[align=center]
الزيف الاشتقاقي"
"أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة"
تأليف: الدكتور عبد الصبور شاهين
مراجعة د. حمزة بن قبلان المزيني[/align]
يصف علماء اللسانيات تتبع تاريخ الكلمات ومحاولة اكتشاف أصولها والمعاني الأصلية القديمة لها بـ"الزيف الاشتقاقي". ويقوم هذا المنحى من البحث على محاولة الربط بين كلمة ما وبين معنى أصلي مفترض لها في طور متقدم من اللغة نفسها، أو بينها وبين معناها في اللغة التي اقتُرضت منها، إن لم تكن هذه من الكلمات الأصلية في تلك اللغة المعينة. ويلاحظ علماء اللسانيات أن من الممكن أن نتتبع معنى كلمة ما حتى نصل إلى فترات قديمة معينة في تاريخ لغة ما، لكننا نُواجَه، بعد تلك الفترة، بطريق مسدود لا يمكننا تجاوزه إلا بضرب من الخيال. ولذلك تبوء أغلب هذه المحاولات بالفشل، بل ربما تصل إلى حد كبير من السخف، وذلك ما يجعلها مجالا للتندر والسخرية.
ويعد كتاب الدكتور عبد الصبور شاهين(أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة. القاهرة: مكتبة الشباب، 1998)، كما سيتبين من هذه المراجعة، مثالا واضحا لهذا "الزيف الاشتقاقي".
وسوف أعرض هذا الكتاب هنا مبينا الفرضية التي يقوم عليها. كما سأبين الطرق التي سلكها المؤلف في محاولاته البرهنة على تلك الفرضية، وسيتبين لنا أن هذه الفرضية والبراهين التي ساقها المؤلف عليها لا تتمتع بكثير من الإقناع.
الغرض من تأليف الكتاب:
يبين الدكتور عبد الصبور شاهين أن ما دعاه إلى تأليف هذا الكتاب، الذي استغرق تأليفه خمسة وعشرين عاما، كما يقول، أنه وجد أن". . . نظرة القدماء إلى قصة الخلق قد تأثرت بالتصور الإسرائيلي لها، وهو الوارد في سفر التكوين، حيث يختزل الزمان كله إلى أقل من ثلاثة آلاف سنة تستغرق عشرين جيلا هم المسافة بين آدم وإبراهيم[هكذا]. . . ." (ص ص 21ـ22)، لذلك فإن هدفه من تأليف الكتاب هو: ". . . انتزاع العقل المسلم من براثن النقول الإسرائيلية المحشوة بالخرافات المنافية لكل ما هو عقل، وعلم، ونور" (ص17). كما يصرح بأن هذه المسألة شغلته ربع قرن أو يزيد قضاه". . . في محاولة لفهم النصوص التي جاءت في القرآن الكريم، وهي قطعية تروي وقائع قصة الخلق، وأيضا للتوفيق بين التصوير القرآني، والاتجاه العلمي في تصوير الحياة البشرية على هذه الأرض. . . "(ص 9).
ولم يبين المؤلف كيف أن الأسطورة الإسرائيلية، كما يصفها، لا يمكن أن تكون تفسيرا لخلق الإنسان، وإنما اكتفى بوصفها بالخرافة وأنها تتصادم مع المعرفة العلمية الحديثة. وكان المنتظر منه أن يتوجه، في بداية الكتاب، إلى تفنيد هذه الأسطورة تفنيدا تاريخيا يتمثل في تتبع مصادرها الإسرائيلية، وطرق دخولها إلى المصادر الإسلامية، ونقد سندها، إلى غير ذلك. لكنه وجه جهده، بدلا من ذلك، وجهة أخرى تتمثل في محاولة الاستفادة، كما يقول، من العلوم الحديثة في تفسير الإشارات التي وردت في القرآن الكريم عن هذه القصة.
وسبب محاولته الاستفادة من العلوم الحديثة في هذا الغرض أن كثيرا من المفاهيم تغيرت في العصر الحديث، كما يقول، وأنه ". . . صار لزاما على من يتصدى لكتابة شيء عن هذه القصة أن يأخذ في اعتباره ما كشف عنه العلم الحديث من حقائق، وما قال به من نظريات، حتى لا يبدو متخلفا عن ركب المعرفة المعاصرة" (ص21).
ومن المعروف أن البديل "العلمي" الذي يُقترح في هذا العصر لتفسير نشأة الإنسان، بل نشأة الأحياء كلها، هو النظرية التي تسمى بـ"نظرية التطور". غير أن الدكتور شاهين لم ير هذه النظرية بديلا صالحا لما أسماه بالخرافة الإسرائيلية. وإنما بدأ كتابه بهجوم عنيف على هذه النظرية معتمدا على كثير من المعلومات غير الصحيحة عنها. وبدلا من أن يفي بما وعد به من الاستفادة من المنجزات العلمية في هذا العصر، في تفسير نشأة الإنسان، قصد إلى "استنطاق" آيات القرآن الكريم وإعطاء تفسيرات جديدة لبعض الألفاظ الرئيسة التي وردت في الآيات القرآنية الكريمة في سياق هذه القصة.
والتفسير اللغوي الذي بنى عليه فرضيته البديلة للخرافة الإسرائيلية، كما يسميها، جديد، على حد علمي؛ لكنه تفسير قد لا يتفق معه أحد فيه.
وسوف أعرض فيما يلي الفرضية التي أقام المؤلف كتابه عليها ثم أعرض التفسير اللغوي الذي أتى به للبرهنة على هذه الفرضية. كما سأتناول بعض النقاط الأخرى التي يتبين منها أنه لم يتوفر للدكتور شاهين في هذا البحث ما يكفي من الأدوات الضرورية اللازمة لتناول هذه القضية تناولا علميا دقيقا.
فعلى الرغم من أن عنوان الكتاب ينص على أن ما سيعرضه المؤلف يمثل "الحقيقة" إلا أنه يعترف بأن: "هذه القصة كما وردت في القرآن الكريم تحتمل الكثير من التأويلات، وهي حافلة بالإيماءات والإشارات ذات الدلالة التاريخية والزمنية. .. "، وأن ". . . جُلَّ اهتمامنا في عرض قصة الخليقة على استنطاق آيات القرآن باعتبارها المصدر الأول والأوثق الذي ينبغي اعتماده في هذا المجال. . . " (ص12).
ويدل قوله هذا على أن ما أتى به من تفسيرات وبراهين ليست إلا فرضيات بشرية يمكن أن يختلف القارئ معه فيها. فهي ليست "حقائق" مستقلة عن التفسير الذي أتى به. وتعتمد صلاحية هذه التفسيرات ومعقوليتها اعتمادا كليا على ما سيقدمه المؤلف للقارئ من الأدلة المقنعة عليها. ولهذا فإن المؤمن ربما يختلف مع المؤلف في هذه التفسيرات، لكن اختلافه معه فيها لا يمس "حقيقة" الآيات الكريمة.
التفسير اللغوي:
يتمثل تفسيره اللغوي في ثلاثة أشياء هي:
1ـ تمييزه بين كلمتي "البشر" و"الإنسان".
2ـ تفسيره لكلمة "سلالة".
3ـ دلالة حروف العطف.
وفيما يلي عرض لهذه التفسيرات الثلاثة:
تمييزه بين "البشر" و"الإنسان":
يعتمد تفسيره لنشأة الإنسان على التمييز الذي أقامه بين معنى كلمة "بَشَر" وكلمة "إنسان". فقد افترض أن كلمة "بشر" تطلق على الأطوار القديمة التي كان عليها الإنسان قبل استصفاء الله لآدم من بين بقية المخلوقات التي يطلق عليها "بشر". فالبشر: "تسمية لذلك المخلوق الذي أبدعه الله من الطين، وأصله في اللغة من(ب ش ر)، وهو يفيد(الظهور مع حسن وجمال)، قال ابن فارس: (وهو أصل واحد: ظهور الشيء مع حسن وجمال، وسمي البشر بشرا لظهورهم") (ص64).
و"مع أن كل حيوان أو طير أو حَشَر [انظر هذه الصيغة لجمع "حشَرة" التي يقصد منها أن تتوافق مع "بَشَر"، ليؤكد إطلاق الكلمة الأخيرة على الأطوار الأولى للإنسان] ـ إلى آخر سلسلة الكائنات ـ هو من طين، فإن البشر أبرز هذه المخلوقات، وآكدها وجودا، فلذلك أطلق عليه في القرآن (البشر)، أي: الظاهر على كل الكائنات الطينية، يسخرها لخدمته، ويستمد منها قُوْتَه وقُوَّته ويصارع وجودها تأمينا لوجوده" (ص65).
والملحوظة الأولى على تعريف "البشر" هنا أن هذا التعريف المعجمي ربما يكون سببه ورود هذه الكلمة في قصة يوسف في قوله تعالى: "وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم"، في وصف بروز يوسف عليه السلام للنسوة واندهاشهن بجماله الفائق. وهذا لا يلزم منه أن يكون المعنى الأصلي لهذه الكلمة هو المعنى الذي رواه ابن فارس. وهو ما يعني أن هذا التعريف المعجمي للكلمة ليس صحيحا.
ويعتمد المؤلف في تمييزه بين "البشر" والإنسان" على ورود هاتين الكلمتين في القرآن الكريم في بعض الآيات، حيث لا تدل كلمة "البشر" فيها، كما يرى، على "الإنسان" وإنما تدل على الطور الأقدم له.
فهو يقول تحت عنوان "ملاحظات على العلاقة بين البشر والإنسان"(ص97):
"حقيقة لا ريب لدينا فيها؛ هي أن بين (البشر والإنسان) عموما وخصوصا مطلقا، فـ (البشر) لفظ عام في كل مخلوق ظهر على سطح الأرض، يسير على قدمين، منتصب القامة، و(الإنسان) لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفا بمعرفة الله وعبادته، فكل إنسان بشر، وليس كل بشر إنسانا. والمقصود هو طبعا المعنى الأول الذي استُعملت فيه الكلمة (بشر) في آيات القرآن، وهو الظاهر أو المتحرك مع حسن وجمال". و:"لقد كان (البشر) خلال الأحقاب والعهود المتطاولة مجرد مخلوقات متحركة، حيوانية السلوك، ولكنها تزداد في كل مرحلة تعديلا في سلوكها، ونضجا في خبرتها، وتلونا في طرائق التفاهم اللغوي فيما بينها".(ص101)
وحين يستعرض الآيات التي ورد فيها لفظ "بشر" يجد أن هذا اللفظ استخدم في أربعة معان، هي (ص70):
1ـ البشر: هو الظاهر على كل الكائنات (وهو المعنى الأصلي)
2ـ المخلوق بإطلاق (وهو المعنى الأعم)
3ـ المخلوق غير المتميز (وصف سلبي)
4ـ المخلوق المتميز (وصف إيجابي)
أما "الإنسان" فطور أحدث لـ"لبشر"، جاء نتيجة للتطورات التي حدثت للبشر بمرور الأحقاب حتى وصل إلى طور صار فيه مؤهلا ليكون خليفة الله في الأرض. ويبين ذلك في قوله (ص98): "أما (الإنسان) فلا يطلق بمفهوم القرآن إلا على ذلك المخلوق المكلف بالتوحيد والعبادة لا غير، وهو الذي يبدأ بوجود آدم عليه السلام، وآدم ـ على هذا ـ هو (أبو الإنسان)، وليس (أبو البشر)، ولا علاقة بين آدم والبشر الذين بادوا قبله، تمهيدا لظهور ذلك النسل الآدمي الجديد. اللهم إلا تلك العلاقة العامة أو التذكارية، باعتباره من نسلهم".
"فإذا شرع[القرآن] في بيان حقيقة الخلق منذ البداية؛ ذكر أن هذه البداية كانت في صورة (بشر) هكذا مُنَكَّرا، باعتباره النموذج الذي أجريت عليه عمليات التسوية، والتصوير، والنفخ من روح الله (والتزود بالملكات العليا التي كان بها البشر إنسانا ـ وهي: العقل، واللغة، والدين)". و"لأمر ما وجدنا القرآن لا يخاطب البشر، بل يخاطب الإنسان، والتكليف الديني منوط بصفة(الإنسانية)، لا بصفة (البشرية)، فلم يعد للبشر وجود منذ ظهر آدم عليه السلام. . . "(ص88). ثم يصف "البشر" بأنهم "جماعات الهمج البشرية" (ص99).
لكن هذا "التأثيل" لكلمة "بشر" ليس مسَلَّما؛ فهناك عدد من المشكلات التي تعترض سبيله، وتمنع الأخذ به، بالإضافة إلى عدم صحة التعريف المعجمي للكلمة، كما رأينا. ثم كيف يستقيم أن يكون معنى "بشر" (الظهور مع حسن وجمال)، مع وصفه لهؤلاء البشر بأنهم "همج"، ومع أن بقايا الأطوار القديمة التي وجدها الباحثون لهؤلاء "البشر"، وهي التي لا يعترض المؤلف على أنها تمثل "البشر"، لا تتناسب في حسنها وجمالها مع حسن الإنسان المعاصر وجماله؟
يضاف إلى ذلك أن المعاني الأربعة، التي يرى أن لفظ "بشر" استخدم لها في القرآن الكريم، ليست صحيحة كما سيتبين بعد قليل.
وحين نستعرض السياقات التي وردت فيها كلمة "بشر" في القرآن الكريم فإننا نجدها تستعمل، معرَّفة ومنكَّرة ومُثَنّاة، بمعان تختلف عن المعاني التي يقول إنها استعملت فيها. فقد استعملت في المعاني التالية:
بمعنى رجل:
ومن الشواهد على هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى:
"قالت رب أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر"(آل عمران، 47)
وهو المعنى الذي نجده في الآيات:
1ـ"وقلن حاشا لله ما هذا بشرا"(يوسف31)
2ـ"ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"(النحل103)
3ـ "فتمثل لها بشرا سويا"(مريم17)
4ـ"قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر"(مريم ، 20)
5ـ"فكلي واشربي وقَرِّي عينا، فإمّا تَرَيِنَّ من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" (مريم26).
بل إنها لا يمكن أن تفهم، في بعض الآيات، إلا على أنها تدل على "الرجل". وذلك في مثل الآية التي ذكرتها هنا والآية (20) في سورة مريم:
"قالت أَنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر"(مريم ، 20).
فمن الواضح أن مريم عليها السلام تستغرب، في هاتين الآيتين، أن تلد غلاما من غير أن يمسها رجل؛ إذ لا يمكن أن تخاف من أن تمسها امرأة في هذا السياق. يضاف إلى ذلك أن هاتين الآيتين تصوران حدثا وقع في زمن يدخل فيما يطلق عليه الدكتور شاهين "زمن التكليف"؛ أي أنه وقع في طور "الإنسان"، لا طور "البشر"، إذا استعملنا مصطلحات المؤلف. فاستخدام كلمة "بشر" في هاتين الآيتين ينفي المعاني التي يراها الدكتور شاهين لهذه الكلمة؛ وهي بذلك دليل ضد فرضيته في هذا الكتاب التي تحصر مفهوم كلمة "بشر" على الطور الذي سبق الإنسان المكلف.
كما أن الآيات الكريمة الأخرى تدل دلالة أكيدة على أن المقصود إنما هو الإنسان الذَّكر، أي الرجل.
بمعنى "نبي" أو "أنبياء":
وتأتي كلمة "بشر" كذلك في سياق الحديث عن الأنبياء عليهم السلام؛ وذلك في وصف الله سبحانه وتعالى للأنبياء بأنهم من جنس الإنسان. كما تأتي في وصف الأنبياء لأنفسهم بأنهم من بني الإنسان وإنما فُضِّلوا على غيرهم بالاختصاص بالرسالة. وتأتي كذلك في الدلالة على استنكار أقوام الأنبياء أن يرسل الله تعالى رجالا منهم أنبياء. وقد حدث كل ذلك في الفترة التي يمكن أن يسميها الدكتور شاهين بفترة طور "الإنسان". وذلك كما في قوله تعالى:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون"(آل عمران 79)
وهذا هو المعنى الذي نجده كذلك في الآيات:
1ـ"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونها قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون"(الأنعام91)
فموسى هنا من جنس البشر.
2ـ "قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين"(إبراهيم 10)
3ـ"قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون" (إبراهيم11)
4ـ"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بربه أحدا"(الكهف110)
5ـ"لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم لا تبصرون"(الأنبياء3)
6ـ"وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون"(الأنبياء34)
7 ـ"فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين"(المؤمنون24)
8ـ"ولو أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون"(المؤمنون 34)
9ـ"ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين"(الشعراء154)
10ـ"وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين"(الشعراء186)
11ـ"قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما انزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون"(يس15)
12ـ"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين"(فصلت6)
13ـ"وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌّ حكيم"(الشورى51)
14ـ"ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد"(التغابن6)
15ـ"فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين"(هود27)
16ـ"أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا"(الإسراء 93)
17ـ"وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا" (الإسراء94)
18ـ"ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون"(المؤمنون34)
19ـ"فقالوا أنؤمن لبشريْن مثلنا وقومهما لنا عابدين(المؤمنون 47)
20ـ"فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر"(القمر24)
وتأتي كلمة "البشر" في الدلالة على آدم؛ أو على عموم أفراد بني الإنسان، فيما يتصل بالخلق:
كما في قوله تعالى:"وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون"(الحجر28)
وهو المعنى الذي في الآيات:
1ـ"قال لم أكن أسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون"(الحجر33)
2ـ"إذ قال ربك إني خالق بشرا من طين"(ص71)
3ـ"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا"(الفرقان54)
4ـ "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون"(الروم20)
وتأتي في الدلالة على بني الإنسان عموما، فيما لا يتصل بالخلق:
كما في قوله تعالى: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير" (المائدة18)
وهو المعنى في الآيات:
1ـ"إن هذا إلا قول البشر"(المدثر25)
2ـ"وما هي إلا ذكرى للبشر"(المدثر31)
3ـ"نذيرا للبشر"(المدثر36)
ومن الواضح أن كلمة "بشر"، منكَّرة ومعرَّفة، في هذه الآيات إنما تنصرف إما إلى "الرجل" أو إلى أفراد من جنس الإنسان في الطور الذي يمكن أن يسميه الدكتور شاهين بطور التكليف.
وبهذا فإن فرضيته التي تقضي بأن كلمة "البشر"، معرَّفة ومنكَّرة، تدل في القرآن الكريم على طور قديم للإنسان لا يمكن أن تقبل.
بل إننا نجد أن هذه الكلمة في بعض الآيات لا تدل إلا على "الإنسان" في الفترة التاريخية لبني الإنسان. ومن أوضح الآيات دلالة في هذا المعنى الآية التي وردت في سورة مريم، وهي قوله تعالى:
"فكلي واشربي وقَرِّي عيْنا، فإمّا تَرَيِنَّ من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" (مريم26).
وكما هو واضح في هذه الآية فإن مريم عليها السلام تستطيع رؤية "البشر"، وهو ما يعني أنهم الذين كانوا يعيشون في تلك الفترة التاريخية. ثم إنه لما لم يكن لكلمة "البشر" مفرد من لفظها فقد استعمل القرآن الكريم وصفا من المادة اللغوية التي جاء منها لفظ "الإنسان" وهو "إنسي". وما دام أن كلمة "إنسي" استخدمت وصفا لـ"البشر" فإن هذا يدل دلالة أكيدة على أن "البشر" مرادف لـ"الإنسان"، وأن فرضية المؤلف التي تقوم على التمييز بينهما في الدلالة لا تصح.
ويجب أن أشير هنا إلى أن الدكتور شاهين لم يورد هذه الآية في الكتاب كله. وهو ما يدعو إلى التساؤل عن سر عدم إيراده لها: أتراه يجهلها؛ أم أنه نسي الإشارة إليها؛ أم أنه لم ير فيها شيئا جديدا يضاف إلى ما ورد في الآيات التي أوردها؟
وهذه الاحتمالات كلها واردة عند من يريد أن يعتذر للدكتور شاهين. أما الذين يريدون أن يفهموا من عدم إيراده إياها شيئا آخر فإن أول ما يخطر لهم أنه تعمَّد عدم ذكرها لأنه يعرف أنها أوضح دليل ينقض فرضيته.
ويمكن أن يستأنس لهذا الاحتمال بما فعله الدكتور شاهين في إيراده الآية 79 من سورة آل عمران غير كاملة، فقد أوردها على الصورة التالية: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة"(ص69).
وربما بدا للقارئ غير المتمعن أن معنى هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ينفي أن يكون "البشر" أهلا لتلقي "الكتاب والحكم والنبوة"، أي "التكليف"، بمصطلح الدكتور شاهين. وهو ما يتماشى مع فرضية الدكتور شاهين التي تقضي بأن "البشر" نوع بدائي قديم لم يؤهله الله لتلقي الكتاب ولم يؤته الحكم ولا النبوة التي اختص بها الإنسان الذي يمثل نوعا متطورا جاء بعد "البشر" بآجال طويلة، وصار "مكلفا بالتوحيد والعبودية".
أما هذه الآية بتمامها فهي:
"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تُعلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون".
والواضح أن معنى هذه الآية ينصرف إلى الأنبياء على وجه الخصوص، وهو ما يعني أنها موجهة لمن يدخل في جنس "الإنسان"، بتعريف الدكتور شاهين. بل ربما كان المقصود فيها عيسى بن مريم عليه السلام تحديدا، وبخاصة إذا نظرنا إلى الآيات التي سبقت هذه الآية والآيات التي جاءت بعدها.
وخلاصة القول أن فرضية الدكتور شاهين تسقط اعتمادا على المعنى الذي تؤديه هاتان الآيتان وحدهما. ذلك أن كلمة "بشر" فيهما مرادف لكلمة "إنسان" بشكل لا لبس فيه.
ومع هذا فإننا سوف نستمر في عرض فرضيته بالنظر في المعاني التي يرى أن كلمة "الإنسان" تدل عليها.
فهو يقرر في (ص16) أن:"المشروع الخلقي[للإنسان] كان واحدا. . .[منذ البداية] إلى يوم الناس هذا، وأن البشر قد مر في مراحل من (التسوية، ونفخ الروح الإلهي) في مراحل متدرجة من حيث النضج، وهو ما اختلفت به هويات الأجيال، وكل ذلك في إطار المرحلة البشرية إلى أن كان(آدم) أول الإنسان الأول[هكذا]، الذي اصطفاه الله نبيا، فكان أبا الإنسان. . ." .
ويقول في (ص99):"وليس يبعد أن نفترض أن الخالق سبحانه ـ وقد مضت مشيئته بتفرد آدم وذريته بالسيادة على الأرض، والنهوض بأمر الدين، وإقامة التكاليف، وفي مقدمتها التوحيد ـ قدر سبحانه فناء كل البشر، من غير ولد آدم، وذلك بعد عزل السلالة الجديدة المنتقاة في الجنة، حتى تتم إبادة جماعات الهمج البشرية، لتبدأ بعد ذلك الملحمة الإنسانية، بطليعتها المصطفاة: آدم وحواء، وبدأ التكليف داخل الجنة، وبدأ الصراع بعد أن أخليت ساحته من العناصر الطفيلية التي لم يعد لها دور، بل التي انتهى دورها، ليبدأ على الأرض دور جديد. . ."
فالإنسان، إذن، "تطور" عن البشر.
غير أن لفظ "الإنسان" ورد في حديث القرآن عن قصة الخلق مسبوقا وملحوقا بالكلمات نفسها التي وردت مع اللفظ "بشر". وذلك في مثل قوله تعالى:
"ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون"(الحجر26)
"وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون"(الحجر28)
لكن الدكتور شاهين، أمام مثل هذه الآيات التي ورد فيها لفظ "إنسان" ولفظ "بشر" في سياق متماثل، يقول: "إن استعمال لفظ "الإنسان" في الآية الأولى[هنا] إنما كان لأجل المقابلة بينه وبين "الجان"، أما". . . الحديث عن الأصل الترابي[فـ]يرتبط غالبا (بالبشر). وهو ما تبينه الآية الثانية".
لكن هذا التحليل ليس مقبولا لأن السياق اللغوي واحد، فضلا عن أنه يقول في موضع آخر: "وربما كان إطلاق كلمة(بشر) أيضا بهذا المعنى، وهو(الظهور) ـ مقابلا لما يتصف به عالم الملائكة، وعالم الجن، من عدم الظهور، فهم خلق لا يُرى، وقد قرر القرآن ذلك بشأن (الجن)، إذ هي كلمة مشتقة من معنى: (الاجتنان) وهو الاستتار. . ."(ص65).
وهو ما يعني أن المقابلة تكون بين "البشر" والجن والملائكة أيضا.
كما يعتمد في تمييزه بين كلمتي "البشر" والإنسان" على أن لفظ "الإنسان" هو الذي يرد في القرآن في مجال التكليف.
غير أن هذا القول غير دقيق؛ إذ إن لفظ "البشر" يرد في مجال التكليف أيضا. وذلك في مثل قوله تعالى :
"وما هي إلا ذكرى للبشر"(المدثر31)
"نذيرا للبشر"(المدثر36)
فتدل هاتان الآيتان على أن البشر "يُنذَرون" و"يُذكَّرون". وهو مما يدل على اكتمال مؤهلاتهم العقلية واللغوية أيضا، وأنهم وصولوا إلى مرحلة التكليف التي تدل على مستوى "الإنسان". لذلك فإن تمييزه بين الكلمتين لا معنى له.
2ـ تفسيره لكلمة "سلالة":
ويقول عند كلامه على قول الله تعالى:"ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين"، إن هذه الآية لا تدل على الخلق الأول، أي "البشر"، وإنما هي تذكير للإنسان بأصله.
ويعني هذا أنه يفسر كلمة "سلالة" هنا لتدل على أن المعنى في هذه الآية أن الإنسان جاء من سلسلة آباء خلقوا من طين، ". . . وكأن الآية تدفع عن العقل احتمال إدماج العمليتين [خلق البشر وخلق الإنسان] في عملية واحدة، فالإنسان خلق من (سلالة) نسلت من(طين)، أي: إنه لم يخلق مباشرة من الطين، فأما ابن الطين مباشرة فهو (أول البشر)، وكان ذلك منذ ملايين السنين" (90)
ويقول: "فخلق الإنسان (بدأ من طين)، أي: في شكل مشروع بشري، ثم استخرج الله منه نسلا (من سلالة من ماء مهين)، ثم كانت التسوية ونفخ الروح، فكان (الإنسان) هو الثمرة في نهاية المطاف عبر تلكم الأطوار التاريخية السحيقة العتيقة" (ص91).
لكن هذا التفسير لكلمة "سلالة" يعتمد على مدى ما يورده المؤلفُ من الأدلة على لزومه. وهو لم يورد أي دليل على أن هذه الكلمة لا تدل إلا على هذا المعنى في هذا السياق. أما هذه الكلمة فيمكن أن تفهم بمعان أخر، كأن يكون معناها "جزءا من الطين"، و"جزءا من الماء المهين".
وباختصار فإن تفسيره لكلمة "سلالة"، ولزوم الدلالة التي يراها يتوقفان على قبول تمييزه بين "البشر" و"الإنسان". وما دام أنه اتضح أن تمييزه بين الكلمتين ليس لازما، بل متمحَّلا، ومغلوطا بسبب عدم إيراده الآية التي في سورة آل عمران كاملة، وبسبب عدم إيراده الآية التي في سورة مريم، وهي أكثر الآيات وضوحا في رد هذا التمييز، فإن الدلالة التي يراها لكلمة "سلالة" غير لازمة.
2ـ تفسيره لبعض حروف العطف:
يُستعمل حرفا العطف "الفاء" و "ثم" في سياق قصة الخلق في القرآن الكريم. ويحاول الدكتور شاهين أن يفسر ورود أحد الحرفين في سياق معين في مقابل عدم ورود حرف العطف الآخر وسيلة لتعضيد تمييزه بين "البشر" والإنسان".
فهو يقول في تفسير قوله تعالى، "ولقد خلقناكم ثم صورناكم": "وهما مرحلتان في عمر البشرية، لعلهما استغرقتا بضعة ملايين من السنين. . . ومع ملاحظة استعمال الأداة (ثم) التي تفيد التراخي بين الأمرين"(ص86).
ويقول، عند الكلام على قوله تعالى:"وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه"(ص ص 105ـ106): "والأداة (ثم) للترتيب مع التراخي، وكأن استعمالها في هذا السياق ترجمة لمفهوم الزمان المتطاول الذي عبر عنه الظرف (إذا)، في مقابل استخدام الفاء أو الواو في ربط أجزاء أخرى من الآيات، تعبيرا عن التعقيب أو مطلق الجمع".
لكننا حين نتأمل الحالات التي يرد فيها حرف العطف "ثم" في القرآن الكريم نجد أنه ورد في التعبير عن الفترات القصيرة نحو مدة الحمل (ص92، ص106).
كما يرد حرف العطف "الفاء" في قوله تعالى:"يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم. الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركَّبك"(الانفطار 6ـ8). وواضح أن هذا الترتيب بين الأحداث في هذه الآية يدخل فيما يرى المؤلف أنه آجال طويلة. وأمام هذا الدليل على عدم التمييز بين حرفي العطف نراه يجنح إلى تفسير استعمال "الفاء" هنا بأنها "ضُمِّنت معنى (ثم)" (ص107).
وبهذا فإن حرفي العطف لا يعود لهما المعاني التي يرى أنها تميز بين الفترات القصيرة والطويلة، وهو ما يلزم من تطاول الأحقاب في مسألة الخلق الأول وقصرها في مسألة الحمل والفترات القصيرة الأخرى، كما يرى.
وهذا دليل آخر، يضاف إلى الأدلة السابقة، على عدم إمكان التمييز بين "البشر" و"الإنسان.
وخلاصة القول أن تمييز الدكتور عبد الصبور شاهين بين "البشر" و"الإنسان" غير مقنع، ولم يتبين من خلال معالجته أنه تمييز ممكن. فقد كانت الأدلة كلها مما يمكن الاختلاف فيه.
موقفه من نظرية التطور
هاجم الدكتور عبد الصبور شاهين نظرية التطور هجوما عنيفا. ومن الأمثلة على هذا الهجوم قوله:". . . كما يصل[أحد الآراء المنسوبة إلى أحد الباحثين] في النهاية إلى رفض نظرية داروين، بأسلوب التقنية المعاصرة"(ص37). وقوله: "غني عن القول أن كل الجهود العلمية حتى الآن تنصب على معارضة داروين فيما ذهب إليه، وأن ما قدمناه لم يكن سوى بعض العينات التي جهد فيها العلماء ليدحضوا مذهب النشوء والارتقاء، حتى إننا نستطيع أن نقول: إن نظرية داروين لكثرة ما تعرضت له من نقد ـ مجرد مقولة هشة لا تعني شيئا في مجال البحث عن أصل الإنسان، وإن قدمت الكثير في مجال(البيولوجيا) أو علم الأحياء" (ص39). وهو قول متناقض عجيب!
وقوله، إن:" . . . البشرية في المفهوم الديني القرآني جنسا واحدا، لا عدة أجناس مقتبس بعضها من بعض على ما قررته النظرية الداروينية التي أسقطها العلماء في الشرق والغرب على السواء"(ص115).
وعلى الرغم من هذا الهجوم على نظرية التطور إلا أن الدكتور شاهين يقبل في كتابه بعض المفاهيم الأساسية في هذه النظرية. ومن هذه المفاهيم العمقُ الزمني الطويل الذي مر به الإنسان في تطوره، كما تقول هذه النظرية. ومنها أنه يقبل نتائج الحفريات التي وجدت بقايا لأشكال متعددة للإنسان. فهو يقبل هذه الأطوار ويقول عنها: "وكل هؤلاء الأناسي وجوه مختلفة لمخلوق واحد، كان يتنقل من مرحلة إلى مرحلة في تسوية الخالق له، فكلما مضت مرحلة من التسوية تغيرت بعض أوصافه، وأفرده الباحثون في الجيولوجيا والأنثروبولوجيا بتسمية. . . " (ص ص 28ـ30).
أما السبب الوحيد الذي يجعله يهاجم هذه النظرية فهو ما يقوله من أن هذه النظرية تقول إن الإنسان تطور عن أشكال أدنى، كالقرد مثلا.
والمعلومات التي يبني عليها الدكتور شاهين رأيه عن هذه النظرية أغلبها معلومات خاطئة. فهو لم يرجع إلى الكتب العلمية التي تتضمن الأبحاث عن هذه النظرية وتفصيلات الأدلة التي يوردها المتخصصون في الأحياء عليها؛ وإنما اعتمد على أخبار صحفية قديمة، وأقوال صادرة، في أغلب الظن، عن أناس لا يرون ما تراه هذه النظرية. وكثيرا ما تكون الأقوال التي تخالف هذه النظرية وتسند إلى بعض علماء الأحياء مكذوبة عليهم أو أقوالا أسيء فهمها وتفسيرها(انظر ص ص 32ـ37). وهذا ما دأبت عليه الجماعات التي تؤمن بحرفية القصة التي وردت في سفر التكوين عن كيفية الخلق، وهي التي دأبت على مناصبة هذه النظرية العداء في أمريكا بخاصة.
كما أن موقفه من هذه النظرية يقوم على فهم مغلوط لطبيعة النظريات العلمية، وهو مفهوم لا يتناسب مع ما يراه المشتغلون بالعلوم عن طبيعة النظرية العلمية وبنيتها. فهو يقول (ص42): ". . . وإنما يأتي التناقض[ الظاهر بين القرآن والعلم] من جهة أن العلم لم يستقر بعد على بر الحقيقة الكاملة، بل ما زال يدور في إطار النظريات الظنية الدلالة. . ."
ومعنى هذا أن الدكتور شاهين يفهم النظرية العلمية على أنها "حقيقة". لكن المشتغلين بالعلوم لا ينظرون إلى النظريات على أنها "حقائق"، وإنما هي تفسيرات منضبطة تبقى صالحة حتى يقترح العلماء نظريات أكثر دقة منها.
وأنا لا أريد هنا الدفاع عن نظرية التطور؛ وإنما أريد فقط أن أبين أن تصوير الدكتور شاهين لها تصوير خاطئ. وكان يجب عليه من باب الأمانة أن يرجع إلى المصادر الموثوقة عنها حتى لا ينقل للقارئ أقوالا ليست منها.
أما ما يقوله المتخصصون عن نظرية التطور وعن طبيعة النظريات العلمية بعامة، وهو ما ينبغي أن يلم به القارئ العربي بعيدا عما تشيعه بعض الكتب العامة التي ألفت عنها تحت تأثير موجة العداء التي يؤججها الأصوليون المسيحيون في أمريكا، أو بعض الترجمات العربية للكتب التي يؤلفها أولئك، فتمثله الأقوال التالية:
يقول نورمان د. نيويل، في مقدمة كتابه:
Norman D. Newell, Creation and Evolution: Myth or Reality? New York: Praeger, 1985
"الخلق والتطور: الخرافة أم الحقيقة؟"،
"قَبِل علماء الأحياء والمتخصصون في علوم الإحاثة [علم تاريخ الأرض] منذ زمن بعيد، اعتمادا على عدد كبير من البراهين، التطورَ العضوي على أنه حقيقة. والنظريات العلمية ليست حقائق، لكنها تمثل تفسيرات علمية للمعلومات العلمية أو للمعرفة. وهذه النظريات إنما هي أفكار(ومن أمثلتها نظرية داروين عن الانتقاء الطبيعي)، وهي موضوع يخضع للدراسة بشكل مستمر في أثناء استخدامها في البحث عن الحقائق الجديدة والتفسيرات الجديدة. ولذلك فإنه يجب أن يخضع منطوق هذه النظريات للتغير باستمرار من أجل أن تتلاءم مع الكشوفات الجديدة التي تنتج عن وجهات النظر الجديدة".
ويقول بنتلي جلاس في كتابه:
Progress Or Catastrophe: The Nature of Biological Science and Its Impact On Human Society. New York: Praeger 1985
"تقدُّم أم فجاءة: طبيعة علم الأحياء وأثره على المجتمع الإنساني"،(ص68):
". . . يجب أن يتذكر المرء دائما أن النظرية العلمية الجيدة هي ببساطة تلك التي تُفسِّر بشكل مُرْضٍ الحقائقَ المعروفة، من غير أن تكون عرضة للدحض عن طريق المخالَفات الواضحة للبرهان العلمي. وهي عرضة للدحض، بصورة مستمرة، حين يبرهِن الاستقصاءُ العلمي على أنها ليست تفسيرا ممكنا أو حين يصعب تعديلها لتتناغم مع الحقائق، إن كان هذا ممكنا. وفيما يخص نظرية التطور فإن مرور أكثر من قرن من مثل هذا الاختبار عليها جعلها أقوى ألف مرة مما كانت عليه في حياة داروين".
ويقول ستيفن جاي جولد، وهو أحد علماء الأحياء المعاصرين البارزين الذين يكتبون باستمرار عن هذا الموضوع، وذلك في مقال له نشرته مجلة Time الأمريكية في 23 أغسطس 1999، (ص43)إن نظرية التطور تشبه في مركزيتها لعلم الأحياء مركزية الجدول الدوري للكيمياء أو مركزية الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن للتاريخ الأمريكي. وهو ما يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك علم للأحياء بغيرها. ويقول:
". . . تتمتع نظرية التطور بأدلة قوية بشكل يماثل أية ظاهرة من ظواهر العلم، فهي تماثل في قوتها دوران الأرض حول الشمس بدلا من العكس. وبهذا المعنى فإن بإمكاننا أن نصف نظرية التطور بأنها "حقيقة".( والعلم لا يتعامل بمفهوم الوثوقية، لذلك فإن مفهوم "الحقيقة" لا يمكن أن يعني إلا أنها افتراض مؤكد بدرجة عالية تجعل اعتناق المرء لرأي يخالف هذا الافتراض أمرا منحرفا)".
التفسير العلمي للقرآن:
دأب كثير من الباحثين المسلمين على اللجوء إلى العلوم الحديثة، الطبية والفيزيائية والكيمائية، في تفسير بعض الآيات القرآنية الكريمة. فكثيرا ما نجد هؤلاء يأتون بتفسيرات "علمية" لبعض الآيات ثم يستنتجون منها أن القرآن قد سبق العلم الحديث إلى ذكر الظواهر التي ترد في هذه الآيات. ويجب أن أشير هنا إلى أن المسلمين ليسوا الوحيدين في هذا الصنيع. بل إن أصحاب الديانات الأخرى يقومون بالعمل نفسه. ويجد المطلع على "الأبحاث" التي يقوم بها من يسمون أنفسهم بـ"العلماء القائلين بالخلق" Creation Scientists ، وبخاصة في أمريكا، استخداما واسعا للعلوم في تفسير الإنجيل. بل إنهم يزعمون دائما أنهم يصلون إلى اكتشاف التوافق بين ما في الإنجيل وما تقول به العلوم الحديثة. وكما لاحظت سابقا فإن هؤلاء كثيرا ما يسيئون فهم النظريات العلمية، وكثيرا ما يسيئون تفسيرها، وكثيرا ما يكذبون على البسطاء في حديثهم عن النظريات العلمية وفي نقل وجهات نظرها بأمانة.
ولقد أثير استخدام العلم في تفسير القرآن الكريم منذ زمن بعيد؛ فقد رأى بعض علماء المسلمين أنه يجب أن يصان القرآن الكريم فلا يعرَّض للنظريات العلمية التي تتسم بالتغير. لكن هناك من ينادي بضرورة الاستئناس بالعلوم الحديثة في الكشف عما يسمونه بـ"الإعجاز العلمي" في القرآن الكريم. ويلحظ المطلع على الكتب التي تؤلفها هذه الفئة الأخيرة، أنها تمتلئ باستخدام النظريات العلمية والكشوف الطبية والكيميائية والأحيائية لتفسير الآيات القرآنية. لكن الفاحص لهذه الكتب سيجد أن كثيرا منها يبلغ حدودا من السخف والإدعاء لا تطاق.
ويعد استخدام الدكتور عبد الصبور شاهين لبعض نظريات الأحياء في تمييزه بين "البشر" الذي يمثل طورا قديما و"الإنسان" الذي يمثل طورا أحدث من باب تعريض القرآن الكريم للنظريات العلمية المتغيرة بطبيعتها.
كما يتضمن الكتاب أمثلة أخرى لاستخدام "العلم" في تفسير بعض الآيات الكريمة. ومن ذلك ما أورده في تفسير قوله تعالى: "فلينظر الإنسان مم خُلق. خُلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب" (سورة الطارق).
فهو يقول: "ثم يأتي النص في سورة(الطارق) ليضيف من المعلومات عن الماء الدافق (المني) الذي (يخرج من بين الصلب والترائب)، وهي معلومة لم تكن معروفة حتى عصرنا. . ." (ص58).
ويقول في موضع آخر:"والصلب: فقار الظهر، وهي منبع الماء الدافق عند الرجل، والترائب: جمع، مفرده "تريبة"، وهي عظام الصدر مما يلي الترقوتين، وهي منبع ماء المرأة، وهذه المعلومة كانت مجهولة للإنسان، وبقيت مجهولة حتى منتصف القرن العشرين، وقد تضمنها الوحي القرآني منذ أوائل هذا الوحي، أي: منذ أكثر من أربعة عشر قرنا"(ص85).
وكان يكفيه أن يتطلع على أية مقدمة في علم التشريح ليعرف أن هذا التفسير ليس صحيحا. إذ لا شأن لصلب الرجل ولا لفقار ظهره ولا لترائبه ولا لصلب المرأة ولا لترائبها بالحمل ولا بما يتعلق به.
وأنا لا أريد هنا أن أفسر القرآن الكريم، لكنه يبدو لي أن التفسير الأقرب لقوله تعالى: "يخرج من بين الصلب والترائب" هو أن هذه الآية وصف للإنسان، وليست وصفا للماء الدافق. إذ يمكن أن يكون معناها تذكير الإنسان بالمكان الذي كان فيه في أثناء الحمل، وهو بطن أمه؛ أو تكون وصفا للإنسان يوم البعث، حين يبعث من بين تراب الأرض وأحجارها. والمعنى الثاني أقرب، وبخاصة إذا نظرنا إلى الآيات التي تتلو هذه الآية وتتحدث عن يوم البعث.
معلومات الدكتور شاهين العلمية:
من الغريب أن يتكلف الدكتور شاهين الخوض في النظريات العلمية مع أن هناك شواهد كثيرة في هذا الكتاب تدل على أن أدواته في هذا المجال لا تكفي. ولذلك فقد وقع ضحية لمعلومات نقلها من مصادر غير دقيقة، إن صح أن المعلومات هذه فيها؛ أو أنه وقع ضحية لأخطاء وقعت فيها ولم يتبينها لنقص أدواته في المجال العلمي. ومن ذلك ما قدمناه عن عدم اطلاعه على المصادر العلمية عن نظرية التطور، وعن المصادر العلمية في التشريح. واكتفاؤه بدلا عن ذلك برواية ما يجده عند الآخرين من غير تمحيص، أو الاكتفاء بما تنشره الصحف، مع ما تتصف به تلك النقول من عدم الدقة.
ومن الأمثلة الأخرى على قصور أدواته العلمية أنه ينقل عن "موسوعة الثقافة العلمية" أن تاريخ الفترة الجيولوجية التي تسمى بفترة "ما قبل العصر الكمبري" هو 71,125,000,000(ص25). وربما ظن القارئ أن في هذا الرقم خطأ مطبعيا. لكن الدكتور شاهين يورد هذا الرقم كتابة في (ص26) فيقول:"فقد بدأت الحياة العتيقة بمرحلة ما قبل العصر الكمبري، أي: منذ واحد وسبعين مليارا وخمسة وعشرين مليونا من السنين".
أما ما يكاد يعرفه الناس جميعا في هذا العصر فهو أن عمر الكون كله يقدر باثني عشر بليونا وخمسمائة مليون سنة إلى خمسة عشر بليون سنة في بعض التقديرات. وأن عمر الأرض يقدر بأربعة بلايين وخمسمائة مليون سنة إلى خمسة بلايين. وإذا كان الأمر كذلك فإن الرقم الذي ذكره ليس صحيحا. وكان عليه لو كان يعرف شيئا ذا بال عن العلم الحديث أن يبين عدم توافق هذا الرقم الهائل مع التقديرات المعروفة.
ومما يؤكد عدم كفاية معرفته العلمية أنه يورد تقديرات فترات عمر الأرض في كتاب "آدم عليه السلام" للكاتب التونسي بشير التركي من غير أن يلفت نظره الخطأ فيها. فيقول التركي، كما يروي الدكتور شاهين(ص15):"إن أهم الموجات البشرية أربع". وأن الموجة الأولى يتراوح تاريخها "من أربعة مليارات إلى مليار من السنين، وهي فترة عاش خلالها بشر يسمى(بشر الجنوب) (الأسترالوبتيك)".
وكما هو معروف فإن العلماء يقدرون أن الحياة بدأت على الأرض قبل خمسمائة مليون سنة، وأن الإنسان، حتى في أطواره الأولى، لم يوجد قبل ستة ملايين سنة.
ولو كان يعرف شيئا حقيقيا عن هذه العلوم للفتت نظره هذه التقديرات التي لم تخطر ببال أحد.
معرفته باللسانيات:
يعد الدكتور عبد الصبور شاهين أحد رواد الدراسات اللسانية في العالم العربي، وله بعض الكتب التي تتضمن أبحاثا لغوية، وقد ترجم بعض الكتب عن اللغة العربية من اللغات الأجنبية. وكان ينتظر منه ألا يقع في بعض الأمور التي لا تقرها اللسانيات.
ومن هذه الأمور وقوعه فيما يسمى بـ"الزيف الاشتقاقي"، كما أسلفت. كما أنه وقع فيما يسمى بـ"التحيز اللغوي"، وذلك حين يفضل اللغة العربية على غيرها. ويتضح ذلك من قوله: "والعجيب أن للعربية هنا تميزا وتفوقا على اللغات الأخرى، فقد حققت بهذا اللفظ (بشر) تطابقا عجيبا مع معناه، وكأنما كانت تستملي الغيب، وتستقرئ أستاره، ليمنحها هذه اللفظة، دون اللغات الأخرى في الفصيلة السامية، بل دون ما عهدناه من اللغات الأوروبية" (ص65).
ومع أنه يستنكر، ضمن استنكاره للقصة الإسرائيلية التقليدية للخلق (ص9)، أن يكون اسم "آدم" مأخوذا من "التراب"، إلا أنه يرى (ص129) أن هناك تناسبا، في اللغة العربية، بين الاسم "آدم" و"المادة التي ينتمي إليها وهي (أديم الأرض).
وهذان القولان مثالان لـ"لزيف الاشتقاقي" أيضا. ذلك أن المتخصصين يرون أن أحد المبادئ الرئيسة التي توجه اللسانيات منذ بداية القرن العشرين ذلك المبدأ الذي يسمى بـ"عشوائية العلامة"، ويعني أنه لا يمكن، في أغلب الحالات، أن نعرف السبب وراء تسمية شيء ما باسم معين. كما ترى اللسانيات أنه لا صحة للزعم بتفضيل لغة على لغة، من حيث كونها نظاما لغويا.
ومن الطرائف أنه يقول إن عدد اللغات في العالم ألفان، مع أن عدد اللغات يفوق ستة آلاف، وهو من الأمور المعروفة جدا. ومنها تسميته "الكمبيوتر" بـ"الكمتور" (ص128)، ويعلق في هامش الصفحة نفسها قائلا:"الكمتور: نحت عربي ـ للمؤلف ـ من كلمة كمبيوتر". مع أن هناك لفظا عربيا سائغا مستعملا منذ زمن ليس بالقصير يسمى به هذا الجهاز، وهو "الحاسوب".
وكذلك قوله إن اللغة نشأت عن تقليد أصوات الطبيعة؛ وهو قول قديم يلعب فيه التخيل بسهم وافر.
وهناك ملحوظات أخرى تتصل بعدم دقته في إيراد عدد المرات التي وردت فيها بعض الألفاظ في القرآن الكريم(ص113). فقد ذكر أن كلمة (البشر) وردت مفردة ثلاثين مرة، وذكرت مثناة مرة واحدة. مع أن هذه الكلمة وردت خمسا وثلاثين مرة. ويقول إن كلمة (الناس) وردت اثنتين وستين مرة، مع أن العدد الصحيح خمس وستون. ويقول إن كلمة "أناس" وردت سبع مرات، والعدد الصحيح خمس. وأن كلمة "الإنسان" وردت مائتين وثلاثين مرة، والعدد الصحيح مائتان وإحدى وأربعون(وقد اعتمدت في هذه الإحصائية على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، نشر مجمع اللغة العربية).
بل لقد أخطأ في جمع الأرقام التي أوردها؛ فقد ذكر أن مجموع هذه الأرقام هو ثلثمائة (هكذا!) وإحدى وعشرين مرة". أما جمعها الصحيح، بحسب الأرقام التي أوردها، فهو ثلاثمائة وخمسون. والعدد الصحيح هو ثلاثمائة وأربع وستون.
الأخطاء في إيراد الآيات القرآنية:
وقعت بعض الأخطاء الطباعية في بعض الآيات الكريمة، وكان يجب بذل عناية أكبر لمنع وقوع مثل هذه التطبيعات. وهذه الآيات هي:
"أبشرا من واحدا نتبعه"(ص56) . والصحيح هو: "أبشرا منا واحدا نتبعه"
"ثم سواه ونفخ في من روحه"(ص91). والصحيح هو: "ثم سواه ونفخ فيه من روحه"
"أولا يذكر الإنسان إنا خلقناه من قبل"(ص52). والصحيح هو: "أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل"
"وقال لأقتلنك"(ص126): "قال لأقتلنك"
الخلاصة:
ليس من غرضي في هذه المراجعة استغلال وقوع الدكتور شاهين في بعض الأخطاء واتخاذ ذلك وسيلة للإساءة إليه. وإنما الدافع إلى كتابة هذه المراجعة أن موضوع الكتاب أخطر من أن يترك لمثل هذه المحاولات التي لا تفيد في إغناء فهمنا لمعاني القرآن الكريم ولا في توسيع معارفنا بالظواهر الكونية.
كما أنني كتبت هذه المراجعة لأبين أن من المزالق التي يقع فيها بعض الباحثين أنهم يريدون أن يردوا العلم بالدين أو أن يردوا الدين بالعلم أو أن يؤيدوا الدين بالعلم أو أن يؤيدوا العلم بالدين. مع أنه ربما ينجم عن كل هذه المحاولات الإساءة إلى العلم أو الدين أو إليهما معا.
والأوفق أن يصان القرآن الكريم بخاصة من أن يجعل مجالا يخوض فيه الخائضون مستخدمين ما تتوصل إليه العلوم من إنجازات. ذلك أن هذه الإنجازات تتصف بالتغير؛ كما يجب أن يصان العلم عن التفسيرات الفطيرة التي تتلبس بالدين.
وقد كتب ستيفن جاي جولد كتابا رائعا عن هذا الموضوع هو:
Rocks of Ages: Science and Religion in the Fullness of Life, 1999
"صخور العصور: العلم والدين في الحياة السعيدة" (وهذه الترجمة للعنوان مؤقتة حتى أصل إلى ترجمة أدق). وسأحاول أن أكتب له عرضا عما قريب إن شاء الله.
وختاما فإن كتاب "أبي آدم"، بالإضافة إلى المآخذ العلمية التي ذكرت، سيئ التأليف؛ إذ إن فيه كثيرا من الاضطراب والتكرار والحشو وسوء التنسيق. هذا في الأقسام التي عرضت لها من الكتاب؛ غير أن في الكتاب فصولا أخرى لا صلة لها بالعلم، وإنما هي تخرصات لا تستند إلى شيء. وأحسن ما في الكتاب كله تلك المواعظ الحارة التي يوردها المؤلف في كل صفحة تقريبا.
ومن المبالغة بمكان أن يقول الدكتور شاهين إن تأليف هذا الكتاب استغرق خمسة وعشرين عاما. وأظن أن الأقرب أن يقال إن هذا الموضوع شغله لهذه المدة الطويلة مما جعله يجمع المعلومات عنه، ويفكر فيه بين الحين والآخر. أما كتابة هذا الكتاب فعلا فلا أظنها استغرقت هذا الزمن الطويل.
وبعد ذلك كله، فإن من العجيب أن ينبري بعض الناس ليلغي حق الدكتور شاهين في أن يرى رأيا جديدا في تفسير القرآن الكريم. بل إن الأمر تجاوز إلغاء هذا الحق إلى التشكيك في دينه. والواقع أن هذا الكتاب يشهد على حسن نية مؤلفه(ولا نزكي على الله أحدا)؛ فهو لم يكذِّب آية في كتاب الله تعالى، ولم تصدر منه كلمة واحدة يمكن أن يفهم منها عدم إيمانه بالله خالقا.
أما فرضيته التي جاء بها فليست إلا واحدة من الاجتهادات التي سبقه إلى أمثالها المفسرون المسلمون على امتداد العصور. ومن أهم المفسرين المعاصرين الذين حاولوا إعطاء تفسيرات جديدة لبعض الآيات القرآنية، مستخدمين منجزات العلوم الحديثة فيها، طنطاوي جوهري والشيخ المراغي وسيد قطب رحمهم الله. ولم يشكك أحد في دينهم، ولم يعد أحد ما جاءوا به خروجا على الإسلام.
ولذلك فِإنه ينبغي، في رأيي، أن نميز بين أمرين: الأول هو أن فرضية الدكتور شاهين في تفسيره لآيات الخلق إنما هي تفسيرات بشرية يجوز عليها ما يجوز على التفسيرات الأخرى من القبول أو عدم القبول؛ والأمر الثاني أنه يجب ألا ينظر إلى هذا الاجتهاد على أنه خروج من المؤلف على الإسلام كما يرى بعض الناس.
أما فرضية المؤلف في هذا الكتاب فقد حاولت أن أبين هنا أنها ليس لها ما يسندها؛ ويجب أن تعامل على هذا الوجه. لكن هذا يجب ألا يتخذ ذريعة لمنعه من أن يرى تفسيرا مخالفا لما عهده الناس، ويجب ألا يتخذ ذلك ذريعة لاتهامه في دينه.
المصدر