الرؤية والحساب وما بينهما من كلام أهل العلم

إنضم
07/07/2004
المشاركات
59
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
[align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم

الرؤية بين الحاسبين والرائين .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فقد استوقفني كلام جميلٌ جداً لشيخ الإسلام ابن تيمية في قضية رؤية الهلال ، توقفت عنده كثيراً ، وقدمت وأخرت ، وأسررت وأعلنت ، ثم خلصت إلى نقله إلى القارئ لأجل أن يتبين رأي العلماء في الرؤية .
يقول شيخ الإسلام : (فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أوالحج أوالعدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أولا يرى لا يجوز ، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ، ولا خلاف حديث ؛ إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل فيحق نفسه بالحساب ، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا ، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه ، فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم، وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال ) مجموع الفتاوى ( 25\132 – 133) ، كما تقرأ كلام مهيب جداً .
و إجماعٌ نادرٌ من أنواع الإجماع انعقد على إهمال الحساب في قضية دخول شهر رمضان كما ترى .
إذاً القضية ليست رأياً لشيخ الإسلام فقط ، بل إجماع العلماء في القرون المفضلة .
أعود هنيهةً إلى قضية الحساب ، وأعيد التفصيل فيها ، لأجد أن من يرى العمل بالحساب ، قد افتتن بدقة العلم الفلكي الحاضر فقال : يجب الأخذ به وجعله محكماً على الرؤية ، ونسي أن كون الشهر دخل أو لم يدخل هي مناط التشريع ، فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم علق التعبد بالرؤية لا بالدخول في الحديث المشهور : (( صوموا لرؤيته )) مع كونه صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعبر – وهو أفصح العرب – بصوموا لدخول شهر رمضان ، فعلة الصيام ومناط تكليفه الرؤية لا الدخول ، ولهذا لو وقع خطأٌ عامٌ في صوم الناس أو حجهم فإن الحكم العفو عن الجميع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( صومكم يوم تصومون ، ........ ) ، ولي مع أهل النظر في الحساب وقفات بعيد هذه المقدمة اللطيفة :
1- أن الأخذ بالحساب ابتدع بعد القرن الثالث صنيعةً من بعض المتفقهة ، ومع ذلك فرأيهم قيدوه بشرطين ، الأول ألا يؤخذ به عموماً بل يكون خاصاً لمن حسب ، والثاني أن يكون سبب الأخذ به الغم على الناس . ( مجموع الفتاوى 25\133) .
2- أن تحريم تحكيم الحساب على الرؤية ليست رأياً لابن تيمية أو ابن القيم أو الإمام الشافعي أو الظاهرية بل هي إجماعٌ انعقد عليه رأي أهل العلم خلال ثلاثة قرون .
3- أن من احتج بالحساب فإنه نظر إلى أن الحساب دقيق ولا يمكن أن يخطيء فقد نسي أن الشرع علق الأمر بالرؤية ، وعللها تعليلاً صريحاً ؛ فلا يسوغ تغيير العلة إلى عدم توفر الحساب أو دقته في ذلك الوقت أو غيرها من التعاليل الباردة .
4- أن العلماء يقرون أن الحساب كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه ، بل وقبل زمنه ، فاليونان كانتً أمةً علمية تطبيقية ، ولا يُعْلم قومٌ كانوا أعلم بالتنجيم منهم ، بل جل ما أخذه المسلمون من الفلك والتنجيم كان عن اليونانيين والصابئة ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأخذ بالحساب ، ولو لم يكن موجوداً في وقته لاكتفى بالأمر بالرؤية ولما كان للنهي عن الحساب حاجة ، وفي سنن أبي داود أن ابن عمر كان لا يأخذ بالحساب .
5- قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، ... إلخ ) نهي صريح ورد بلفظ الخبر ، كما هو متقرر في كتب الأصول ، ونظير ذلك قوله تعالى : (( والوالدات يرضعن أولادهن )) فهو أمر خبري ، وأمثلة الأمر والنهي الوارد بالصيغ الخبرية كثيرة ولولا الإطالة لنقلت الأمثلة الكثيرة من كتب الأصوليين .
6- أن الأخذ بالحساب ( نفياً دون إثبات ) أي تحكيمه على عدم دخول الشهر دون تحكيمه على دخوله رأيٌ متناقض ، إذ يحتج عليه من يرى الأخذ بالحساب بالكلية أننا إذا قطعنا بعدم إمكانية الرؤية فإننا نقطع كذلك – كما يقرره علماء الفلك – أحياناً بإمكان الرؤية كما لو قرروا ولادة الهلال قبل الغروب ب 10 ساعات مثلاً ، فهنا يقطع الفلكيون بإمكان رؤيته ، وعليه فيجب الأخذ به كما يجب الأخذ بقولهم بالقطع بعدم إمكانية رؤية الهلال ، وعليه فيجب صيام الثلاثين إذا قطع الفلكيون بإمكان الرؤية وغم غيمٌ أو قتر ، وعليه فنضرب بقول المصطفى عرض الحائط ونعتمد الحساب ، أو نعود إلى القول المؤتلف السليم الذي لا تناقض فيه وهو الأخذ بالرؤية وعدم الالتفات إلى رأي الفلكيين جملةً وتفصيلاً .
7- قد يقول القائل : إذاً خذوا بالرؤية في صلاة المغرب عند رؤية مغيب الشمس ، وصلاة العشاء في مغيب الشفق ، وغيرها من مواقيت ، وهذا اعتراض واهٍ جداً ، لأمرين ، أولهما أن الشرع علق شهر رمضان بالرؤية ، وعلق الصلوات بدخول الوقت لا برؤية سبب دخوله ، ففي الحديث : ( صوموا لرؤيته ) لاحظ أنه علقه بالرؤية ولم يعلقه بالدخول ، وفي الحديث الآخر : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس ) لاحظ أنه لم يقل إذا تراءى الناس زوالها فعلقه بالزوال لا رؤية الزوال ، فعلَّة وجوب الصلاة الزوال وليست رؤية الزوال ، والثاني على فرض التسليم بتعليق الأمر بالرؤية في العبادتين فنقول : إن الحرج مرفوع في الصلاة دون الصوم في هذه المسألة ، إذ إن الأخذ برؤية الغروب وطلوع الفجر أمر متكررٌ يومياً ومحرج لو عمل به ويمكنك أن تقدر الحرج فعلاً بتوقيت الفجر في داخل المدن الكبيرة كالرياض ، بخلاف الأخذ بالرؤية في رمضان إذ لا تتكرر إلا على رؤوس الأشهر ، وهذا بالطبع كلُّه لو سلمنا تساويَ العلة في العبادتين .
8- على فرض أن الحساب أخذ به فعلى أي حساب نعتمد ؟! خاصةً أن التقاويم الحسابية مع دقة العلم الفلكي متناقضة في قضية إثبات الشهور فبعضها يرى 29 ، والآخر يرى 30 وهذا ينقض الدعوى التي تحيل على دقتها وتدعو إلى جعلها محكمةً على الرؤية ، ويظهر هذا التعارض بصورةٍ أجلى إذا قارب مولد الهلال مغيب الشمس فترى العجب العجاب مما بينهم من التناقض ومع ذلك وللأسف نجد من يطلب الأخذ بتلك الآراء المضطربة ويترك الأخذ بأمر محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم .
9- أن على من يرى الأخذ بالحساب أن يأتي بأمرين : الأول : أن يأتي بدليل صريح يجيز الأخذ بالحساب مقابل الأدلة الصريحة في النهي عن الأخذ به ، وكذلك – وهذا الثاني - عليه أن يأتي برأي لعالم واحد من الصحابة على الأقل لأجل أن يخرق الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولا يكفي أن يرد عليه بالإجماع غير صحيح أو مسبوق بخلاف ؛ فالدعاوى ما لم يكن عليها بينات أصحابها أدعياء ُ، علماً بأن الاستدلال بتطور علم الفلك ودقته وما توصلت إليه المخترعات الحديثة هو استدلال بغير دليل شرعي ، فضلاً عن كونه وَهِيّاً .
10- أنه ومع الإجماع السابق الذكر ، إلا أننا لو افترضنا الخلاف في هذه المسألة فإن حكم الحاكم رافع له ، ولا ينبغي البلبلة على العامة في قضية دخول الشهر وخروجه بآراءٍ تخالف ما رفعه الحاكم من خلاف ، هذا لو افترضنا الخلاف ، فما بالك بمسألة أجمع عليها العلماء خلال ثلاثة قرون ورفع فيها حكم الحاكم ما شابها من خلاف مصطنع .
11- أن القول بالأخذ بالحساب هو قول لبعض الفرق الباطنية ولم يقل به مسلم حتى أتى من يخرق الإجماع في القرن الرابع الهجري ، وأصله مأخوذ من أهل الكتاب والصابئة .انظر مجموع الفتاوى ( 25\177 ) .

أختم هذا الجمع الذي أحسبني بلَّغت فيه ما علمته بقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرحه لحديث صوموا لرؤيته : (( وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضا في صومهم وعبادتهم وتأولوا على ذلك قوله تعالى : (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ولكن أهل الكتابين بدلوا ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان باليوم واليومين وعلل الفقهاء ذلك بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه كما زاده أهل الكتاب من النصارى فإنهم زادوا في صومهم وجعلوه فيما بين الشتاء والصيف وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه بها )) اقتضاء الصراط المستقيم (87 ، 88 ) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .[/align]
 
بارك الله فيك أيها الأخ الكريم على هذا التحرير
ويبدو لي - ولعلك تصوبني أخي عبدالله - أن محل النزاع فيما إذا رؤي الهلال قبل ولادته كما يقول أهل الحساب ، فهم أو أكثرهم يرون عدم دخول الشهر إلا بولادة الهلال. وأهل الرؤية يثبتون دخول الشهر بمجرد رؤية الهلال بغض النظر عن ولادة الهلال من عدمها ، لتعلق الأمر بالرؤية فحسب.
أما إذا رؤي الهلال بعد ولادته فالأمر بين الفريقين لا خلاف فيه ، والرؤية لا شك أضبط للأمر ، وأيسر للناس كما أشرتم في حديثكم وفقكم الله.
 
وجزاك خيراً .... حقيقةً لم أجد ما يشير إلى نقاط اتفاق كبثيرة بين رأي أهل السنة ورأي الفلكيين ، فلهذا لا أظن أنني أستطيع التعبير عنها بـ ( محل النزاع ) ، خاصةً وأن النزاع مع الفلكي غير معتبر .

وتعليقاً على رأيك أخي الكريم ومديرنا الفاضل ( [color=FF0033]أما إذا رؤي الهلال بعد ولادته فالأمر بين الفريقين لا خلاف فيه [/color]) أقول : إن الفلكيين لا يعتدون برؤية الهلال بالعين المجردة مطلقاً ، بدليل أنه إذا رؤي الهلال بعد ولادته مباشرة لا يعتد برؤية العين المجردة لأن الشمس تحول بين الرائي بالعين المجردة وبين إمكان الرؤية ، وبدليل أنهم يقطعون بدخول الشهر حتى لو غم أو قُتر على البلد .

رابط المقال في الجزيرة :


http://www.al-jazirah.com.sa/139373/rv1d.htm

شكراً لك أخي الكريم وبارك الله في جهدك في هذا المنتدى .
 
رؤية الهلال بين "بصر" و"علم"!

رؤية الهلال بين "بصر" و"علم"!

د. عبدالله البريدي 4/10/1427
26/10/2006
تثور موجات من النقاش حول مسألة رؤية الهلال كل عام، غير أننا شهدنا هذا العام احتداماً في التطارح وتعاطياً أوسع شمل بعض العلماء الشرعيين والفلكيين والمثقفين، ولما كان لدي بعض التأملات المعرفية (الإبستمولوجية)، رأيت أن طرحها قد يكون مفيداً في منهجة الحوار - أي جعله منهجياً - وعقلنة النقاش، لاسيما أن البعد المعرفي مغيب إلى حد كبير في مشاهد لا يسوغ فيها أن يتغيب أو يحيد، ومما ساءني كثيراً الاتهام المباشر والمبطن من قبل بعض المثقفين والكتاب لكل من يغلب جانب الرؤية بالعين المجردة بأنه معادٍ للعلم الحديث ومجاف للمنهجية، لاسيما أن بعض تلك الاتهامات تتدعي الصدور باسم العلم والجلد بسوطه، والمشكلة أن أغلب تلك الاتهامات صادرة ممن درس أو تعرض لفلسفة العلوم وأطرها المعرفية التي تؤسس الطرائق المنهجية للعلوم الحديثة وفق المنظور الغربي، والحقيقة أن ما قرروه مخالف للسائد من أدبيات تلك الفلسفة، وعلى هذا فنقول لهم على رسلكم! ففلسفة العلم الحديث لا تمنحكم حق التهجم على الآخرين ورميهم بعدم العلمية!

كما ساءني في الوقت نفسه ما انتهجه بعض الشرعيين في الحوار حين عمدوا إلى اتهام من يطالب بالمدخل الفلكي في اثبات الرؤية بأنهم مخالفون للسنة ونحو ذلك (سوط الدين)، مع استخدام بعضهم لـ (سوط السلطة) بالإشارة إلى ما قد يحدثه ذلك – حسب تقديرهم - من بلبلة أو فتنة أو تشويش، والحقيقة أنه لا حق لهم البتة باستخدام ذلكما السوطين في وجه من يناقش رأياً يسع فيه التطارح والأخذ والعطاء، وكارثة فكرية أن نلوّح بالخروج عن جادة الحق أو بإثارة الفتنة عند كل نقاش مستساغ، والسوط الأول - سوط العلم - هو ما يهمني التركيز عليه ولن أطيل في تبيان هذا الموضوع وخلفياته الفلسفية، بل سأكون مباشراً ومختصراً.

وحيال مسألة رؤية الهلال، خلصت إلى نتيجة أحسب أنها سهلة ومباشرة، وهي تتسم بالمنطقية التلقائية، وهي أن رؤية الهلال بالعين المجردة – بالشروط المنصوص عليها حول الرائي والرؤية – نتيجة يقينية، فالعين ترصد ما تراه بكل حياد، أما العلم البشري – ومنه الفلك - فنتائجه ظنية وليست بقينية، وهذا ما تقرره فلسفة العلوم التي منحت علم الفلك جواز التنقل بين حدود النظريات والفرضيات وتقليب النظر في المسائل والإشكاليات الفلكية، بل إنني أعتقد بصوابية من يخطئ الحسابات الفكلية الظنية حال تعارضها مع اليقين وهو الإبصار اليقيني، وليس العكس، فالظن لا يغني من الحق شيئاً، والحقيقة إن إقامة الدليل المقنع على تلك النتيجة أمر ليس هيناً، غير أنني سأسعى لتحقيقه ما استطعت مستخدماً المدخل المعرفي بخطوط عريضة.
جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرؤية بالعين المجردة (سبيلاً منهجياً) إلى الوصول إلى نتيجة خطيرة، يتعلق بها إقامة شعيرة الصيام، وهذا يفيد في رأيي أن تلك النتيجة – بضوابطها الفقهية – يقينية وليست بظنية، أي أن المعايير الشرعية علمية المنهج يقينية النتائج سهلة التطبيق، كمعايير أو علامات دخول أوقات الصلاة، وثمة أمور كثيرة تدعم هذا الرأي، ومنها أن الشرع الحنيف رتّب النتيجة (صوم رمضان) على طريقة منهجية موحدة – الرؤية بالعين - أو الاتمام حال تعذر رؤيته، وتلك الطريقة يفترض أنها لا تتغير من زمن (يجهل) فيه الناس الحسابات الفكية إلى آخر (يتقنون) فيه تلك الحسابات! هذا أمر منطقي للغاية، ولو لم يكن الأمر كذلك، فلماذا أغفل النبي المعصوم مسألة دعوة أمته إلى تعلم الحسابات الفلكية للظفر بنتائج أصح أو أدق، بل إن الأحاديث لا تشي بأي تطلع أو تشوف للاعتماد على الحسابات، وهذه قضية تدعم القول بيقنية النتيجة التي تحدث من جراء حاسة العين.
قد لا يقتنع البعض بهذا التحليل، وهذا أمر ممكن، مما يجعلنا نتحول إلى المدخل المعرفي الذي قام عليه العلم الحديث ومنه الفلك، ولنجعل ذلك في عدة مسائل محورية. المسألة الأولى أنه لا اتفاق حول ماهية العلم وحده، فلسنا نتوفر على تعريف يفرق بين ما هو علم وما هو ليس بعلم، وهب أننا تجاوزنا هذه الإشكالية، فليس صحيحاً أن نسلّم بأن كل ما يتصل بعلم محدد من الموضوعات الجزئية أو المسائل التفصيلية هو علم، حيث يداخل العلم مسائل تبقى في منطقة الظنيات أو الفرضيات، وهذا ينطبق على المسائل التفصيلية في علم الفلك ومن أهمها في نظري الحسابات الفلكية، ويعني هذا أننا نجابه بإشكالية حدود ذلك العلم على المستوى الكلي والجزئي، ولكنه التعصب أو التحيز المعرفي الذي ينشأ عادة لدى المتخصص - وهم الفلكيين هنا - ، ومما يحسن ذكره في هذا المعنى أن أحد كبار العلماء المعاصرين (ريتشارد فريدمان) وهو ممن حصلوا على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1966م يصرح بغموض مفهوم العلم ومعناه فيقول: اشتغلت بالعلم طوال حياتي عارفاً تمامًا ما هو, ولكن الإجابة عن السؤال: ما هو العلم? هو الأمر الذي أشعر أني عاجز عنه!

أما المسألة الثانية: فهي أن العلم الحديث يستهدف تحقيق أربعة من الأهداف: أن يصف الظاهرة (الحادثة)، ويفسرها بإرجاعها إلى عللها وأسبابها، ويتنبأبالظواهر (المستقبلية)، وأن يجعلنا قادرين على التحكم بالظواهر.
والمسألة الثالثة: أن العلم الحديث – كما تقرره فلسفة العلوم الغربية ذاتها - لم يعد قادراً على الوصول إلى حقائق مطلقة أو حتى منتظمة، فظهرت النسبية المطلقة وفشت بين فلاسفة العلم وصنّاعه، كما تم وضع (نظرية الفوضى) والتي تقرر – ضمن نتائجها الهامة – بأن مسألة التوقع أو التنبؤ عملية يشوبها قدر كبير من التعقيد والصعوبة مما يوجب على العلم البشري أن يتواضع فلا يجزم بنتائجه وتوقعاته ومن ذلك ما يتعلق بالمسارات الزمنية، فكيف نجد مسوغاً فلسفياً أو تبريراً منهجياً لمن يتهم بعدم العلمية كل من يشكك بالحسابات الفلكية التي لم تزل مجرد أرقام واجتهادات مبدئية يشوبها الاختلاف والتعارض بين الفلكيين، فكيف نغلّب الظني على اليقني. وأذكر في هذا السياق مقولة مشهورة لأحد المفكرين الغربيين، يقول فيها بأن أسوأ أنواع الكذب ثلاثة هي: الكذب، ثم الكذب الرخيص، ثم الإحصاء (وفي الإحصاء شبه بحسابات الفلكيين)!

المسألة الرابعة: وتتعلق بماذا نقصد باليقين في رؤية الهلال وكيف يتحقق. مَن الذي صنع منهجية العلم الحديث؟، ليس ثمة غير الإنسان، أليس كذلك؟، وقد صنع المنهجية له بغية أن يقوده إلى اليقين أو ما يشبهه، فكيف يمكن لنا أن نتقبل فلسفياً أن يصل العلم الذي شكلناه بأيدينا إلى ما يعارض ما نلمسه ونحسه بها، هذا محال، فكيف يراد لنا أن نزهق حقيقة تراها العيون لمجرد حسابات قد نكون مخطئين في صياغة معادلاتها الرياضية الأساسية أو مخطئين في تغذيتها بالبيانات أو في طريقة الحساب أو في تغييب بعض العوامل الهامة التي لو أُدخلت في المعادلة لربما غيّرت النتائج وقلبت الأمور رأساً على عقب.

المسألة الخامسة:وتتعلق بالإشارة إلى انتفاء العوامل التي قد تؤدي إلى خداع الحواس أثناء عملية الرؤية نظراً لإيجاد الفقه الإسلامي لحزمة من الضوابط المنهجية للرؤية المعتبرة، تتضمن ضوابط حول عملية الرؤية وأخرى حول الرائي، وهذه تحوطات منهجية عجيبة، وهي تناظر إلى حد كبير ما نطلق عليه – في مصطلحات المنهجية الحديثة - الصحة الداخلية والصحة الخارجية (Internal and External Validity) ، فالأولى تضمن الصحة المنهجية في العملية البحثية والإجرائية نفسها والأخرى تتعلق بمدى إمكانية تعميم النتائج.

وثمة مسألة سادسة تتمحور حول إشكالية لم أجد لها تفسيراً شاملاً مقنعاًً فيما قرأته وهي: أسباب عدم التطابق في رؤية الهلال بين المتراءين للهلال بالعين المجردة والمراصد الفلكية، فهل يعود هذا إلى المترائي أم إلى المرصد؛ سواء من حيث زمن الرصد أو مكانه أم أن ذلك يعود إلى مشكلة فنية أو إجرائية أم إلى مشكلة لم نعرف كنهها بعد، هذا ما يجب التفكير فيه بكل منهجية وتأن وتجرد من قبل جميع الأطراف، وأجزم بأننا سنصل حينذاك إلى تفسير علمي مقنع. هذه المسائل الست يمكن لنا – حال الاقتناع بها – أن نشتق منها إطاراً منهجياً وإجرائياً حول تلك القضية، بحيث نتحقق من آرائنا واجتهاداتنا.

وأخيراًً نعاود التأكيد على أن العلم البشري يتقازم ويتضاءل امام حقائق الكون وأسراره، فهو لا يطيق وصف كافة ظواهره وخوارقه ولا تفسيرها، كما لا يسعه فك كامل شفراته ولا التنبؤ بجميع ظواهره ولا التحكم بها، فالعلم أشبه ما يكون بطفل صغير يتعلم كل يوم شيئاً جديداً، ويظن حين الصبيحة أنه قد حاز المعرفة والفهم بكل ما تقع عليه عينه ويشمه انفه وتلمسه يده ويخطر على باله! أنا لست من أنصار الاستهانة بالعلم الحديث أو التقليل من شأن فتوحاته المعرفية المذهلة ونتائجه التجريبية المدهشة، ولكنني في الوقت نفسه لست ممن يذهب إلى تقديس العلم البشري ويتغاضي عن هناته وعيوبه وأخطائه و غبائه ونفاقه، كما أنني لا أطيق السكوت على غروره وتكبره، إذن التوسط هو ما أقصده وأطالب به، فالضمانة الوحيدة لتقدم العلم باقتحامه مجالات جديدة وتصحيح أخطائه هو الاعتراف بقصوره. وأعيد التأكيد بأن اليقين مقدّم على الظن، مهما بدا اليقين بسيطاً ومتواضعاً، بل عظمة الحقيقة تكمن في بساطتها وعمقها، وهو ما أسميه بـ عمق البساطة!

ونخلص إلى تشديد القول بوجوب نبذ كل الأسواط: (سوط العلم) و (وسوط الدين) و(سوط السلطة) في جميع ما يُستساغ فيه الحوار والمناظرة ومنها مسألة رؤية الهلال، إذ أن استخدامها افتئات على العلم والدين والسلطة، مع وجوب التوجه بصدق نحو الحوار بمنهجية نقدية وعقلية منفتحة من أجل الوصول إلى الحق والحقيقة.
ومن زواية أخرى همس في أذني أحد أصدقائي قائلاً: أعتقد بأن النوايا الحسنة كفيلة بتوحيد دخول رمضان وخروجه بين الدول العربية ومن ثم الإسلامية .. كي نشعر بأننا أمة واحدة، حينها تيبست الكلمات في لساني لترتسم على وجهي ابتسامة الأمل... وما أضيق الحوار لولا فسحة المنهج!

المصدر
 
جزاك الله خيراً ، جميل ، مع تحفظي على قوله : ( كما ساءني في الوقت نفسه ما انتهجه بعض الشرعيين في الحوار حين عمدوا إلى اتهام من يطالب بالمدخل الفلكي في اثبات الرؤية بأنهم مخالفون للسنة ونحو ذلك (سوط الدين)، مع استخدام بعضهم لـ (سوط السلطة) بالإشارة إلى ما قد يحدثه ذلك – حسب تقديرهم - من بلبلة أو فتنة أو تشويش، والحقيقة أنه لا حق لهم البتة باستخدام ذلكما السوطين في وجه من يناقش رأياً يسع فيه التطارح والأخذ والعطاء، وكارثة فكرية أن نلوّح بالخروج عن جادة الحق أو بإثارة الفتنة عند كل نقاش مستساغ، والسوط الأول - سوط العلم - هو ما يهمني التركيز عليه ولن أطيل في تبيان هذا الموضوع وخلفياته الفلسفية، بل سأكون مباشراً ومختصراً )

وأخص منها : ( اتهام من يطالب بالمدخل الفلكي في اثبات الرؤية بأنهم مخالفون للسنة ونحو ذلك (سوط الدين)، مع استخدام بعضهم لـ (سوط السلطة) بالإشارة إلى ما قد يحدثه ذلك – حسب تقديرهم - من بلبلة أو فتنة أو تشويش، والحقيقة أنه لا حق لهم البتة باستخدام ذلكما السوطين في وجه من يناقش رأياً يسع فيه التطارح والأخذ والعطاء)

لأن هذا النص في ذاته اتهام للدين باستخذام السوط في إقحام الناس على الأخذ به ، لأن من تكلم عن الأخذ بالرؤية وطرح الحساب - كأمثالي - إنما نقل الإجماع في القرون المفضلة على وجوب الأخذ به ، ومن هؤلاء الذين استخدموا سوط الدين حسبهذا المقال شيخنا ابن باز رحمه الله حين قال : ( الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في الجزء الخامس عشر من فتاواه : ( متى ثبتت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها ولم تجز أن تعارض ولم يجز أن تعارض بكسوف ولا غيره )
وذكر رحمه الله في نفس الجزء الخامس عشر ( من اعتبر الحساب الفلكي شرطا لصحة الرؤية فقد استدرك على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم )

وإن كان المقال من حيث هو مقال تحليلي لتقرير الرؤية والأخذ بها إلا أنه في نظري لا يقر على تلك الجمل التي لمز بها من كتب عن الرؤية من الختصين بالعلم الشرعي الذين يرون أن إثبات دخول الشهر من عدمه ، ليست هي مجرد ولادة الهلال ، وإنما هي الرؤية وثبوتها الشرعي .
 
عودة
أعلى