الدرس السادس من شرح نخبة الفكر ـ السبت 21/6/1433هـ

عمر المقبل

New member
إنضم
06/07/2003
المشاركات
805
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
المصطلحات الخاصة بالمتن المقبول عند وجود تعارض في الظاهر
لما بيّن المصنف : أوصافَ الأحاديث السابقة من جهة الأسانيد قبولاً ورداً، انتقل إلى أوصاف المتون المقبولة، وأنّ منها ما يعمل به ومنها ما لا يعمل به([1])، فقال ::
(ثم المقبول: إن سلم من المعارضة فهو المحكم، وإن عورض بمثله: فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث، أَوْ لا ـ وثبت المتأخر ـ فهو الناسخ، والآخر المنسوخ، وإلا فالترجيح، ثم التوقف).
قوله: (ثم المقبول...) أي أنه ينقسم إلى معمول به وغير معمول به، وقد علل ذلك بأنه (إن سلم من المعارضة) أي: لم يأت حديث آخر يعارضه في الظاهر([2])، فهذا يسمى عند أهل العلم: (المحكم) وأمثلته كثيرة جداً، منها:
1 ـ حديث «إنما الأعمال بالنيات» هذا حديث صحيح, وليس هناك شيء في الشريعة يعارضه, فنسميه: مُحكَماً.
2 ـ «الدين النصيحة» مُحكَم.
3 ـ «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» مُحكَم.
4 ـ «كل بدعة ضلالة» محكم.
5 ـ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» محكم.
ثم قال: (وإن عورض بمثله) أي: عورض الحديث المقبول، فهذا لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يمكن الجمع، والحال الثانية: أن لا يمكن الجمع.
فإذا أمكن الجمع بدون تكلف ولا تعسّف؛ فهذا يسمى (مختلف الحديث) وأمثلته كثيرة، نكتفي بمثال سهل الفهم، ذكره الحافظ : وحاصله:
أنه ثبت عنه ج أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة»([3])، وثبت عنه أنه قال: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»([4]).
ولأول وهلة يوجد تعارض! بحيث نفى في الحديث الأول العدوى، ثم في الحديث الثاني أثبت هذه العدوى، فقال: «فر من المجذوم».
والجواب: أن هذا التعارض في الظاهر فقط، أما في الحقيقة فإننا إذا تأملنا فسنجد أن النبي ج نفى العدوى التي كانت يعتقدها أهل الجاهلية؛ في أن الأشياء تؤثر بنفسها, ولهذا لما جاءه الأعرابيُ يستشكل هذا المعنى فقال: «يا رسول الله! فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها»؟ فقال له النبي ج قاطعاً هذا التسلسل عنده: «فمن أعدى الأول»؟([5]) البعير الأول ابتلاه اللهُ بالجرب, حتى يُقطَع تسلسل الذي يربط التأثير بالأسباب المادية المحسوسة، وإنما المؤثر الأول والحقيقي هو الله سبحانه، وقد يُجري لذلك أسباباً.
وأما حديث «فر من المجذوم فرارك من الأسد» فمن باب اتقاء الأمراض، ولذلك أمر النبي ج إذا وُجد الطاعون بأرضٍ أن لا ندخلها، وإذا كان الإنسان فيها فلا يخرج منها كما في حديث أسامة بن زيد ب في الصحيحين([6]).
أما الحال الثانية ـ وهي تعذر الجمع ـ فلا تخلو من حالين أيضاً:
وقد عبّر عن ذلك المصنف : فقال: (أوْ لا): أي: إذا لم يمكن الجمع، فإن الباحث ينتقل للمرحلة الثانية ـ وهي القول بالنسخ ـ لكن بشرط: أن يثبت عنده المتأخر، ولهذا قال الحافظ: (وثبت المتأخر فهو الناسخ والآخر المنسوخ).
والبحث في النسخ يلخص في مسألتين:
الأولى: تعريفه، فيقال: هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه.
الثانية: شرط القول بالنسخ، وأمثلة ذلك.
لا يجوز اللجوء إلى النسخ إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يعجز الإنسان عن الجمع؛ لأنه إذا أمكن الجمع لم يجز اللجوء إلى النسخ.
الشرط الثاني: أن يثبت المتأخر بقرائن قد توجد في نفس الحديث، وقد توجد خارجه([7]).
ـ مثال ما ثبت النسخ فيه في نفس الحديث:
حديث بريدة س في صحيح مسلم، أن النبي ج قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»([8]) هذا النسخ فيه واضح، فيه نهي سابق ثم أبيح.
ـ مثال ثبوت النسخ في حديث آخر:
الأحاديث الواردة في لبس الخفين للمُحْرِم ، وهل يقطعان أسفل من الكعبين؟
ففي حديث ابن عمر بقال: سُئِلَ رسولُ الله ج ما يلبسُ المحرمُ من الثيابِ؟ فقال: «لا يلبسُ القميصَ، ولا العمائمَ، ولا السراويلاتِ، ولا البُرْنُسَ، ولا ثوباً مسَّه زعفران ولا وَرْس،وإنْ لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين»([9]).
وعارضه حديث ابن عباس بقال: سمعتُ النبيَّ r يخطبُ بعرفاتٍ: «من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويلَ للمُحْرِم»([10]).
فالحديث الأول نص على القطع ليكون الخفان أسفل من الكعبين، والثاني سكت عن ذكر القطع، فما الجمع بينهما؟ اختلف العلماء في ذلك، لكن من أوجه الجمع الراجحة القول بالنسخ، أي أن حديث ابن عباس ب متأخر؛ لأن حديث ابن عمر ب كان في المدينة قبل أن يسافر النبي ج إلى الحج، وحديث ابن عباس كان في عرفة بَعْدُ([11]).
واعلم أن النسخ يعرف بأمور منها:
1- أصرحها ما ورد في النص، كحديث بريدة الآنف الذكر.
2 - ومنها ما يجزم الصحابي بأنه متأخر، كقول جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله ج ترك الوضوء مما مست النار"([12])، وهذا الحديث وإن كان معلولاً، ولكن المقصود التمثيل بالصيغة، لا الاعتماد عليه.
3- ومنها ما يعرف بالتاريخ، وهو كثير.
قال المصنف : : (وإلا فالترجيح)، أي: إذا تعذر علينا القول بالنسخ، فلا بد من الترجيح.
مثال ذلك: الأحاديث الواردة في زواجه ج من ميمونة ل، هل كان حين زواجه بها محرماً أم حلالاً (غير محرم)؟
ففي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ ب أنَّ النبي ج تَزوَّج ميمونة، وهو مُحْرِمٌ([13]).
وعارضه حديث يزيد بن الأصم، قال: حدثتني ميمـونة بنت الحارث ل: أنَّ رسولَ الله r تزوجها وهو حلالٌ، قال: وكانتْ خالتي وخالةَ ابن عباس([14]).
ووجه التعارض ظاهر، أن الحديث الأول صريح في أنه ج تزوج ميمونة حال إحرامه، والثاني بعكسه.
وقد اختلف العلماء في توجيه هذا التعارض، لكن أصح الأوجه هو أن يقال بالترجيح، أي بترجيح حديث ميمونة، وهو أنه ج تزوجها وهو حلال (غير محرم)؛ لأمور:
1 ـ أن ميمونة ل نفسها ـ وهي صاحبة القصة ـ روت أن النبي ج تزوجها وهو حلال.
2 ـ أن الترمذي وغيره رويا عن أبي رافع س([15]) ـ السفير بينهما ـ أي: الواسطة بينهما، أخبر أن النبي ج تزوجها وهو حلال([16]).
قال المصنف : : (ثم التوقف) أي إذا لم يتيسر العمل بأحد المسلكين السابقين عند التعارض ـ وهي الجمع أو النسخ ـ فإنه يجب التوقف عن العمل بالحديثين حتى يتبين له الأمر.
والخلاصة:
أن الحديث المقبول لا يخلو إما: 1/أن يَسلَم من المُعارِض وإما: 2/أن لا يَسلَم.
فما سلِم منها فهو المُحكم.
وما عُورِض بمثله فلا يخلو من حالين:
1/ إما أن يمكن الجمع فهو: مختلف الحديث.
2/وإما أن لا يمكن الجمع، فهنا لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يُعرف التاريخ، فإن عُرف، وثبت المتأخر: فالناسخ والمنسوخ.
الحال الثانية: إذا لم يُعرف التاريخ؛ فهنا إن أمكن الترجيح فيرجح، وإذا لم يمكن أتوقف في تلك المسألة، لا يجوز أن أصدر حكماً.


([1]) وهذا البحث من صميم علم الحديث، وليس أجنبياً عنه، وله صلة وثيقة بعلم أصول الفقه؛ لأن هذه المسميات مرتبطة بالمتون، والأصوليون إنما يبحثون في المتون، والمحدثون يبحثون فيهما جميعاً .

([2]) ولا بد من قولنا: (تعارض في الظاهر) أي: لأول وهلة؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يوجد تعارضٌ تام، وقد نبّه على هذا الإمام ابن خزيمة :، وسبب ذلك: لأننا نبحث في كلام المعصوم ج، وكلام المعصوم لا يمكن أن يتناقض أبداً، وإن وُجد تناقضٌ فهو في فهم الناظر، أما كلامه ج فلا تناقض فيه أبداً.

([3]) البخاري ح(5380)، مسلم ح(2220).

([4]) البخاري ح(5380) بعد اللفظ السابق: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد»، مع العلم أن اللفظ السابق قد جاء في مواضع عدة من صحيح البخاري غير هذا الموضع، وليس في مسلم: «فر من المجذوم...».

([5]) البخاري ح(5387)، مسلم ح(2220).

([6]) البخاري ح(5396)، مسلم ح(2218).
ومن الأمثلة: التعارض بين حديث: بسرة ل: "من مس ذكره فليتوضأ" وبين حديث طلق بن علي س: "إنما هو بضعة منك"، فقيل: بالجمع وحمل الأمر بالوضوء على الاستحباب، وقيل: بأن حديث بسرة ناسخ لحديث طلق، وقيل: بترجيح حديث بسرة على حديث طلق.

([7]) والقول بالنسخ بدون هذين الشرطين فيه نظر بيّن! لأنك إذا قلت بالنسخ معناه: أنك أبطلت العمل بالحديث الأول، والأصل إعمال الدليلين، وهذه قاعدة مقررة عند الفقهاء: إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.

([8]) مسلم ح(1977).

([9]) البخاري ح(1842)، ومسلم ح(1177).

([10]) البخاري ح(1841)، ومسلم ح(1178).

([11]) القول بالنسخ هو أصح الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو المشهور من المذهب، اختارها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وابن سعدي ، وابن باز.
ينظر: المغني: (5/120)، الإنصاف: (8/246-247)، شرح كتاب الحج والعمرة من عمدة الفقه لابن تيمية: ( 2/21 ، 28-29)، تهذيب مختصر السنن 2/347 ، شرح عمدة الأحكام لابن سعدي: (2/704 ، 707)، فتاوى ابن باز: (17/121).

([12]) أخرجه أصحاب السنن، وهو حديث معلول.

([13]) البخاري ح(1837)، ومسلم ح(1410).

([14]) مسلم ح(1411).

([15]) الترمذي ح(841)، والنسائي في الكبرى ح(5381) ، وغيرهما من طرق عن ربيـعة بن أبي عبـد الرحمن ، عن سليمان ، عن أبي رافع به.
وقد اختلف في وصله وإرساله على ربيعة، وعلى من دون ربيعة، وقد صوّب الوجه المرسل بعض الحفاظ، منهم: الترمذي في السنن: (3/201)، والطحاوي، كما في شرح المعاني: (2/270)، وينظر: تعليق ابن عبد البر على هذا الاختلاف في التمهيد: (3/151).

([16]) فأما حديث ابن عباس ب فجوابه أن يقال: إن ابن عباس ب لم يعلم أن الرسول ج تزوجها إلا بعد أن أحرم الرسول ج فظن أن الرسول ج تزوجها وهو محرم بناءً على علمه، وهذا الوجه قوي وواضح ولا إشكال فيه.


http://vb.tafsir.net/tafsir31441/
http://vb.tafsir.net/tafsir31564/
http://vb.tafsir.net/tafsir31666/
http://vb.tafsir.net/tafsir31761/
http://vb.tafsir.net/tafsir31776/http://vb.tafsir.net/tafsir31776/
 
جزاك الله خيرا شيخنا، وددنا لو وضعتم في نهاية كل حلقة روابط للحلقات السابقة لتسهيل الرجوع إليها بارك الله في الجميع
 
عودة
أعلى