التوكل
· معنى التوكل
التوكل طلب الوكالة من الوكيل ، والوكيل والمتوكل بالأمر هو الذي يضمن القيام به.
فالوكيل هو الذي يُسند إليه الأمر ويُفوَّضُ إليه ويعتمد عليه فيه.
والمتوكِّل هو المعتمِد والمفوِّض.
فالتوكُّل على الله تعالى حقيقته : اعتماد القلب على الله وتفويض الأمر إليه ثقة في حسن تدبيره واعتقاداً بأن النفع والضر بيده وحده سبحانه.
· منزلة التوكل
التوكل عبادة من أجل العبادات، وهو جامع لعبادات عظيمة من التذلل لله، والخضوع إليه، والالتجاء إليه، والتسليم له، والثقة به، ورجائه وتفويض الأمر إليه، وحسن الظن به، والرضا به، واعتقاد أن النفع والضر بيده وحده جلَّ وعلا.
والتوكل يستلزم الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيؤمن المتوكّل بسعة علم الله تعالى وقدرته، وعظيم ملكه وسعة رحمته، وكمال غناه وجميل حمده، وحسن ولايته وربوبيته، وبديع حُكْمِهِ وحِكمته، وغيرها من الصفات العليا الجليلة التي هي من آثار أسمائه الحسنى؛ فما يقوم في قلب المتوكل عند توكله من هذه العبادات وغيرها أمر لا تحيط به العبارة ولا يوفيه الشرحُ حقَّه.
· ثواب المتوكل
وثواب التوكل على الله عظيم جليل جزيل إذ جعل الله ثواب المتوكل أن الله هو حسبه وكافيه وأن الله يحب المتوكلين وفي ذلك غَناء له عن كل ما تتطلبه النفس، فليس وراء الله مذهب، ولا بعده مطلب؛ فبيده ملكوت كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} فجعل هذا من ثواب التقوى وهو تفريج الشدة وحصول الرزق أيا كان نوعه، أما التوكل فثوابه أعظم : {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
وقد أثنى الله تعالى على نفسه بأنه {نعم الوكيل} وهذا الثناء يفتح لأولي الألباب أبواباً من المعاني الجليلة التي يستلزمها هذا الثناء الجميل فيثمر التفكر فيها من ثمرات اليقين والإيمان ما يحمل العبد على الثقة بالله جل وعلا والرضا به.
فكونه {نعم الوكيل} يستلزم علمه جل وعلا بحاجة من اتخذه وكيلاً، وعلمه بما يرجوه ويخافه كما قال الله تعالى: {والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيرا}
ويستلزم قدرته على تحقيق ما ينفع عبده ودفع ما يضره، ويستلزم نصره لعبده، ولطفه به ورحمته وإحسانه إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي يكفي فيها وصف {نعم الوكيل} ليحصل للنفس المؤمنة من اليقين والسكينة، والأمن والطمأنينة، والثقة العظيمة بالله جل وعلا ما لا تقوم له هموم الدنيا لو اجتمعت.
ولذلك تجد هذه العبارة {حسبنا الله ونعم الوكيل} يقولها أناس فتبلغ بهم من رضوان الله جل وعلا والقرب منه والزلفى لديه منزلاً عالياً جداً، ويقولها أقوام لا تجاوز حناجرهم.
وسر ذلك ما وقر في القلب من أنواع العبودية لله جل وعلا من الصدق والإخلاص أو عدمهما.
يقولها أقوام وهمهم النكاية بآخرين لأمر من أمور الدنيا غضبوا لأجله، وقد يكون هذا الأمر محرماً في أصله أو في التعلق به، وقد يكونون هم الظالمين المسيئين، ويقولها أقوام وهمهم إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وتحقيق العبودية له جل وعلا وطلب كفايته والاستغناء به جل وعلا والرضا به وعبادته على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأن يكفيهم ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا.
· أنواع التوكل
التوكل على الله تعالى لا يختص بالأمور الدنيوية كما يتوهمه بعض الجهال، بل التوكل على الله في الأمور الدينية من أداء واجبات العبودية لله تعالى والجهاد في سبيله في جميع مراتب الجهاد والتوكل عليه في طلب الهداية في جميع الأمور كبيرها وصغيرها أولى وأعظم.
وإن كان التوكل على الله في المصالح الدنيوية مطلوباً ومثاباً عليه بل قد يجب أحياناً، لكن التوكل على الله في أمور الدين أعظم وأنفع.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (التوكل على الله نوعان:
أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
وَبَيْنَ النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله؛ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتي توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه.
- فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم)ا.هـ.
وقد بدأ الله تعالى بالحث على التوكل عليه في أمور الدين قبل أمور الدنيا كما في الحديث القدسي العظيم: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أَكْسِكُم).
وهذا الحديث يتضمن وجوب التوكل على الله جل وعلا فإنه لا تحصل منفعة في دين ولادنيا إلا بإذن الله تعالى وعلمه وقدرته، وقد بين الله تعالى أن جميع أبواب النفع مغلقة إلا من طريقه جل وعلا، فما أذن الله في نفعه نفع، وما لم يأذن به فلن ينفع.
ذلك أن الله له ما في السماوات وما في الأرض، وبيده ملكوت كل شيء، وهو الغني الذي لا أغنى منه، والملك الذي لا يخرج شيء عن ملكه، وهو الحميد الذي لا يخذل من توكل عليه ولجأ إليه وطلب النفع منه جل وعلا واتبع رضوانه.
تأمل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
تأملوا التأكيد على أن لله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات في هذه الآيات، والتأكيد على غناه جل وعلا بأكثر من وجه، وترغيبه عباده أن يسألوه من خير الدنيا والآخرة، وما في ضمن ذلك من وعده الكريم بتحقيق ما يأملون إن هم استجابوا له واتبعوا هديه، وأنه لن يضيع شيئاً من دعائهم ولا يفوته شيء من ذلك فهو السميع البصير.
كل هذه المعاني إذا تأملها المؤمن أورثته يقيناً وإيماناً وإخباتاً وإنابة لله جل وعلا.
وعلم أن الله تعالى هو {نعم الوكيل} {وكفى بالله وكيلا}
وقوله تعالى في الحديث القدسي: (فاستهدوني أهدكم) (فاستطعموني أطعمكم) (فاستكسوني أكسكم) يتضمن إرشاداً ووعداً لا يخلفه الله أبداً، ومن أوفى بوعده من الله ؟!!.
ويصدّق هذا ويبينه ما في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنَّكم تتوكلون على الله حقَّ توكلهِ : لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدو خماصاً وتَرُوحُ بِطانا)) .
· تحقيق التوكل
تحقيق التوكل يكون بأمرين:
الأمر الأول: صدق الالتجاء إلى الله وتفويض الأمر إليه وإحسان الظن به جل وعلا وتعظيم الرغبة في فضله وإحسانه، وإفراده جل وعلا بما تقتضيه عبودية التوكل من العبادات العظيمة.
الأمر الثاني: اتباع هدى الله عز وجل ، وذلك بفعل ما يهدي إليه من الأسباب، فيمتثل الأمر ويجتنب المنهي عنه ويحرص على بذل الأسباب التي أذن الله بها في جلب النفع ودفع الضر.
وهذا أمر دل عليه الحديث الآنف الذكر فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطير تغدو، وغُدُوُّها هو بذلها السبب في التماس الرزق.
فمن جمع الأمرين: العبادة القلبية بالتوكل وبذل السبب الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وبيانه؛ فقد حقق التوكل واتبع رضوان الله.
ولما اجتمع هذان الأمران للمؤمنين عقب غزوة أحد كفاهم الله ما أهمهم، فكفاهم شر القتال، وأحل عليهم رضوانه، وحفظهم من كل سوء، وأعقب لهم ذكراً حسناً في كتابه الكريم لا يزال يتلى إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
فهؤلاء حققوا الأمرين فازداد إيمانهم بالله وتوكلوا عليه جل وعلا وقام في قلوبهم من أنواع العبودية لله جل وعلا ما يحبه الله ويرضاه {إن الله يحب المتوكلين}، واستجابوا لله والرسول واتبعوا رضوان الله فأحل الله عليهم رضوانه وحفظهم من كل سوء وأثابهم من الثواب العظيم ما لا يبلغه وصف واصف.
وهذان الأمران حققهما مؤمن آل فرعون فجعله الله آية للناس وأبقى له الذكر الحسن والثناء الكريم؛ فإنه اتبع رضوان الله وبذل الأسباب التي أمر الله بها؛ فأنكر على قومه الكفر، وقام بواجب نصرة موسى عليه السلام، واجتهد في النصيحة، وفوض أمره إلى الله؛ فحفظه الله ووقاه، وأعلى ذكره وكفاه ما أهمه، وانتقم له ممن أراد المكر به، قال الله تعالى حكاية عنه بعد أن نصح قومه بما نصحهم به: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}
قال الإمام الشنقيطي: (وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء).
فالتوكل على الله في تحقيق عبوديته جل وعلا -وهو أعظم أنواع التوكل- أَمَرَ الله معه ببذل الأسباب والقيام بأعمال العبادة كما أرشد الله عباده وهداهم، قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} ، وقال: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} ، وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبَّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}.
وكذلك من توكل على الله في جلب منفعة أو دفع مضرة وجب عليه أن يبذل ما يستطيع من الأسباب التي أذن الله بها وهدى إليها لجلب تلك المنفعة ودفع تلك المضرة.
وأما من قال بلسانه توكلت على الله وقلبه غافل لاه أو غير عازم على الصدق في التوكل فهو لم يحقق التوكل، وكذلك من لم يتبع هدى الله ولم يبذل الأسباب التي أمر الله بها فهو جاهل ظالم لنفسه، ضال في فهمه، مقدوح في عقله.
في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: (نحن المتوكلون) ؛ فإذا قدموا مكة سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} ).
وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}
فجمع بين التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وبَذْلَ السبب لحمايتهم من العين وذلك بأمره لهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة على قول جماعة من المفسرين.
ومن فقه هذا المعنى حق الفقه كان حريصاً على بذل الأسباب لأنها من هدى الله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولم يتعلق قلبه إلا بربه جل وعلا، لأنه هو وحده الذي بيده النفع والضر.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )) حسنه الترمذي واستدل به جماعة من أهل العلم، ومن أهل العلم من يضعف إسناده، ومعناه صحيح.
فإن العاجز هو الذي يقعد عن بذل الأسباب مع إمكانها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل، فقرن بينهما.
والعاجز محروم مخذول مذموم ومن زعم أنه متوكل على الله وهو لا يتبع هدى الله ببذل الأسباب فهو كاذب في دعواه.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود والنسائي من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين؛ فقال المقضي عليه لما أدبر: (حسبي الله ونعم الوكيل)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ)).
فقال: (( ما قلتَ؟)).
قال: قلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).
وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال ، لكن معناه حق، فإن العاجز الذي لا يبذل الأسباب مع إمكانها ملوم على عجزه، فإن فاته شيء من الخير أو حصل له ما يكره بسبب تفريطه فيما يمكنه من الأسباب لم يكن له حجة.
أما الذي يتوكل على الله ويبذل الأسباب التي هدى الله إليها فهو المؤمن المهتدي الموفق المتبع لرضوان الله جل وعلا.
والعبد لا يطالَب من الأسباب إلا بما يستطيع كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}
فإذا بذل العبد ما يستطيع من الأسباب وتوكل على الله فقد حقق التوكل وصدق في الرغبة وكان موعوداً وعداً لا يتخلف بتحقيق مطلوبه أو أفضل منه .
فإن غلبه أمر بعد ذلك أو حصل له ما يكره من المصائب التي يقدرها الله عز وجل عليه ابتلاء واختباراً فهو غير ملوم، بل هو موعود بأن يعوضه الله خيراً مما فاته، وأن يثيبه على ما أصابه ثواباً عظيماً .
قال ابن القيم رحمه الله: (سرُّ التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلوِّ القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: (توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به؛ فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء، فقول العبد: (توكلت على الله) مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله: (تبت إلى الله) وهو مصر على معصيته مرتكب لها!!).
وخلاصة القول أن من عقل معنى التوكل على الله وفقهه حق الفقه سعد في الدنيا والآخرة.
· أقسام الناس في التوكل
التوكل عبادة عظيمة من أجل العبادات وجامع لعبادات عظيمة فمن صرفه لغير الله تعالى فلا شك في كفره وشركه وظلمه وضلاله.
قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} فقدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، كما صرح به في قوله تعالى: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا}.
-وقال تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} .
-وقال: {فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم}
-وقال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون}
-وقال الله تعالى: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}
وقال الإمام أحمد: (التوكل عمل القلب).
فهو عبادة من صرفها لغير الله عز وجل فهو مشرك كافر، وإذا أردت أن تعرف معنى التوكل الشركي فانظر إلى حال المشركين الذين ذمهم الله عز وجل؛ وكيف توكلوا على آلهتهم التي يدعونها من دون الله عز وجل في جلب النفع ودفع الضر وفي الشفاعة وغيرها.
وهذا مشاهد معروف لمن عرف أحوال المشركين اليوم وخالط بعضهم ؛ فإنه يسمع منهم ما يدل على توكلهم الشركي على ما يعبدونه من دون الله من الأولياء والجن وغيرهم.
فهؤلاء أصحاب التوكل الشركي كفار خارجون عن ملة الإسلام والعياذ بالله؛ وأصحاب هذا القسم لم يحققوا الدرجة الأولى من درجات العبودية لله تعالى.
والقسم الثاني: الذين لم يصرفوا هذه العبادات لغير الله جل وعلا؛ لكنهم وقعوا في التفريط في واجبات التوكل ولم يحققوه ؛ إما بضعف اعتماد القلب على الله لغلبة الغفلة والتعلق بالأسباب على القلب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله وحده، أو بالتفريط في الأسباب الواجبة.
وهذا حال من يسميهم العلماء "عصاة الموحدين"؛ وهم أصحاب الكبائر من المسلمين.
والقسم الثالث: الذين حققوا التوكل على الله عز وجل؛ بتفويض الأمر إليه ، وبذل الأسباب التي هدى الله عز وجل إليها، وهذه حال المؤمنين الأتقياء.
ثم هم على درجات متفاضلة في التوكل تفاضلاً كبيراً بحسب ما يقوم في قلوبهم من أعمال العبادة لله جل وعلا، وبحسب ما يتبعون من هدى الله جل وعلا.
· أحكام المخالفين في التوكل.
إذا تبين ما تقدَّم علمنا أن التوكل عبادة من أجل العبادات فمن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك كافر خارج عن دين الإسلام والعياذ بالله؛ فمن توكل في جلب النفع ودفع الضر على أحد غير الله جل وعلا وصرف له ما تقتضيه عبادة التوكل من أعمال العبادة فلا شك في كفره.
- أما الاعتماد على الأسباب من الأشخاص والأعمال وغيرها فإن كان في القلب نوع تعلق بالسبب وتذلل له مع اعتقاده أن النفع والضر بيد الله وحده؛ فهو شرك أصغر من شرك الأسباب كما سبق بيانه في نظائره.
- وأما بذل السبب بلا تعلق قلبي فهذا ليس بشرك، ويكون حكمه على حسب ما يترتب عليه فالاعتماد على الأسباب في أمر مباح حُكْمُه الإباحة، والاعتماد عليها في أمر محرم حُكْمُه التحريم، وهكذا في نظائر ذلك.
· خطأ من عدَّ التوكل من مقامات العامة
عدَّ بعض من صنف في أعمال القلوب التوكل من مقامات العامة ، ولهم شبه في ذلك، وسنرجئ الحديث عنها إلى حين الحديث عن المقصد الثالث وهو الرد على شبهات المخالفين في أعمال القلوب والتحذير من البدع والأغاليط فيها.