محمد خليل الزروق
New member
قرأت مقالة منذ سنين للدكتور عبد الله الغذامي في مجلة العربي (عدد 1/2001) بعنوان: "حكاية بيت من الشعر"، وأعْلَمْتُ على العدد من المجلة وعلى المقالة على نية العود إليها، والتعليق عليها، ولم يتيسر لي ذلك إلا الآن.
والبيت المراد هو قول أبي تمام:
من أجل ذلك كان هذا الشعر سجل المفاخر والمآثر، وسجل المعايب والمثالب أيضًا، فهو مرآة للواقع بما فيه من خير وشر، ونفع وضر، وهو لا يخلو من الأكاذيب والأضاليل ككل الكلام الإنساني.
والمدائح في الشعر من خير دواوين المكارم وأنصعها وأرفعها وأجمعها - ومثلها المراثي، وهي أصدق وأنبل - والناس ينشدونها ويحفظونها ويقرءونها لا على أنها صدق كلها، لا شوب فيها من مبالغة أو كذب، ولكن لما تمثله من صنعة بيانية لها قيمة في نفسها ككل الفنون بمعزل عن مقاصدها ومراميها وما استعملها الشاعر له، ولما تمثله من مكارم خلقية كان منها حقائقُ ووقائع لا تُنكَر، وُجدت في كل عصر، من السخاء والشجاعة والنجدة والمروءة والصدق والإنصاف والعفاف والإيثار، ونراها اليوم في كثير من الناس، لا على ما قال القائل: ذهبت المكارم إلا من الكتب! فهذا يكذّبه الواقع التاريخي والواقع الحاضر، وإنما هو ضرب من التطير والتبرم والتشاؤم يغلب على نظر بعض الناس فلا يرون إلا ما يسوء وينوء، ويضر ويغُرّ!
وقف الدكتور الغذامي عند لفظَي: "بناة العلا" و"بغاة الندى"، ورأى بعد ما نظر البيت في الديوان على رواية: "بغاة الندى"، وكان يحفظه: "بناة العلا" - أنه تغيير مقصود، وقال: "ولعل رغبة عميقة في النفس كانت وراء تعديل الرواية، وذلك من باب المحافظة على شرف ديوان العرب، وعلى شرف الشعر، ولكن لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد دخل المديح إلى شعرنا فأفسده وأفسد أخلاق الأمة"، ومن رأيه أن هناك فرقًا بين "الندى" و"العلا"، وأن هذا التغيير "يكشف عن نسق ثقافي سلبي يضرب خطره في أعماق الشعر العربي الذي هو ديوان العرب ودفتر مآثر الأمة حسب المقولة الراسخة... فالعلا مجد وارتفاع، وأما الندى فمذلة وشحاذة "(!).
وما كنت أدري أن من معاني "الندى" المذلة و(الشحاذة)، ولا أن الجود يُذَم من أجل المذلة و(الشحاذة)، ولا أن الجود يُذَم من أجل شيء ما كان، ولا أظن أنه يخطر ببال أحد أن يقول للدكتور الغذامي: ما (عقلية المؤامرة) هذه يا دكتور؟ أمن أجل لفظة في بيت جاءت بروايتين تزعم أنه تغيير قُصد منه ترويج الكاسد، وتزويق المقبوح، وتنفيق المردود؟ فالموصوفون بأن لهم (عقلية المؤامرة) قوم آخرون غير المتنورين! وما الضير لو قيل: إن "الندى" نوع من "العلا"؟
واختلاف الروايات في الأشعار معروف مألوف، لا يرجع إلى تدبير أو تخطيط، والروايتان في نسخ الديوان، ورواية "بغاة العلا" قديمة مثبتة في عيون الأخبار لابن قتيبة (213-276)، وأخبار الزجاجي (-337)، ووساطة الجرجاني (-392)، وهلم نازلاً.
وقد قال الدكتور: إنه قرأه "بغاة العلا" في كتاب للعقاد! ولما اكتشف (المؤامرة) و(الملعوب) في تغيير هذا البيت بعد الاطلاع على الرواية الصحيحة (!) في الديوان، رجع إلى كتاب العقاد "اللغة الشاعرة" ووقف متحسّرًا على منظر البيت مغيَّرًا مزوَّرًا، فِعْلَ الذي ينظر مبتسمًا إلى من يريد أن يخدعه وهو فاهم لقصده، عارف بكيده! وكأني فهمت أنه ينسب هذا التغيير إلى العقاد!!
ولا أدري إلى أي نشرة من الديوان رجع؟ لأن النشرة المتداولة بشرح التبريزي وتحقيق محمد عبده عزام ونشر دار المعارف بمصر (3/183) فيها إشارة في الحاشية إلى أن من النسخ ما فيه الرواية الأخرى.
وكأن الدكتور فهم من "بغاة الندى" أنهم طالبو المال وأهل الكُدْية والإلحاف، والمراد - كما هو واضح لكل متذوق للشعر - طالبو الجود، وهم المعطُون المنفقون، فهو في معنى "بغاة العلا" أو "بناة العلا" أو "بناة الندى".
وأما فهم الدكتور الغذامي فله وجهة أخرى (تآمرية) (خفية) (باطنية) (ردية)، فقال في البيتين الأولين: "هذا كلام ظاهره حسن، ولكن باطنه قبيح... والموقف هنا يقوم على أن أبا تمام فقير ماديًّا وثري عقليًّا، والقاعدة التي يقولها البيتان هي أن العاقل فقير والجاهل غني، وعلى هذه القاعدة... فلا بد إذًا أن ابن أبي دواد جاهل... وكأنما يقول له: إن لديك المال ولدي العقل، ولذا عليك أن تعطيني بعض مالك لكي أعطيك بعض عقلي". ثم استشهد بالبيت بعدهما على ما أراد.
وهذا الكلام يقوله من لا يعرف أحمد بن أبي دُوَاد الإيادي (160-240) ؛ إذ هو معدود في المتكلمين والأدباء والقضاة، وكان أحد الدُّهاة، وفي ترجمته قول أبي العيناء: ما رأيت رئيسًا قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دواد.
ولا يسوغ أن يقصد أبو تمام ما فسر به الغذامي كلامه، وإنما هو معنى في ذهنه، لم يجر في بال أبي تمام وابن أبي دواد منه شيء. والقوم كانوا من العقل ومن الفطنة ومن المعرفة بمرامي الكلام ومجاريه بموضع لا يجيز أن يُظَن بهم معه هذا الظن، فيكون هذا المعنى مما يقصده أبو تمام، ويغفل عنه ابن أبي دواد.
كلام الدكتور الغذامي إنما هو تفسير للشعر بمعزل عن الموقف الذي قيل فيه، وعن المعهود في مثله ونظيره وشبيهه، وعلى ذلك فسر الأبيات الآتية بعد:
هذا ما يفهم من الأبيات، وأما فهم الدكتور الغذامي (التآمري) فغير ذلك، قال: "إذًا ما على ابن أبي دواد إلا أن يدفع ما في الجيب لكي يدافع ما في الغيب الشعري... أما إذا لم يعط فالويل له من حكم الشعر، وهو حكم ظالم بلا شك، ولكنه نافذ". فقد جعل هذا القول تهديدًا لابن أبي دواد، وجعل أبا تمام يتوعده إن لم يعطه المال. واعجبْ كيف يكون بذل المال جودًا مع التهديد؟! وكيف يرضى الممدوح - بل المادح - أن يكون المديح مقارِنًا للإنذار، واستنزال العطاء مصاحبًا للتخويف؟!
وقد حمل الغذامي هذه الأبيات على هذا المعنى وفيها ذكر الشعر، وأعجبُ منه حمله المديح الخالص من ذكر الشعر على هذا المعنى، وذلك قول أبي تمام:
وأما الدكتور الغذامي فلا يرى في الأبيات إلا تكرار لفظة "المال" -وهو شيء ليس بغريب عند الحديث عن الجود- ويقول: "ولذا يربط الشاعر بين العيب وبذل المال، ويشير إلى انتفاء العيب عن الممدوح بسبب بذله المال، مما يعني أن عدم بذل المال سيؤدي إلى ظهور العيوب". والخلل في هذا الفهم أنه يرى العيب عيب الشاعر، والعيب المراد مذمة الناس لكل من يمسك المال، على ما هو معهود في ذم البخل والباخلين، لا على سيبل التهديد بالذم.
وبعد هذه الأبيات خرج أبو تمام إلى مدح قوم الممدوح "إياد"، وختم بأبيات قصد فيها إلى بيان ما بين الشعر والمكارم من علاقة، وهي أن الشعر سجل لهذه المكارم، يذكرها ويعرّفها ويحفظ للآخِرين ما فعل الأولون، ويُبقِي للاحقين مآثر السابقين، وقد تركها الدكتور الغذامي، ولم يأخذ منها إلا البيت الأخير:
وأما من يستشهد بحديث حثو التراب في وجوه المدّاحين على ذم المدح كله فهو من الاستشهاد بالشيء في غير موضعه، كيف وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمدح أصحابه في وجوههم، ويثني عليهم، ويذكر مناقبهم؟ وإنما المدح المذموم المدح بالكذب، أو مدح من يُبطره المديح ويطغيه. واسألوا المتخصصين في التربية عن أثر المدح في بناء مكارم الأخلاق، ومساندة العاملين، ومكافأة المحسنين!
والإنسان يحب الذكر الحسن، ويكره الذكر القبيح، وقد سأل نبي الله إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وامتن على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه رفع ذِكْره، وعلى الأنبياء جميعًا بأنهم يُذكرون بالتوقير والتعظيم، وبالصلاة والتسليم.
والبيت المراد هو قول أبي تمام:
ولولا خلال سنَّها الشعر ما درى * بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
ويروى: بغاة العلا، وبناة العلا.* * *
والدكتور الغذامي صاحب نظرة سوداوية إلى كل ما ينسب إلى الثقافة العربية، والحضارة العربية، يحمل كثيرًا من الأمور على أسوأ المحامل، ويذهب به أبعد المذاهب، وينسبه شر المناسب، ولو قيل له: ما مثالب هذه الحضارة وعيوبها ونقائصها ومساوئها ومفاسدها؟ لكان له في هذا أو هؤلاء حديث لا ينقضي، ومدد لا ينقطع، وشواهد لا تنفد، ولأخرج لك في ذلك بعض كتبه، ولو قيل له: ما مزايا هذه الحضارة ومناقبها وفضائلها ومحاسنها؟ لعاد البيان عيًّا، والإسهاب اقتضابا، والغزير منزورًا، والكثير يسيرًا، وهذه المقالة شاهد أيّ شاهد على ما أقول.* * *
كان للعرب مكارم من الأخلاق أتمها الإسلام، وكان الشعر ديوان العرب، وما زال، وكان الشعر هو الفن الأول في هذا اللسان العربي، وما زال، ذلك أن هذا اللسان لسان الإيقاع والوزن، ولسان الإيجاز واللَّمْح، مما لا يكون في ألسنة أخرى قوامها الفضول واللتّ والمضغ، والشعر أرقى مظهر لمزايا اللسان العربي، فيه تبدو عبقريته وجلالته، ونفوذه وبلاغته، ومقدرته وإصابته.من أجل ذلك كان هذا الشعر سجل المفاخر والمآثر، وسجل المعايب والمثالب أيضًا، فهو مرآة للواقع بما فيه من خير وشر، ونفع وضر، وهو لا يخلو من الأكاذيب والأضاليل ككل الكلام الإنساني.
والمدائح في الشعر من خير دواوين المكارم وأنصعها وأرفعها وأجمعها - ومثلها المراثي، وهي أصدق وأنبل - والناس ينشدونها ويحفظونها ويقرءونها لا على أنها صدق كلها، لا شوب فيها من مبالغة أو كذب، ولكن لما تمثله من صنعة بيانية لها قيمة في نفسها ككل الفنون بمعزل عن مقاصدها ومراميها وما استعملها الشاعر له، ولما تمثله من مكارم خلقية كان منها حقائقُ ووقائع لا تُنكَر، وُجدت في كل عصر، من السخاء والشجاعة والنجدة والمروءة والصدق والإنصاف والعفاف والإيثار، ونراها اليوم في كثير من الناس، لا على ما قال القائل: ذهبت المكارم إلا من الكتب! فهذا يكذّبه الواقع التاريخي والواقع الحاضر، وإنما هو ضرب من التطير والتبرم والتشاؤم يغلب على نظر بعض الناس فلا يرون إلا ما يسوء وينوء، ويضر ويغُرّ!
* * *
يقول أبو تمام: لا يعرف الناس المكارم والخلال الحسنة والأخلاق الرفيعة إلا من الشعر. وهذا يجري على مذهب من المبالغة غير منكور ولا مستغرب، ذلك أن الناس يعرفون المكارم من الفطرة، ومن الدين، ومن الآباء والأجداد، ومن الكتب، ومن التجارب، ومن الشعر بما هو ديوان للمعاني والحكم والتواريخ، وهو في لسان العرب أعلاها منزلة، وأنفذها أثرًا، وأجمعها جمعًا، وأتقنا وضعًا. ففي كلام أبي تمام مذهب يشبه القصر الادعائي، كما تقول: الشاعر المتنبي، وأنت لا تنكر أن يكون غيره شاعرًا، ولكنك تريد رفع منزلته وتفضيله على الشعراء، فالمراد إذًا: خير سجل للمكارم الشعر ؛ لأنه يُبِينُ إبانة خاصة، ويبلغ ما لا يبلغه غيره، ويُحفَظ ويُروَى ويُدوَّن.وقف الدكتور الغذامي عند لفظَي: "بناة العلا" و"بغاة الندى"، ورأى بعد ما نظر البيت في الديوان على رواية: "بغاة الندى"، وكان يحفظه: "بناة العلا" - أنه تغيير مقصود، وقال: "ولعل رغبة عميقة في النفس كانت وراء تعديل الرواية، وذلك من باب المحافظة على شرف ديوان العرب، وعلى شرف الشعر، ولكن لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد دخل المديح إلى شعرنا فأفسده وأفسد أخلاق الأمة"، ومن رأيه أن هناك فرقًا بين "الندى" و"العلا"، وأن هذا التغيير "يكشف عن نسق ثقافي سلبي يضرب خطره في أعماق الشعر العربي الذي هو ديوان العرب ودفتر مآثر الأمة حسب المقولة الراسخة... فالعلا مجد وارتفاع، وأما الندى فمذلة وشحاذة "(!).
وما كنت أدري أن من معاني "الندى" المذلة و(الشحاذة)، ولا أن الجود يُذَم من أجل المذلة و(الشحاذة)، ولا أن الجود يُذَم من أجل شيء ما كان، ولا أظن أنه يخطر ببال أحد أن يقول للدكتور الغذامي: ما (عقلية المؤامرة) هذه يا دكتور؟ أمن أجل لفظة في بيت جاءت بروايتين تزعم أنه تغيير قُصد منه ترويج الكاسد، وتزويق المقبوح، وتنفيق المردود؟ فالموصوفون بأن لهم (عقلية المؤامرة) قوم آخرون غير المتنورين! وما الضير لو قيل: إن "الندى" نوع من "العلا"؟
واختلاف الروايات في الأشعار معروف مألوف، لا يرجع إلى تدبير أو تخطيط، والروايتان في نسخ الديوان، ورواية "بغاة العلا" قديمة مثبتة في عيون الأخبار لابن قتيبة (213-276)، وأخبار الزجاجي (-337)، ووساطة الجرجاني (-392)، وهلم نازلاً.
وقد قال الدكتور: إنه قرأه "بغاة العلا" في كتاب للعقاد! ولما اكتشف (المؤامرة) و(الملعوب) في تغيير هذا البيت بعد الاطلاع على الرواية الصحيحة (!) في الديوان، رجع إلى كتاب العقاد "اللغة الشاعرة" ووقف متحسّرًا على منظر البيت مغيَّرًا مزوَّرًا، فِعْلَ الذي ينظر مبتسمًا إلى من يريد أن يخدعه وهو فاهم لقصده، عارف بكيده! وكأني فهمت أنه ينسب هذا التغيير إلى العقاد!!
ولا أدري إلى أي نشرة من الديوان رجع؟ لأن النشرة المتداولة بشرح التبريزي وتحقيق محمد عبده عزام ونشر دار المعارف بمصر (3/183) فيها إشارة في الحاشية إلى أن من النسخ ما فيه الرواية الأخرى.
وكأن الدكتور فهم من "بغاة الندى" أنهم طالبو المال وأهل الكُدْية والإلحاف، والمراد - كما هو واضح لكل متذوق للشعر - طالبو الجود، وهم المعطُون المنفقون، فهو في معنى "بغاة العلا" أو "بناة العلا" أو "بناة الندى".
* * *
والقصيدة في مدح الوزير أحمد بن أبي دُوَاد، وأولها الغزل، وأول الخروج منه قوله:ينال الفتى من عيشه وهو جاهل * ويُكْدي الفتى في دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجري على الْحِجا * هلكْنَ إذا من جهلهن البهائم
وكل سامع لهذا القول الشريف يفهم منه أنه يرمي إلى معنى معلوم مطروق، وهو أن الأرزاق ليست بالكياسة والعقل والجهد، ولكنها مقسومة مقدَّرة مكتوبة، ينال كل امرئ منها ما قُسم له. وهذا إذا قيل في معرض المدح فإنما هو للتوصل به إلى أن الله وضع المال في أيدي بعض الناس مبتليًا لهم به، فمنهم من أنفقه على عباده، وواسى به المحروم، وأسعف السائل، ومنهم من بخل به وكنزه وذاد عنه العافي، وحرم منه المتعفف. ولذلك أسلم هذان البيتان إلى ما بعدهما، وكانا مدخلاً إلى مدح الممدوح، لأن الممدوح من قبيل الأسخياء المنفقين:ولو كانت الأرزاق تجري على الْحِجا * هلكْنَ إذا من جهلهن البهائم
جزى الله كفًّا ملؤها من سعادة * سَرَتْ في هلاك المال والمال نائم
فلم يجتمع شرقٌ وغرب لقاصد * ولا المجدُ في كفِّ امرئ والدراهم
فإنفاق المال من بناء المجد أو العلا أو الندى، وإمساكه عن وجوهه الواجبة من بناء المخازي والمذامّ والذكر القبيح.فلم يجتمع شرقٌ وغرب لقاصد * ولا المجدُ في كفِّ امرئ والدراهم
وأما فهم الدكتور الغذامي فله وجهة أخرى (تآمرية) (خفية) (باطنية) (ردية)، فقال في البيتين الأولين: "هذا كلام ظاهره حسن، ولكن باطنه قبيح... والموقف هنا يقوم على أن أبا تمام فقير ماديًّا وثري عقليًّا، والقاعدة التي يقولها البيتان هي أن العاقل فقير والجاهل غني، وعلى هذه القاعدة... فلا بد إذًا أن ابن أبي دواد جاهل... وكأنما يقول له: إن لديك المال ولدي العقل، ولذا عليك أن تعطيني بعض مالك لكي أعطيك بعض عقلي". ثم استشهد بالبيت بعدهما على ما أراد.
وهذا الكلام يقوله من لا يعرف أحمد بن أبي دُوَاد الإيادي (160-240) ؛ إذ هو معدود في المتكلمين والأدباء والقضاة، وكان أحد الدُّهاة، وفي ترجمته قول أبي العيناء: ما رأيت رئيسًا قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دواد.
ولا يسوغ أن يقصد أبو تمام ما فسر به الغذامي كلامه، وإنما هو معنى في ذهنه، لم يجر في بال أبي تمام وابن أبي دواد منه شيء. والقوم كانوا من العقل ومن الفطنة ومن المعرفة بمرامي الكلام ومجاريه بموضع لا يجيز أن يُظَن بهم معه هذا الظن، فيكون هذا المعنى مما يقصده أبو تمام، ويغفل عنه ابن أبي دواد.
كلام الدكتور الغذامي إنما هو تفسير للشعر بمعزل عن الموقف الذي قيل فيه، وعن المعهود في مثله ونظيره وشبيهه، وعلى ذلك فسر الأبيات الآتية بعد:
ولم أر كالمعروف تُدعى حقوقُه * مغارمَ في الأقوام وهي مغانم
ولا كالعلا ما لم يُرَ الشعرُ بينها * فكالأرض غُفْلا ليس فيها معالم
وما هو إلا القول يسري فتغتدي * له غرر في أوجه ومواسم
يُرى حكمةً ما فيه وهو فكاهة * ويقضي بما يقضي به وهو ظالم
ومرمى الكلام أن المزية البيانية -وأرفعها الشعر- فضيلة من الفضائل، ومن مآثر الشعر أن المكارم سُطِرت فيه، فبيّنها وشرحها ودلَّ عليها، وهو فوق ذلك ضرب من السحر، يمكن أن يجعل الحق باطلاً، والباطل حقًّا، بما فيه من قدرة لها سلطان البلاغة والبراعة في التزيين والتقبيح، والهجاء والمديح، فالشعر من الفضائل؛ ومن سلطانه أنه يستعمل في الباطل.ولا كالعلا ما لم يُرَ الشعرُ بينها * فكالأرض غُفْلا ليس فيها معالم
وما هو إلا القول يسري فتغتدي * له غرر في أوجه ومواسم
يُرى حكمةً ما فيه وهو فكاهة * ويقضي بما يقضي به وهو ظالم
هذا ما يفهم من الأبيات، وأما فهم الدكتور الغذامي (التآمري) فغير ذلك، قال: "إذًا ما على ابن أبي دواد إلا أن يدفع ما في الجيب لكي يدافع ما في الغيب الشعري... أما إذا لم يعط فالويل له من حكم الشعر، وهو حكم ظالم بلا شك، ولكنه نافذ". فقد جعل هذا القول تهديدًا لابن أبي دواد، وجعل أبا تمام يتوعده إن لم يعطه المال. واعجبْ كيف يكون بذل المال جودًا مع التهديد؟! وكيف يرضى الممدوح - بل المادح - أن يكون المديح مقارِنًا للإنذار، واستنزال العطاء مصاحبًا للتخويف؟!
وقد حمل الغذامي هذه الأبيات على هذا المعنى وفيها ذكر الشعر، وأعجبُ منه حمله المديح الخالص من ذكر الشعر على هذا المعنى، وذلك قول أبي تمام:
إلى سالم الأخلاق من كل عائب * وليس له مال على الجود سالم
جدير بأن لا يصبح المال عنده * جديرًا بأن يبقى وفي الأرض غارم
وليس ببانٍ للعلا خلُق امرئ * وإن جلَّ إلا وهو للمال هادم
فهذا مديح صرف، وتقريظ للجود، وما دعاه إلى ذكر العيب إلا المقابلة بين ثبوت سلامة الأخلاق وانتفاء سلامة المال، على ما هو معروف من صنعة أبي تمام الشعرية، والبيت الأخير على هذا النحو، يقول: الجود أول المكارم، وعبر عن هذا بالتلازم بين هدم المال، وبناء العلا، قصدًا إلى إنشاء هذه الصورة التي قوامها الطباق بين البناء والهدم، وما المقصود بالهدم إلا الإنفاق.جدير بأن لا يصبح المال عنده * جديرًا بأن يبقى وفي الأرض غارم
وليس ببانٍ للعلا خلُق امرئ * وإن جلَّ إلا وهو للمال هادم
وأما الدكتور الغذامي فلا يرى في الأبيات إلا تكرار لفظة "المال" -وهو شيء ليس بغريب عند الحديث عن الجود- ويقول: "ولذا يربط الشاعر بين العيب وبذل المال، ويشير إلى انتفاء العيب عن الممدوح بسبب بذله المال، مما يعني أن عدم بذل المال سيؤدي إلى ظهور العيوب". والخلل في هذا الفهم أنه يرى العيب عيب الشاعر، والعيب المراد مذمة الناس لكل من يمسك المال، على ما هو معهود في ذم البخل والباخلين، لا على سيبل التهديد بالذم.
وبعد هذه الأبيات خرج أبو تمام إلى مدح قوم الممدوح "إياد"، وختم بأبيات قصد فيها إلى بيان ما بين الشعر والمكارم من علاقة، وهي أن الشعر سجل لهذه المكارم، يذكرها ويعرّفها ويحفظ للآخِرين ما فعل الأولون، ويُبقِي للاحقين مآثر السابقين، وقد تركها الدكتور الغذامي، ولم يأخذ منها إلا البيت الأخير:
فما بالُ وجهِ الشعرِ أغبرَ قاتِمًا * وأنف العلا من عُطلة الشعر راغم
تداركْه إن المكرمات أصابعٌ * وإن حُلَى الأشعار فيها خواتم
إذا أنت لم تحفظه لم يك بدعة * ولا عجبًا أن ضيعته الأعاجم
فقد هز عِطفيه القريضُ توقعًا * لعدلك مذ صارت إليك المظالم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى * بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
وكأن الدكتور الغذامي لم يجد في الأبيات الأربعة الأوَل مدخلاً لمذهبه في التفسير فجاوزها، وهي تقول: الشعر لا يستغني عن المكارم، والمكارم لا تستغني عن الشعر، كما هي الصلة بين الأقوال والأفعال، وبين العمل والصحيفة المثبَت فيها ذكرُه، وبين الوقائع وتواريخها الحاكية لها، وهو يشير إشارة مهمة، وهي قوله: إنك - يا ابن أبي دواد - إذا لم تحفظ للشعر مقامه ومنزلته - وأنت العربي الصريح - فهو عند الأعاجم أضيع، فهذا فن العرب الأول، وهم به أعرف، وله آلف، يدرون ما للبيان من شرف، وما للشعر من قدر، وأما من يستوي عندهم الفصاحة والفهاهة، والبلاغة واللَّكَن، والنطق والبَكََم، فلا يقدرون الشعر قدره، ولا يعرفون للبيان سحره؟تداركْه إن المكرمات أصابعٌ * وإن حُلَى الأشعار فيها خواتم
إذا أنت لم تحفظه لم يك بدعة * ولا عجبًا أن ضيعته الأعاجم
فقد هز عِطفيه القريضُ توقعًا * لعدلك مذ صارت إليك المظالم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى * بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
* * *
ما كان على الدكتور الغذامي لو حدثنا عن ذم التكسب بالشعر، أو ذم الكذب، فسيجد من يؤازره ويناصره، وأما ليُّ أعناق الكلام لتتجه غير وجهتها، وتسير في غير طريقها، وتقصد إلى غير مرادها، للتوصل بها إلى ذم ثقافتنا كلها، وشعرنا كله، والقول: إن حياتنا أفسدها الشعر، والشعر أفسده المديح - فهذا ما لا يوافقه عليه غيور على الحقيقة أن يُطمَس وجهها، والعلم أن يرغم أنفه!وأما من يستشهد بحديث حثو التراب في وجوه المدّاحين على ذم المدح كله فهو من الاستشهاد بالشيء في غير موضعه، كيف وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمدح أصحابه في وجوههم، ويثني عليهم، ويذكر مناقبهم؟ وإنما المدح المذموم المدح بالكذب، أو مدح من يُبطره المديح ويطغيه. واسألوا المتخصصين في التربية عن أثر المدح في بناء مكارم الأخلاق، ومساندة العاملين، ومكافأة المحسنين!
والإنسان يحب الذكر الحسن، ويكره الذكر القبيح، وقد سأل نبي الله إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وامتن على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه رفع ذِكْره، وعلى الأنبياء جميعًا بأنهم يُذكرون بالتوقير والتعظيم، وبالصلاة والتسليم.