سُورَةُ الحج
هذه السورة الكريمة ، من السور التي اختلف فيها العلماء : هل هي مكية أم مدنية ، أم تجمع بين المكي والمدني ؟ قال هبة الله بن سلامة - رحمه الله : نزلت فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة ، وَهِي من أَعَاجِيب سور الْقُرْآن ؛ لِأَنَّهَا نزلت لَيْلًا وَنَهَارًا ، وفيهَا مكي ومدني ، وسفري وحضري ، وحربي وسلمي ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ... قال : فَأَما الْمَكِّيّ مِنْهَا فَمن رَأس الثَّلَاثِينَ مِنْهَا إلى آخرهَا ؛ وَأما الْمدنِي مِنْهَا فَمن رَأس خَمْسَة عشر إلى رَأس ثَلَاثِينَ[SUP]
[1] [/SUP].
كذا قال - رحمه الله ؛ وقد نُقل في ذلك أقوال ؛ نجمعها فيما يلي :
1 -
مكية كلها إلا آيتين ؛ من قوله تعالى : {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] ، وما بعدها ، نقله الماوردي ، وابن الجوزي ، عن أبي صالح عن ابن عباس [SUP](
[2] ) [/SUP].
2 -
مكية إلا ثلاث آيات : روى النحاس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : وَسُورَةُ الْحَجِّ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ، سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهَا ، فَإِنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ ، وَثَلَاثَةٌ كَافِرُونَ ؛ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم ، دَعَاهُمْ لِلْبَرَازِ : عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَ آيَاتٍ مَدَنِيَّاتٍ ، وَهُنَّ : {
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [ الحج : 19 ] .. إِلَى تَمَامِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ[SUP]
[3] [/SUP].
وبهذا قال السمرقندي ، ومكي بن أبي طالب ، والرازي[SUP]
[4] [/SUP].
3 -
مكية إلا ست آيات ؛ وهي : {
هذانِ خَصْمانِ } إِلَى قَوْلِهِ : {
وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ } .
قال بذلك الزمخشري ، والثعلبي ، والبغوي ، والبيضاوي ، وابن عادل ، والنيسابوري[SUP]
[5] [/SUP].
4 –
مكية إلا عشر آيات ؛ قال مقاتل بن سليمان : سورة الحج مكية ، إلا عشر آيات ، فإنها نزلت بالمدينة ؛ من قوله : {
يا أَيُّهَا } إلى قوله تعالى: {
شَدِيدٌ } [ الآية 1 ، 2 ] ؛ نزلت في غزوة بني المصطلق بالمدينة ؛ وإلا قوله تعالى : {
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ } الآية [ 25 ] ، نزلت في عبد الله بن أنس بن خطل ؛ وقوله تعالى : {
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } الآية [ 54 ] ؛ نزلت في أهل التوراة ؛ وقوله تعالى : {
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا } الآيتين [ 58 ، 59 ] ؛ وقوله تعالى : {
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ } إلى قوله : {
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 39 ، 40 ] ؛ وقوله :{
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ } الآية [ 11 ][SUP]
[6] [/SUP]. فهذه تسع ، ولعل العاشرة هي الآية ( 12 ) لارتباطها في المعنى مع سابقتها ؛ والعلم عند الله تعالى .
5 –
مكية إلا سبع وثلاثين آية ؛ قال ابن الجوزي : وقال أبو سليمان الدمشقي : أولها مدني إِلى قوله تعالى : {
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } [ 37 ] ، وسائرها مكي[SUP]
[7] [/SUP].
هذا ما نُقل في أنها مكية ، والمدني المستثنى منها .
وما جاء في أنها مدنية ، قولان :
1 -
مدنية كلها ، قال السيوطي - رحمه الله : أخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ : نزلت سُورَة الْحَج بِالْمَدِينَةِ ؛ وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ : نزلت بِالْمَدِينَةِ سُورَة الْحَج[SUP]
[8] [/SUP]، ونقله في ( الإتقان ) عن الضَّحَّاكُ وغيره[SUP]
[9] [/SUP].
وقال بذلك عبد الرزاق ، والواحدي ، والماوردي ، والسيوطي في ( الدر المنثور )[SUP]
[10] [/SUP].
2 -
مدنية إلا أربع آيات ؛ وهي : من قوله تعالى : {
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } إلى قوله تعالى : {
عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [ الحج : 52 – 55 ] ؛ قال السيوطي : وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن قَتَادَة قَالَ : نزل بِالْمَدِينَةِ من الْقُرْآن : الْحَج ، غير أَربع آيَات مكيات ؛ من الْآيَة 52 - 55[SUP]
[11] [/SUP]؛ ونقله الماوردي عن ابن عباس[SUP]
[12] [/SUP].
وقال بذلك : ابن أبي زمنين ، وابن جزي ، وأبو السعود وقال : إنها نزلت بين مكة والمدينة[SUP]
[13] [/SUP].
تحرير المسألة
تحصل ممن قال بمكيتها استثناء هذه الآيات : ( 1 ، 2 ) ، ( 11 ، 12 ) ، ( 19 - 24 ) ، ( 25 ) ، ( 39 ، 40 ) ، ( 58 ، 59 ) ، وأما قول أبو سليمان الدمشقي ، فبعيد ، ولم أر أحدًا سبقه إليه ، ولا من وافقه عليه .
وتحصل ممن قال بمدنيتها ، استثناء أربع آيات في قول قتادة ؛ وهي : ( 52 - 55 ) .
أما القول بمدنيتها ، فلم يأت به نقل صحيح عن أحد من الصحابة ؛ والروايات فيه ضعيفة أو مقطوعة ؛ ولا يقبل هذا ها هنا ؛ قال السيوطي في ( الإتقان ) وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ : أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ[SUP] (
[14] )[/SUP].
قال مقيده - عفا الله عنه : أما الروايات عن ابن عباس فلا تصح ؛ فطريق العوفي مسلسلة بالضعفاء ؛ والطريق الأخرى عن عطاء ؛ ضعيفة - أيضًا - لأن عطاء هو الخراساني ، ولم يسمع من ابن عباس ؛ وثبت عن ابن عباس عكس ذلك ، من رواية النحاس أنها مكية إلا ثلاث آيات ؛ والرواية عن ابن الزبير لا يوقف على إسنادها ، فتفسير ابن مردويه في حكم المفقود ، ولذلك لا تقبل في مقامنا هذا ، فلا يدرى عن إسنادها شيء ؛ والعلم عند الله تعالى .
ثم قال السيوطي : قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي ( أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ) : وَقِيلَ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا : {
هَذَانِ خَصْمَانِ } الْآيَاتُ ( يعني الثلاث أو الأربع ) ؛ وَقِيلَ : إِلَّا عَشْرَ آيَاتٍ ؛ وَقِيلَ : مَدَنِيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ : {
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ } إِلَى : {
عَقِيمٍ } ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ ؛ وَقِيلَ : كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ ؛ وَقِيلَ : هِيَ مُخْتَلِطَةٌ فِيهَا مَدَنِيٌّ وَمَكِّيٌّ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . انْتَهَى ؛ وَيُؤَيِّدُ مَا نَسَبَهُ إِلَى الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ ، كَمَا حَرَّرْنَاهُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ[SUP]
[15] [/SUP].
قلت : وهذا الذي صححه ابن عطية ، والقرطبي[SUP]
[16] [/SUP]؛ وقال سيد قطب – رحمه الله : والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية ، وجو السور المكية ؛ فموضوعات التوحيد ، والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك ، ومشاهد القيامة ؛ وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون .. بارزة في السورة ؛ وإلى جوارها الموضوعات المدنية ، من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل الله[SUP]
[17] [/SUP].
فتحرر مما قدمنا أن الجمهور على أنها مكية ، بها آيات مدنية ؛ واختلفوا في تحديد هذا المدني على ما ذكرناه من أقوالهم .. والعلم عند الله تعالى .
[1] الناسخ والمنسوخ ، ص 126 .
[2] انظر ( النكت والعيون ) : 4 / 5 ، و( زاد المسير في علم التفسير ) لابن الجوزي : 3 / 220 .
[3] ( الناسخ والمنسوخ ) للنحاس ، ص: 561 .
[4] انظر ( بحر العلوم ) للسمرقندي : 2 / 447 ، و( الهداية إلى بلوغ النهاية ) لمكي بن أبي طالب : 7 / 4833 ، و( مفاتيح الغيب ) للرازي : 23 / 199 .
[5] انظر ( الكشاف ) للزمخشري : 3/ 141 ، و ( الكشف والبيان ) للثعلبي : 7 / 5 ، وتفسير البغوي : 3 / 322 ، و ( أنوار التنزيل وأسرار التأويل ) للبيضاوي : 4 / 64 ، و ( اللباب في علوم الكتاب ) لابن عادل : 14 / 3 ، و ( غرائب القرآن ورغائب الفرقان ) للنيسابوري : 5 / 61 .
[6] تفسير مقاتل بن سليمان : 3 / 111 ، 112 .
[7] زاد المسير في علم التفسير : 3 / 220 ؛ وأبو سليمان الدمشقي ، هو : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سليمان ، أبو سليمان السعدي : له تصانيف في التفسير ، منها : مجتبى التفسير ، وكتاب الجامع الصغير في مختصر التفسير ، وكتاب المهذب في التفسير ؛ انظر : ( المنتظم ) حوادث سنة 371 هـ ، و( تاريخ دمشق ) لابن عساكر : 53 : 349 ، وما بعدها ، و ( طبقات المفسرين ) للسيوطي ص 103 .
[8] الدر المنثور في التفسير بالمأثور : 6 / 3 .
[9] الإتقان في علوم القرآن : 1 / 49 .
[10] انظر (تفسير عبد الرزاق ) : 2 / 396 ، و( التفسير الوسيط ) للواحدي : 3 / 257 ، و( النكت والعيون ) للماوردي : 4 / 5 ، و ( الدر المنثور في التفسير بالمأثور ) للسيوطي : 6 / 3 .
[11] الدر المنثور في التفسير بالمأثور : 6 / 3 .
[12] النكت والعيون : 4 / 5 .
[13] انظر ( تفسير القرآن العزيز ) لابن أبي زمنين : 3 / 166 ، و ( التسهيل لعلوم التنزيل ) لابن جزي : 2 / 32 ، و( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) لأبي السعود : 6 / 91 .
[14] الإتقان في علوم القرآن : 1 / 48 ، 49 .
[15] المصدر السابق : 1 / 49 .
[16] انظر ( المحرر الوجيز ) لابن عطية : 4 / 105 ؛ و( تفسير القرطبي ) : 12 / 1 .
[17] في ظلال القرآن : 4 / 2406 .