمل مضموناً مطابقاً لمضمون ما قبله ، ليكون الكلام متناسقاً غير متنافر ولا شاذ ، وقد جاءت الفواصل القرآنية متآلفة تمام التآلف مع آياتها ، مؤدية دورها في إتمام المعنى وإيصاله على نحو بديع معجز ،حتى لو تكلف متكلف أن يستبدل الفاصلة بغيرها ما استطاع وما وجد غيرها يؤدي المعنى والإيقاع معاً ، فالفاصلة إذن إحدى صور الإعجاز في بيان القرآن الخالد، قال الزركشي: " اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره ، وإيقاع الشيء فيها بما يشاكله ، فلا بد أن تكون مناسبة للمعنى المذكور أولاً ، وإلا خرج بعض الكلام عن بعض ، وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك،لكن منه ما يظهر ، ومنه ما يسخرج بالتأمل للبيب "(3)
والقرآن يختار الفاصلة بدقة عجيبة تدل على إعجاز بياني ، فهي من جهة الدلالة تتوافق مع مضمون الآية ، ومن جهة الصوت تتوافق مع الإيقاع العام للآيات السابقة واللاحقة ، حتى إن السامع إذا كان ذا نظر ثاقب بفن الكلام وسمع الفاصلة أدرك موقعها من الكلام كما رووا أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ ) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ( ( البقرة:209) فقرأ ) أن الله غفور رحيم( ولم يكن يقرأ القرآن ، فقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا ، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه "(5)
ومن ذلك :
-)أولم يهدِ لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون . أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منهم أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ( (السجدة :26-27) ختمت الآية الأولى بالاستفهام الإنكاري "أفلا يسمعون " لمناسبة ذلك لمضمون الآية ، ذلك أن أخبار القرون من قبلنا أخبار تتناقلها الألسن والأسماع على مدار التاريخ، وتسجيلها كتابة إنما هو لحفظها من الضياع ، وختمت الآية الثانية بقوله "أفلا يبصرون " موافقة لمضمون الآية كذلك، إذ إنهم يرون الماء ينزل من السماء فيساق إلى الأرض الجرداء فيخرج الله به الزرع منها ثم إنهم يذهبون ليأكلوا هم وأنعامهم …أفلا يبصرون إذن نعمة الله تعالى تتحقق أمام أعينهم يوماً بيوم ؟
7- الإعراب والفاصلة : علاقة النحو بالبلاغة قديمة قدم العلمين معاً، فالبلاغة كما أسموها هي النحو العالي ، إنها قمة الخبرة بالتراكيب ودلالاتها معاً ، والإعراب بلا شك صلب النحو العربي ونشاط من أنشطته البارزة، ولسنا ننظر إلى الإعراب هنا بوصفه أثراً جالباً للحركة الإعرابية في أواخر الكلمات فحسب ، بل بوصفه خبرة بالنظم والتراكيب واستعمالاتها ، وهو ما أسماه عبد القاهر بالنظم وبنى عليه نظريته في البلاغة العربية .
والمعنى دائماً تبع للحالة الإعرابية ، وقديماً قالوا : إن الإعراب فرع المعنى وربما أدى تغيير الحركة الإعرابية إلى فساد المعنى،كما في المسألة المشهورة عند النحاة في قوله تعالى ) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن اللهَ برئ من المشركين ورسولُه ( (التوبة : 3) فمن قرأ بجر "رسول " متعمداً كفر لأنه يعطفه على المشركين، والصواب فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ولا شك أن الفاصلة القرآنية بإعرابها وأصواتها تأتي نتيجة التركيب اللغوي للجملة ، وأنه لجعلها على صورة ما توافق الإيقاع لا بدّ من مراعاة دورها في التركيب ، والقرآن الكريم يطوع العربية لاستعمالاته فيأتي بالمعجز البديع من البيان ، ومنه الفواصل .
وسوف نكتفي هنا بشواهد على علاقة الإعراب بالفاصلة وأثره في صياغتها ودلالتها ، ومن ذلك :
أ- التوطئة للفاصلة بما يمنع الفعل من النصب : قلنا إن كثيراً من الفواصل القرآنية جاءت بصورة الفعل المضارع المرفوع المسند إلى واو الجماعة بصيغتي" تفعلون ويفعلون " ولكي يتحقق الإيقاع بالمدّ والترنّم ينبغي أن يبقى الفعل مرفوعاً بثبوت النون، وحين يأتي الفعل في سياق كان حقه فيه النصب كما اعتاد العرب استعماله تأتي في التركيب توطئة تمنع الفعل من النصب ، ومن ذلك :
-)كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ((البقرة :187)
- )انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (( الأنعام :128)
-) فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ((الأعراف :176)
ولو قيل في الأولى ليتقوا لانتصب الفعل وذهب الإيقاع ، ولذا وطّئ لرفعه بلعل التي تفيد الرجاء عادة وتمنع الفعل من النصب بجعله مع فاعله في محل رفع خبراً لها، وهذه الصورة تتكرر في الفواصل كثيراً، وقد راجعت مواضع استعمال "لعل" بهذه الصورة المذكورة فوجدتها كثيرة ، بل إن استعمال " لعل " بهذه الصورة هو الشائع في استعمالها في القرآن الكريم (6)
وقد تكرر لعل في الفاصلة لهذا السبب نفسه ، ومن ذلك :
-)لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون( ( يوسف :46)
-) لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون( (يوسف :62) قال الكرماني :" كرر لعل رعاية لفواصل الآي ، إذ لو جاء بمقتضى الكلام لقال :"لعلي أرجع فيعلموا ، بحذف النون على الجواب "(7)
وقد يُخالَف الاطراد الإعرابي في فاصلة ما لتحقيق الإيقاع وزيادة فائدة دلالية في سياقها، ومنه قوله تعالى في أهل الكتاب )لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ( (آل عمران :111) حيث جاء الفعل " ينصرون" مرفوعاً محققاً الإيقاع مع ما سبقه وماتلاه من الفواصل ، ولكنه معطوف على فعل مجزوم هو جواب الشرط "يولوا " وكان حقه الجزم مثله بقياس النحاة، ولكنه ورد مرفوعاً ، وفي علة ذلك يقول الزمخشري:"فإن قلت:هلاّ جُزم المعطوف في قوله"ثم لا ينصرون"؟ قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل :ثم أخبركم أنهم لا ينصرون ، فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟ قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً " (8) فالفعل بهذه الصورة حقق إيقاعاً في فاصلته، وأعطى دلالة جليلة القدر ، وهذا من كمال بلاغة القرآن الكريم لمن يتذوق أسرار البيان الرفيع .
ب-التوطئة للفاصلة بما يعمل الرفع أو النصب : إذا كانت الفواصل مرفوعة مُهّد للفاصلة بما يعمل الرفع ، وإذا كانت منصوبة مهّد لها بما يعمل النصب ، هذا مع أن التركيب اللغوي قد يكون واحداً في الفاصلة كأن تكون "غفور رحيم " بالرفع أو "غفوراً رحيماً " بالنصب ، فالمعنى فيهما واحد ، ولكن الإيقاع مختلف ، فالرفع حالة سكون ، والنصب فيه التنوين ثم الوقف عليه فيصير حرف مدّ ، وحين تكون فواصل السورة ساكنة كالنون والميم يأتي الرفع مثل :
-) إن الله غفور رحيم ( (البقرة :192) .
-)والله غفور رحيم ( ( الأنفال :70)
وحين تكون فواصل السورة منصوبة يستعمل القرآن إمكانات النصب المتعددة في العربية لتحقيق النصب في الفاصلة ، ومنه :
-)إن الله كان غفوراً رحيماً ( (النساء :43)
-)وكان الله غفوراً رحيماً ( ( الأحزاب :59)
والفعل كان من الأفعال المساعدة في العربية ، وهو يفيد في هذا السياق الاستمرار، ولكنه أُدخل في التركيب لمراعاة الفاصلة حيث يعمل النصب في الخبر الواقع فاصلة حين تكون الفواصل منصوبة
وفواصل سورة النساء أكثرها منصوب ، وللنصب عوامل متعددة ، منها النصب على أنه خبر كان أو مفعول بـه أو مفعول لأجله أو مصدر أو تمييز …إلخ ، وتستأثر كان بالنصيب الأكبر في نصب الفاصلة في القرآن الكريم، وفي سورة النساء نصبت الفاصلة بكان في (56) موضعاً من مجموع فواصل السورة وهو (176) أي بنسبة 39% تقريباً من فواصل السورة ، وسنجد ذلك كثيراً أيضاً في فواصل سور الكهف ومريم والأحزاب والفرقان والفتح مما ورد منصوباً منوناً .
8- الفاصلة وتصوير اللوحة القرآنية : إن في القرآن لوحات جمالية ناطقة معبرة ، هذا بعض ما توصلت إليه بعد تدبّر لهذا الكتاب الخالد ، واللوحة القرآنية تحديداً مجموعة آيات متتابعات في موضوع واحد ، وهي لوحة تتسم بالحياة والخلود ، وتعرف طريقها إلى الفطرة، فالفطرة من خلق الله ، والقرآن كلام الله ، وهما إذن يتلاقيان عندما تسلم الفطرة من الآفات الكثيرة التي تفسدها ، وعندما تصفو النفس والعقل والقلب لتلقي القرآن ، هنالك يُرجى لبذور العلم النافع أن تنبت وتزهر ، وللثمرات أن تكون ناضجات طيبات .
إن اللوحة القرآنية لوحة بديعة حية متحركة نابضة ، ترضي العقل وتشبع الذوق السليم والوجدان المرهف ، وتمتزج فيها العناصر المكونة امتزاجاً بديعاً ، حيث يؤدي كل عنصر دوره في السياق في انسجام تام يجعل جمال اللوحة يتسرب إلى المتلقي، فتؤدي اللوحة - حسب استعداد المتلقي - الغرض المراد منها ، وهو أولاً وآخراً الهداية إلى طريق الحق ، ومن صور الهداية هذه التمتع بجمال القرآن وإعجازه…)أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( (محمد :24)
والقرآن يعتمد التصوير أساساً من أسس التعبير فيه ، وبعد تدبر لآي القرآن وجدت أن الفاصلة عنصر أساسي من عناصر التصوير باللوحة القرآنية ، حيث إن اللوحة القرآنية بتعريفها الذي قدمت تتبع كل آياتها تقريباً فاصلة واحدة أو فواصل متقاربة الإيقاع،حتى إذا تمت اللوحة وبدأت لوحة جديدة أو موضوع جديد من موضوعات السورة تغيرت الفاصلة، وهي بذلك تدخل عنصراً أساسياً من عناصر تكوين اللوحة القرآنية.
وهذه اللوحات تعتمد الدلالة واللفظ بما يحمله من أصوات وإيقاع عناصر مكونة للوحة ، ويتضح هذا كثيراً في السور المكية القصار على وجه الخصوص ، وسنجد أن للوحة القسم- على سبيل المثال - في بدايات هذه السور إيقاعاً خاصاً وفواصل خاصة ، وفي الاستشهاد بذلك لن نكثر من نقل الآيات ، إذ يستدعي ذلك نقل سور كاملة ، ولكنا سنوجز ذلك إيجازاً ، ونشير إلى بعض كلمات الفواصل فحسب ، رغبة في الإيجاز ودفعاً إلى مراجعة ذلك في المصحف لزيادة الفائدة والثواب إن شاء الله.
ومن اللوحات التي ساعدت الفواصل على تصويرها:
1- تبدأ سورة نوح بإخبار الله عز وجل أنه أرسل نوحاً إلى قومه ، ثم يقصّ طرفاً من خطاب نوح إليهم في الآيات(1-4)وفواصل هذه الآيات" أليم ، مبين ، أطيعون ، تعلمون" وفيها كان الخطاب مباشراً من نوح إلى قومه ، ولكنهم كذبوه ولم يجد منهم إجابة لدعوته ، ولذا اتجه إلى ربه بالخطاب شاكياً مناجياً، وهنا تتغير الفاصلة ) قال ربِّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ( (5) ويستمر ذلك الخطاب إلى نهاية السورة ويتبع فاصلة واحدة هي الألف المنصوبة المنونة التي تتحول إلى حرف مد بالوقف على التنوين ، فيناسب حرف المد هذا جوّ الشكوى والمناجاة والحزن !! وتساعد الفاصلة في رسم اللوحة ونقل الصورة كاملة ، وهذا بلا شك لون من ألوان الإعجاز في هذا الكتاب الخالد .
2- وسورة المدثر تبدأ بنداء الله تعالى رسولَهr وإسداء بعض الأوامر والنواهي إليه في الآيات(1-7) ونجد الفواصل في هذه اللوحة تنتهي براء قبلها حرف متحرك مع تقارب في الوزن، ومنها " المدثر ، أنذر ، كبّر ، طهّر…"فإذا تغيّر الموضوع ، وبدأت لوحة جديدة بانتقال الحديث إلى تصوير بعض أحوال الآخرة تغير إيقاع الفاصلة فصارت راءً قبلها حرف مدّ)فإذا نُقر في الناقور.فذلك يومئذِ يوم عسير.على الكافرين غير يسير ( (8-10) فإذا انتهت اللوحة الأخروية وبدأت لوحة تهديد ووعيد للمكذبين تغيرت الفاصلة أيضاً في ) ذرني ومن خلقت وحيداً ( (12) وما تلاها من آيات، وهكذا تشارك الفاصلة في رسم هذه اللوحات البديعة .
3-وسورة القيامة تبدأ بلوحة القسم وما يتصل به، ويستغرق ذلك ست آيات بفاصلة واحدة هي الهاء المسبوقة بالميم أو النون المسبوقين بالمدّ في " القيامة ، اللوامة ، عظامه،بنانه،أمامه ،القيامة" وحين يتغير الموضوع وتأتي لوحة أخروية جواباً على سؤال من مكذب عن يوم القيامة تتغير الفاصلة فتكون راء قبلها حرف متحرك في ) فإذا برق البصر. وخسف القمر.وجمع الشمس والقمر( (7-9) ويتوالى الإيقاع بالفاصلة نفسها حتى الآية الثالثة عشرة حيث تنتهي اللوحة القرآنية وتبدأ لوحة جديدة بموضوع جديد فيتغير إيقاع الفاصلة كذلك في)بل الإنسان على نفسه بصيرة( (14) وما بعدها من الآيات حتى الآية التاسعة عشرة ، ثم تبدأ لوحة أخرى(20-25) بفاصلة واحدة هي الهاء وزنة واحدة هي وزن (فاعلة) في" العاجلة ،الآخرة ، ناضرة ، ناظرة ، باسرة ، فاقرة "حتى إذا بدأت لوحة جديدة تصور حالة الموت تغيرت الفاصلة كذلك في) كلا إذا بلغت التراقي ( (26) وتستمر فاصلة القاف حتى انتهاء اللوحة في الآية الثلاثين، ثم تبدأ فاصلة جديدة بموضوع جديد إلى آخر السورة هي فاصلة الألف المقصورة، وهكذا نجد السورة مجموعة موضوعات أو لوحات متتالية، وأكثر ما يحدد معالمها ويصور حدودها الفاصلةُ المتبعة فيها !
وهذا كله بلا شك من صور الإعجاز والجمال في هذا الكتاب الخالد ، وهناك مباحث أخرى لم نعرض لها هنا لضيق المقام ، والله الموفق .
***
الهوامش
1-الخصائص : 2/362 ، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1406هـ-1986م .
2- دلائل الإعجاز : 106.
3- البرهان في علوم القرآن : 1/107 ، دار الفكر ، بيروت 1408هـ-1988م.
4- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : 2/129 ،ط4 ، الحلبي ، القاهرة 1389هـ-1978م.
5- انظر : معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم ، 501وما بعده ، ط مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1408هـ- 1988م.
6- البرهان في توجيه متشابه القرآن ، منشور باسم " أسرار التكرارفي القرآن " ص :112، دار الاعتصام ، القاهرة 1398هـ- 1978م.
7- الكشاف : 1: 401 ، ط3 ، دار الريان للتراث 1407هـ-1987م.
[1] - نشر في مجلة منار الإسلام الإماراتية .