الرَّدُّ الْمُفْهِمُ في تَبْيِينِ الْوَجْهِ الْأَسْلَمِ 1

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
أولا : الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ :---------------------------------قال تعالى في سورة النمل :{ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1)}---------------------------------قال القرطبي رحمه الله :وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ: بِأَنَّهُ قُرْآنٌ وَأَنَّهُ كِتَابٌ، لِأَنَّهُ مَا يَظْهَرُ بِالْكِتَابَةِ، وَيَظْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ.وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ:"{ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } " فَأَخْرَجَ الْكِتَابَ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقُرْآنَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَ اسْمَانِ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُجْعَلَ مَعْرِفَةً، وَأَنْ يُجْعَلَ صِفَةً. وَوَصَفَهُ بِالْمُبِينِ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَحَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ..
 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ ، وَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِه. وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ هُنَا الزَّبُورُ. أخرجه البُخاري -----------------------------------------------------------ولم تَرد كَلمةُ القُرآنِ في سُورة آل عمران كلها – ووردت كلمةُ –الكِتاب- ثلاثا وثلاثين مرة .وهذا واضحٌ في دلالته .
 
ثانيا : الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ :-----------------------------------قال في تفسير المنار :وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ بِقَوْلِهِ : كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [11 : 1] وَهُوَ مِنْ إِحْكَامِ النَّظْمِ وَإِتْقَانِهِ أَوَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ آيَاتُهُ عَلَيْهَا ، وَوُصِفَ كُلُّهُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [39 : 23] أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي هِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }[4 : 82] أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }[2 : 25] فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا جِيئُوا بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ أَخِيرًا يُشْبِهُ مَا رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّهُمُ اشْتَبَهُوا بِهِ لِهَذَا التَّشَابُهِ , انتهى .---------------------والاستثناءُ والوقفُ يؤكدانِ على قَطعية المُحكًم والمُتشابِه – وكذلك قوله :{ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وقوله :{ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}---------------------والقطعي في فهم الآية أن القرآن فيه محكم ومتشابه .أما قوله تعالى في سورة هود :{ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}--------------فإن المفسرين قالوا :-----------------------------------قال في فتح القدير: وَمَعْنَى: أُحْكِمَتْ آياتُهُ صَارَتْ مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا نَقْضَ لَهَا كَالْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ بِخِلَافِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِلْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، وَهُوَ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ .----------------------------------------------------------قال في التحرير والتنوير : وَالْإِحْكَامُ: إِتْقَانُ الصُّنْعِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ. وَهِيَ إِتْقَانُ الْأَشْيَاءِ بِحَيْثُ تَكُونُ سَالِمَةً مِنَ الْأَخْلَالِ الَّتِي تَعْرِضُ لِنَوْعِهَا، أَيْ جُعِلَتْ آيَاتُهُ كَامِلَةً فِي نَوْعِ الْكَلَامِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ وَمِنْ أَخْلَالِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ.وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ }[سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 6] مَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ لَكِنْ بِمَا يُخَالِفُ الْمُتَعَارَفَ فِينَا، وَقِسْمٌ اتَّصَفَ اللَّهُ بِلَازِمِ مَدْلُولِهِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْمُتَبَادِرُ من الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ دُونَ الْمَلْزُومَاتِ مِثْلَ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ، وَقِسْمٌ هُوَ مُتَشَابِهٌ وَتَأْوِيلُهُ ظَاهِرٌ، وَقِسْمٌ مُتَشَابِهٌ شَدِيدُ التَّشَابُهِ.
 
قال أبو السعود رحمه الله :------{ مِنْهُ آيات } الظرفُ خبر ، وآياتٌ مبتدأ أو بالعكس - بتأويل مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } الآية ، والأولُ أوفقُ بقواعد الصناعة ، والثاني أدخلُ في جزالة المعنى إذ المقصودُ الأصليّ انقسامُ الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونُهما من الكتاب فتذكّرْ ، والجملة مستأنفة في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل الكتابَ كائناً على هذه الحال منقسماً إلى مُحْكَمٍ ومتشابهٍ أو الظرفُ هو الحال وحدَه وآياتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية { محكمات } صفةُ آياتٌ أي قطعيةُ الدِلالة على المعنى المراد ، مُحْكمةُ العبارةِ محفوظةٌ من الاحتمال والاشتباه { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي أصلٌ فيه وعُمدةٌ يُردُّ إليها غيرُها فالمرادُ بالكتابِ كلُّه ، والجملةُ إما صفةٌ لما قبلها أو مستأنفةٌ وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بيانُ أصليةِ كل واحدةٍ منها أو بيانُ أن الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى : { وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين } - { وَأَخَّرَ } نعتُ المحذوف معطوفٌ على آياتٌ أي وآياتٌ أخَرُ وهي جمع أخرى ، وإنما لم ينصَرِفْ لأنه وصف معدول عن الآخِر أو عن آخر من { متشابهات } صفة لأخَرُ وفي الحقيقة صفةٌ للمحذوف أي محتمِلاتٌ لمعانٍ متشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمرُ إلا بالنظر الدقيق والتأملِ الأنيق ، فالتشابه في الحقيقة وصفٌ لتلك المعاني وُصف به الآياتُ على طريقة وصف الدالِّ بوصف المدلول ، وقيل : لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجِزَ العقل عن التمييز بينها سُمِّي كل ما لا يهتدي إليه العقل متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المُشكِل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يُعلم بعينه ، ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضُه من تلك الجهة ، وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضلُ العلماء ويزدادَ حِرصهم على الاجتهاد في تدبرها وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباطُ ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدِها الرائقة ومعانيها اللائقة المدارجَ العالية ويعرِّجوا بالتوفيق بينها وبين المُحْكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصيةِ .أما قوله { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته } فمعناه أنها حُفِظت من اعتراء الخلل أو من النسخ ، أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على حقِّيتها أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائقِها ، وقوله تعالى : { كتابا متشابها مَّثَانِيَ } معناه متشابهُ الأجزاء أي يشبه بعضُها بعضاً في صحة المعنى وجزالةِ النظم وحقية المدلول .وقوله { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } من تمام مقالةِ الراسِخين أي لا تُزِغْ قلوبَنا عن نهج الحقِّ إلى اتباع المتشابهِ بتأويلٍ لا ترتضيه .
 
جاء في تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: تَفْسِيرُ: لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي فَهْمِهِ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَاتِهَا، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَأَبِي نَهِيكٍ وَغَيْرِهِمْ.
 
قال في التحرير والتنوير :وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ . وَ «مِنْهُ» خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وآياتٌ مُحْكَماتٌ مُبْتَدَأٌ. أطلق الْمُحْكَمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَاضِحِ الدَّلَالَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، مَنْعًا لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرَدُّدِ فِي المُرَاد.وَأطلق التشابه هُنَا عَلَى خَفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ تَطَرُّقَ الِاحْتِمَالِ فِي مَعَانِي الْكَلَامِ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ تَعَيُّنِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَذَلِكَ مِثْلُ تَشَابُهِ الذَّوَاتِ فِي عَدَمِ تَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ.وَالْكتاب: الْقُرْآنُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: أُمُّ الْكِتابِ هُنَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْد: 39] .وَقَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الْمُتَشَابِهَاتُ الْمُتَمَاثِلَاتُ، وَالتَّمَاثُلُ يَكُونُ فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيُبَيَّنُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وَجْهِ التَّمَاثُلِ، وَقَدْ يُتْرَكُ بَيَانُهُ إِذَا كَانَ وَجْهُ التَّمَاثُلِ ظَاهِرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: 70] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جِهَةَ التَّشَابُهِ.وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ: إِلَى أنّ الْآيَات الْقُرْآنِ صِنْفَانِ: مُحْكَمَاتٌ وَأَضْدَادُهَا، الَّتِي سُمِّيَتْ مُتَشَابِهَاتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ أَضْدَادُ الْمُحْكَمَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بُقُولِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمرَان: 7] أَيْ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لَا قِبَلَ لِأَمْثَالِهِمْ بِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحِ الْمَقْصُودُ مِنْ مَعَانِيهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ صِفَةَ الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ، رَاجِعَةٌ إِلَى أَلْفَاظِ الْآيَاتِ.
 
قال في التحرير والتنوير :---------------------------------------------عَلَى أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ:--------------------------------أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ شَرِيعَةً دَائِمَةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فَتْحَ أَبْوَابِ عِبَارَاتِهِ لِمُخْتَلِفِ اسْتِنْبَاطِ الْمُسْتَنْبِطِينَ، حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ أَحْكَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَثَانِيهِمَا تَعْوِيدُ حَمَلَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَعُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِالتَّنْقِيبِ، وَالْبَحْثِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْمَقَاصِدِ مِنْ عَوِيصَاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ طَبَقَاتُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ صَالِحَةً- فِي كُلِّ زَمَانٍ- لِفَهْمِ تَشْرِيعِ الشَّارِعِ وَمَقْصِدِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَلَوْ صِيغَ لَهُمُ التَّشْرِيعُ فِي أُسْلُوبٍ سَهْلِ التَّنَاوُلِ لَاعْتَادُوا الْعُكُوفَ عَلَى مَا بَيْنَ أَنْظَارِهِمْ فِي الْمُطَالَعَةِ الْوَاحِدَةِ. مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتْ صَلُوحِيَّةُ عِبَارَاتِهِ لِاخْتِلَافِ مَنَازِعِ الْمُجْتَهِدِينَ، قَائِمَةً مَقَامَ تَلَاحُقِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي تَدْوِينِ كُتُبِ الْعُلُومِ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْعُصُورِ.فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَصْلَ السَّبَبِ فِي وُجُودِ مَا يُسَمَّى بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ.
 
قال في التحرير والتنوير : ------------------ وَبَقِيَ أَنْ نَذْكُرَ لَكَ مَرَاتِبَ التَّشَابُهِ وَتَفَاوُتَ أَسْبَابِهَا. وَأَنَّهَا فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا الْآنَ عَشْرُ مَرَاتِبَ:أُولَاهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِيدَاعُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقُصِدَ إِجْمَالُهَا: إِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ الْبَشَرِ لِفَهْمِهَا، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ قُلْنَا بِوُجُودِ الْمُجْمَلِ، الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُهُ. وَإِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِمْ لِكُنْهِ فَهْمِهَا، فَأُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ أَوْ لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِهِمْ فِي عَصْرٍ، أَوْ جِهَةٍ، لِفَهْمِهَا بِالْكُنْهِ وَمِنْ هَذَا أَحْوَالُ الْقِيَامَة، وَبَعض شؤون الرُّبُوبِيَّةِ كَالْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَثَانِيَتُهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِشْعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَتَعَيَّنَ إِجْمَالُهَا، مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى مَعَانٍ مَعْلُومَةٍ لَكِنْ بِتَأْوِيلَاتٍ: كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَنَحْوِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الْبَقَرَة: 29].ثَالِثَتُهَا: مَعَانٍ عَالِيَةٌ ضَاقَتْ عَنْ إِيفَاءِ كُنْهِهَا اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفُ أَهْلِهَا، فَعُبِّرَ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُ مَعَانِيَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ، وَهَذَا مِثْلُ أَكْثَرِ صِفَاتِ الله نَحْو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نور السَّمَوَات وَالْأَرْضِ.رَابِعَتُهَا: مَعَانٍ قَصُرَتْ عَنْهَا الْأَفْهَامُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْعُصُورِ، وَأُودِعَتْ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ وُجُودُهَا مُعْجِزَةً قُرْآنِيَّةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُصُورٍ قَدْ يَضْعُفُ فِيهَا إِدْرَاكُ الْإِعْجَازِ النَّظْمِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: 38] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحجر: 22] يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: 5] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْل: 88] تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: 35] وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 7] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] وَذِكْرُ سَدِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ .خَامِسَتُهَا: مَجَازَاتٌ وَكِنَايَاتٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَهَا أَوْهَمَ مَعَانِيَ لَا يَلِيقُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى: لِإِشْعَارِهَا بِصِفَاتٍ تُخَالِفُ كَمَالَ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوَقَّفَ فَرِيقٌ فِي مَحْمَلِهَا تَنْزِيهًا، نَحْوَ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: 48] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: 27] .وَسَادِسَتُهَا: أَلْفَاظٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ لَمْ تُعْرَفْ لَدَى الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمْ: قُرَيْشٍوَالْأَنْصَارِ مِثْلَ: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 31] وَمِثْلَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النَّحْل: 47] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَة: 114] وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] .سَابِعَتُهَا: مُصْطَلَحَاتٌ شَرْعِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِخُصُوصِهَا، فَمَا اشْتَهَرَ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعْنَاهُ، صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً: كَالتَّيَمُّمِ، وَالزَّكَاةِ، وَمَا لَمْ يَشْتَهِرْ بَقِيَ فِيهِ إِجْمَالٌ:كَالرِّبَا قَالَ عُمَرُ: «نَزَلَتْ آيَاتُ الرِّبَا فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ فَتُوُفِّيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.ثَامِنَتُهَا: أَسَالِيبُ عَرَبِيَّةٌ خَفِيَتْ عَلَى أَقْوَامٍ فَظَنُّوا الْكَلَامَ بِهَا مُتَشَابِهًا، وَهَذَا مِثْلَ زِيَادَةِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وَمِثْلَ الْمُشَاكَلَةِ فِي قَوْلِهِ:يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النِّسَاء: 142] فَيَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ إِسْنَادَ خَادِعُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِسْنَادٌ بِمَعْنًى مَجَازِيٍّ اقْتَضَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ.وَتَاسِعَتُهَا: آيَاتٌ جَاءَتْ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ، فَفَهِمَهَا الْمُخَاطَبُونَ، وَجَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوهَا، فَظَنُّوهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: 158] ، فِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ- وَكُنْتُ يَوْمَئِذٍ حَدَثًا لَمْ أَتَفَقَّهْ- لَا أَرَى بَأْسًا عَلَى أَحَدٍ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» فَقَالَتْ لَهُ: «لَيْسَ كَمَا قُلْتَ إِنَّمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ» إِلَخْ. وَمِنْهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 187] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [الْمَائِدَة: 93] الْآيَةَ فَإِنَّ الْمُرَادَ فِيمَا شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا.عَاشِرَتُهَا: أَفْهَامٌ ضَعِيفَةٌ عَدَّتْ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَمَا هُوَ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَفْهَامُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَفْهَامُ الْمُشَبِّهَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الْقَلَم: 42] .
 
عودة
أعلى