الرسائـل الشموليّـة للشيخ الجليل الحميدي ... حلقة فريدة في" المُراجَعــــــات " ؟ !

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع خلوصي
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

الرسائـل الشموليّـة للشيخ الجليل الحميدي ... حلقة فريدة في" المُراجَعــــــات " ؟ !

  • نوعا ما

    الأصوات: 0 0.0%
  • لا

    الأصوات: 0 0.0%

  • مجموع المصوتين
    2

خلوصي

New member
إنضم
20/09/2008
المشاركات
377
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
عالم النور و الإيمان المكي
الموقع الالكتروني
www.nuronline.com
الرسائـل الشموليّـة للشيخ الجليل الحميدي ... حلقة فريدة في" المُراجَعــــــات " ؟ !

[align=center]
السلام عليكم و رحمة الله :

من أجمل الكتب التي قرأتها .. ذات النفس التحقيقي .. و الحس العبودي الذي يتلمسه القاريء في ما يمكن تسميته مراجعات الشيخ لما قد نشأ عليه من مآخذ و أنظار و مشارب و اجتهادات ؟! ليكون لله وحده !.....



من مقدمة الكتاب أقتطع لكم :
........
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.
وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
.........
.......
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية،

ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.

ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة،
منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين،
وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة،
وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين،
وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم،
كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة
من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
......
........
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واسترشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.

الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.

الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان
أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله
تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات
للفهم القاصر.

الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.

الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.

السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.

وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.

هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.

والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.[/align]


...
 
[align=center]الرسالة الأولى : شمول الاجتهاد في الدين ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن من أعظم الأمور التي فرقت المسلمين إلى شيع وأحزاب اختلاف بعض أهل العلـم فـي أمور العقيدة، ثم ما ترتب على ذلك من انتقادات واتهامات وبراءة أحيانًا!! فقد حكم بعض العلماء على مخالفيهم بالابتداع والضلال والفسق وأحيانًا بالكفر، وامتُحن بعضهم فحصل له شيء من الأذى.

وهذه الأحكام التي ترتبت على الخلاف العقدي كانت من أبرز الأسباب التي حالت دون اجتماع جماعة المسلمين؛ وذلك لأن عامة المسلمين وطلاب العلم وأساتذته بمختلف أنواعه تبع لعلماء الدين، فإذا كان علماء الدين يطعن بعضهم ببعض في العقيدة؛ فكيف يجتمعون؟! وإذا لم يجتمعوا فكيف يجتمع سائر المسلمين؟!

أما الخلاف ذاته بين العلماء فقد وجد بين الصحابة رضي الله عنهم في الأمور العلمية كالعقائد،والأمور العملية كالفقه، وإن كان قليلاً في أمور العقيدة؛ كخلافهم في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا، وهل يعذَّب الميت ببكاء أهله عليه أم لا؟ ولكن لم يكن له أثر في إضعاف جماعتهم، كما أن الخلاف في الأمور العملية التي أصبح العلماء يطلقون عليها "الفقه" قد وجد بعد الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن له أثر في إضعاف الجماعة إلا قليلاً، وذلك لأنه لم يترتب عليه أحكام بالبدعة والضلال والفسوق والكفر.

ولقد حصل في هذا العصر من بعض طلاب العلم أنواع من السلوك الشاذ؛ مثل عدم السلام على المخالف، وعدم الصلاة خلفه، بسبب الخلافات العقدية!!

ولقد أبلغني بعض طلابي من المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة في عدة دورات ما يجري في البلاد الإسلامية من تطاحن بين بعض أفراد الجماعات الإسلامية وتبادل الاتهامات، وأن أكثر ذلك راجع إلى الخلاف في أمور العقيدة، وخاصة ما يتعلق بالأسماء والصفات.

كما أنني علمت عن ظاهرة انتشار الغلو في بعض المجتمعات فيما يتعلق بالحكم على علماء الدين، حيث بدأت تظهر من بعض طلاب العلم اتهامات لبعض أكابر العلماء بالابتداع والضلال، حتى إن بعض طلاب العلم قاموا بإحراق بعض الكتب المهمة مثل "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني؛ لما تحتوي عليه تلك الكتب
في -نظرهم- من الضلال والبدع.
ولقد كان ذلك وما سيأتي ذكره مما دفعني إلى نشر هذه الرسالة؛ لعل ذلك يخفف من المعركة المحتدمة بين طلاب العلم، وخاصة الدعاة إلى الله تعالى الذين تنتظر الأمة خلاصها على أيديهم من هذا الوضع المتردي الذي نعيش فيه.
بل لعل ما تحتوي عليه هذه الرسالة من محاولة الإصلاح يكون سببًا في تآلف القلوب وجمع الشمل، وتوحيد الصف نحو جهاد الأعداء.

هذا؛ وإنني لم أكتب هذه الرسالة للترجيح بين أقوال العلماء المختلفين، ولا لبيان الصواب منها من الخطأ، فإن هذا قد يتعارض مع الأهداف من تحرير هذه الرسالة؛ التي قصدت منها تقريب وجهات النظر بين أهل العلم الديني، وأن ينظر بعضهم إلى بعض نظرة محبة وتقدير، وأن يعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه مما يسوغ فيه الاختلاف، وأن يحكموا على مخالفيهم بأنهم قد اجتهدوا فأخطؤوا إذا كانوا من أهل الاجتهاد.

وإنما أردت أن أحدد أبرز القضايا التي يدور حولها هذا البحث، وأن أبين أن الاجتهاد سائغ في أمور الدين كلها بالنسبة لأهل السنة والجماعة، الذين يجعلون الكتاب والسنة هما مصدر العلم الديني، ويجعلون أصولهم منبثقة منهما؛ ويحتكمون إليهما عند الاختلاف، ويعتقدون بعدالة الصحابة رضي الله عنهم، ويقدمون أقوالهم على آراء العلماء الذين جاؤوا من بعدهم.

أما الذين يجهلون السنة النبوية ويطعنون ببعض الصحابة؛ كالخوارج والرافضة، والذين يعتبرون مرجعهم الأساسي هو العقل، فيردون إليه نصوص الكتاب والسنة ويحتكمون إليه عند التنازع؛ كالمعتزلة والجهمية وأتباع الفلاسفة..أما هؤلاء فلا عبرة بأقوالهم وآرائهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد المعتدِّ به لمخالفتهم أهل السنة في أصول الدين .

هذا وقد أضفت إلى هذه الطبعة موضوعين:

الأول: بيان ماجرى بين العلامة الشيخ عز الدين بن عبد السلام وبعض علماء الحنابلة المعاصرين له، حيث وصفهم بأوصاف شنيعة؛ وذلك كمثَلٍ للآثار السيئة التي ترتبت على الانحراف في الحكم على المخالفين، وعلى أهمية دعوة أهل العلم إلى الأخذ بمنهج الاعتدال في ذلك .

والموضوع الثاني: بيان علاقة هذا الموضوع بظهور الإمام المهدي، وقد كنت كتبت هذا الموضوع في الطبعة الأولى لهذه الرسالة، ثم إني حذفته في المرحلة الأخيرة قبل النشر؛ خشية أن يثير بعض التساؤلات، ولكني رأيت بعد ذلك أن إضافته أمر مهم، خصوصًا وأن الأمة الإسلامية قد تكون مقبلة على فتن كبيرة، فيكون هذا الموضوع مما يكشف بعض الضوء في ذلك.


نماذج من اجتهاد الصحابة


ومما يدل على أن من اجتهد في الدين فأخطأ أنه لا إثم عليه؛ ما أخرجه الشيخان من حديث عبدالله بن عمر م قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرِد منا ذلك، فَذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنِّف واحدًا منهم([1]).

وفي هذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم([2]).

وهذا في مجال الأحكام العملية، ولا فرق في الدين بين الأحكام العملية والعقائد العلمية كما سيأتي.

وفي هذا الحديث يتبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتناقشوا بينهم.. من هو المصيب ومن هو المخطئ؟ هل هم الذين أخذوا الأمر النبوي على ظاهره؟ أم الذين أخذوا بمقاصد الشريعة؟ فأوَّلوا الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد حثَّهم على الإسراع بالوصول إلى ذلك الموقع، وهذا مثَل مما رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه من البعد عن الجدل والاختلاف، فالشيء الذي كانوا يهتمون به هو الحرص على بلوغ رضوان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك اجتهدوا في فهم الأمر النبوي.

وعلى هذا فإنه لا لوم على العلماء الذين أخذوا النصوص الشرعية على ظاهرها، ولا على الذين أولوها بما يتفق -في نظرهم- مع المقاصد الشرعية، ولا يجوز لكل فريق أن يحكم على الفريق الآخر بالحكم الذي يخرجه من دائرة أهل السنة والجماعة.

وقد ذكر الإمام ابن تيمية أمثلة من اختلاف الصحابة في بعض أمور العقيدة؛ ومن ذلك قولـه: فعائشة أم المؤمنين ك قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وقالت: "من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية"! وجمهور الأمة على قول ابن عباس، مع أنهم لا يبدِّعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين ك، وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي لماَّ قيل لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، فقالت: إنما قال: إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق، ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : "وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"، صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الأحاديث، وأم المؤمنين تأولت، والله يرضى عنها، وكذلك معاوية نُقل عنه في أمر المعراج أنه قال: إنما كان بروحه، والناس على خلاف معاوية ، ومثل ذلك كثير.

وأما الاختلاف في "الأحكام" فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلَّما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبوبكر وعمر م سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة:
"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتهم العصر، وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب واحدًا من الطائفتين، أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام"([3]).
ويقصد بغير الأمور المهمة جزئيات العقيدة؛ لأنه إنما ساق هذا الدليل بعد ذكر خلاف الصحابة رضي الله عنهم في بعض أمور العقيدة.

وهذه الأمثلة التي ذكرها ابن تيمية من أوضح الأدلة على أن الاجتهاد في أمور العقيدة كان معروفًا عند الصحابة، وأنه لم يكن يترتب على الخلاف في ذلك تبديع ولا تضليل.

([1])البخاري (4119) في المغازي، مسلم (1770)في الجهاد.

([2]) فتح الباري (7/410).

([3])مجموع الفتاوى (24/172، 173).


اقتباسات من كلام الإمام ابن تيمية :
.......
..................
[/align]
 
[align=center]أهلا بأخي العبادي ..
هو الشيخ الجليل د. عبدالعزيز الحميدي أستاذ أصول الدين سابقا في جامعة أم القرى و عميد معهد إعداد الأئمة في رابطة العالم الإسلامي ...
و قد علمت من بعض من يعرف الشيخ في منتدى الألوكة أنه من أوائل تلاميذ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله و كان المرحوم يزوره في بيته إذا ذهب إلى مكة المكرمة ؟

أما الرسائل فهذا رابطها
[/align]:

http://saaid.net/book/open.php?cat=1&book=3315
[align=center]
و أنا أحاول تلخيصها أو إخراجها بالحجم و اللون لتيسير القراءة .. و قد عملت عدة حلقات في الألوكة ...
و أتقصد كذلك " تحليقها ؟ " للتدارس حولها .

و شكرا جزيلا لاهتمامكم ..
و لا تنس وصيتي ؟










الدعاء
[/align]... فأنا بحاجة ماسة ..
 
نعم .. نعم .. الشيخ عبد العزيز معروف ومشهور، ولكني أحببت التأكد.

وأظن أن قراءة هذه الرسائل ببصيرة وتجرد مع العمل بها لهي أولى بنا من الانشغال بحوارات قليلة الجدوى، يخرج الجميع منها بنتيجة سلبية.
ليس الإشكال في اختلاف وجهات النظر، إنما في الشقاق المبني على هذا الاختلاف، فهب أننا اختلفنا في شيء أوَليس عندنا من عوامل الاجتماع ما يفوقه بأضعاف؟



جزاك الله خيرا وأحسن إليك ورزقك التوفيق والاخلاص والثبات على الأمر والعزيمة على الرشد.
 
[align=center]آمين و إياكم أخي العزيز العبادي ... و كثّر الله من أمثالكم و حرقتكم على الأمة ..

......
..
اقتباسات من كلام الإمام ابن تيمية

إننا حينما نستعرض كلام العلماء الكبار في هذا الشأن نجد لهم نظرات معتدلة في الحكم على المخالفين في كل أمور الدين، وسيكون التركيز في هذه الرسالة على بيان شيء من أقوال عالم من أعظم علماء المسلمين، كان له صولات وجولات في جميع علوم الدين، وجاهد طوال حياته بلسانه وقلمه لحماية دين الإسلام، وتنقيته مما شابه من أغاليط المغالطين ودسائس الماكرين وأوهام المخطئين.. ذلكم هو الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، الذي جمع الله تعالى له علوم من تقدمه فعرضها بعدالة، واعتدل في حكمه على المخالفين.
وأبدأ بنقل بيانه عن مصطلحات يتكرر ذكرها في هذا المجال بينما يقلُّ استعمالها في التعريف بالعلوم؛ حيث يقول: أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان؛ أمور خبرية اعتقادية، وأمور طلبية عملية.
فالأول:
كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل في ذلك أخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار، وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.
وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.

والثاني:
الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب؛ كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًّا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لِمَخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله.. فهي من القسم الثاني([1]).

أصول الدين وفروعه


وفي بيان أصول الدين وفروعه وأن المجتهد إذا أخطأ لا يأثم؛ يذكر ابن تيمية طوائف المسلمين الذين اختلفوا في باب الأسماء والصفات، ثم يذكر أن بعض السلف لا يرى الانتساب في أصول الدين إلى عالم معين، وإنما يرى الانتساب إلى الكتاب والسنة، ثم قال: وهذه طريقة جيدة، ولكن هذا مما يسُوغ فيه الاجتهاد؛ فإن مسائل الدِّقِّ في الأصول لا يكاد يتفق عليها طائفة؛ إذ لو كان كذلك لما تنازع في بعضها السلف من الصحابة والتابعين، وقد يُنكَر الشيء في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص.
وأصل هذا ما قد ذكرته في غير هذا الموضع: أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية؛ وإن سمِّيتْ تلك "مسائل أصول" وهذه "مسائل فروع"فإن هذه التسمية محدثة، قسَّمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين؛ وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب؛ لا سيَّما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها؛ فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها، وكثيرًا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة، بل الحق أن الجلي من كل واحد من الصنفين "مسائل أصول"والدقيق "مسائل فروع".
فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة؛ كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة؛ ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحدهذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية؛ بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمَلِ؛ وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل؛ لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة؛ ولهذا تقر الأمة من يفصلها على الإطلاق، وهم الفقهاء؛ وإن كان قد يُنكر على من يتكلم في تفصيل الجمل القولية؛ للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة.

وقولنا: "إنها قد تكون بمنزلتها"؛ يتضمن أشياء:

منها: أنها تنقسم إلى قطعي وظني.

ومنها: أن المصيب وإن كان واحدًا فالمخطئ قد يكون معفوًّا عنه وقد يكون مذنبًا، وقد يكون فاسقًا، وقد يكون كالمخطئ في الأحكام العملية سواء؛ لكن تلك لكثرة فروعها، والحاجة إلى تفريعها اطمأنت القلوب بوقوع التنازع فيها والاختلاف، بخلاف هذه؛ لأن الاختلاف هو مفسدة لا يُحتمل إلا لدرء ما هو أشد منه.

فلما دعت الحاجة إلى تفريع الأعمال وكثرة فروعها، وذلك مستلزم لوقوع النزاع.. اطمأنت القلوب فيها إلى النزاع؛ بخلاف الأمور الخبرية؛ فإن الاتفاق قد وقع فيها على الـجُمل؛ فإذا فُصلت بلا نزاع فحسن؛ وإن وقع التنازع في تفصيلها فهو مفسدة من غير حاجة داعية إلى ذلك.
إلى أن قال رحمه الله:

ومما يتصل بذلك: أن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم؛
وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء.
وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفهم بها،كما قال علي ط:"حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟!"، وقال ابن مسعود ط: "ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم".
وكذلك قال ابن عباس ط لمن سأله عن قوله تعالـى:] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }الطلاق12[[الطلاق:12]، فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك تكذيبك بها،

وقال لمن سأله عن قوله تعالى: ] {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }المعارج4[المعارج:4]، هو يوم أخبر الله به؛ الله أعلم به.

ومثل هذا كثير عن السلف.

فإذا كان العلم "بهذه المسائل" قد يكون نافعًا، وقد يكون ضارًّا لبعض الناس، تبين لك أن القول قد ينكر في حال دون حال، ومع شخص دون شخص؛ وأن العالم قد يقول القولين الصوابين، كل قول مع قوم؛ لأن ذلك هو الذي ينفعهم؛ مع أن القولين صحيحان لا منافاة بينهما؛ لكن قد يكون قولهما جميعًا فيه ضرر على الطائفتين؛ فلا يجمعهما إلا لمن لا يضره الجمع.

وإذا كانت قد تكون قطعية، وقد تكون اجتهادية.. سوَّغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية، وكثير من تفسير القرآن، أو أكثره من هذا الباب؛ فإن الاختلاف في كثير من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية، لا من باب العملية؛ لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار، كما قد تقع في مسائل العمل([2]).
ويقول في موضع آخر: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها؛ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يُكفَّر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
فأما التفريق بين نوع وتسميته "مسائل الأصول" وبين نوع آخر وتسميته "مسائل الفروع".. فهذا الفرق ليس له أصل؛ لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حدُّ مسائل الأصول التي يكفَّر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد،ومسائل الفروع هي مسائل العمل؛ قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث.. هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكِر لها يكفُر بالاتفاق.
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية؛ لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده،
أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذيقال لأهله: "إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّوني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني الله عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين! فأمر الله البَرَّ بردِّ ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتُك يا رب؛ فغفر الله له"، فهذا شكَّ في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له،وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع([3]).
وذكر ابن تيمية قاعدة مهمة في الحكم على المجتهدين في مسائل الأصول والفروع، فقال -رحمه الله- بعد كلامٍ له:
ونحن نذكر "قاعدة جامعة" في هذا الباب لسائر الأمة؛ فنقول:
لابدَّ أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُردُّ إليها الجزئيات ليتكلم
بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب
وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات؛ فيتولد فساد عظيم.


فنقول: إن الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول،

ونحن نذكر أصولاً جامعة نافعة:
[/align]
([1]) المرجع السابق (11/336).

([2]) المرجع السابق (6/56-60).

([3]) المرجع السابق (23/346، 347).
 
..............
.....

الأصل الأول:

أنه هل يمكن كل واحد أن يعرف باجتهاده الحق
في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه
فلم يصل إلى الحق؛ بل قال ما اعتقَد أنه هو الحق في نفس الأمر؛ ولم يكن هو الحق في نفس الأمر: هل يستحق أن يعاقب أم لا؟
هذا أصل المسألة.

ثم ذكر أقوال بعض الطوائف في تأثيم المجتهدين المخطئين، إلى أن قال: وأما غير هؤلاء فيقول: هذا قول السلف وأئمة الفتوى؛ كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي؛ وغيرهم لا يُؤثِّمون مجتهدًا مخطئًا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره؛ ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلَّى خلفه، وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهم لا يكفِّرون ولا يفسِّقون ولا يؤثِّمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية.

قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره.

قالوا: والفرق بين ذلك في مسائل الأصول والفروع، كما أنها محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة.. فهي باطلة عقلاً؛ فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة؛فمنهم من قال: مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل، قالوا: وهذا فرق باطل؛ فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل: وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنى والربا والظلم والفواحش، وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه؛ كتنازع الصحابة؛ هل رأى محمد ربه؟ وكتنازعهم في بعض النصوص؛ هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات؛ هل هي من القرآن
أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة؛ هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام؛ كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك، فليس في هذا تكفير ولا تفسيق.
قالوا: والمسائل العملية فيها عمل وعلم فإذا كان الخطأ مغفورًا فيها؛ فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورًا، ومنهم من قال: المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي، والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي، قال أولئك: وهذا الفرق خطأ أيضًا؛ فإن كثيرًا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها، وفيها ما هو قطعي بالإجماع؛ كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة([1])، ورأوا أنها حلال لهم؛ ولم تكفِّرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا.
وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ ولم يُؤثِّمهم
النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن تكفيرهم، وخطؤهم قطعي، وكذلك أسامة
بن زيد قد قتل الرجل المسلم! وكان خطؤه قطعيًّا، وكذلك الذين وجدوا رجلاً في غنم له فقال: إني مسلم؛ فقتلوه وأخذوا ماله! كان خطؤهم قطعيًّا، وكذلك خالد بن الوليد قتل بني جذيمة وأخذ أموالهم! كان مخطئًا قطعًا.
وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط، وعمار الذي تمعك في التراب للجنابة كما تمعك الدابة، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلُّوا.. كانوا مخطئين قطعًا، وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ولم يعلموا بوجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يُحَدُّوا على ذلك، وكذلك لو نشؤوا بمكان جهل.
وقد زنت على عهد عمر امرأة، فلما أقرت به قال عثمان: إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام، فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدُّوها! واستحلال الزنى خطأ قطعًا.
والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهو مخطئ قطعاً، ولا إثم عليه باتفاق، وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين.
ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل؛ هو مخطئ قطعًا، إذا تبين له الأكل بعد الفجر؛ ولا إثم عليه، وفي القضاء نزاع، وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه، ومثل هذا كثير.
وقول الله تعالى في القرآن: ]…رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ [البقرة:286]،قال الله تعالى: "قد فعلت"، ولم يفرق بين الخطأ القطعي في مسألة قطعية أو ظنية، والظني ما لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعًا، قالوا: فمن قال: إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية يأثم؛ فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم.
قالوا: وأيضًا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين، ليس هو وصفًا للقول في نفسه ؛ فإن الإنسان قد يقطع بأشياء عَلِمَ -بالضرورة أو بالنقل المعلوم- صدقها عنده، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعًا ولا ظنًّا، وقد يكون الإنسان ذكيًّا قوي الذهن سريع الإدراك؛ فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علمًا ولا ظنًّا.

فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال: كل من خالفه قد خالف القطعي، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد، وهذا مما يختلف فيه الناس، فعُلِم أن هذا الفرق لا يطَّرد ولا ينعكس.ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال: المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل، فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها، والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع، قالوا: فالأول كمسائل الصفات والقدر؛ والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار.
فيقال لهم: ما ذكرتموه بالضد أولى؛ فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل.

إلى أن قال: وحينئذ؛ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال: إنها أصول الدين.. كفراً، فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبتدعة في الشرع هم الكفار لا من خالفهم، وإن لم يكن الخطأ فيها كفراً فلا يكفَّر من خالفهم فيها، فثبت أنه ليس كافراً في حكم الله ورسوله على التقديرين، ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفِّرون من خالفهم فيها ويستحلون دمه؛ كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم.
وأهل السنة لا يبتدعون قولاً ولا يكفِّرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفًا لهم مستحلاًّ لدمائهم، كما لم تكفِّر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم([2])!!

وبهذا تبين بطلان هذه الأقوال في بيان أصول الدين وفروعه فيبقى القول الذي ذكره الإمام ابن تيمية قبل ذلك هو القول الصحيح؛ وهو أن المسائل الكبيرة في الدين هي أصول الدين، وأن المسائل الصغيرة هي فروع الدين؛ سواء في القضايا العلمية التي على رأسها أمور العقيدة، أو في القضايا العملية التي يراد بها ما يحتويه علم الفقه.
وبهذا يتبين خطأ العلماء الذين أخرجوا الصلاة من أصول الدين وهي عمود الإسلام كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يكون عمود الشيء الذي لا يقوم إلا عليه فرعًا من ذلك الشيء؟!

وقال -رحمه الله تعالى- في بيان هذا الموضوع: وأيضًا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ كقوله : لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[[البقرة:286]، ............................
..........................
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة

، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: ] رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ[[البقرة:286]، فقال: "قد فعلت".
فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه، خلافًا للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي، خلافًا للقدرية والمعتزلة.

وهذا فصل الخطاب في هذا الباب؛ فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومُفتٍ وغير ذلك.. إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع؛ كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافًا للجهمية المجبرة، وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب([3])
.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر في حواره مع المخالفين في باب أسماء الله تعالى وصفاته:

ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه
في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب
أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك.. فهذا أولى([4]).
وفي موضع آخر يؤكد ابن تيمية -رحمه الله- عدم المؤاخذة في الخطأ في أمور الاعتقاد، حيث يقول: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة،وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم؛ فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب إمكانه.. هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاده، ولا يؤاخذه بما أخطأ؛ ...............
............
وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى، كما نطق به القرآن، وإنما توقفوا في شخص معين لعدم العلم بدخوله في المتقين([5]).

ويذكر -رحمه الله- اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في بعض المسائل العلمية الاعتقادية، ويبين مذهب أهل السنة في عذر المجتهد إذا أخطأ فيقول:وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت.. مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أَحدُ القولين خطأٌ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مُؤَدٍّ لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه؛ وهل يقال له: مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع، ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر.
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ([6]).

ويذكر -رحمه الله- أن العالم إذا أخطأ يُترك خطؤه، ولكنه لا يكفَّر ولا يفسَّق ولا يؤثَّم، وذلك في جوابه على سؤال حول موضوع عصمة الأنبياء عليهم السلام؛ حيث يقول: وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم؛ ...............
.................
وبيَّن في موضع آخر أن المجتهدين من العلماء في أمور الدين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم والله يغفر لهم خطأهم؛ حيث يقول: ولكن الأنبياء -صلوات الله عليهم- هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب، فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه؛ فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغْلُون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يُؤثِّمون([8]).

ويبين -رحمه الله- الفرق بين المجتهد الذي يريد الوصول إلى معرفة الحق، وبين المفرِّط الذي يتبع هواه فيقول:
([1])يعني قدامة بن مظعون.

([2]) المرجع السابق (19/203-212)، وانظر: منهاج السنة (5/85- 95).

([3]) مجموع الفتاوى (19/216، 217).

([4]) المرجع السابق (3/179).

([5]) المرجع السابق (20/165، 166).

([6]) المرجع السابق (19/123).

([7]) المرجع السابق (35/100).

([8]) المرجع السابق (35/69).
 
.....
ويبين -رحمه الله- الفرق بين المجتهد الذي يريد الوصول إلى معرفة الحق، وبين المفرِّط الذي يتبع هواه فيقول:

فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله.. فهو ظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمر الله ورسوله؛فهذا مغفور له خطؤه كما قال تعالى في [البقرة:285، 286]، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الله قال:"قد فعلت"،
الفاتحة إلا أعطي ذلك([1])،

([1])يريد ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبدالله بن عباس م، وفيه الخبر عن نزول ملك من السماء وقوله: "أبشر بنورين أوتيتهما، لم يُؤْتَهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيتَه"، مسلم (806)، في صلاة المسافرين.

([2]) مجموع الفتاوى (3/317، 318).





ويذكر -رحمه الله- في موضع آخر أن تأثيم المجتهدين هو مذهب الخوارج؛ حيث يقول عنهم: وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل، فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد -بل الحسنات- ذنوبًا! وجعلوا الذنوب كفرًا([3])!!

ثم ذكر ابن تيمية -رحمه الله- أن رفع الإثم عن المخطئين في اجتهادهم مشروط بلزومهم جماعة المسلمين، وعدم مفارقتهم إياهم، وعدم براءتهم من المسلمين المخالفين لهم؛ حيث يقول:

ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة، ومنهم من يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد بالباطل باطلاً أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة.

ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ،
والله -سبحانه وتعالى- يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك؛ ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من والى مُوافِقَه وعادى مُخالِفَه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفَّر وفسَّق مخالِفَه دون موافِقِه في مسائل الآراء والاجتهادات؛ واستحل قتال مخالِفِه دون موافِقِه.. فهؤلاء أهل التفرق والاختلافات([4]).

وفي موضع آخر يبين المؤلف عذر المجتهد إذا أخطأ؛ سواء في الأصول أو الفروع، ويبين أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع ليس من منهج السلف، ولكنه ظهر من جهة المعتزلة ثم انتقل إلى أهل السنة، وذلك بعد أن ذكر منهج السلف في الترجيح بين الأدلة التي يسميها بعض المتكلمين "أمارات"؛ حيث يقول:

وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون: بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى؛ فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئًا معذورًا، ولهأجر على اجتهاده وعمله بما تبين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه.
فإذا أريد بالخطأ الإثم؛ فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب مطيع لله فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر؛ فالمصيب واحد وله أجران.

إلى أن قال:وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جَعْلُ الدين قسمين؛ أصولاً وفروعًا.. لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين: إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما.

والذين فرقوا بين الأصول الفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين،بل تارة يقولون: هذا قطعي، وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيًّا وظنيًّا أمر إضافي، وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر؛كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ؛ فإن الكفر حكمشرعي يتعلق بالشرع، وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع([5])
.
ويبين -رحمه الله- أن المجتهدين المتأولين في أحكام الدين غايةُ الحكم عليهم أنهم مخطئون؛ حيث يقول:

وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان؛ متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حِلَّ أمور، واعتقد الآخر تحريمها؛ كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة.. وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون،.......
.
وإذا كان هذا في الباغي الذي يخرج على الإمام ونحوه إذا كان متأولاً، فكيف بمن اجتهد في أمر من أمور الدين فقال فيه باجتهاده، فهو وإن أخطأ لا إثم عليه كما تقدم؛ سواء كان ذلك في الأحكام أو في العقائد.
[mark=FFFF99]وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول:[/mark]..................
...........................
.............................. ............
([1])يريد ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبدالله بن عباس م، وفيه الخبر عن نزول ملك من السماء وقوله: "أبشر بنورين أوتيتهما، لم يُؤْتَهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيتَه"، مسلم (806)، في صلاة المسافرين.

([2]) مجموع الفتاوى (3/317، 318).

([3]) المرجع السابق (28/489).

([4]) المرجع السابق (3/348، 349).

([5]) المرجع السابق (13/123-126).

([6]) المرجع السابق (35/75).
 
وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول:

وكان ابن فورك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكرامية، كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كفَّرهم عند السلطان، ولم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفَّره، فإنه هو ظلم نفسه!


وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون الرسول؛ فلا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة ويكفِّرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كلٌّ منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع فيرد بدعة ببدعة وباطلاً بباطل([1])!!


وفي موضع آخر يبين -رحمه الله- أن الذي يدافع عن العلماء ويدفع عنهم تكفير الغلاة فهو محسن، وإن اعتقد وقوع أولئك العلماء المحكوم عليهم بالكفر غير المتعمد، فإن مجرد حمايتهم ونصرهم غرض شرعي حسن، فيقول: ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أنَّ دافع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر؛ حماية له ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد([2]).


ويقول -رحمه الله- في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"،

بعد أن ناقش عددًا من كبار العلماء المنتسبين إلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله:

[mark=FFFFCC]ثم إنه ما من هؤلاء إلا مَنْ له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين.. ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء.. احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكرها جمهور المسلمين من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.[/mark]


وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف
من أهل العلم والدين،والله تعالى يتقبل من جميع عباده
المؤمنين الحسنات؛ ويتجاوز لهم عن السيئات ...............

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة
الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك؛ فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين ............



ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنِّع على مَنْ خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة.. فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر فيمن يعظِّمه هو من أصحابه، فقلَّ من يَسْلم من مثل ذلك في المتأخرين؛ لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبُعْد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب([3]).


ويقول أيضًا في هذا الكتاب: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية([4])، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم.. فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخذه بما أخطأه، ...

ويقول -رحمه الله- في بيان هذا الموضوع: والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعملية([6])، كما قد بُسط في غير موضع، ثم ذكر أمثلة على ذلك؛ منها مَن اعتقد أن الله تعالى لا يُرى في الآخرة؛ .................


ومنها اعتقاد أن الله تعالى لا يَعجب كما اعتقد ذلك القاضي شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون مِن جَهـل السبب والله منزه عن الجهل([7])، ومنها اعتقاد أن الميت لا يسمع خطاب الحي لاعتقاده أن قوله تعالى[ النمل:80[ومن أقواله في هذا الأمر: هذا مع أني دائمًا، ومن جالسني يعلم ذلك مني.. أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية؛ إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية([9]).


ويقول في الرد على من حكموا على المخالفين المخطئين بالكفر:

[mark=99FFFF]إن المتأول الذي قصْده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر، بل ولا يفسق، إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويكفِّرون من خالفهم؛كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة؛ كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.[/mark]


وقد يسلكون في التكفير ذلك؛ فمنهم من يكفِّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل من خرج عمَّا هو عليه من أهل البدع! وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية.

وهذا القول أيضًا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفَّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليُحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعيَّن؛ كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه.

وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستغفر لهم ويُترحم عليهم، وإذا قال المؤمن: ][[الحشر:10]، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله؛ فخالف السنة أو أذنب ذنبًا.. فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان؛ فيدخل في العموم([10])
.
وفي كتاب "الاستقامة"

عقد -رحمه الله- فصلاً فيما اختلف فيه المؤمنون من الأقوال والأفعال في الأصول والفروع، ثم قال: ومن هذا الباب ما هو من باب التأويل والاجتهاد الذي يكون الإنسان مستفرغًا فيه وسعه؛ علمًا وعملاً.

قال: ثم إن الإنسان قد يبلغ ذلك ولا يعرف الحق في المسائل الخبرية الاعتقادية، وفي المسائل العملية الاقتصادية، والله سبحانه قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان .......



وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ومن حديثأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله استجاب لهم هذا الدعاء،وقال: "قد فعلت"([11]).

[mark=FFFF66]وأفاد في موضع آخر من هذا الكتاب بأن الاجتهاد يكون مذمومًا إذا صاحبه البغي؛ [/mark]حيث يقول:
ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد،
واستشهد بآيات؛ منها قول الله تعالى: في [آل عمران:19]،
ثم قال: فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي12]).


[mark=FFFF00]ويقول الإمام ابن تيمية أيضًا في التحذير من تفرق الأمة بسبب تفرق علمائها[/mark]: "وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أُمِرت الرسل بذلك، ومأمورون بألا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة كما أُمِرت الرسل بذلك، وهؤلاء آكد، فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد، وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم باطنًا وظاهرًا بالتمسك بما هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء، وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام، فإنما يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، .......


فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله؛ فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله، ومن فعل ما أُمِر به بحسب حاله؛ من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة .........


فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن، ويدوم على هذا الإسلام، فإسلام وجهه إخلاصه لله، وإحسان فعله الحسن، فتدبَّرْ هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم"([13]).


[mark=FFFFCC]وبهذا نعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية حينما دعا إلى تعميم الاجتهاد في كل أمور الدين، وحَمَلَ كلام المخالفين من العلماء على الخطأ، وبيَّن أن المخطئ مغفور له خطؤه ولا إثم عليه..نعلم بذلك أن ابن تيمية من أعظم الدعاة إلى بيان المنهج الإسلامي في معرفة الحق والحكم على المخالفين، وإلى قيام جماعة المسلمين وتماسكها،[/mark]

وهو يدرك بأن قيامها واستمرار وجودها القوي غير ممكن ما دام علماء الدين -الذين يضع المسلمون ثقتهم بهم- يتبادلون التهم، ويحكم بعضهم على بعض بالفسق والابتداع؛ إن لم يحكموا عليهم بالكفر!

فلذلك كرر بيان هذا الموضوع في كثير من فتاواه كما تبين لنا،
وهو يدعو إلى ما يترتب على ذلك من [mark=66FFFF]عمران المحبة بين العلماء وتوافر الولاء القلبي بينهم، وإن ظل بعضهم على قناعتهم بما توصلوا إليه في اجتهادهم.[/mark]

وهكذا رأينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان عادلاً في حكمه على المخالفين من أهل السنة، محافظًا على منزلة علماء الدين.


أما ما نراه من شدة ابن تيمية على مخالفيه في مواضع أخرى، فهو محمول على الرغبة القوية في بيان ما يراه من الحق؛ حتى لا يضيع في خضم الخلاف الذي قد يُعرض أحيانًا بأسلوب مؤثر.وابن تيمية -رحمه الله تعالى- حينما يرد بشدة على المخالفين ويحكم عليهم بأحكام شديدة؛ إنما يريد المتشددين في مذهبهم، الذين يحكمون على أهل الإثبات الكامل بأنهم مُجسِّمة وحَشْوية، فهؤلاء ظالمون في حكمهم فاستحقوا منه الأحكام الشديدة،


[mark=6699FF]أما العلماء المعتدلون من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم؛ الذين يحكمون على مخالفيهم ممن هم أهل للاجتهاد بالخطأ.. فإنهم في نظر ابن تيمية مجتهدون مخطئون، [/mark]

وإن لم يكن هؤلاء وأمثالهم من العلماء المجتهدين هم المقصودين بالحكم عليهم بالخطأ في كلام ابن تيمية، فمن هم العلماء الذين عناهم في كتاباته الكثيرة حينما حكم عليهم بأنهم مجتهدون مخطئون؟!



إنه ينبغي لنا ألا نأخذ مذهب العالم من نمط واحد من كتاباته، وإنما نأخذ نماذج من أنماط متعددة لنصل إلى تقرير مذهبه، وإننا حينما نقارن بين النصوص التي يحمل فيها ابن تيمية على مخالفيه فيصفهم بالضلال، وبين النصوص التي حكم عليهم فيها بأنهم مجتهدون مخطئون ويلتمس لهم الأعذار.. ندرك أنه لا يقصد الحكم على طائفة بعينها مرة بالضلال ومرة بالخطأ، وإنما يحكم بالضلال على من اجتهد في أمر من أمور الدين وهو ليس أهلاً للاجتهاد، أو تعمد مخالفة الحق تعصبًا للرأي أو للمذهب، أو جار في حكمه على مخالفيه، بينما يحكم بالخطأ على من خالف الصواب وهو من أهل الاجتهاد وقد بذل وسعه لمعرفة الحق.

وإن من إنصاف ابن تيمية وإنصاف الحق أن نأخذ كلامه كاملاً في بيان أخطاء الآخرين والرد عليهم، وفي بيان فضائلهم وفي الاعتذار لهم، الأمرَ الذي له أهميته في قصر الخلاف على بيان الحق عند كل عالم، من غير أن يتجاوز ذلك إلى البراءة من المخالفين أو الحكم عليهم بالأحكام الجائرة.
([1]) المرجع السابق (16/95، 96).

([2]) المرجع السابق (35/103).

([3])درء تعارض العقل والنقل (2/102، 103).

([4])يعني في المسائل العقدية كما تقدم.

([5])درء تعارض العقل والنقل (2/315).

([6])جاء في الفتاوى: "والعلمية"، وهو خطأ؛ لأن الخبرية هي العلمية وإنما أراد المؤلف العملية؛ لأنه يعبر في مواضع كثيرة عن مسائل العقيدة بالعلمية أو الخبرية، ويعبر عن الأحكام الفقهية بالعملية.

([7])وذلك بمناسبة قول الله تعالى في[الصافات:12]، وذلك على
قراءة ضم التاء في ] بل عجبت و يسخرون [؛ وهي قراءة حمزة والكسائي في آخرين، انظر: زاد المسير لابن الجوزي (7/50).

([8])مجموع الفتاوى (20/33-36).

([9]) المرجع السابق (3/229).

([10])منهاج السنة النبوية (5/239-241).

([11])الاستقامة (1/24-26).

([12]) المرجع السابق (1/31).

([13])مجموعة الرسائل المنيرية (3/141)، رسالة " قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع"،وهي الرسالة الثامنة.
 

لقد استفاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كثيرًا في كتبه من منهج الكتاب والسنة، فنجده مثلاً حينما يتحدث عن المخالفين في أمور العقيدة يتشدد، ويأتي بأساليب الكلام المنوعة في الرد عليهم والتنفير من مذاهبهم، وهذا يشبه آيات الوعيد وأحاديثه؛ حيث إن من أعظم مقاصدها التنفيرَ من الأعمال السيئة التي حذرت منها تلك الآيات والأحاديث، ثم نجده في مواضع أخرى يعتذر لبعض أولئك المخالفين؛ وهم الذين لم تصل مخالفتهم إلى حد رَدِّ الكتاب والسنة والاستقلال بأصول تخالفهما، أو الدخول في هذا العلم من غير أهلية له، ومع اعتذاره لهم يفتح لهم باب الرجاء فيعتبرهم من جملة علماء هذه الأمة المرحومة، المثاب مجتهدها، المغفور لمخطئها، وذلك يشبه آيات الوعد وأحاديثه الوعد التي من أهم مقاصدها فتح باب الأمل والرجاء لمن قد يصابون باليأس من رحمة الله تعالى.

[mark=FFFFCC]ولكن طائفة من العلماء تمسكوا بكتابات ابن تيمية التي يرد بها على المخالفين بما فيها من شدة وغلظة، وربما فاقه بعضهم في هذا المجال، بينما مروا مر الكرام على كتاباته التي يعتذر فيها لبعض المخالفين، ويحنو عليهم، ويخاطبهم فيها خطاب العالم لإخوانه الذين يسير هو وإياهم لبلوغ هدف واحد، وإن اختلف طريقه قليلاً عن طريقهم.[/mark]

وكان ينبغي الجمع بين هذه الكتابات وتلك لنخرج منها بصياغة معتدلة لآراء ابن تيمية الاجتهادية، وهي التي فيها الخير الكثير، والحل لكثير من مشكلات تفرق العلماء وتفرق الأمة من خلفهم.

إنني حينما كتبت هذه الرسالة وجمعت هذه الدرر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية إنما أهدف إلى رفع الملام عن أئمة الإسلام؛ كالنووي والعز بن عبدالسلام وابن حجر العسقلاني، حيث وصفهم بعض طلاب العلم في هذا العصر بالابتداع والضلال!!

كما أهدف في مقابل ذلك إلى رفع الملام عن أئمة الإسلام الذين أخذوا بظاهر الآيات ولم يؤولوها؛ كابن تيمية وابن القيم والذهبي، ومن قبلهم ابن قتيبة وابن خزيمة وغيرهم؛ حيث إن هؤلاء العلماء وُصفوا من مخالفيهم بأوصاف شنيعة، فقد قيل عنهم إنهم حشوية ومجسمة، وحُكِم عليهم بالبدعة والضلال، بل بالكفر أحيانًا من بعض العلماء السابقين ومن بعض أهل العلم في هذا العصر.

ومن ذلك قول أحد علماء هذا العصر: "لقد ضل ابن تيمية حينما قال بفناء النار"، وكان الأولى أن يقول: لقد أخطأ ابن تيمية؛ لأنه إنما قال هذا القول -على فرض أنه قاله-عن اجتهاد منه، وهو من أبرز أهل الاجتهاد، فغاية ما يحكم عليه به المخالف أن يصفه بالخطأ، والخطأ لا يترتب عليه بغض ولا براءة، بل يظل العلماء وإن اختلف اجتهادهم على حب وولاء.

كما أهدف من ذلك إلى رفع الحرج عن علماء هذا العصر؛ الذين اتُّهموا في عقائدهم لأنهم ذهبوا إلى بعض ما قرره بعض علماء السنة القدامى من تأويل بعض الآيات على غير ظاهرها؛ حيث اتُّهموا بالتعطيل، ونُسبوا إلى بعض فرق الغلاة؛ كالمعتزلة والجهمية، وإلى رفع الحرج عن العلماء الذين أخذوا بقول بعض علماء السنة الذين فسروا تلك الآيات على ظاهرها، حيث وصفوهم بالتجسيم والتشبيه ونحو ذلك، وكل فريق من هؤلاء العلماء المعاصرين إنما ساروا على ما سار عليه علماء كبار من أهل السنة والجماعة، فهل نصف أولئك العلماء بهذه الصفات الشنيعة؟!

[mark=99FFFF]وإذا تبين لنا أن المنهج الصحيح هو الحكم على العلماء المخالفين بالخطأ إذا كانوا من أهل الاجتهاد، وعدم جواز تضليلهم أو تبديعهم،فضلاً عن تفسيقهم أو تكفيرهم.. فإن هذا الحكم يسري على كل من اقتدى بهم وأخذ باجتهادهم من أهل العلم وعامة المسلمين.[/mark]

[mark=FFFF00]لكن المشاهد في هذا العصر أن بعض العلماء يتورعون عن الحكم على كبار العلماء السابقين بالضلال والابتداع ويحكمون عليهم بالخطأ، بينما ينبري بعض تلامذتهم للحكم على بعض علماء هذا العصر بالضلال والابتداع، وهؤلاء العلماء المحكوم عليهم هم على منهج أولئك العلماء الكبار، ومع ذلك فإن كثيرًا من العلماء المعاصرين لا ينكرون هذا التناقض في الحكم.[/mark]
ونظرًا لظهور هذا التناقض فإن بعض المتشددين في هذا العصر حكموا على بعض كبار العلماء السابقين بالضلال والابتداع وحرموا قراءة كتبهم، ولو أن العلماء الذين تورعوا عن الحكم على كبار العلماء بالضلال والابتداع عمموا هذا الحكم علىكل من أخذ باجتهادهم؛ لما حصل هذا الغلو الذي باعد بين أهل العلم الديني من المسلمين، وأوجد بينهم شيئًا من العداوة والبغضاء، وعامة المسلمين تبع لأهل العلم منهم، فإذا تفرق أهل العلم وتباعدوا تبعهم في ذلك عامة المسلمين.

[mark=CC0000]إن الذي ينظر إلى النزاع بين طلاب العلم على مر الزمن بسبب الخلاف الدائر بين العلماء المتبوعين في أمور العقيدة.. يشفق على أوضاع هذه الأمة التي تتطاحن وتتناحر بسبب الخلاف بين أهل العلم الديني![/mark]

ولو أن علماء الدين ربَّوا تلامذتهم على المنهج المعتدل، القائم على تخطئة المخالفين لهم حينما يتبين لهم خطؤهم، لا على تجريحهم وتبديعهم وتضليلهم.. لأصبح الجو العلمي الديني هادئًا، ولسادت بين طلاب العلم روح المودة والأخوة القائمة على عذر المخالفين، وعدم معاملتهم معاملة الفساق والكفار في البغض والبراءة، مع اعتصام كل فريق بما يراه هو الحق، ومع قيام المناظرات والردود فيما بينهم على منهج متزن معتدل، لا يفسد المودة ولا يجرح الأخوة الإيمانية بينهم، وبالتالي فإنه لا يترتب على خلافهم تحزبات ولا انقسامات تصل إلى مستوى العامة والمثقفين من غير المتخصصين في الدراسات الإسلامية.


من أقوال الإمام الذهبي
......
...............
 
[align=center]من أقوال الإمام الذهبي
من العلماء الذين رأيت لهم أقوالاً معتدلة في الحكم على العلماء الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ومن ذلك أنه ذكر في ترجمة محمد بن نصر المروزي بعض أقواله في العقيدة، وأنه هجره على ذلك علماء وقته، وخالفه أئمة خراسان والعراق، ثم قال الذهبي: ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه؛ لما سلم لنا لا ابن نصر ولا ابن مَنْدَه ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهوأرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفضاضة([1]).

وقال في ترجمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة: وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة؛ فَلْيعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفُّوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخِّيه لاتِّباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه.. لَقَلَّ من يَسلَم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنِّه وكرمه([2]).
وحديث الصورة المذكور هو ما أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة ط قال: قال رسول الله ج: "خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعًا.."، الحديث، قال أبو بكر ابن خزيمة: فصورة آدم -وهي ستون ذراعًا- التي خبَّر النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خُلق عليها، لا على ما توهم بعض من لم يتحرَّ العلم فظن أن قوله على صورته صورة الرحمن([3]).
وذكر في ترجمة الشيخ أبي اليُمن زيد بن الحسن الكندي انتقاد القفطي له، ثم قال: قلت: ما علمنا عنه إلا خيرًا، وكان يحب الله ورسوله وأهل الخير، وشاهدت له فتيا في القرآن تدل على خير وتقرير جيد، لكنها تخالف طريقة أبي الحسن (يعني الأشعري)، فلعل القفطي قصد أنه حنبلي العقد، وهذا شيء قد سمج القول فيه، فكل من قصد الحق من هذه الأمة فالله يغفر له، أعاذنا الله من الهوى والنفس([4]).وقال في ترجمة الإمام أبي الحسن الأشعري رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة، رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدري: سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته فقال: اشهد عليَّ أني لا أُكفِّر أحدًا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.

قال الذهبي: قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول:أنا لا أكفِّر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي ج: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"([5])، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم([6]).

وقال في ترجمة شيخ الإسلام موفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة: وقال أبو شامة: كان إمامًا علَمًا في العلم والعمل، صنف كتبًا كثيرة، لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم ومعرفته بمعاني الأخبار!

قال الذهبي: قلت: وهو وأمثاله متعجب منكم مع علمكم وذكائكم كيف قلتم! وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى، ولا عجب في ذلك، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلُّب الحق أن يُغفَر له من هذه الأمة المرحومة([7]).

فهذه بعض أقوال الإمام الذهبي في الحكم على العلماء، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد استفاد منه في تسامحه وعدله في الحكم على المخالفين له من العلماء.

13331


من أقوال بعض العلماء المعاصرين

يقول سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح "لمعة الاعتقاد" لموفق الدين ابن قدامة:
وحكم التأويل على ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون صادرًا عن اجتهاد وحسن نية؛ بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله؛ فهذا معفو عنه لأن هذا منتهى وسعه، ..........
الثاني: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية؛ فهو فسق وليس بكفر، إلا أن يتضمن نقصًا أو عيبًا في حق الله؛ فيكون كفرًا.
الثالث: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب، وليس له وجه في اللغة العربية؛ فهذا كفر؛ لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له([8]).

وقد أجرى الأخ خالد الحسينان في مجلة "المسلمون" حوارًا مع الشيخ محمد العثيمين، وفي ذلك يقول: ماذا تقولون لمن يتتبعون أخطاء العلماء وسيئاتهم، ثم يُبرزونها ويسكتون عن حسناتهم بدعوى أن هذه الأخطاء في باب العقيدة؟

فأجاب فضيلة الشيخ: هذا خطأ؛ فالعقيدة كغيرها من حيث إنه قد يقع فيها الخطأ، أفلم يعلم هؤلاء أن العلماء قد اختلفوا في أبدية النار؛ هل هي مؤبدة أو غير مؤبدة؟! وهؤلاء من السلف والخلف، وقد اختلفوا في شيء من العقيدة،فهل نُظهر سيئاتهم؟ الصراطُ الذي يوضع على جهنم؛ هل هو طريق كغيره من الطرق، أو هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف؟! الذي يوزن يوم القيامة؛ هل هو الأعمال أم صاحب العمل أم صحائف الأعمال؟ هل رأى الرسول ربه أم لم يره؟ هل تُعاد الروح إلى البدن فيكون العذاب على البدن والروح أو على الروح وحدها في القبر بعد الدفن؟! كل هذه مسائل في العقيدة واختلف فيها العلماء، فهل نُظهر سيئاتهم أو نرفضهم؟!‍

وفي سؤال آخر عمن أراد أن يقيِّم شخصًا فيذكر مساوئه فقط ولا يذكر ما لديه من خير؛ قال من ضمن جوابه: فالواجب على من أراد أن يقيِّم شخصًا تقييمًا كاملاً إذا دعت الحاجة أن يذكر مساوئه ومحاسنه، وإذا كان ممن عُرف بالنصح للمسلمين أن يعتذر عما صدر منه من المساوئ؛ فمثلاً نحن نرى من العلماء كابن حجر والنووي وغيرهما من لهم أخطاء في العقيدة، لكنها أخطاء نعلم علم اليقين فيما نعرف من أحوالهم أنها صدرت عن اجتهاد؛ فمثلاً نجدهم يؤولون قوله تعالى في [الفجر:22] وجاء أمر ربك؛ لماذا؟! فالله يقول: جاء ربك، وهم يقولون: جاء أمره؛ فهذا خطأ، فإنه لا بدَّ علينا أن نؤمن بأن الله يجيء كيف شاء، لكن نلتمس لهم العذر،ولا نجعل من هذا الخطأ -الذي نعلم أنه صادر عن اجتهاد-لا نجعل منه بابًا للسب والقدح فيهم(
[9]).
وكذلك حينما حقق سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- الأجزاء الثلاثة الأولى من "فتح الباري"، خطَّأَ الشارح الحافظ ابن حجر العسقلاني في مواضع من العقيدة، ولم يحكم عليه بالضلال ولا بالابتداع(1).وهذا الذي سار عليه هذان العالمان الجليلان هو المنهج الصحيح في الحكم على المخالفين.

ومن ذلك ما جاء في فتوى صادرة من اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وقد جاء فيها "موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم؛ ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها.. أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خيـر الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات، وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله، سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك"([10]).
فهذه الاقتباسات من كلام هؤلاء الأعلام السابقين والمعاصرين يستأنس بها في بيان شرعية الاجتهاد في أمور العقيدة كغيرها من أمور الدين؛ لأن الحكم بالخطأ على المخالف وعدم الحكم عليه بالضلال والابتداع بيان لشرعية الاجتهاد في هذه القضايا الخلافية.

والذين يقولون بعدم شرعية الاجتهاد في مسائل العقيدة يقال لهم: إنكم قد اجتهدتم في تفسير نصوص العقيدة؛ حيث إنكم لم تعتمدوا في تفسير كثير منها على نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما بينتم معانيها بناء علـى دلالات اللغة العربية، سواء حملها هؤلاء المفسرون على ظاهرها، أم أولوها بمعانٍ أخرى، وقد اتفق أهل السنة بمختلف طوائفهم على تفسير نصوص معية الله تعالى بالعلم وبالنصر والتأييد.

بل إن هناك نوعًا من التناقض بين بيان معاني نصوص الأسماء والصفات والقول بعدم شرعية الاجتهاد في ذلك؛ لأن بيان معناها يعني أنها من المحكم، أما عدم شرعية الاجتهاد فيها فهو يعني أنها من المتشابه، والقائلون بمنع الاجتهاد فيها يرون أنها من المحكم وليست من المتشابه.

[mark=FFFF99]إنه ينبغي أن تُعرض موضوعات العقيدة بالأسلوب الذي تعرض فيه أبواب الأحكام، وذلك بجمع أطراف الموضوع والنظر فيما عند المخالفين من الأدلة والاجتهادات، ثم ترجيح القول الراجح بالبراهين المقنعة بهدوء وروية، ومن غير هجوم على المخالفين ولا اتهام لهم في معتقداتهم؛ وذلك لأن عرض الموضوعات بشيء من العنف والاعتزاز بالرأي والتهوين مما عند الآخرين يورث في الطلاب الناشئين نوعًا من الشدة في التمسك بالمذهب العقدي الذي نشؤوا عليه؛ لشعورهم المهيمن بأنه الحق الذي لا يقبل النظر، وأن الذي مع الآخرين هو الباطل الذي لا يقبل النظر![/mark]الحق ليس بالكثرة ولا بالقلة

وبعض أهل العلم ينظرون إلى الحق من منظار القلة أو الكثرة، فمنهم من يرى أن الحق مع القلة، ويستدلون على ذلك بحديث الفِرَق([11])، ويقولون: إننسبة أهل الحق إلى أهل الباطل كنسبة واحد إلى ثلاثة وسبعين، وهذا لا دليل فيه على أن أهل الحق عددهم قليل؛ لأنه ليس في الحديث ما يفيد تساوي عدد أهل هذه الفرق، بل إن في إحدى روايات هذا الحديث: فقلنا: انعتهم لنا، فقال: "السواد الأعظم"، ذكره الحافظ الهيثمي من رواية الحافظ الطبراني، وقال: رجاله ثقات، وهذا يفيد بأن أصحاب الفرق الضالة يشذون عن أهل الحق الذين هم جمهور المسلمين.
وكذلك يستدلون بحديث الطائفة المنصورة([12])، وليس فيه دليل على ما ذهبوا إليه؛ لأن الصفات البارزة التي تميز الطائفة المنصورة هي الصفات الجهادية كما سيأتي في الكلام على هذه الطائفة، [mark=66FFFF]فالمعالم المميزة لها صفات عملية، وليست مجرد صفات [/mark]علمية، والموضوع الذي نحن بصدده يرتكز على الجانب العلمي.
وربما استدلوا بقول الله تعالى: " و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك ......[الأنعام:116]، وهذا الاستدلال بعيد
عن الصواب؛ لأن هذه الآية نزلت في الكفار، وهم أكثر أهل الأرض في وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنطبق هذه الآية على العلماء المجتهدين من المسلمين.

وبعض أهل العلم يرون أن الحق مع الكثرة؛ لأنهم هم الجمهور، وقد اعتبر العلماء قول الجمهور في الترجيح.

والصواب -والله أعلم- أن ينظر إلى الحق من خلال الأدلة الشرعية، وأن ينظر في تفسيرها دلالات اللغة العربية، مع مراعاة حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص والمجمل على المبين، وحمل الكلام على الحقيقة إلا إذا دلت القرائن على لزوم حمله على المجاز.. ونحو ذلك.


لمحة تاريخية عن الموضوع :

....
.........
................
[/align]
 
[align=center]

لمحة تاريخية عن الموضوع

لقد دخل أهل السنة والجماعة في صراع جدلي عنيف في القرنين الثاني والثالث مع المخالفين الذين شذوا عن منهج الحق، وخاصة مع الجهمية والمعتزلة، وبلغ الصراع ذروته حينما تمكن المعتزلة من قلب أمير المؤمنين المأمون؛ فأقنعوه بأفكارهم الشاذة التي من أهمها القول بخلق القرآن الكريم! وتحوَّل الصراع الجدلي إلى فتنة مرَّ بها علماء السنة كما هو معروف، وذلك فيما بين عامي ثمانية عشر ومائتين وأربعة وثلاثين ومائتين، وكان ذلك التمكين سببًا في انتشار مذهب المعتزلة، إلى أن خُضدت شوكتهم في عهد أمير المؤمنين المتوكل الذي كان مقتنعًا بمنهج أهل السنة، فصار الصراع بينهم وبين أهل السنة فكريًّا خاليًا من الضغوط السلطانية، فألَّف عدد من علماء السنة كتبًا في الرد على الجهمية والمعتزلة، ومن هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وقد اشتهر أهل السنة آنذاك بالانتساب إلى الحديث النبوي، فكانوا يسمَّون "أهل الحديث"، ولما برز الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن السنة نُسب أهل السنة إليه فكانوا يسمَّون "الحنابلة".
وقد ظلت المعارك الجدلية قائمة بين علماء السنة ومخالفيهم من المعتزلة والجهمية، إلى أن برز في الميدان أحد أقطاب المعتزلة؛ وهو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، حيث رفض مذهب المعتزلة، وأعلن على المنبر توبته، وذلك في عام ثلاثمائة، وقام بمناظرة علماء الاعتزال حتى أفحمهم وحصرهم، وقد ساعده على ذلك حدة ذكائه وقوة فهمه، ومعرفته الدقيقة بمذهب المعتزلة؛ حيث بقي معهم أربعين سنة، وقد بدأ آنذاك نجمهم بالأفول وتقوقعوا في دوائر ضيقة.
وفي ذلك يقول الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم( )!
وقد أعلن أبو الحسن الأشعري عند رجوعه إلى مذهب أهل السنة أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي ذلك يقول: "قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكتاب ربنا  وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم مفخم"( ).
وقد كان من أسباب شهرته وانتشار مذهبه أنه حاول التوفيق بين الاتجاهات العقدية السائدة في عصره، حيث اعتمد في مذهبه على الكتاب والسنة، ثم أثبت بعض الصفات على ظاهرها، وأوَّل بعضها الآخر، [mark=66FFCC]فكان دفاعه عن الكتاب والسنة وردُّه القوي على المعتزلة والجهمية قد جعل له حظوة كبيرة عند أهل الحديث، وتأويله لبعض الصفات قد جذب إليه قطاعًا من العلماء لا يرون الأخذ بالظاهر في بعض نصوص الصفات.
وقد سُمِّي أتباع هذا المذهب "الأشاعرة"، وظل الوئام بين أهل الحديث وبين الأشاعرة، [/mark]وأصبحوا جميعًا ضد المعتزلة ونحوهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: "والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم، وإنما وقعت الفُرقة بسبب فتنة القشيري"( ).
ويذكر ابن تيمية عن أبي القاسم بن عساكر أنه قال: "ما زالت الحنابلة الأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين، حتى حدثت فتنة ابن القشيري"( ).
[mark=FF99FF]ويقول أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في هذا المعنى: "ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على مَرِّ الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع؛ لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم،[/mark] فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري"( ).
ويلخص الحافظ ابن رجب هذه الفتنة بعد أن ذكر ما قام به الحنابلة من إنكار المنكرات عام أربعة وستين وأربعمائة؛ بقوله: ومضمون ذلك أن أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به! فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة، وقُتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأُخِذت ثياب!!
وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور؛ يعنون العبيدي صاحب مصر، وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي، وأنه ممالئ للحنابلة، لا سيَّما والشريف أبو جعفر ابن عمه... إلخ( ).
ولأبي الحسن الأشعري كتب صرح فيها بإثبات الصفات وعدم التأويل؛ مثل كتاب "الإبانة عن أصول الديانة"، ولكن منهجه الذي اشتهر عنه والذي عليه من انتسب إليه؛ هو إثبات بعض الصفات وتأويل بعضها.
وهذا الأمر لا يهمنا في هذه الرسالة؛ لأنه ليس الغرض هو التحقيق في مذهب أبي الحسن الأشعري، وإنما المقصود هو المذهب المشهور الذي يُنسب إليه ويأخذ به طوائف من العلماء، ولا يزال يتبعه عدد كبير من العلماء وعامة المسلمين.
وفي الوقت الذي ظهر فيه أبو الحسن الأشعري في العراق تقريبًا ظهر أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي في بلاد ما وراء النهر، وقد التقَتْ أفكارهما على اعتماد الكتاب والسنة في الاستدلال، مع إثبات الأسماء وبعض الصفات، وتأويل بعض الصفات، على خلافٍ بينهما في ذلك، والرد على المعتزلة والجهمية في هذا الباب.
ونستفيد من هذا البيان أن أهل السنة كانوا في القرون الثلاثة الأولى لا يتعرضون لتأويل شيء من نصوص الأسماء والصفات على خلاف ظاهره، إلا بشكل نادر؛ كألفاظ المعية، ثم حدث الصراع الفكري بينهم وبين المعتزلة الذين نفوا جميع الصفات.
وقد كانت ردود أهل السنة تعتمد في ذلك العهد على الاستدلال بالكتاب والسنة، واستبعاد التوغل في المباحث العقلية.

وبعد ظهور أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في بداية القرن الرابع
[mark=FF9999]صار أهل السنة على اتجاهين:[/mark]
الأول: التمسك بظاهر النصوص الشرعية؛ وذلك في إثبات معاني الصفات مع تنـزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد سُمِّي هؤلاء أهل الحديث ثم غلب عليهم التسمية بالحنابلة.والثاني: التمسك بظاهر النصوص في بعض الصفات، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وتأويل بعضها الآخر؛ لأنه في نظرهم يوهم التشبيه، وقد اشتهر بهذا المذهب الأشاعرة والماتريدية.
[mark=FFFF99]وكان هؤلاء مقبولين عند أهل الحديث من بداية القرن الرابع إلى ما بعد منتصف القرن الخامس؛ لدفاعهم عن السنة ووقوفهم القوي ضد الجهمية والمعتزلة، ولم يتجاوز الخلاف بينهم حدود الحوار العلمي، مع التورع عن الاتهام في العقيدة والحكم بالضلال أو البدعة، وإنما كانوا يعتمدون على مبدأ الحكم بالخطأ على المخالف إذا كان من أهل الاجتهاد، إلى أن ظهر ابن القشيري الذي سبق ذكره،[/mark] وكان متعصبًا لمذهبه إلى حد الغلو والتشدد، فحوَّل الخلاف الدائر بين[mark=9999FF] طائفتي أهل السنة [/mark]إلى شقاق ونزاع، ومن ذلك الوقت كان الصراع العنيف يظهر على فترات من التاريخ، وأصبح الحكم على المخالفين يتسم بالاتهام بالضلال والبدعة وبالكفر أحيانًا! كما سيتبين من عرض نماذج من ذلك.
وفي العصر الحديث بلغ الصراع العقدي أشده بين بعض علماء الطرفين، وتبادل بعضهم الاتهامات بالضلال والبدعة، خصوصًا من طلاب العلم.
والمنهج الحق أن تتسع صدور الفريقين للنقد الهادف، وأن يكون هناك حوارات علمية تقوم على اعتبار قواعد الأخوة الإسلامية والأدب العلمي، مع استبعاد قضية البراءة من المخالفين ووصفهم بالابتداع والضلال، فضلاً عن الفسق والكفر.
إن هذا الصراع الفكري بين علماء المسلمين قد شغلهم عن ميادين المعركة الحقيقية مع المخالفين من الأعداء أو المنتسبين للإسلام، وإن من أهم علامات نجاح الداعية أن يدرس واقع الجاهلية المعاصرة له بتمعن وتعمق، مع فهم واقع المسلمين الفكري والسلوكي، ثم يركز دعوته على محاربة المخالفات السائدة في عصره، فهذا يجاهد في ميدانه الحقيقي الحيوي.هذا؛ وإن من أبرز الأمثلة على النجاح في هذا المجال دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قد نجح نجاحًا باهرًا، حيث قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، فقام بالرد على المخالفين بعلم راسخ وهدوء وروية أحيانًا، وبعنف أحيانًا أخرى حينما يقتضي المقام ذلك، فاستطاع أن يشد طلاب العلم إلى الكتاب والسنة، وأن يقلص من الآثار الفكرية البعيدة عن هذا المنهج، ولكن ليس من الحكمة ولا من فقه الدعوة أن نعيد المعارك العلمية التي خاضها ابن تيمية في هذا العصر؛ لأن لكل عصر مخالفات متميزة وصورًا للجاهلية تختص بكل عصر.
كذلك فإن من أبرز أمثلة هذا النجاح دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب فإنه قد نجح في دعوته نجاحًا كبيرًا، فهو قد قرأ كتب ابن تيمية واستفاد منها، ولكنه لم يسر على منهاجه في الدعوة، وإنما قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، ثم قام بتركيز دعوته على تصحيح المفاهيم الإسلامية حول تلك المظاهر، فنجده مثلاً في كتابه المتميز الذي يعتبر أهم كتبه؛ وهو كتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد".. يركز في جُلِّ أبوابه على تصحيح المفاهيم حول توحيد الألوهية، وذلك بعد دراسة المخالفات في ذلك في عصره وعلاجها على ضوء الكتاب والسنة، بينما لم يعقد للحكم بما أنزل الله تعالى إلا بابًا واحدًا؛ وذلك لأن المحيط الذي يعيش فيه لا يحتاج إلى ذلك، حيث إن الأحكام تقوم على المحاكم الشرعية، كما أننا نجده لم يعقد للأسماء والصفات إلا بابًا واحدًا؛ لأن المخالفات السائدة في محيطه ليست في هذا المجال، فكان ذلك من أسباب نجاحه في تصحيح المفاهيم السائدة في مجتمعه وإقامة دولة إسلامية كبيرة.
ولو أنه طبق منهج ابن تيمية بالكامل؛ فشغل نفسه بالردود على المخالفين من أصحاب المناهج العقلية والباطنية وغلاة الصوفية ونحوهم.. لوافاه الأجل ولم يصنع شيئًا سوى إضافة كتب حول هذه الموضوعات إلى المكتبة الإسلامية!!
وقد تغيرت الأوضاع في عصرنا الحاضر، فظهرت صور للجاهلية لم توجد من قبل؛ كالمذاهب الفكرية المنبثقة من الشيوعية والحضارة الغربية، وتضخم وجود بعض الصور التي كانت ضئيلة في الماضي؛ كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وتوجيه السياسة على غير منهج الإسلام، وحصر مفاهيم الإسلام في نطاق ضيق، وتضاءلت في بعض البلاد صور كانت كبيرة في العصور الماضية؛ كعبادة الأموات والأشجار والأحجار.
فليس المطلوب من الدعاة أن يركزوا على دراسة صور من الجاهليات القديمة، ولا أن يعيدوا دراسة المباحث الكلامية في مجالات النقد والردود على المخالفين بالمنهج نفسه الذي سار عليه المصلحون السابقون، وإنما لكل عصر دولة ورجال، والبراعة كل البراعة في دراسة الأوضاع المعاصرة دراسة دقيقة عميقة، ثم تسليط الأضواء عليها من خلال الكتاب والسنة، مع الاستفادة من اجتهادات أعلام الدعوة السابقين في دراستهم أوضاع مجتمعاتهم، والقيام بالدعوة في تصحيح المفاهيم الخاطئة وتوجيه الأمة على هدى الإسلام الحنيف.
ولقد كان للسلف من علماء الأمة الربانيين اهتمام كبير بهذا الجانب، ومن هؤلاء العلماء الإمام سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله، ومن الوصايا الحكيمة والتوجيهات السديدة التي جاءت عنه في ذلك؛ ما رواه عطاء بن مسلم قال: قال لي الثوري: إذا كنت بالشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر( )!
فهذا التوجيه يُعدُّ مثالاً للحكمة في الدعوة؛ حيث يكون وراء
إيراد النصوص غرض تربوي، يُقصَد منه التخفيف من مغالاة المتجهين نحوالغلو في قضية معينة،
فأهل الشام لما كان بعضهم يتجاهلون مناقب علي بنأبي طالب أو يستخْفُون بذكرها؛ كان من الحكمة الجهر ببيانها، ولما كان بعض أهل الكوفة يتَّجهون نحو الغلو في علي بن أبي طالب وبنيه، ويغضُّون الطرف عن بيان فضائل أبي بكر وعمر؛ كان من الحكمة بيان فضائلهما، وكذلك فضائل عثمان رضي الله عن الجميع؛ وذلك ليحصل الاتزان عند جميع تلك الطوائف.
وهذا يُعدُّ نموذجًا من نماذج الدعوة الناجحة؛ حيث إنَّ مِنْ أهم عوامل نجاح الدعوة أن يتصدَّى الداعية لبيان الأمور التي تجاهلها الناس، أو وقعوا فيها بما يخالف الإسلام، فيكون بذلك قد شخَّص أدواء الأمة وأرشد إلى دواء تلك الأدواء، أما أن يأتي إلى الأمور التي قد طبقها الناس وأَلِفُوها فيتحدث عنها فإنـه لن يأتي بجديد، ولن يكون له عمل فعال في الإصلاح والتجديد، وإنما قد يؤكد أمورًا قد عرفها الناس وألفوها.
[/align]
 
[align=center].....
بين قضايا الفقه وقضايا العقيدة

إننا حينما ننظر إلى قضايا العقيدة وقضايا الفقه؛ نعجب كيف اتسعت دائرة أفهام العلماء وتصوراتهم للخلاف في الأمور الفقهية، وإن كانت كبيرة تمس أصول هذا العلم وكلياته، بينما لم تتسع للخلاف في أمور العقيدة حتى في الجزئيات والفرعيات! مع أن قضايا العقيدة والفقه كلها داخلة في أمور الدين، وكلها أمور تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، فنجد العلماء مثلاً يختلفون في الحكم على تارك الصلاة تكاسلاً هل يكفر أولا يكفر؟ فلا يُحكَم على المختلفين ببدعة ولا بضلال، مع أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الإسلام الذي يقوم عليه بناؤه، بينما يُحكم على من اجتهد في تأويل آية أو حديث مما يتعلق بالعقيدة بالابتداع والضلال إذا خالف ما عليه من حكم بذلك!!
وتجد المقتنعين بهذا التفريق يسوغون رأيهم بأن ترك الصلاة تكاسلاً كفر عملي، ولا أدري كيف ساغ لهم أن يفرقوا بين الكفرين العملي والاعتقادي! فكلاهما كفر إما أصغر أو أكبر، وترك الصلاة تكاسلاً على رأي هؤلاء كفر مخرج من الملة، بينما هم لا يقولون بأن تأويل آية أو حديث في الصفات على خلاف ظاهره كفر مخرج من الملة، فكيف ساغ الخلاف في قضية تُخرج من الملة أو يبقى معها المسلم على إسلامه، ولم يسغ في قضية قد اتفق جميع أهل السنة على أن إثباتها على ظاهرها أو تأويلها لا يخرج من الملة؟!

وإذا كانت قضايا العقيدة من الأمور الثوابت؛ التي لا يتغير فيها الاجتهاد بتغير الزمان، فكذلك أمور العبادات في الفقه، ومع ذلك اختلف العلماء في بعض أحكامها ولم يترتب على ذلك ما ترتب على الخلاف في أمور العقيدة.

ولا يعني القول بجواز الاجتهاد في أمور العقيدة أن يُفتح الباب على مصراعيه لكل من هبَّ ودبَّ، بل إنه ينطبق عليه ما ينطبق على الاجتهاد في أمور الفقه المماثلة من الشروط والاعتبارات، فما يشترط للاجتهاد في العبادات يشترط توافره في العقائد.

وإن أول أسباب انقسام الأمة وظهور الفرق كان بسبب[mark=FFFF66] الاجتهاد في أمور الدين ممن ليسوا أهلاً للاجتهاد؛[/mark] حيث اجتهد الخوارج في فهم أمور الدين ولم يكونوا من أهل العلم فضَلُّوا وأضلوا من تأثر بهم، وعانت منهم الأمة الإسلامية ألوانًا من البلاء،

[mark=FF9900]وما يزال يخرج من ضئضئهم من هم على شاكلتهم في قلة الفهم وادعاء الاجتهاد، والخروج على المسلمين بأفهام غريبة تشبه أفهام أسلافهم من الخوارج.[/mark]

وكما أن الخوارج قد حكم عليهم العلماء بالشذوذ؛ لحكمهم -مثلاً- على أصحاب الكبائر بالكفر والخلود في النار.. فإن الذين يخالفون في حكم الأمور الشركية الواضحة؛ كدعاء غير الله تعالى والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا هو جل وعلا، يعدُّون شاذين عن اعتقاد أهل السنة؛ لأنهم ليسوا من العلماء المتأهلين للاجتهاد؛ حيث فقدوا شرطًا مهمًّا من شروط صحة الاجتهاد وهو العلم بالكتاب والسنة، فلا عبرة بقول من أجاز ذلك، بل يُحكم عليه بالضلال لمخالفته الصريحة الواضحة للكتاب والسنة.


نماذج من الخلاف العقدي بين العلماء :


إلى جانب ما سبق ذكره من الخلاف بين العلماء في موضوع صفات الله جل وعلا؛ فقد اختلف بعضهم في فهم بعض النصوص الشرعية، واختلف بسبب ذلك اجتهادهم وحكمهم في تلك المسائل التي اختلفوا فيها؛ وذلك كاختلافهم في مسألة شدِّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع من ذلك بعضهم بناء على فهمهم لعموم المستثنى منه في قول رسول الله ج:"لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى"، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري م([1])؛ فجعلوا شد الرحال لهدف ديني لا يجوز إلا إلى المساجد الثلاثة، وأجاز بعضهم ذلك باعتبار أن الحديث خاص في المساجد، وأن المستثنى منه عموم المساجد للعبادة فيه إلا للمساجد الثلاثة([2]).

كما اختلفوا في جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فأجازه بعضهم مستدلاً بحديث الأعمى، وهو ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي -رحمهما الله- من حديث عثمان بن حنيف ط: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعُهْ، قال:
فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي لتُقضى حاجتي، اللهم فشفعه في"، قال: ففعل الرجل؛ فبرأ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح([3])، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله([4])، ومنعه بعضهم استدلالاً بعدم توسل الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، كما أخرج أبو عبدالله البخاري -رحمه الله- من حديث أنس بن مالك ط: أن عمر بن الخطاب ط كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب ط، فقال: اللهم إن كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون([5]).

وليس من مقاصد هذه الرسالة بيان الراجح من أقوال العلماء، وإنما المقصود الإشارة إلى عدم جواز الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد والتقوى بالابتداع والضلال، وإنما إذا كان المخالف يعتقد خطأهم يبين أنهم أخطؤوا في اجتهادهم، ويوضح ما يراه الصواب في ذلك.
[/align]

أثر الخلاف في تفريق جماعة المسلمين
([1]) البخاري (1189)، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، مسلم (827)، في الحج.

([2])انظر في هذا الموضوع: فتح الباري (3/63).

([3])مسند أحمد (4/138)، سنن الترمذي (3578)، في الدعوات.

([4])صحيح الجامع الصغير (1290).

([5])البخاري (1010)، في الاستسقاء.
 
[align=center].........
أثر الخلاف في تفريق جماعة المسلمين :


إن جماعة المسلمين تقوم على علماء الدين؛ لأن المسلمين تبع لعلمائهم، فإذا اتفق علماء المسلمين على أمر وسط لا يفرقهم ولا يفسد ذات بينهم؛ فإن جماعة المسلمين تقوم بهم، سواء اتفقوا على رأي واحد أو تمسك كل فريق منهم باجتهاده؛ لأنهم حينما يأخذون جميعًا بمنهج تخطئة المخالف المجتهد وعدم الحكم عليه بضلال أو ابتداع؛ فإن وحدة القلوب تظل قائمة، وبإمكانهم بما بينهم من مودة وتآلف أن يتفاهموا على الأمور العملية التي لا بدَّ فيها من وحدة الكلمة، وإذا تم ذلك بين العلماء فإن هذه الروح الأخوية والمودة الإيمانية تسري إلى كل طبقات الأمة.


إن الذين يضعون في حسابهم أهمية قيام جماعة المسلمين وتوحيدهم على هدف واحد؛ تكون دعوتهم أعظم تحصينًا من حدوث الفرقة في الدين؛ ذلك لأنهم يأوون في دعوتهم إلى ركن شديد؛ وهو الدعوة إلى اجتماع كلمة المسلمين، فأي خلاف يجري بين من يؤمنون بأهمية هذا المطلب العظيم، فإنه يعالج سريعًا إذا علموا بأنه سيكون له أثر في تحطيم هذا الأصل أو إضعافه.


ومن الأدلة الواضحة على أهمية لزوم الجماعة واجتناب الفرقة؛ ما جاء في قول الله تعالى حكاية عن هارون عليه الصلاة والسلام "قال يا ابن أمَّ لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل و لم ترقب قولي "[طه:94]، فهذه الآية تدل على أن من الأمور المهمة التي اتفق عليها موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- وجوب الحفاظ على جماعة بني إسرائيل، واجتناب كل الأمور التي تفرق وحدتهم، حتى أصبحت خشية الفرقة مانعًا لهارون من الإنكارالشديد على قومه حينما عبدوا العجل، مع أنهم قد وقعوا في أمر من الشرك الأكبر.

فكان عمل هارون الاكتفاء بالنصح والوعظ وبيان حقيقة التوحيد والشرك، ولو أنه انتقل إلى مرحلة الإنكار بالقوة فقام بتحطيم العجل فإن بني إسرائيل سينقسمون إلى فرقتين؛ فرقة تؤيده، وفرقة تخالفه، وحيث إن الذين عبدوا العجل لم يصروا على الشرك وهم يعلمون أنه شرك، وأنهم قد دخلوا في شبهة لبَّسها عليهم السامري، وأنهم أظهروا الإصرار على ما هم عليه حتى يرجع إليهم موسى؛ فإن هارون غلَّب جانب الإبقاء على جماعتهم، وهو يعلم أن مخالفتهم تلك ستنتهي حال عودة موسى.

فإذا كان هارون قد تركهم على شركهم ذلك حفاظًا على جماعتهم؛ فإن مما ينبغي ويتأكد الحذر من التفرق بين المسلمين من أجل الخلاف على قضايا جزئية؛ سواء كانت في مجال العقيدة أو في مجال العمل.


ونجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على تآلف مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، والابتعاد بهم عن جميع الأسباب التي تؤدي إلى حدوث النزاع والفرقة بينهم، فمن ذلك ما جاء في حديث أخرجه الحافظ أبو عبدالله البخاري من رواية أبي هريرة ط قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: "كلاكما محسن،ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"([1]).

فعلى الرغم من كون كل واحد منهما محسن وعلى الصواب لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءتين، فإنه كره ما جرى من هذين الصحابيين مما يشعر بالتنازع، ونهى الصحابة عن الاختلاف، وبين أنه يؤدي إلى الهلاك.

[mark=FFFF33]ومن ذلك عفوه صلى الله عليه وسلم المتكرر عن زعيم المنافقين عبدالله بن أُبَيِّ بن سلول، على الرغم من تفوهه بكلمات الكفر والإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، [/mark]ومن ذلك ما جرى منه في غزوة المريسيع، وقد أخرج خبره في ذلك الإمام البخاري من حديث جابر بن عبدالله م قال: كنَّا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار (أي ضربه برجله من الخلف)! فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال دعوى جاهلية؟!"، قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: "دعوها؛ فإنها منتنة"، فسمع بذلك عبدالله بن أُبَيٍّ فقال: أَوَ قد فعلوها؟! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!! فبلَغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم،:

"دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"([2]).


وأخرجه محمد بن إسحاق مطولاً، وفيه قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبدالله -يعني ابن عبدالله بن أُبَيٍّ- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدَّ فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه! فوالله لقد علمَت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله؛ فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس، فأقتلَه، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر؛ فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا"!!


وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرحين بلغه ذلك من شأنهم: "كيف ترى يا عمر؟! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله؛ لأرعدت له آنُفٌ([3]) لو أمرتها اليوم بقتله لقتلتْه"!

قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري([4]).
وهكذا نجد الصحابة رضي الله عنهم يهتمون بجمع كلمة المسلمين، والقضاء على كل سبب يؤدي إلى فرقتهم، ومن ذلك اهتمام أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بجمع المسلمين على مصحف واحد، وإحراق بقية المصاحف التي تحتوي على أحرف أخرى، مع ثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم؛وذلك حينما شعر بأنها أصبحت سبباً في وقوع الخلاف بين المسلمين،ووافقه على ذلك الصحابة .

غير أنه لا يجوز في سبيل الوصول إلى هذا الهدف أن يتهاون الدعاة في تصحيح مفاهيم المسلمين عن الإسلام، ومعالجة الانحرافات الفردية والجماعية، بل يجب عليهم الاهتمام بذلك، مع مراعاة عدم تأثير هذه الدعوة على إضعاف الهدف الكبير؛ وهو جمع كلمة المسلمين.

وهذا هو المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ وهو الجمع بين الأمرين، مع إعطاء الأهمية لتحقيق الهدف الكبير؛ وهو قيام جماعة المسلمين وحمايتها من الضعف والانهيار.


إن التفرق في الدين أقوى الوسائل التي تضعف جماعة المسلمين وتفرق شملهم؛ لأن التفرق في هذه الحال يكون بين طوائف مختلفة، كل واحدة ترى أن الحق معها فهي تدافع عما تراه هو الحق بحماسة شديدة، وهذا بتأثيره يؤدي إلى حدوث النزاع والخلاف بين هذه الطوائف، وإن أي نزاع وخلاف يكون بين طوائف المسلمين فهو خدمة تُقدَّم لأعداء الإسلام،فيستفيدون منها في محاولتهم القضاء على الإسلام والمسلمين.

[mark=6666FF]فقد جاء –مثلاً- في كتاب (ريتشارد. ب. ميتشل) إلى رئيس هيئة الخدمة السرية بالمخابرات المركزية الأمريكية، ضمن التوصيات التي قدمها لغزو المسلمين فكريـًّا: "تعميق الخلافات المذهبية والفرعية وتضخيمها في أذهانهم"([5]).[/mark]

وما جاء في هذه التوصية مطبَّق تمامًا في المجتمع الإسلامي المعاصر؛ فهل هو ناتج عن سعيهم الحثيث في إيقاع الفرقة والخلاف بين المسلمين؟ أم أنَّ المسلمين قدَّموا لهم هذه الخدمة من غير أن يبذلوا فيها جهدًا؟! أم أن واقع المسلمين جامع بين المصيبتين؟!

وهكذا تبين لنا أن بعض المختلفين في بعض أمور العقيدة يرتبون المحبة والبغض على الوفاق أو الخلاف في أمور العقيدة، وإن كان المخالف مجتهدًا وهو من أهل الاجتهاد أو كان تابعًا لمن كان كذلك، وهذا خطأ كبير وخطر عظيم، فالمحبة والبغض يترتبان على مقدار ما عند المسلم من التقوى أو ظلم النفس، فنحب المتقين لتقواهم، وإن خالفونا في باب العلم في بعض مسائل الدين إذا كان خلافهم على الوضع المذكور؛ لأنهم لم يتعمدوا مخالفة شريعة الله تعالى، ونكره الظالمي أنفسهم؛ وهم المقصرون في جانب الواجبات أو المرتكبوبعض المعاصي، بقدر ما فيهم من المخالفة؛ لأنهم تعمدوا مخالفة شريعة الله -جل وعلا- في ذلك، وإن وافقونا في باب العلم، ونحبهم بقدر استقامتهم، فنحن نحبهم لما هم فيه من الهداية في مجالي العلم والعمل، ونبغضهم لما هم فيه من المخالفة المتعمدة.


ولا أنسى حوارًا دار بين أستاذين؛
أحدهما يحكم على الناس بمقياس التقوى؛ أخْذًا من قول الله تعالىفي سورة[الحجرات:13] " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " والآخر يحكم على الناس بمقياس الاتجاه العقدي في الأمور الخلافية، فأثنى الأول على زميل لهما باتصافه بالورع والتقوى، وهو ممن ينتقده الثاني في بعض مسائل العقيدة، فقال: ليته لم يكن كذلك، فهو يرى أن كونه متوسطًا في جانب التقوى مع ما هو فيه من خلل عقائدي أخف ضررًا، ويريد منه أن يكون معه في كل المفاهيم العقدية وإن كان ضعيفًا في التزامه واستقامته!! وهذا نوع من الخلل في موازين الحكم علىالمسلمين.


ومن مظاهر هذا الخلل أنك تجد بعض أفراد الفريقين المختلفين في بعض أمور العقيدة ينظر كل واحد منهما لأفراد الفريق الآخر نظرة بغض ونفور، وإذا كان بعض هؤلاء مسؤولين فإنه يكفي في حرمان أفراد الفريق الآخر من المصالح والمناصب الدينية كونه من أفراد الفريق الآخر، ويجعلون أمر التقوى والكفاءة العلمية أمرًا ثانويـًّا بعد الموافقة الكاملة في المنهج العقدي!!
وربما كان هذا السلوك -إضافة إلى ذلك- محكومًا بإرادة الانتقام من أفراد الفريق الآخر إذا سبقت منهم معاملة بهذا السلوك، فتتحول العملية إلى صراع وتنافس ذميم بين إخوة يجمعهم هدف واحد؛ هو ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة، ويسيرون على شريعة واحدة وإن اختلفت أفهامهم في بعض تفاصيلها.


إن الربط بين الخلاف في أمور الدين وبين البغض والبراءة يفرق جماعة المسلمين، وإن الذين يستفيدون من ذلك هم أعداء المسلمين، وهذا الاعتقاد القلبي في بغض المخالفين والبراءة منهم قد لا يتجاوز في البداية حدود النقد، وربما تجاوز ذلك إلى عدم السلام على المخالفين وعدم الصلاة خلفهم وعدم مجالستهم! ولكنه قد يتطور بعد ذلك إلى منابذة وتناحر!! ولا يمكن لهؤلاء المتناحرين أن يواجهوا أعداءهم بقوة؛ لأن أغلب طاقتهم مصروف للتناحر فيما بينهم.


مثل من آثار الاعتدال في الحكم على المخالفين :


لقد جرَتْ لي في تطبيق هذا المنهج قصة أذكرها وإن كانت من باب الحديث عن النفس؛ لما فيها من العبر النافعة :
[/align]


([1])البخاري (3476)، في أحاديث الأنبياء.

([2])البخاري (4905)، في التفسير.

([3]) جمع أنف، وذلك كناية عن الغضب الشديد.

([4])سيرة ابن هشام (3/375).

([5])مجلة المجتمع، عدد (790).
 
[align=center]مثل من آثار الاعتدال في الحكم على المخالفين

لقد جرَتْ لي في تطبيق هذا المنهج قصة أذكرها وإن كانت من باب الحديث عن النفس؛ لما فيها من العبر النافعة.
هذه القصة تتلخص في أنني كنت مدرسًا في معهد الحرم المكي ما بين عامي سبعة وثمانين وثلاثمائة وألف وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وكان من بين طلاب ذلك المعهد طالب من اليمن نبيهٌ، قوي الشخصية، متصلب في التمسك بما يعتقده، وقد كنت أدرِّس طلاب المعهد في السنة الرابعة منه في مادة التوحيد رسالة "الواسطية" للإمام ابن تيمية رحمه الله، فاعترض ذلك الطالب بشدة على موضوع إثبات جميع الصفات، وظل يناقش في كثير من الدروس ذلك العام، وكنت ألاطفه وأفتح له صدري على الرغم من انفعاله الشديد في أثناء المناقشات، وكنت أُقدِّر فيه اتصافه بالتقوى والحماسة الدينية والدفاع بقوة عما يراه هو الحق، ولما حضر الاختبار كتب ما كنت قررته في الدروس، ثم كتب: هذا ما قرره الشيخ، والذي أعتقده هو كذا كذا، وكتب معتقده في ذلك، وقد قدرت له هذه الصراحة فأعطيته الدرجة الكاملة في المادة!!
وفي السنة الخامسة للمعهد درَّست الطلاب رسالة "الفتوى الحموية" للإمام ابن تيمية، وسار معي ذلك الطالب مثل سيره في العام الماضي، وعاملته بالمعاملة نفسها، وكتب في الاختبار مثل ما كتبه في العام الماضي، وأعطيته الدرجة الكاملة!
وفي السنة السادسة درَّست الطلاب رسالة "التدمرية" للإمام ابن تيمية، وفي أثناء الشرح والتقرير قال ذلك الطالب: أما الآن؛ فإن الشيخ -يعني ابن تيمية- لم يترك مجالاً للمعارضين، ثم سار معي في الدراسة من غير مناقشة، وظهر منه الاقتناع بما قرره الإمام ابن تيمية في توحيد الأسماء والصفات.
ثم انتقلت أنا إلى الدراسات العليا في جامعة أم القرى، وأكمل ذلك الطالب المعهد والتحق بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، وتخرج منها وعاد إلى بلاده، وكوَّن له حلقة دراسية كبرت فيما بعد وزاد عدد أفرادها، وصارت له شهرة كبيرة!!
وكنت أقول في نفسي في أثناء تلك المناقشات: هذا الطالب وأمثاله نشؤوا في مجتمع علمي يرى تأويل بعض الصفات، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، بينما أنا وأمثالي نشأنا في مجتمع علمي يرى عدم تأويل شيء من نصوص الصفات على خلاف ظاهره، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، ولو أني نشأت في مثل المجتمع العلمي الذي نشأ فيه ذلك الطالب لكنت مثله في الغالب، فلماذا أعتقد فيه الضلال والابتداع في اعتقاد لولا فارِق المنشأ العلمي لكنت مثله فيه، أليس الأرفق بي وبه والذي هو من مقتضيات الأخوة الإسلامية أن أحكم عليه بالخطأ وأن يحكم علي هو بذلك، ثم إنْ أقنعته بما أنا عليه رجع إلى الصواب، وإن أقنعني بما هو عليه رجعت إلى الصواب، من غير أن يحصل بيننا تضليل ولا تبديع ولا بغض ولا براءة؟! وإن ظل كل واحد منا على قناعته فلن يؤثر ذلك على ما بيننا من أخوة ومحبة، ما دام الحكم بيننا لا يتجاوز مرحلة التخطئة.وإن العبرة التي نخرج بها من هذه القصة أنه ينبغي للعالم المربي تطبيق أسلوب اللين والتفاهم مع المخالفين في العقائد وغيرها من العلم، على اعتبار أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه، ما داموا مجتهدين أو تابعين لعلماء مجتهدين، وعدم تبديعهم أو تضليلهم، والإبقاءُ على محبتهم القلبية وأخوتهم الدينية وعدمُ البراءة منهم، ولقد طبقت هذا المنهج مع ذلك الطالب النجيب لمدة سنتين ونصف؛ حتى اقتنع بما كنت أقرره آنذاك من غير ضغط ولا إكراه.
وربما لو كنت عاملته بالشدة وعددته مبتدعًا ضالاًّ لزاد تمسكه بمعتقده، خصوصًا فيما لو طُبِّق عليه ما هو معروف غالبًا من فصل الطالب من الدراسة إذا هو جاهر بمعتقده، الذي يراه بعض المسؤولين بدعة وضلالة.إنك حينما تجادل إنسانًا من أهل العلم في أمر ترى أنك فيه على الحق ويرى هو أنه على الحق، فتقول له: أنت ضال مبتدع، فإنه سيقول لك في الوقت نفسه: بل أنت الضال المبتدع! وإن لم يستطع أن يقولها بلسانه فإنه يعتقدها بقلبه، وهل يرجو الإنسان الداعية من إنسان آخر يضلله ويبدعه أن يسمع لقوله وأن يقتنع برأيه؟!
إن الذي يُلوِّح بالهجوم المضاد على الآخرين ويتهمهم في عقائدهم يكون قد أقام بينهم وبينه سدًّا منيعًا يصعب اختراقه، وبالتالي فإنه يبعد من هذا المهاجم أن يصل إلى قلوب من يريد دعوتهم مهما أوتي من حجة وبلاغة.

من نتائج الحيدة عن هذا المنهج


هذا المنهج الذي تم بيانه؛ وهو الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد بالخطأ وعدم الحكم عليهم بالابتداع والضلال.. هو المنهج المعتدل الذي يضمن -بإذن الله تعالى- بقاء المودة والتفاهم بين علماء المسلمين مع اختلافهم في الاجتهاد.
ولقد ظهرت نتائج سيئة للحيدة عن هذا المنهج على مدار التاريخ الإسلامي، فمن هذه النتائج ظهور الفتن والخلافات الحادة بين علماء المسلمين، وسأكتفي بذكر ثلاثة من العلماء الذين حصل لهم أذى واضطهاد بسبب اعتقادهم:

محنة الإمام أحمد بن حنبل:

فالعالم الأول هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وقد كان امتحانه بالقول بخلق القرآن، وقد بدأت هذه المحنة في أواخر عهد أمير المؤمنين المأمون، وذلك في سنة ثمان عشرة ومائتين، بعد أن أقنعه دعاة المعتزلة بهذه العقيدة؛ وهي أن القرآن مخلوق، فاعتنق ذلك، ثم أقنعوه بضرورة حمل العلماء على القول بهذه العقيدة بالقوة، فكتب المأمون من مَقَرِّ غَزْوه في بلاد الروم إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم في امتحان العلماء في ذلك.
وقد وصف المأمون علماء السنة في كتابه بقوله: ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص مِنْ تلاوته مُبطل قولَهم ومكذِّب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم.
إلى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورؤوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظًّا، والمخسوسون من الإيمان نصيبًا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه... إلخ!!
ويقول في كتاب آخر: وقد عظَّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثَّلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم!!
وقد جاء في كتبه الحكم على علماء المسلمين من أهل السنة بالكفر والشرك، مثل قوله في مناقشة جواب بشر بن الوليد: إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح والشرك المحض عند أمير المؤمنين([1]).
وقد اضطر أكثر علماء السنة إلى موافقة المعتزلة في عقيدتهم ظاهرًا؛ ليسلموا من القتل، حيث كان المأمون ونائبه في بغداد وأعوانهم يهددونهم بالقتل إن لم يقولوا بخلق القرآن، لكن الإمام أحمد أبى أن يقول بخلق القرآن، وقال: القرآن كلام الله تعالى، منزل غير مخلوق، فأرسله إسحاق بن إبراهيم إلى المأمون ومعه محمد بن نوح؛ حيث ثبت، ولم يقل بخلق القرآن.

وقد دعا الإمام أحمد ربه -جل وعلا- ألا يرى المأمون، فمات المأمون قبل أن يصل إليه! فرُدَّ بقيوده إلى بغداد، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق رحمه الله تعالى.
وقد أُدخِل الإمام أحمد السجن وبقي فيه نحوًا من ثلاثين شهرًا، ثم حُمِل بأمر المعتصم إلى إسحاق بن إبراهيم، فلما دخل عليه قال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه -يعني المعتصم- لا يقتلك بالسيف، لقد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضربًا بعد ضرب، وأن يقتلك في موضع لا يُرَى فيه شمس ولا قمر!!
وأُحضِر الإمام أحمد أمام المعتصم وحوله زعيم المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد وبعض علماء المعتزلة، وبدؤوا في مناظرته، فكانوا كلما انقطع واحد أتى آخر، وابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مضل مبتدع!!
فإذا انقطع مناظروه قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟! فيقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول أحمد بن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة؟! فيقول له: تأولتَ تأويلات، فأنت أعلم بها، وما تأولتُ ما يُحبس عليهولا ما يُقيَّد عليه.
وجعل ابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك لهو أحب إليَّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار، فيَعُدُّ من ذلك ما شاء الله أن يَعُدَّ، فقال: لئن أجابني لأطلقنَّ عنه بيدي، ولأركبن إليه بجندي، ولأطأنَّ عقبه.
ثم قال المعتصم: يا أحمد، إني عليك لشفيق، وإني لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون! ما تقول؟ فيقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله ج!
ثم ما زالوا يناظرونه وهو يحاول حصرهم في الكتاب والسنة، وهم لا يريدون ذلك؛ لجهلهم بالسنة، ولعدم مقدرتهم على تأويل جميع آيات القرآن، فلما يئسوا من إجابته إياهم يما يريدون دعا المعتصم بالعُقابَين؛ وهما خشبتان تُمدُّ عليهم يدا المعذَّب، وبدؤوا بضربه بالسياط، فضربوه ضربًا مبرِّحًا لم يُرَ مثله!! فكان المعتصم يأمر الجلاد بأن يضربه سوطين بكل قوته، ويقول له: شدَّ قطع الله يدك، ثم يأمر آخر، فلما ضُرب سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم، وقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق!! فلما أصر على عدم إجابتهم أمر بضربه، وجعل المعتصم يحاول معه ليجيب وكذلك من حوله، وما زالوا يضربونه حتى فقد وعيه، فلما أفاق قال المعتصم لابن أبي دؤاد: لقد ارتكبتُ إثمًا في أمر هذا الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه!! فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد، وقد كان أراد تخلية الإمام أحمد من غير ضرب.
ثم خلَّوا عنه بعد ذلك؛ لما رأوا إنكار الناس وتجمعهم حول المكان؛ من بعض العلماء وطلاب العلم والعامة.
ولقد ذُكِر من شجاعته وقوة احتماله وصبره على الجوع والعطش أمثلة رائعة؛ تدل على قوة إيمانه بالله تعالى واستحضاره عظمته([2]).
وهكذا كانت هذه المحنة الكبيرة التي شملت أكثر علماء أهل السنة؛ بسبب تعصب المعتزلة الذين رأوا مذهبهم الفاسد هو الإسلام الحق والتوحيد الخالص، وأنَّ مَنْ لم يقل مثلهم بخلق القرآن فهو كافر مشرك حلال الدم!! ولذلك امتحنوا العلماء وعرضوهم على السيف إن لم يستجيبوا لهم.
ولو أنهم عدُّوا علماء السنة مجتهدين وحكموا عليهم بالخطأ؛ لما وُجدت تلك المحنة، ولكان لهم مِنْ دَعْم السلطان الذي يرى مذهبهم ما يكفي لنشر مذهبهم.
إن الإنسان ليعجب مما جرى من المحنة أيام أحمد بن حنبل، فقد بلغت من القسوة والفظاعة حدًّا يفوق التصور!
لقد كان يكفي المعتزلة -وقد استطاعوا أن يستحوذوا على فكر أمير المؤمنين المأمون وأن يحولوه إلى مذهبهم- أن يسخِّروه لنصرة مذهبهم بمختلف الوسائل، التي لا تصل إلى حد امتحان علماء المسلمين بالعرض على السيف، وتكفيرهم إن لم يقولوا بخلق القرآن!!
لقد كان يكفي في انتصارهم أن يستولوا على القضاء، وأن يجعلوا أمراء الدولة وعمالها منهم، وأن يحرموا أهل السنة من جميع وظائف الدولة، بل لو أنهم زادوا على ذلك فمنعوا علماء أهل السنة من التدريس في المساجد والإفتاء؛ لكان أمرًا يدخل في تصور العقل.فما الذي دفعهم حينما ملكوا القدرة أن يفعلوا بأهل السنة ما فعلوا؟!
الواقع أن الذي دفعهم إلى هذه المعاملة القاسية هو حكمهم على مخالفيهم من أهل السنة بالتكفير، وحكم المرتد عن الإسلام أن تُعرض عليه التوبة والرجوع عن كفره وإلا طُبِّق عليه حدُّ الردة وهو القتل، ولو أنهم عدُّوا مخالفيهم مجتهدين وحكموا عليهم بالخطأ لما وُجدت تلك المحنة، ولتحوَّل الخلاف إلى مناقشات ومناظرات بين علماء الفريقين، وسيظهر الحق من الباطل ويكون البقاء للحق والصواب.

محنة الإمام أبي عبد الله البخاري:

أما العالم الثاني فهو الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، فقد جرت له محنة على يد بعض أهل السنة في قضية اللفظ بالقرآن، فأهل السنة في ذلك الزمن متفقون على أن القرآن كلام الله تعالى لفظه ومعناه، وإنما اختلفوا في قول الإنسان لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، فأنكر الإمام أحمد ذلك؛ لأن اللفظ يحتمل أمرين: أحدهما الملفوظ وهو كلام الله جل وعلا فهذا غير مخلوق، والثاني التلفظ به وهو فعل العبد، والعبد مخلوق هو وأفعاله، فإذا قيل: لفظي بالقرآن مخلوق فقد يوهم المعنى الأول، وهو غير صحيح ولا يجوز القول به؛ لأن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، وإذا قيل: لفظي بالقرآن غير مخلوق فقد يوهم المعنى الثاني فيكون نفيًا لخلق أفعال العباد، وهذاغير صحيح؛ فلهذا منع الإمام أحمد ذلك اللفظ واعتبره بدعة، وسار على ذلك بعض أهل السنة ومنهم الحافظ محمد بن يحيى الذهلي.
وكان الإمام البخاري يتحاشى هذا اللفظ ولا يقول به، ولكنه إذا سئل يقول: القرآن كلام الله تعالى، وأفعال العباد مخلوقة، وألفاظهم من أفعالهم، فلما سافر إلى نيسابور جرت له فيها محنة بسبب ذلك.
وقد ذكر الحافظ الذهبي في ذلك روايات؛ خلاصتها أن الإمام البخاري لما وصل إلى نيسابور قال عالمها الحافظ محمد بن يحيى الذهلي: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه، فذهب الناس إليه.
فقال محمد بن يحيى لأصحاب الحديث بعد ذلك: ألا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا.
وقال لأصحاب الحديث أيضًا: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحِنُوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول في اللفظ بالقرآن؛ مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل: يا أبا عبدالله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه، ثم قال في الثالثة: فالتفت إليه البخاري وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه، وقعد البخاري في منزله!
وقال محمد بن يحيى الذهلي أيضًا: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم: لفظي بالقرآن مخلوق.. فهو مبتدع، ولا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.
ولقد رحل أبو عبدالله البخاري إلى بخارى، فلما قدمها نصب أهلها له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله كثير من أهلها، ونثروا عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير، فبقي أيامًا، ثم إن محمد بن يحيى الذهلي كتب إلى أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي يقول: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة، فقرأ كتابه على أهل بخارى، فقالوا: لا نفارقه، فأمره الأمير بالخروج، فخرج.
وكان في أثناء إقامته ببخارى يأتي إليه بعض أهل العلم، فيُظهرون شعار أهل الحديث من إفراد الإقامة ورفع الأيدي في الصلاة وغير ذلك، فقال حريث بن أبي الورقاء وغيره: هذا رجل مُشغِب، وهو يفسد علينا هذه المدينة، وقد أخرجه محمد بن يحيى من نيسابور وهو إمام أهل الحديث، فاحتجوا عليه بابن يحيى واستعانوا عليه بالسلطان في نفيه من البلد، فأُخرج، وكان محمد بن إسماعيل ورعًا يتجنب السلاطين ولا يدخل عليهم.
ولما قدم أبو عبدالله البخاري "مرو" استقبله أحمد بن سيار فيمن استقبله، فقال له أحمد: يا أبا عبدالله، نحن لا نخالفك فيما تقول، ولكنَّ العامة لا تحمل ذا عنك، فقال البخاري: إني أخشى النار؛ أُسألُ عن شيء أعلمه حقًّا أن أقول غيره، فانصرف عنه أحمد بن سيار.
[align=center]
وأخيرًا هوى العملاق
بعد ما طُعن من الأقربين؛
من أهل الحديث الذين هم خاصته وزملاؤه!
[/align]


فأُخرج من بخارى، بلده التي ولد فيها ونشأ بين ربوعها، وكان لقرية "خَرْتَنْك" القريبة من سمرقند شرف كبير؛ أن ثوى بها ذلك الإمام الكبير، حيث مرض وتوفي بها ودفن في أحضانها!!
وفي ذكر وفاته يقول الحافظ الذهبي: قال ابن عدي: سمعت عبدالقدوس بن عبدالجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى "خرتنك" قريةٍ على فرسخين من سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات!! وقبره بـ "خرتنك".
وذكر الذهبي عن ابن عدي قال: سمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول: توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين، وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا([3]).
وهكذا ابتُلي هذا الإمام الجليل الذي اتفق أهل زمانه ومن جاء بعدهم على إمامته في الحديث، مع اجتنابه للفظ الذي يحتمل أمرين، وتعبيره باللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا المعنى الصحيح.

والذين جابهوه وتخلوا عن درسه لمجرد هذا القول قد أوغلوا في الغلو والتنطع، وقد أساؤوا حينما ربَّوا طلاب العلم على الغلو، فأصبح الرجوع عن خط الغلو إلى الاعتدال مُؤْذِنًا بقيام فتنة وبلاء مستطير.

ولقد أصبح هذا الإمام الكبير طريدًا في بلاده، وفي كل بلد يذهب إليه من بلاد خراسان وما وراء النهر تثار ضده تلك الفتنة.
إن الخلاف الحقيقي يحتمله الاجتهاد إذا صدر من علماء مجتهدين ويُعذر فيه المخطئ، فكيف بهذا الخلاف الوهمي الذي أُلزم فيه هذا العالم الجليل بلازم قوله مما لم يقصده ولم ينطق به، بل تبرأ منه.

إن مصدر تلك الفتنة وأمثالها هو الغلو في ردِّ البدع الشائعة؛ حيث يتحول المدافعون عن السنة إلى الغلو والإفراط في سدِّ كل الذرائع الموصلة إلى تلك البدع، وفي سبيل ذلك يحرِّمون ما لم يحرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبتدعون بدعًا مُقابِلة في الغلو، ويحاسبون المسلمين على الإخلال بها أشد من محاسبتهم على الإخلال بالواجبات الشرعية أحيانًا، فإذا ظهر علماء يدعون إلى الاعتدال في تلك القضايا وُصفوا بالأوصاف الشنيعة، وشُنَّت عليهم الحملات الفظيعة حتى يسكتوا ويسلِّموا لأولئك الغلاة بدعهم التي دعوا المسلمين إليها!!


والنفوس -عادة- ميالة إلى الغلو والنقد في الغالب، فإذا برز عالم أو علماء يدعون إلى مثل هذا المنهج سارع إلى الاستجابة كل إنسان يميل مع عاطفته ولا يحكِّم عقله،

وأكثر أتباع هؤلاء ممن لم يتعمقوا في العلم ولم يتلقوا تربية كافية في الأدب العلمي،

كما هو الحال في أولئك الطلاب الذين ملؤوا الدار وما حولها لأخذ العلم عن الإمام البخاري، فلما سئل ذلك السؤال وأجاب بجوابه المعتدل وحَمَله دعاة الفتنة على غير محمله انصرفوا عنه جميعًا،

وكأنَّ العلم كله قد تجمع في تلك القضية التي قد وُضع في تصورهم أنها من أهم القضايا،

وأنها مَحَكُّ الحكم على أهل العلم،

ومعقد الولاء لهم أو البراءة منهم.

فما أبعد هؤلاء عن منهج السلف الصالح الذي يدَّعون أنهم ثابتون عليه وأنهم حماته ورواده!!
لقد اتهم أولئك الغلاة الإمام البخاري بالابتداع في الدين، وذلك حينما فصَّل الكلام في مسألة اللفظ والملفوظ،

والحقيقة أنهم هم المبتدعة؛ لأنهم يمتحنون الناس في عقائدهم،

وامتحان أهل العلم في عقيدتهم بدعة لم تكن موجودة على عهد الصحابة رضي الله عنهم كما سبق عن الإمام البخاري.

محنة الإمام ابن تيمية:

([1]) تاريخ الطبري (8/631-641).

([2]) سير أعلام النبلاء، باختصار، (11/241-254).

([3]) المرجع السابق (12/453-468)، وانظر: مقدمة فتح الباري (490-493).
[/align]
 
[align=center]محنة الإمام ابن تيمية:

قبل أن أذكر ما جرى للإمام ابن تيمية أذكر نبذة عما كان يجري بين العلماء الذين يفسرون جميع نصوص الصفات على ظاهرها، والذين يؤولون بعضها على خلاف ظاهرها، ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما جرى بين العلامة عز الدين بن عبد السلام وبعض علماء الحنابلة المعاصرين له ، وفي ذلك يقول الحافظ تاج الدين عبد الوهاب السبكي في بيان ما جرى بين العز بن عبد السلام والسلطان الأشرف موسى الأيوبي: وكانت طائفة من مبتدعة الحنابلة؛ القائلين بالحرف والصوت (يعني في كلام الله تعالى)، ممن صحبهم السلطان في صغره.. يكرهون الشيخ عز الدين ويطعنون فيه ، وقرروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد السلف، وأنه اعتقاد أحمد بن حنبل رضي الله عنه وفضلاء أصحابه، واختلط هذا بلحم السلطان ودمه! وصار يعتقد أن مخالف ذلك كافر حلال الدم، فلما أخذ السلطان في الميل إلى الشيخ عز الدين وشت هذه الطائفة به، وقالوا: إنه أشعري العقيدة، يخطِّئ من يعتقد الحرف والصوت ويبدعه.
وذكر أنه لما استعظم السلطان ذلك ونسبهم إلى التعصب عليه كتبوا فُتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه، وقد ذكر جوابه على هذه الفتيا كاملاً، وسأكتفي بذكر أحكامه التي حكم بها على مخالفيه.
فمن ذلك قوله: والحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ضربان: أحدهما لا يتحاشى من إظهار الحشو ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، والآخر يستتر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه... إلى أن قال: ومذهب السلف
إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه... إلى أن قال :
فما الفرق بين مجادلة الحشوية وغيرهم من أهل البدع، لولا خبث في الضمائر وسوء اعتقاد في السرائر، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، وإذا سئل أحدهم عن مسألة من مسائل الحشو أمر بالسكوت
عن ذلك ، وإذا سئل عن غير الحشو من البدع أجاب فيه بالحق، ولولا ما انطوى عليه باطنه من التجسيم والتشبيه لأجاب في مسائل الحشو بالتوحيد والتنزيه... إلى أن قال: وما زال المنـزهون والموحدون يفتون بذلك على رؤوس الأشهاد في المحافل والمشاهد، ويجهرون به في المدارس والمساجد، وبدعة الحشوية كامنة خفية، لا يتمكنون من المجاهرة بها، بل يدسونها إلى جهلة العوام.
وقد ذكر السبكي أن هذا الكتاب وصل إلى السلطان الأشرف، فاستشاط غضبًا وقال : صح عندي ما قالوه عنه، وهذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، فظهر بعد الاختبار أنه من الفجار، لا بل من الكفار!!وذكر السُّبكي أن العلامة جمال الدين ابن الحاجب المالكي جمع العلماء والقضاة، وأخذ توقيعاتهم بما ذكره العز بن عبد السلام، وأن العز رفع إلى السلطان طلبًا بجمع علماء المذاهب الأربعة وأخذ رأيهم في هذا الموضوع، وذكر في هذا الطلب أن السلطان هو أولى الناس بموافقة والده السلطان العادل؛ فإنه عزَّر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرًا بليغًا رادعًا وبدَّع بهم وأهانهم.
ثم ذكر أن السلطان كتب إلى العز بن عبد السلام كتابا شديد اللهجة، وأن ابن عبد السلام أجابه بجواب شديد، ومما قال فيه : والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف في ذلك إلا رعاعٌ لا يعبأ الله بهم.
ثم ذكر السبكي أن الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية في زمانه ركب إلى السلطان الأشرف، وسأل عما جرى بينه وبين العز بن عبد السلام، فأحضر السلطان خطابيْ ابن عبد السلام الأول والثاني، وأن الشيخ الخضيري قرأهما وقال : هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار!! فقال السلطان: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط في حقه، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته.
ثم ذكر أن السلطان أمر بالإمساك عن الكلام في ذلك الموضوع، إلى أن اتفق وصول السلطان الكامل من الديار المصرية، وأنه كان اعتقاده صحيحًا على مذهب الأشعري رحمه الله في الاعتقاد، وأنه بحث الموضوع مع السلطان الأشرف وأنكر عليه إسكاته أهل الحق، وأنه كان عليه أن يُمكِّن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم وأن يُظهروا دين الله، وأن يشنق من أولئك المبتدعة عشرين نفسًا ليرتدع غيرهم"( ).

فهذه مقتطفات مما دار حول هذا الموضوع، وكان الدافع لهذا التصلب وإصدار الأحكام القاسية على المخالفين -التي وصلت إلى حد التكفير- هو اعتقاد أولئك العلماء من الطرفين بأن موضوعات العقيدة لا تدخل في مجال الاجتهاد، وأن المخالف فيها يُحكم عليه بأنه مبتدع ضال، وربما حكموا عليه بالكفر، ولو أنهم نظروا إلى مسائل الاعتقاد بمثل نظرتهم إلى مسائل الفقه؛ لكان كل فريق يحكم على الفريق الآخر بأنهم مخطئون في اجتهادهم، ولم يقع ما وقع من الحكم بالابتداع والضلال والكفر.
ومن هذا الخبر يتبين لنا أن بعض الحكام قد وقعوا ضحية لذلك التشدد في الأحكام على المخالفين، وأنهم بحكم سلطتهم يحاولون ممارسة الضغوط على من يخالف معتقدهم، وكان من نتائج الانحراف في الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد أن الذين يثبتون مدلولات جميع نصوص الصفات على ظاهرها، وهم الذين أطلق عليهم الحنابلة.. لم يكونوا يستطيعون المجاهرة بمذهبهم بوضوح وقوة من القرن الرابع الهجري تقريبًا إلى نهاية القرن السادس تقريبًا؛ لأن السيادة في ذلك التاريخ للذين يؤوِّلون بعض تلك النصوص على خلاف ظاهرها؛ وهم الأشاعرة والماتريدية، وفي أواخر القرن السادس برز شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله تعالى، فشرح مذهب أهل الإثبات الكامل لظاهر النصوص بوضوح وإسهاب، ودافع عنه بقوة وصراحة، وقد جرت بينه وبين بعض المخالفين له من علماء عصره مناظرات علمية، وقد كانت بعض هذه المناظرات تتسم بشيء من الشدة والتحدي، وقد كان ابن تيمية متفوقًا في هذا المجال لحدة ذكائه وقوة ذاكرته وسعة علمه.
وقد ذكر الحافظ ابن رجب شيئًا من هذه المناظرات وما نتج عنها من ظهور ابن تيمية على مخالفيه، إلى أن ذكر أن بعض علماء مصر وقضاتها أرادوا أن يحكموا عليه من غير إجراء مناظرة بينه وبين مخالفيه، وكانت الشام تابعة لمصر آنذاك في الحكم، فطلبه العلماء بواسطة السلطان، فسافر من دمشق إلى القاهرة، وعقدوا له مجلسًا وادَّعوا عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية بأنه يقول: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية.
وقال المدَّعِي: أطلب تعزيره على ذلك التعزير البليغ، يشير إلى القتل على مذهب مالك، فقال القاضي لابن تيمية: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أَأُمنع من الثناء على الله تعالى؟! فقال القاضي: أجب فقد حمدت الله تعالى، فسكت الشيخ، فقال: أجب، فقال الشيخ له: من هو الحاكم فيَّ؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيَّ؟! وغضب، ومراده: إني وإياك متنازعان في هذه المسائل فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها؟! فأُقيم الشيخ ومعه أخواه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن، ثم رُدَّ الشيخ وقال: رضيت بأن تحكم فيَّ، فلم يُمَكَّن من الجلوس.
ويقال: إن أخاه شرف الدين ابتهل ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ وقال له : بل قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق!!ثم حبسوهم أيامًا، وبعثوا بكتاب سلطاني إلى الشام بالحطِّ على الشيخ، وإلزام الناس -خصوصًا أهل مذهبه- بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق، ثم قرئ الكتاب بُسدَّة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحُبس بعضهم، وأُخذت الإقرارات على بعضهم بالرجوع.
وقد بقي ابن تيمية في السجن في القاهرة، ثم نقل إلى سجن في الاسكندرية، وبقي فيه إلى أن انتهى حكم المظفر بيبرس الجاشنكير، وكان هذا الحاكم مائلاً مع أولئك العلماء الذين حكموا على ابن تيمية، وذلك ما بين سنة خمس وسبع وسبعمائة.
فلما عاد الحكم إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون أَخرج ابن تيمية من السجن وأكرمه، واستشاره في قتل القضاة الذين حكموا عليه بالقتل، فغضب ابن تيمية وأنكر عليه ذلك! وفي ذلك يقول قاضي المالكية ابن مخلوف: ما رأينا أفتى من ابن تيمية( )، سَعَينا في دمه، فلما قدر علينا عفا عنا( )!!وقد مُنع بعد ذلك عدة مرات من الفتوى وسُجن؛ بسبب اجتهاده في بعض المسائل الشرعية، إلى أن سجن في المرة الأخيرة سنتين وأشهرًا ومات في السجن رحمه الله تعالى؛ بسبب فتواه بمنع السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وقد انقسم العلماء في الحكم على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى؛ فمنهم من عدَّ ذلك تنقيصًا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك كفر، وهم ثمانية عشر على رأسهم القاضي الأخنائي المالكي، وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، ومنهم من حكم عليه بأنه مجتهد مخطئ فهو مغفور له، وهم جماعة من العلماء، ومنهم جماعة من العلماء وافقوه في فتواه( ).

ومِن عرض هذه المحن التي تعرض لها ابن تيمية -رحمه الله- يتبين لنا الخطأ الفادح الذي سار عليه جمع من العلماء في ذلك العصر، حيث حكم بعضهم على ابن تيمية بالكفر واستحلوا دمه، وحكم عليه آخرون بالابتداع والضلال، وحاولوا منعه ومنع العلماء الموافقين له من التدريس والإفتاء، ولو أنهم أخذوا بالمنهج الصحيح فحكموا عليه بأنه مجتهد مخطئ من وجهة نظرهم؛ لما حدثت تلك المحن الكبيرة التي تأذى بها عدد من العلماء، وفرقت صف المسلمين، ولا يمكن لأحد أن يدعي بأن ابن تيمية ليس من أهل الاجتهاد، فإن ذلك لا يكون مقبولاً في أوساط العلماء؛ لما اشتهر بأنه من أئمة المجتهدين.


بين يدي الإمام المهدي
[/align]
 
.........
بين يدي الإمام المهدي

والآن بعد أن طوفنا في جنبات هذا الموضوع، وأخذنا عنه لمحة موجزة؛ يَرِدُ على الذهن تساؤل مهم؛ وهو أن يقال: في أي اتجاه من هذه الاتجاهات سيكون الإمام محمد بن عبد الله المهدي؟ وكيف ستكون معاملته مع المخالفين؟ وهل سيجتمع عليه المسلمون وهم يضلل بعضهم بعضًا؟
والجواب على هذا التساؤل يمكن أن يقدم في نقاط :

1- أن الإمام محمد بن عبد الله المهدي قادم قطعًا؛ لثبوت ظهوره وإقامته دولة الإسلام الكبرى في أحاديث صحيحة؛ منها ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المهدي مني؛ أجلى الجبهة، أقنى الأنف،
يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئت ظلمًا وجورًا، ويملك سبع سنين"( ).
وأخرجه الحاكم من حديث أبي سعيد ط وذكره نحوه( ).
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "المهدي من عنزتي من ولد فاطمة"( ).
ومن ذلك ما أخرجه الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتُخرج الأرض نباتها، ويُعطي المال صَحاحًا( )، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعًا أو ثمانيًا"؛ يعني حِجَجًا( ).
ومن ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة التميمي من حديث جابر ، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة".
ذكره الدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي، وحكم عليه بالصحة، ونقل عن الإمام ابن القيم أنه قال: "هذا إسناد جيد"( ).
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم؛ حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي"( ).

2- أن الأمة الإسلامية تبعًا لعلمائها تنقسم إلى طائفتين كبيرتين:
أولاهما: الذين أشهروا أنفسهم بالانتماء لمذهب السلف الصالح، وأهل السنة والجماعة، وهم الذين يطلق عليهم سابقًا أهل الحديث باعتبار أن أغلب أهل الحديث منهم، ويطلق عليهم أيضًا الحنابلة؛ باعتبار أنهم يأخذون بمذهب الإمام أحمد بن حنبل الاجتهادي في أمور الدين في الغالب، وهؤلاء من مذهبهم في أمور العقيدة إثبات جميع صفات الله تعالى، مع بيان معانيها من غير تكييف ولا تمثيل ، واعتقاد عدم جواز التوسل والتبرك بذوات الصالحين حتى الأنبياء -عليهم السلام- بعد موتهم .
والطائفة الثانية: هم الذين خالفوا الطائفة الأولى؛ فذهبوا إلى تفويض معاني بعض الصفات إلى الله تعالى، أو تأويلها على غير ظاهرها؛ تنزيها له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين، وبعضهم ذهبوا إلى جواز التوسل بذوات الصالحين، وبعض هؤلاء يطلقون على أنفسهم "الأشاعرة" نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، وبعضهم يطلقون على أنفسهم "الماتريديه" نسبة إلى الإمام أبي منصور الماتريدي، وأصحاب هذه الطائفة أيضًا ينسبون أنفسهم لاتباع منهج السلف الصالح والانتماء لأهل السنة والجماعة، وقد اشتهر كثير من علماء الطائفتين الأولى والثانية بتضليل أو تبديع مخالفيهم من الطائفة الأخرى.

3- أن المهدي إذا كان من أهل الطائفة الأولى فسيضلله أهل الطائفة الثانية؛ وهذا يعني أنهم لن يتبعوه، وإذا كان من أهل الطائفة الثانية فسيضلله أهل الطائفة الأولى؛ وهذا يعني أيضًا أنهم لن يتبعوه.

4- هذه الرسالة تفترض وجود طائفة ثالثة؛ وهم أهل الوسط والاعتدال، وتقوم عقيدتهم على الحكم على المخالفين بالخطأ في الاجتهاد، بشرط أن يكون العلماء الذين بحثوا في هذا الموضوع من أهل الاجتهاد، مع ترك الحكم على مصيرهم في الآخرة إلى الله تعالى، والحكم بالخطأ لا يترتب عليه بغض ولا براء، وإنما يظل المختلفون على المحبة والولاء، وإن تمسك كل فريق منهم برأيه، وبالتالي فإن أفراد الطائفتين المذكورتين جميعًا إذا سلكوا هذا المنهج الوسط سيوالون المهدي ويتبعونه.

5- على هذا فإن هذه الرسالة تُعدُّ تمهيدًا لوحدة صف المسلمين قبل ظهور المهدي، فلا يكون هناك بين المسلمين تباعد مبني على اختلافهم في الأمور العقدية.

6- من المعلوم البدهي أن المهدي سيكون على الحق؛ لأن الله تعالى سيمكنه في الأرض، ولن يمكنه -جل وعلا- وهو على الباطل، وإن من أهم الأمور التي تساعد على ظهور الحق ألا يحكم هو ولا أصحابه على المخالفين بالضلال أو الابتداع، فضلاً عن الحكم عليهم بالشرك أو الكفر، كما أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في بعض أمور الدين، ولم يحكم أحد منهم على الآخرين ببدعة ولا ضلالة، ولم يحصل بينهم براء ولا مقاطعة .
هذا؛ وقد جاء في أحاديث المهدي أن الله تعالى يصلحه في ليلة، كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المهدي منَّا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة"، أخرجه الإمام أحمد وغيره، وصححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني، رحمهما الله تعالى( ).
والذي يظهر لي أن المهدي لم يكن فاسدًا في أول عمره ولا منحرفًا، لا من ناحية الشبهات ولا من ناحية الشهوات؛ لأنه يبعد أن يكون الرجل المختار من الله تعالى لإصلاح الأمة الإسلامية وقيادتها في آخر الزمان قد نشأ على تلك الحال، فالذي يظهر لي -والله أعلم- أنه رجل صالح منذ صغره، ولكنه نشأ في المنهج العقدي على ما تعلَّمه من علماء بلده، فأصبح من إحدى الطائفتين السابقتين، وبالتالي فإنه سيحكم على مخالفيه بالبدعة والضلال والشذوذ والانحراف، وفي الوقت المناسب لظهوره يهديه الله إلى منهج الاعتدال في الحكم على المخالفين، فيكون ولاؤه للمسلمين المتقين جميعًا، ويكون المتقون جميعًا من أنصاره، وهذا هو إصلاح الله تعالى إياه في ليلة، كما جاء في الحديث المذكور.
وعلى هذا؛ فإنه ليس من صفات المهدي قبل ظهوره أنه منحرف عن الاستقامة، بل إنه يكون متصفًا بالتشدد في الحكم على المخالفين، وكون المسلم يحكم على إخوانه المسلمين بالابتداع والضلال والشذوذ والانحراف وهم ليسوا كذلك.. ظلمٌ لهم، والظلم فساد وإفساد في الأرض.






الخاتمة

قد يتساءل الإخوة الذين يعرفونني جيدًا: كيف انتهجت هذا المنهج الوسط في الحكم على المخالفين في العقيدة؛ مع أنني قد نشأت في وسط علمي لا يعتمد هذا المنهج، ويعمم وصف التعطيل على كل من أوَّل شيئًا من الصفات؛ سواء كان قليلاً أو كثيرًا؟!

والحقيقة أنني كنت في مراحل دراستي الأولى -بما في ذلك المرحلة الجامعية- على هذا المنهج، ثم إنني وجدت علماء كبارًا من فضلاء الأمة ساروا على التأويل في بعض آيات الصفات؛ كالنووي وابن حجر العسقلاني وابن الجوزي وابن عقيل والعز بن عبد السلام، فرأيت أن وصف هؤلاء وأمثالهم بالضلال والتعطيل غير سائغ شرعًا، كما أن وصف الأئمة الذين أجْرَوا جميع نصوص الصفات على ظاهرها -كابن قدامة وابن تيمية وابن القيم- بالضلال والتشبيه والتجسيم؛ غير سائغ شرعًا.

ثم إنني؛ بحكم تخصصي في التفسير والحديث، قد اطلعت في أثناء تحضير رسالَتيْ الماجستير والدكتوراه على كتب التفسير المطبوعة التي توافرت لدي، ومما لفت نظري أن جميع المفسرين -حسب اطلاعي- أوَّلوا بعض آيات الصفات، إنْ قليلاً وإن كثيرًا، حتى الذين اشتهر عنهم أنهم من أئمة علماء السنة؛ مثل ابن جرير الطبري وابن كثير والشوكاني، ما عدا مفسرَين معاصرين؛ هما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه "تيسير الكريم الرحمن"، وفضيلة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان"، وقد أكَّد لي هذا الحكم ما توصل إليه الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي في استقصائه الذي قام به في كتابه: "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات"؛ حيث أثبت أن جميع المفسرين أتوا بشيء من التأويل في آيات الصفات، وتعقَّبهم في ذلك، ما عدا الشيخين المذكورين.

وحينما درَّست مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الدعاة، قمت بقراءة "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية وبعض كتبه الأخرى، فأذهلني ما قرأت من كثرة النصوص التي ظهر فيها هذا الإمام بالسماحة والرحمة والعدل وسعة الأفق، وذلك في حكمه على المخالفين في أمور العقيدة من العلماء المجتهدين، حيث اقتصر حكمه عليهم بالخطأ، ولم يضللهم ولم يبدعهم.

ثم توج هذه الرؤى الحميدة ما قمت به من قراءة كتاب "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، حيث يوافق شيخ الإسلام ابن تيمية في السماحة والعدل في الحكم، فأصبحَتْ لديَّ قناعة تامة بهذا المنهج الوسط الذي سطرت من أجله هذه الرسالة.

وكان لزامًا عليَّ أن أنشر ما هداني الله جل وعلا إليه من هذا العلم؛ ليقيني بالوعيد الشديد على كتمان العلم،

كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم

: "ما من رجل يحفظ علمًا فيكتمه؛ إلا أتي به يوم القيامة ملجمًا بلجام من النار"،

أخرجه الحافظان ابن ماجه، والترمذي وحسنه، من حديث أبي هريرة ( ).


 
خلوصي,

هل تحاول من خلال هذه الرسالة ان تمهد لدعوتك الصوفية الباطنية النورسية و تعتذر لابن عربي والحلاج والنورسي وابن عطاء...الخ الحلولية؟!!

هل تعرف ماذا قال العلماء- واخص بالذكر شيخ الاسلام ابن تيمية -عن ابن عربي والحلاج ومن قال بوحدة الوجود والحلول ؟

خلوصي, الشيخ عبدالعزيز لا يعني بهذه الرسالة ما تعنيه انت وتريده!؟

# وبالمناسبة, الشيخ عبدالعزيز الحميدي رسالته العالمية هي " براءة الأئمة الأربعة من بدعة علم الكلام ".



# قال شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله-(مسألة- (60)- الأدلة العقلية الشرعية إنما تدل على الحق،
وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، لأن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، يبقى الكلام في أعيان الأدلة، وبيان انتفاء دلالتها على الباطل، ودلالتها على الحق هو تفصيل هذا الإجمال.
والمقصود هنا شيء آخر، وهو أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطى حقه تبين أنه يدل على فساد قول المبطل في نفس ما احتج به عليه، وهذا عجيب قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية، والمقصود هنا أن الأدلة العقلية كذلك.
فأما السمعية فقد ذكرت أمورا مما احتج به الجهمية و الرافضة وغيرهم مثل {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} 3 وبينت أنها تدل على نقيض مطلوبهم، وهذا مبسوط في الرد على الرازي في كتاب تأسيس التقديس، فإني لم أر لهم مثله، جمع فيه عامة حججهم.
وكذلك احتجاجهم على نفي الرؤية بقولهم له: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 4، وكذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5، ونحو ذلك.
وكذلك احتجاج الشيعة بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} الآية وبقوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى" 6 ونحـو ذلك كما بسـط في منهاج أهل السنة. والمقصود هنا العقليات؛ فإن كل من له معرفة يعرف أن السمعيات إنما تدل على الإثبات. وأما الرافضة فعمدتهم على السمعيات، لكن كذبوا أحاديث كثيرة جدا راج كثير منها على أهل السنة، وعسر تمييزها إلا على الأئمة العارفين بعلل الحديث متنا وسندا. كما أن الجهمية أتوا بحجج عقلية اشتبهت على أهل السنة إلا على قليل ممن له خبرة بذلك. والصفات والقدر، ويسميان التوحيد والعدل هما أعظم وأجل ما فيه في الأصول، والحاجة إليهما أعم، ومعرفة الحق فيها أنفع.

-من كتاب مسائل لخصها الامام محمد بن عبدالوهاب من كلام شيخ الاسلام ابن تيمية.


# ومن أراد معرفة حقيقة دعوة خلوصي النورسية الصوفية الباطنية:
http://www.shobohat.com/vb/showthread.php?t=549
 
قال ابن القيّم في نونيّته:

وكذاك قالوا ماله من خلقه أحد يكون خليله النّفسان

وخليله المحتاج عندهم وفي ذا الوصف يدخل عابد الأوثان

الكل مفتقر إليه لذاته في أسر قبضته ذليل عاني

ولأجل ذا ضحى بجعد خا لد القسريّ يوم ذبائح القربان

إذ قال إبراهيم ليس خليله كلاّ ولا موسى الكليم الدّاني

شكر الضّحيّة كلّ صاحب سنة لله درّك من أخي قربان
 
الرسالة الثانية

شمول العقيدة


[align=center]
المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن مما جرى التعارف عليه في الأوساط العلمية الدينية حصر مفهوم لفظ (العقيدة) بمضامين محددة تدور عليها المباحث الاعتقادية، مع الاهتمام والتوسع في الأمور الخلافية في هذه المباحث.
ولما كان لفظ (العقيدة) يشمل كل ما يتعلق باعتقاد القلب من أمور الدين وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة كان من المهم بيان شمول العقيدة لكل متعلقاتها.
وقد قمت في هذه الرسالة بالإسهام في بيان هذا الموضوع حسب اجتهادي في فهم النصوص الشرعية، وما هذا الذي قمت به إلا فتح باب في هذا الموضوع المهم الذي يحتاج من العلماء إلى مزيد من الاهتمام والبحث.


نشأة العلوم الإسلامية
قبل الحديث عن شمول العقيدة ينبغي عرض فكرة موجزة عن نشأة العلوم الإسلامية المعروفة.
ففي عهد الصحابة ن لم تكن تجزئة العلم إلى العلوم المعروفة الآن، وهي التفسير والحديث والعقيدة والفقة، وإنما كانوا يعلِّمون الناس الكتاب والسنة كما تعلموهما من رسول الله ج، وهما مشتملان على هذه العلوم وغيرها.
وإن الذي يدرس تاريخ الصحابة ن وتراجم علمائهم بالذات الذين جلسوا لتعليم الناس كأبي هريرة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو ن .. إن الذي يدرس الحياة العلمية لعلماء الصحابة عموماً يتبيـن له ارتباط العلم كله بالكتاب والسنة، وأنهم كانوا يعتمدون في تعليمهم على بيان نصوص الكتاب والسنة ثم يفرعون عنها المسائل، ولا يتوسعون في بيان المسائل التي لا نص فيها إلا أن تلجئهم حاجة الفتوى إلى الاجتهاد في القضايا الواقعة في المجتمع.
وبعد انقضاء عصر الصحابة ن بدأت اهتمامات بعض العلماء تتركز في جانب أو جوانب من العلم.وكان من أسباب ظهور التخصصات العلمية بشكل بارز في عهد التابعين ومن بعدهم انتشار السنة النبوية وكثرة مرويات الصحابة منها، فأصبح من لوازم التفوق العلمي حصر أكبر الاهتمام من قِبل العالم الديني بجانب من جوانب العلم والاهتمام به من أجل تلبية حاجة الناس في الإجابة على استفتائهم وحل مشكلاتهم، وكان ذلك من أهم الأسباب الدافعة إلى اهتمام العلماء بدراسة الأحكام التكليفية فيما يتعلق بالشعائر التعبدية والمعاملات، لحاجة المسلمين إلى بيان هذه الأحكام ليعبدوا الله على بصيرة، ويتعاملوا مع الناس على هدى، وقد أطلق العلماء على هذا الجانب (علم الفقه) يعني فقه الكتاب والسنة.
ومما ساعد على ظهور التخصصات العلمية في حياة التابعين ما كان من تميز بعض علماء الصحابة الكبار بنوع من أنواع العلم.
فقد تميز عبدالله بن عباس مثلاً بتفسير القرآن فاصطبغت مدرسته بهذه الصبغة حيث نبغ عدد من تلامذته في التفسير.
وتميز عبدالله بن مسعود مثلاً بمعرفة الأحكام واستنباطها من الأدلة الشرعية فاصطبغت مدرسته بهذه الصبغة ونبغ من تلامذته علماء في الفقه.
وتميز أبو هريرة مثلاً برواية الحديث النبوي فتخرج به تلامذة كثيرون في علم الحديث.
وليس معنى هذا أن هؤلاء الصحابة وأمثالهم قد تخصصوا بهذه العلوم بل كانوا علماء بالدين كله، ولذلك تخرج بعبدالله بن عباس مثلاً فقهاء ومحدثون، وتخرج بعبدالله بن مسعود مفسرون ومحدثون، وتخرج بأبي هريرة فقهاء ومفسرون، وكذلك غيرهم من علماء الصحابة، ولكن مع هذا ظهر لعدد منهم تميز في بعض العلوم فاشتهر بها.
وفي أواخر عصر الصحابة ن ظهرت بعض البدع في أمور الإيمان، كبدعة إنكار قدر الله تعالى، والحكم على فاعل الكبيرة بالخلود في النار والخروج من الإسلام، فتصدى لهذه البدع علماء الصحابة وعلماء التابعين ومَن بعدهم من العلماء، وكثر الجدل حول هذه المباحث، وطال الكلام فيها خاصة ما يتعلق بأسماء الله وصفاته، حتى أطلق العلماء على هذه المباحث "علم الكلام".

ولقد اهتم النبي صلى الله عليه و سلم ببيان العقائد والأحكام مقرونة بالمواعظ والزواجر، وسار على منهجه الصحابة ن وأكثر علماء القرون المفضلة، حيث كانوا يقرنون فتاويهم بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم المشتمل على الوعظ والتذكير والتبشير والإنذار، فكان ذلك دافعاً للمسلمين إلى الالتزام الصحيح بأحكام الدين، لما يشتمل عليه هذا المنهج القويم من تنمية الورع والتقوى في النفوس.

ولقد تعرضت علوم الدين بعد ذلك للجفاف حينما استُخلِصت من الكتاب والسنة وطرأ عليها الاختصار، فَجُرِّد بعضها من الأدلة، واختلط في بعضها ما ليس منها.
ومن ذلك مباحث العقيدة حيث تعرضت للمباحث العقلية وقلَّ فيها الاستشهاد بالكتاب والسنة في بعض الكتب فلم يكن لها تأثير في تنمية الورع وتقوية الإيمان.
كما تعرضت لموارد لا تَمُتُّ إلى الإسلام بصلة، وذلك من آثار اختلاط المسلمين بغيرهم بعد الفتح الإسلامي والاتصال الفكري مع الأمم الأخرى حيث انتقلت بعض علومهم إلى المسلمين فأحدثت انحرافات في بعض مفاهيم العقيدة.
وفي القضايا العملية تم تجريد الفقه أيضاً من الكتاب والسنة في كثير من المسائل، وكثرت المختصرات التي تُبَيَّن فيها الأحكام على شكل مسائل مجردة من الأدلة، وكان غرض الفقهاء من ذلك تقريب الفقه لطلاب العلم، ولكن نتج عن ذلك ضعف في الالتزام بالدين لأن قول الفقيه: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا واجب، وهذا مكروه، وهذا مستحب، لا يصل إلى مستوى عرض نصوص الكتاب والسنة في تنمية الوازع الديني وتقوية الإيمان، فحصل بسبب هذا التجريد نوع من قساوة القلوب وقلة الورع.
كما أن بعض العلماء الذين استدلوا بآيات الأحكام يذكرون صدر الآية المشتمل على بيان الحكم ويتركون آخرها الذي يحتوي على التبشير والإنذار، والوعد والوعيد، وذكر صفات الله تعالى، مما يدل على إغفال الناحية التربوية لدى هؤلاء العلماء وغلبة الناحية الفقهية على أذهانهم، وقد كان الصحابة ن وتلاميذهم يُربُّون الناس على الورع والتقوى قبل أن يعلموهم الأحكام، فلما ضعفت نظرة بعض العلماء إلى هذه المعاني السامية نتج عن ذلك انخفاض في مستوى الاستقامة والوازع الديني.
ومن سلبيات هذا المنهج فهم الإسلام من خلال اجتهادات العلماء لا من خلال النصوص الشرعية، كما أن من سلبياته ضعف الاجتهاد وغلبة التقليد بسبب البعد عن فهم النصوص.
لقد تضاءل خطاب الوجدان والضمير ونما خطاب الفكر، وأصبح هناك فصام خطير بين الناحية العلمية والناحية التربوية، حيث عمرت دروس بعض العلماء بالمسائل العلمية الفكرية وخلت أو كادت تخلو من خطاب الوجدان وترقيق القلوب، حيث قام بهذا الجانب أنصاف المتعلمين الذين كان يطلق عليهم القُصَّاص، ولكن تغطية هؤلاء لهذا الجانب لا تعدّ شيئاً يذكر أمام تغطية أولئك العلماء للجانب العلمي الفكري، لأن الناس ينظرون إلى الوعاظ من غير العلماء المشهورين نظرةً أقل.
ومن العلماء الذين لاحظوا هذا الخلل في الدروس العلمية
أبو شريح المعافري، فقد روى محمد بن عبادة المعافري قال: كنا
عند أبي شريح – رحمه الله – فكثرت المسائل فقال: قد دَرِنَتْ قلوبكم فقوموا إلى خالد بن حميد المهري، استقلُّوا قلوبكم( ) وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل فإنها في غير ما نزل تقسي القلب وتورث العداوة( ).
فهذا توجيه سديد من هذا العالم الجليل، وكلمات مضيئة تدل على اهتمامه البالغ بالمجال التربوي، وحرصه على التوازن بينه وبين المجال العلمي، فقد شعر هذا العالم بأن التوجيه العلمي قد طغى على ناحية السلوك والالتزام لدى تلامذته، فوجههم إلى مجالس الواعظ خالد بن حميد المهري ليسمعوا أحاديث الرقائق والترغيب والترهيب، فيتقوى إيمانهم ويرتفع لديهم مستوى الوازع الديني.
وما يزال هذا الفصام قائماً حيث أصبح الناس يفرقون بين العلماء والدعاة لتميز العلماء بالخطاب الفكري وتميز الدعاة بالخطاب الوجداني، إلا في أفراد قلائل من العلماء جمعوا بين الناحيتين العلمية والتربوية، وهذا وضع غير سليم، لأن الدعوة إلى الله تعالى من أخص خصائص العلماء.
وحينما كان الانسجام الكامل بين التعليم والدعوة في حياة الصحابة ن وفي حياة من اقتدى بهم من العلماء الربانيين كان العلماء هم قادة الأمة الإسلامية وقدوتها، والعلماء الذين قضوا في العلم تعلماً وتعليماً سنوات كثيرة يتصفون غالباً بعمق التفكير وبُعد النظر والحكمة في دراسة القضايا والحكم عليها في واقعها وعواقبها.
ولكن حينما تخلى بعض العلماء عن الدعوة قام بذلك من هم أقل منهم علماً وتجربة وأضعف منهم وزناً وقيمة لدى كبراء الأمة، فأصبحت القيادة الدينية في كثير من أوساط المجتمعات لهؤلاء الدعاة، وظلت القيادة الدينية للعلماء القائمين بالتعليم والإفتاء في أوساط طلاب العلم الديني، فصار الفصام العريض بين التعليم والتربية، وأصبحت الجهود الإصلاحية ضعيفة سواء تقدم بها قادة الدعوة أو البارزون من العلماء، لأن شهرة الدعاة وإن كانت كبيرة فإنها لا تتجاوز أوساط الناس غالباً، بينما تقتصر شهرة العلماء على بعض طلاب العلم وبعض الكبراء في المجتمع، وبهذا ضاع كثير من أصوات المتقين من مُحبِّي الإصلاح بين قادة الدعوة وقادة العلماء، فضعفت كلمتهم وتبددت جهودهم وأصبحوا بتفرقهم مطمعاً لأعدائهم فاغتنموا فرصة تباعدهم وحاولوا توسيع الفجوة بينهم، وغزوهم من داخل كياناتهم بألوان من المكر والتخطيط الدقيق، حتى أصبحت سهام المصلحين في الغالب طائشة وجهودهم مبعثرة، فلم ينجحوا نجاحاً كاملاً في محاولة الإصلاح على مر العصور إلا بشكل نادر حينما يبرز عالم كبير يجمع بين التعليم والتربية وتكون له جهود متواصلة في استقطاب أهل الإصلاح من أصحاب العلم والدعوة.وحينما غلبت المباحث العقلية على عقول بعض العلماء فأصبحوا يجعلونها محكَّمة في قضايا أصول الدين، واستشرى أمر المعتزلة ومن نحا نحوهم في تعظيم العقل البشري وصياغة العلوم الإسلامية صياغة عقلية مجردة أحيانا من الاستهداء بالوحي الإلهي.
وحينما بالغ بعض الفقهاء بالأخذ بالرأي والاجتهاد ولم يبدوا عناية بتتبع السنة النبوية وفتاوى الصحابة ن.
وحينما قام بعضهم بتجريد بعض مباحث الفقه من الأدلة الشرعية.
حينما حصل ذلك قام بعض العلماء ممن لهم عناية فائقة بالسنة ينادون بالرجوع إلى الكتاب والسنة سواء في مجال العقيدة أو الفقه، ولقد نجح هؤلاء العلماء نجاحاً كبيراً في نشر السنة النبوية حتى أصبحت محط أنظار العلماء وطلاب العلم، وانكمشت الفرق المخالفة لأهل السنة في أمور العقيدة وأصبحت محدودة الانتشار، حتى قام الخليفة المأمون بنصر آراء المعتزلة وامتحان علماء أهل السنة، وكانت فتنة في الدين ضعف فيها صوت أهل السنة وعلا فيها صوت مخالفيهم، إلى أن قيض الله لأهل السنة إماماً جليلاً ثبت للمحنة واستعصى على الاستجابة للفتنة، وأصَرَّ إصراراً متواصلاً على عدم المناظرة مع المعتزلة إلا في حدود الكتاب والسنة، فاستحق الإمام أحمد بن حنبل بهذا الموقف الجليل أن يكون إمام أهل السنة.
وكلما أوغل بعض العلماء في تقديس العقل وإقحامه فيما لم يؤهل له قيض الله سبحانه لهذه الأمة علماء يعيدون الأمور إلى نصابها، ويخلِّصون علوم الدين مما شابها من نتاج العقل البشري المحدود.
[/align]
 
[align=center]
أصول العقيدة

والأصل في العقيدة هو الكتاب والسنة، وهما أصل الدين كله، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه و سلم تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدا عليَّ الحوض
ذكره السيوطي في الجامع الصغير من رواية الحاكم من حديث أبي هريرة وسكت عنه السيوطي والمناوي، وصححه الألباني رحمهم الله تعالى( ).

ولهذا فإنه يجب أخذ أمور العقيدة كلها من الكتاب والسنة.

ولا يعني هذا عدم الاستفادة من كتب العلماء التي أُلِّفَتْ في العقيدة، بل يستفاد من الكتب التي التزم أصحابها بالمنهج العلمي الإسلامي على أنها بيان لما جاء في الكتاب والسنة.

ومما يلاحظ أن أغلب كتب العقيدة قد أُلِّفت في الرد على المخالفين، ولذلك فإنـها قد لا تخلو من أخطاء مبعثها إما الاجتهاد في فهم النصوص
أو الغلو والخروج عن حدود الاعتدال،
أو التأثر بالعلوم العقلية سواء في ذلك ما كان من إنتاج مفكري المسلمين،
أو مما ترجموه من غيرهم،


لذلك كان من الواجب التركيز على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ن حيث لم يكن في عهدهم أصل يرجعون إليه في علوم الدين غير الكتاب والسنة.

والتسمية الواردة في الكتاب والسنة لما يتعلق بمباحث الاعتقاد هي الإيمان، ومن ذلك ما جاء في حديث سؤال جبريل عليه السلام المشهور، حيث سأل النبيَّ صلى الله عليه و سلم عن الإيمان فأجابه ببيان أركانه، فورد لفظ الإيمان في السؤال والجواب، ولم يرد فيهما لفظ العقيدة.

وقد بقي ذلك حتى عصر تدوين السنة، حيث نجد أن أصحاب الحديث يُصدِّرون كتبهم في السنة بأبواب الإيمان، ومنهم من خصص بعض مباحث العقيدة باسم التوحيد، كالإمام البخاري حيث ركز في كتاب التوحيد من صحيحه على مباحث أسماء الله تعالى وصفاته، ومنهم من ألف في ذلك كتاباً مستقلاً كابن خزيمة رحمهم الله جميعاً.
ثم أصبح اسم التوحيد يشمل كل مباحث الاعتقاد.

أما كلمة (العقيدة) فقد عُرفت بعد القرون المفضلة، وأول عالم أطلقها على مباحث الإيمان - فيما علمت - الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني، المتوفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وذلك في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) المطبوع ضمن (الرسائل المنيرية)( ).
وتسمية هذه المباحث باسم العقيدة اصطلاح علمي قُصد به تقريب العلم إلى الأذهان، كما سُمِّيت بعض تكاليف الدين باسم الفقه.

ولكن تحويل هذه المباحث من اسم الإيمان إلى اسم العقيدة جَرَّأ بعض واضعي المناهج على إدخال الفلسفة وغيرها إلى أقسام العقيدة، حتى أصبحت تلك الأقسام مختلطة بين مباحث الإيمان ومباحث العلوم الوضعية.

[mark=FFFF99]كما أن مصطلح العقيدة الآن يحتوي على حشو ضخم من نتاج الفكر البشري المتراكم على مر السنين والأجيال، والذي كان سببه الأول الجدل الكلامي بين الطوائف المختلفة، [/mark]

بينما مصطلح الإيمان لا يقبل هذا الحشو المتراكم، لأنه لفظ وارد في الكتاب والسنة ومعناه بيِّنٌ، ومحتواه واضح.

فإن قيل: إن الإيمان يشمل الدين كله من قول وعمل واعتقاد، على القول المشهور لأهل السنة فكيف يكون الإيمان مرادفاً للاعتقاد والاعتقاد جزء منه؟!
فإنه يقال: إن الاعتقاد يعدّ جزءاً من الإيمان إذا ذُكر الإيمان وحده كما في حديث (الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة ( ) فأما إذا ذُكر مقترناً بالإسلام فإن الإيمان يكون خاصاً باعتقاد القلب، كما في قول الله تعالىفي [الحجرات:14].وكحديث سؤال جبريل عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه و سلم عن الإيمان، حيث كان جوابه ببيان أركان الإيمان.
هذا على أحد قولي أهل السنة من أن الإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه العمل مع الاعتقاد، أما على القول الآخر لأهل السنة بأن الإيمان هو اعتقاد القلب، ومن لوازمه العمل فإن الأمر واضح في كون الإيمان مرادفاً للاعتقاد، والخلاف بين القولين لفظي لا يترتب عليه فساد في الاعتقاد كما ذكر شارح الطحاوية رحمه الله تعالى( ).

وهكذا تبين لنا أن الإيمان عند أهل السنة يطلق على الاعتقاد، لكن حينما استُعمل مصطلح العقيدة أصبح الإيمان جزءاً من العقيدة، حيث أصبحت مباحث الإيمان فصولاً في كتب العقيدة، مثل بيان شمول الإيمان للعمل مع الاعتقاد.




شمول العقيدة لتكاليف الدين
[/align]

.................
 
............
[align=center]شمول العقيدة لتكاليف الدين[/align]

حينما نفهم العقيدة على أنـها مجموعة المباحث العقدية المستنبطة من الكتاب والسنة في كل مراحلها، من اعتقاد القلب إلى ما يترتب عليه من قول أو عمل، فإن ذلك اصطلاح علمي كسائر المصطلحات العلمية، ولكن حينما نبحث عن اعتقاد القلب بغضِّ النظر عما يترتب عليه من قول أو عمل فإن التأمل في ذلك يدلنا على شمول اعتقاد القلب لجميع تكاليف الدين.
وإن النظر في الأمور التالية ليدلنا دلالة واضحة على شمول العقيدة لتكاليف الدين:

الأول:
أنه قد جاءت الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة مرتبطة بالوعد والوعيد والأمر بالتقوى، وختمت بعض آيات الأحكام بذكر صفات الله جل وعلا المناسبة للمقام، وافتتح بعضها بنداء الإيمان، وذلك لربط هذه الأحكام باعتقاد القلب، وتنمية الإيمان بالله تعالى، الذي يدفع المسلم إلى مزيد من الاستقامة والعمل بطاعته جل وعلا.
ولنتأمل مقطعاً واحداً من آيات الأحكام في القرآن الكريم ليتبين لنا مدى ارتباط الأحكام بالعقيدة، فلننظر مثلاً إلى آيتي القصاص [ البقرة:178-179 ] .
فقد ختم الله سبحانه الآية الأولى بالوعيد بالعذاب الأليم لمن اعتدى بعد أخذ حقه، ثم بين أن مِن حِكَم مشروعية القصاص أن يصل المسلمون إلى مرتبة التقوى.
وانظر إلى آيات الوصية [ البقرة:180-182 ] فقد ختم الله سبحانه الآية الأولى بالتذكير بتقوى الله التي هي مطمع آمال المؤمنين، وختم الآية الثانية المشتملة على بيان عقوبة تبديل الوصية بذكر صفتي السمع والعلم لله تعالى المتضمنتين للوعيد والإنذار، وختم الآية الثالثة المشتملة على رفع الإثم عن المصلحين بذكر صفتي المغفرة والرحمة المتضمنتين للوعد والتبشير، وذلك لدفع المؤمنين إلى مراعاة حق الوصية وحفظها من التغيير والتبديل.
وانظر إلى أول آيات الصيام [البقرة:183] فقد ختمها الله تعالى بالتذكير بالتقوى وعلل بها فرضية الصيام ليكون ذلك أبلغ في المسارعة إلى الامتثال حينما يشعر المكلف بأنه بالصيام يصل إلى هذه الدرجة العالية.
وانظر إلى آيات الحج [البقرة:196-203] فقد ختم الله تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى والتذكير بعذابه الشديد [البقرة:196] وختم الثانية ببيان شمول علم الله تعالى والأمر بالتقوى [ البقرة:197 ].
وهكذا نجد سائر آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تخلو من وعظ وتذكير ووعد ووعيد.
كذلك نجد أن النبي ج قد اهتم ببيان الأحكام التكليفية مقرونة بالمواعظ والزواجر، فلا يكاد يخلو أمر من أوامر النبي ج ولا نهي من نواهيه من الترغيب والترهيب.


الثاني:
أن الإيمان إذا أُطلق في الكتاب والسنة لا يقتصر على اعتقاد القلب، بل يشمل القول والعمل، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، منها قول الله تعالى في [ البقرة:143] يعني ثواب صلاتكم التي كنتم تتوجهون بها إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة،
ومن ذلك ما أخرجه مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة ط قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:الإيمان بضع وسبعون – أ و بضع وستون – شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان( ).
فتبين من الآية والحديث أن القول والعمل من الإيمان.

الثالث:
أن المخالفات التي يرتكبها المسلم سواء كانت من باب ترك الواجبات أو فعل المحظورات كلها داخلة في الشرك بالله تعالى.
فإن كانت هذه المخالفات تصل إلى حد الخروج من الملة كانت من الشرك الأكبر وإلا كانت من الشرك الأصغر.
والحكم على هذه المخالفات بأنها من الشرك ليس حكماً عليها بحد ذاتها دائماً، فقد تكون من الشرك الأكبر كدعاء غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه غيره، أو من الشرك الأصغر كالحلف بغير الله جل وعلا، وقد تكون من المعاصي التي لا يطلق عليها الشرك كالربا والسرقة وشهادة الزور، ولكنها تعدّ شركاً بالنظر للدافع إليها وهو اتباع الهوى والشيطان وحب الدنيا والخضوع لرغبات الناس المخالفة للدين.
وهذا عام في جميع المعاصي التي يكون الدافع إليها الشهوات أو الشبهات، فأما الشهوات فأمرها ظاهر لأنها اتباع للهوى والشيطان، وأما الشبهات فإنها تعمي القلب إذا اجتمع عليه ضعف الإيمان وغزو الشياطين من الإنس والجن، فإذا وقع العبد في المعصية نتيجة لشبهة عرضت له فإنه يكون قد خضع لوساوس الشياطين من الإنس والجن، فالقدْر الذي استقر في قلبه من الشرك ليس في مزاولة المعصية نفسها، فإن فاعلها وهو يزاولها يرى أنه يُنفِّذ الحق ولا يتبع هواه، ولكنه ما استقر في قلبه من الاستجابة لوساوس الشياطين وضعف استسلامه لله عز وجل.
وهذا من الشرك الخفي الذي ذكره النبي صلى الله عليه و سلم بقوله: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال: ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت منه من دِقِّه وجِلِّه؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم.
ذكره الإمام ابن تيمية ونسبه إلى صحيح أبي حاتم( ).

فالأمر الذي يتعلق بالشرك بالنسبة للمعاصي هو ميل القلب إلى غير الله تعالى، حيث يتسرب إلى قلب المسلم اعتبار غير الله تعالى في طلب الرضا واجتناب السخط فيزاحم ذلك وجود الإيمان بالله تعالى في قلب المسلم فيقع في الشرك بسبب ذلك.

ولعل هذا هو المناسب في بيان حديث معاذ بن جبل الذي أخرجه الشيخان رحمهما الله وفيه فقال – يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم :
يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا( ).
فقوله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا يقتضي نفي العذاب بالكلية عن الموحدين، وهذا ينطبق على المسلمين الذين سلموا من المخالفات سواء فيما ظاهره شرك أو في المعاصي.
أما ما جاء في آخر الحديث من قوله لا تبشرهم فيتكلوا فالظاهر أنه محمول على ما عدا ذلك وهي النوافل، فيكون المعنى: لا تبشر الناس الذين أكملوا توحيدهم باجتناب الشرك بجميع أنواعه واجتناب المعاصي التي هي في حقيقتها مترتبة على الشرك.. لا تبشرهم بالنجاة من النار فيتكلوا على ذلك ويتركوا أداء النوافل فإنها تُكسبُ رضوان الله عز وجل ومحبته، وترفع من درجات فاعليها في الجنة، وتجبر ما عساه أن يكون نَقَصَ من أداء الواجبات، وهي المجال الرحب لتنافس أولياء الله تعالى السابقين بالخيرات، الذين تجاوزوا مرحلة المقتصدين المذكورة في قوله الله سبحانه في سورة [ فاطر:32 ].
وعلى هذا المعنى يمكن أن تحمل جميع أحاديث الوعد التي جاءت على نحو ما جاء في حديث معاذ رضي اله عنه.
فأما قول الله تعالى [النساء:48] فإن المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر الذي لا يبقى معه إسلام، وما دون ذلك من الذنوب إذا لم يتب فاعلها فإنه تحت مشيئة الله وإرادته إن شاء عفا عن فاعلها وإن شاء عذبه على قدر ذنوبه، سواء كانت هذه الذنوب شركا في الظاهر والباطن كالعمل الذي يخالطه الرياء والحلف بغير الله تعالى، أو كانت شركا في الباطن كسائر المعاصي التي لا تعتبر في ظاهرها من الشرك، ولكن ينطبق عليها أنها في الباطن شرك بالنظر إلى الانحراف القلبي نحو غير الله تعالى، كاتباع الهوى والاستجابة لوساوس الشيطان.

ومما يدل على أن المعاصي تسمى كبائر أو صغائر من وجه، وتعدّ شركاً من وجه آخر ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم تعس عبدالدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض( ).

فإن أكل الربا مثلا من الكبائر وهو داخل في معنى هذا الحديث إن كان آكله يعلم تحريمه لأنه يصدق عليه أنه من عبيد الدنيا، فهو بالنظر إلى خضوعه في سلوكه للدنيا يعدّ عبداً لها، وإن كان هذا لا يصل إلى حد الشرك الأكبر.
وواضح من النصوص الشرعية أن المسلم لا تُكتب عليه نية القلب حتى يقول أو يعمل، كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة( ).
أما إذا طرد وساوس الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء فإن ذلك يُكتب له عملاً صالحاً، لكن لو ارتكب المخالفة فإنه يكون قد وقع في المعصية الظاهرة، إلى جانب الوقوع في الشرك الخفي بميل قلبه عن الله تعالى إلى هوى النفس.

وإضافة إلى الارتباط الوثيق بين العمل الصالح والإيمان القلبي، فإن الإيمان هو الذي يدفع المسلم إلى العمل، كما أن العمل ينمي هذا الإيمان شيئاً فشيئاً حتى يقوى.
وعلى هذا فإن الدعوة إلى الاستقامة على جميع تكاليف الإسلام تعدّ دعوة إلى ترسيخ العقيدة، وجميعُ الدعاة إلى الله تعالى يشاركون في تثبيت العقيدة الإسلامية وإن لم يصرحوا بالدعوة إلى ذلك.

ولكن خدمة العقيدة في هذا المجال لا تتم إلا بتذكر أن تكاليف الدين التي يدعو إليها الداعية مرتكزة أساساً على العقيدة، فيكون قد جمع بين الدعوة إلى الاستقامة على أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه وبين محاولة تقوية إيمان المسلمين وربطهم بعقيدتهم.
وبهذا الشعور بالتلازم بين العمل الصالح والعقيدة يطْمئن المهتمون بأمور العقيدة، ليقينهم بأن روافد تثبيت الإيمان ليست مقتصرة على الأبواب التي جمعها العلماء تحت إطار العقيدة، بل هي شاملة لكل تكاليف الإسلام.


وهذا لا يعني التهوين من شأن أمور الاعتقاد التي اصطلح العلماء على تسميتها بذلك، وإنما يعني أن كل من دعا إلى أي حكم إسلامي فإن له نصيباً من الدعوة إلى العقيدة، وهذا إضافة إلى أنه يدفع الدعاة إلى الحماسة في دعوتهم فإنه يدفع المهتمين بأمور العقيدة إلى توسيع دائرة دعوتهم لتشمل الدين كله.
هذا وقد جاءت آيات كثيرة فيها ذكر الإيمان مع العمل الصالح( )، وهي ليست دليلاً على عدم شمول الإيمان للعمل، بل إن تلك النصوص تُفسَّر بما فَسَّر به العلماء الإسلام والإيمان، وذلك بقولهم: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فإذا اجتمعا يُفسَّر الإيمان باعتقاد القلب، ويبقى العمل على ظاهره، وإذا افترقا فذُكر الإيمان وحده فإنه يُفسَّر بأنه قول وعمل واعتقاد، كما فسره بذلك جمهور أهل السنة.
 
[align=center]الحكم بما أنزل الله من أصول العقيدة

الحكم بما أنزل الله تعالى من أصول توحيد الألوهية، وقد رتب الله تعالى على وجوده الإيمان، ورتب على فقده الكفر، [النساء:65].
وجمع الله جل وعلا لمن لم يحكم بما أنزل الله بين الكفر والفسوق والظلم [ المائدة:44 ] [ المائدة:45 ] [ المائدة:47 ].
وهذه الآيات وإن نزلت في أهل الكتاب فإن حكمها عام لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قال العلماء.
وقد قال حذيفة في الرد على من فهم اختصاص هذه الآيات ببني إسرائيل : نِعمَ الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لهم كل مُرَّة ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك
وإنما كان الحكم بغير ما أنزل الله كفراً لأن فيه جحوداً لحقِّ الله تعالى ورفضاً لحكمه.
وكان ظلماً لأن فيه وضعاً للأمر في غير موضعه الصحيح حيث إن حق التشريع لله وحده جل وعلا.
وكان فسقاً لأن فيه خروجاً عن دائرة العبودية لله تعالى إلى ادعاء حق الألوهية بالنسبة للمشرعين، وخروجاً عن دائرة العبودية لله تعالى وحده إلى دائرة العبودية لغيره بالنسبة للمنفذين.
فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد وإما كفر عمل.
فإذا جحد الحاكم ما أنزل الله، أو اعتقد بأن حكم غير الله أفضل، أو أنه مثله، أو اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله فهذا كفر اعتقاد، ويعدّ كفراً أكبر مخرجاً من الملة.
أما إذا كان الحاكم راضياً بالحكم بما أنزل الله ولا يعتقد الاعتقادات السابقة، وإنما حكم بالقوانين التي وضعها البشر مع اعتقاده عدم جواز الحكم بها والرغبة الصادقة في الحكم بما أنزل الله لو تمكن من ذلك، فهذا لا ينطبق عليه الحكم بالكفر المخرج من الملة لكونه لم يؤثِّر على اعتقاده بأن حكم الله هو الحكم الشرعي الوحيد، وإنما يبقى هذا النوع من كفر العمل .
فهذا النوع يعدّ من الكفر الأصغر ولو حكم صاحبه بالحق لصاحب الحق فإن حكم بالباطل فقد أضاف معصية أخرى في ظلم صاحب الحق.
هذا هو الأصل في الحكم، ولكن إذا لم يكن في البلاد حكم إلا بالقوانين الوضعية فهل يُحكَم على القضاة المسلمين إذا كانوا من النوع الأخير بالكفر العملي؟
الظاهر أن ذلك يخضع لمصلحة المسلمين العامة، فإن كانت تقتضي ضرورة مشاركة قضاة من المسلمين حتى لا تضيع حقوقهم ولا يضعف وجودهم فإن ذلك داخل في باب الضرورات، فلا يُحكَم على هؤلاء القضاة بأي نوع من أنواع الكفر، أما إذا شارك القضاة المسلمون من أجل الوظيفة والسمعة فإنه ينطبق عليهم وصف الكفر العملي.
[/align]
 
[align=center]...
المشاركة في الأعمال السياسية

هذا بالنسبة للعمل مع الحاكمين بغير ما أنزل الله تعالى في مجال القضاء، أما في مجال السياسة فإن الأمر فيه أخف من ذلك، وذلك كالمشاركة في عضوية البرلمان وأمثال ذلك من المناصب السياسية، فإن مصلحة المسلمين المتقين تقتضي المشاركة في المجال السياسي، حتى يكون لهم وجود مؤثر في التوجيه نحو الأصلح، وحماية حقوق المسلمين العامة، ودرء بعض الشرور عنهم، وإظهار الوجود الإسلامي.
وقد يصل المتقون عن طريق المشاركة في الانتخابات السياسية إلى فرض وجودهم والتمكن من إدارة الأمور في بلادهم حينما يكون لهم ثقل كبير.
وهذا لا يعني إقرار تلك الأنظمة السياسية الجاهلية وإنما يعني الأخذ بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، فإن ترك الأمور السياسية بيد غير المتقين يعنـي تقليص الوجود الإسلامي، وتضييع مصالح المسلمين المتقين، فتلك المشاركة من باب الضرورات التي تُقدَّر بقدرها، ولذلك فإنه لا يجوز الاستمرار في تلك الأنظمة الجاهلية بعد التمكن، بل يجب إقرار النظام الإسلامي في الحكم.
وهذا يشبه عمل يوسف عليه الصلاة والسلام حينما عمل مع فرعون مصر [يوسف:55]، فقد أصبح وزيراً لحاكم مصر في أهم أمور الدولة وهو الزراعة والتموين، ومن خلال ذلك المنصب نشر دعوة التوحيد في مصر، لأنه كان يقوم بذلك وهو سجين [يوسف:39-40]، فلا يمكن أن يتخلى عن دعوته بعد
أن أصبح متمكناً في الحكم.

وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك،

وكثيراً ما يتولى الرجل بيـن المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبدالعزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سم على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها( ).


ويقول الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي في تفسير آيات قصة شعيب عليه السلام من سورة هود : ومنها – أي الفوائد – أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان،
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عَمَلة وخدماً لهم،
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم( ).
وقد يُمثَّل للعمل في جو قد اختلط فيه الحق بالباطل بصلاة الجماعة في المسجد، فإن المسجد يضم أنواعاً من المصلين، فمنهم أقوياء الإيمان، ومنهم ضعفاء الإيمان، ومنهم منافقون، ومع ذلك فإن المسلم مأمور بأن يصلي مع الجماعة من غير أن يبحث عن عقائد المصلين، وإنما هو مسئول عن نيته هل هي خالصة أم مشبوهة؟.
وبعض الناس يستدلون على عدم مشروعية المشاركة في الانتخابات السياسية بالإخفاقات التي تحصل للمشاركين فيها من ممثلي المتقين، وهذا استدلال غير صحيح، لأن النجاح في أرض الواقع ليس دليلاً على المشروعية، وكذلك الإخفاق ليس دليلاً على عدم المشروعية، وإنما يلزم لذلك النوايا الصادقة في الإصلاح، واعتبار الأخذ بالضرورات كمسوغ لمشروعية هذا الأمر، وذلك للحفاظ على مصلحة الإسلام والمسلمين، وإذا كان الفرد المسلم يجوز له التفوُّه بالكفر عند الإكراه [النحل:106] لا لشيء إلا للإبقاء على نفسه والخلاص من أذى الأعداء أفلا يجوز لممثلي المتقين من الأمة أن يقعوا في تلك المخالفة الشرعية من أجل أن يُبقوا على وجود الإسلام في بلادهم وأن يحفظوا مصالح المسلمين من الاجتياح على يد أعداء الإسلام؟!.
[/align]
 
التحاكم إلى الطاغوت

التحاكم إلى محاكم القانون الوضعي يعدّ من التحاكم إلى الطاغوت.
والذين يتحاكمون إلى الطاغوت إن اعتقدوا جواز ذلك ورضوا به فإن ذلك من الكفر باللّه تعالى والإيمان بالطاغوت، فضلاً عن اعتقاد أن شرع البشر مماثل لشرع اللّه سبحانه أو أحسن منه أو جحد ما أنزل اللّه جل وعلا.
وهذا كله داخل في قول اللّه تعالى[النساء:60].
أما إذا تحاكم المسلم إلى المحاكم غير الشرعية وهو يكره حكمها ويعتقد أن وجودها مخالف للإسلام فإن كان غير مضطر إلى ذلك فإن هذا من المعاصي ولا يصل إلى الكفر، وإن كان مضطراً إلى التحاكم إليها لاستخلاص حقه أو الدفاع عن نفسه فهذا يعدّ من الضرورات الشرعية ولا يكون فاعل ذلك آثماً.

......
فالحكم بغير ما أنزل الله من أبرز أنواع الطغيان، وهو من أهم الدعائم التي يصل بها الجبابرة إلى تأليه أنفسهم لأنهم يُخضعون القوانين البشرية لأهوائهم.


مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام

لقد كانت مهمة الرسل عليهم السلام هي تخليص الأمم من عبادة الطواغيت إلى عبادة الله تعالى وحده، وإن اختلفت الأساليب التي انتهجوها في دعوتهم حسب توجيه الله تعالى لهم.
.......
ولما رأى سحرة فرعون أن سحرهم الكاذب قد بطل أمام معجزة موسى عليه السلام الحقيقية زال من قلوبهم كل ما كان فيها من تعظيم فرعون وتضخيمه، وأدركوا أن الهالات الضخمة التي تنسج حوله ما هي إلا أوهام في الخيال فرفضوا عبادته، وحل في قلوبهم تعظيم الله جل وعلا وإكباره فخضعوا لعبادته.
وكانوا أول المستنقذين على يد موسى عليه السلام، والصفوة الأولى التي آمنت به عن علم ويقين.
وبدا نجاح موسى ظاهراً من أول الطريق في مجال تجريد القلوب من الباطل وتحليتها بالحق.
.....
وإن ما قام به أولئك المؤمنون من تحدي فرعون والمقارنة بين عذابه في الدنيا وعذاب الله يوم القيامة ثم ثباتهم على الحق لما تصوروا وأيقنوا أن عذاب فرعون لا يقاس أبداً بعذاب الله تعالى..إن ما قام به هؤلاء المؤمنون يعدّ خطوة كبيرة نحو تحرير تلك الأمة من طغيان فرعون.
وقد تمثل هذا النوع من محاربة الطغيان في دعوة رسول الله صلى الله عليه و سلم في إنكار هيمنة البشر على حق التشريع من دون الله تعالى، وهو شرك الطاعة.
ولقد نزل في توجيه النبي ج إلى تحطيم الطغيان البشري آيات كثيرة، منها:-
قوله تعالى [الأنعام:121-122].
وقوله تعالى [يونس:42-43].
وقوله تعالى sŒÎ) [الأنبياء:45].
وقوله تعالى [الأنبياء:98-100].
وقوله تعالى [الزمر:64].
وقوله تعالى [الجاثية:7-10].
ولقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يجهر بتلاوة هذه الآيات وأمثالها ولا يداري المشركين بالإسرار بها، وكان من الأهداف الكبيرة والحِكَم البالغة من نزول هذه الآيات الشديدة على المشركين أن يتحطم الطغيان الذي عشش في أفكار زعماء الكفار وسادتهم، وأن يتلاشى شيئاً فشيئاً ما وقر في نفوس الأتباع من تعظيمهم والرهبة منهم.
.....
.....
ولقد كان يحصل من أولئك الطغاة غالباً تمجيد لأولئك الأتباع الذين يسيرون في ركابهم، وثناء عليهم بذكر فضائلهم، وما ذاك إلا لأن الطغاة لا يقوم وجودهم إلا على أتباعهم من عموم الناس، فإذا فقدوا هذه القاعدة سقطوا، فوجود كل من الطائفتين مرتبط بوجود الطائفة الأخرى.
وكما أن العامة محتاجون إلى الطغاة في بعض أمور معاشهم وتبوء المكانة الاجتماعية التي يطمحون إليها فإن الطغاة محتاجون إليهم لأنهم الركيزة التي يقوم عليها مجدهم، بل إن حاجة هؤلاء إلى العامة أعظم وأهم، لأن وجود مجدهم يقوم على أولئك العامة بينما يستطيع العامة لو عقلوا وتفكروا أن يتخلوا عنهم وأن يبحثوا عن ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة.
.....
إن ما قام به رسول الله صلى الله عليه و سلم من تحرير عقول الناس من تبعية طغاة البشر قد أتاح لهم فرصة عظيمة من التفكير والإبداع في هذه الحياة،
فليس أمام المؤمنين من يطلبون رضاه ويجتنبون سخطه إلا الله تعالى،

ثم هم بعد ذلك يتحركون غير مقيدين بالخضوع لبشر مثلهم، وإن كان الإسلام قد أوجب عليهم طاعة ولاتهم فإن ذلك من طاعة الله جل وعلا، ما دام الجميع خاضعين لذلك المبدأ العظيم وهو طلب رضوان الله تعالى واجتناب سخطه.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مكلفاً بالقيام بشد الناس إلى العروة الوثقى التي تتمثل في دعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى والكفر بالطاغوت [البقرة:256].
ولقد كانت الطاغوتية في عهده تتمثل في وجود الأصنام التي تعبد من دون الله جل وعلا، ووجود الطغاة الذين يطاعون من دون الله تعالى، فلذلك كانت دعوته إلى تحطيم الأصنام والطغاة، وإلى تقليص مكانة هذه الأوثان في نفوس عبادها.
وإننا حينما نعقد مقارنة بين دعوة رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعوة موسى عليه الصلاة والسلام نجد أنهما قد توجها إلى هدف واحد وهو تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، غير أنه لما كانت مظاهر الطغيان منشطرة في عهد النبي صلى الله عليه و سلم بين تعظيم الأصنام والطغاة كان توجهه إلى تحطيم هذا الطغيان من هذين الوجهين، ولكن جهاده يظهر بصورة أكثر في هجومه على الأصنام ومحاولة نزع مهابتها وتعظيمها من النفوس لأن عبادة الأصنام هي التي كانت تهيمن على نفوس العرب بشكل أعمق وأشمل، حيث إنهم أَلِفُوا الحرية فلم يكونوا يعترفون بأن بعضهم يعبد بعضاً وإن كانت بعض مظاهر هذه العبادة قد وجدت في طاعتهم العمياء لسادتهم.




أهمية الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله
 


أهمية الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله
و هنا لا بد من كلمة هامة قد تفصل عارض الكتاب , على ضعفه العلمي و قصوره , عن مؤلّفه , و هو من هو في جلالة قدره و علمه و فضله , !
و هذا الفصل يزداد و ينقص على حسب القناعة و زاوية رؤية الواقع , و اختلاف الواقع نفسه من بلد لآخر , و درجة بعد منظار صاحب دعوة ما : الزماني و المكاني حسب أهدافه البعيدة المدى أو القريبة ... و معظمه يرجع إلى " تحقيق المناط " .
فأخوكم هذا مثلاً مقتنع إلى درجة عظيمة بأن من الخير أن ينتخب المسلمون في دولة كتركيا حزباً علمانياً محايداً تماماً لا حزباً إسلامياً !؟!
و أقول هذا الكلام للتنبيه على حقل واسع من الرؤى التي تبدو غريبة عن التصور الإسلامي .. و الحال أنها برأيي في صميمه ! خاصة و أن الكثيرين من أهل الفضل و العلم ينظر إلى تلك الرؤى نظر الاستجهال ناهيك عن التشكيك ! و من الأول دعوة فضيلة الشيخ د. محمد موسى الشريف جماعة النور التركية للدخول في السياسة و انتخاب الأحزاب الإسلامية بدلاً من " جمودهم " على اجتهاد كان يلبي حاجة مضى زمانها في انتخابهم الحزب الديمقراطي ! و كذلك هي نظرة الشيخ الجليل د. الحميدي ..
و من أراد من الأساتذة و الإخوة الكرام المحاورة بهذا الشأن الحساس فربما يكون من الأحسن فتح صفحة جديدة .. و بارك الله في الجميع .
 
عودة
أعلى