الدرس السادس: التوكل والاستعانة

إنضم
26/11/2007
المشاركات
429
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بسم الله الرحمن الرحيم



الدرس السادس: التوكل والاستعانة


الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد على آله وصحبه والتابعين أما بعد:
فهذا الدرس في عملين جليلين من أجلِّ أعمال القلوب، وأخص مقامات العارفين ؛ فهما دليل الإيمان وعنوان العبودية، ومظهر الافتقار إلى الله تعالى، فإن الباعث عليهما هو اعتقاد كمال الله تعالى ونقص العبد، وغنى الله جل وعلا وفقر العبد، وملك الله وعبودية العبد، ورحمة الله تعالى وفضله وإحسانه، وحاجة العبد وفاقته واضطراره، وحسن الظنِّ بالله تعالى ورجائه والرغب إليه؛ ومعرفة العبد بقدر نفسه وضعفها وعجزها، وجامع ذلك: اليقين بأن النفع والضر بيد الله وحده.
ومتى قامت هذه المعاني الجليلة في قلب العبد أناب إلى الله وفرَّ إليه، ولاذ به، وتوكل عليه، واستعان به، وفوَّض جميع أموره إليه.
وبتحقيق هاتين العبادتين يتحقق للعبد ما وعده الله من الكفاية والإعانة.
وهما عبادتان واجبتان؛ من فرَّط فيهما أصابته آفات في سلوكه بحسب ما فرَّط فيه.
ولا يصح للعبد سيره ، ولا يستقيم سلوكه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به.
وقد قال الله تعالى كما في الحديث القدسي: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)
فالهداية إلى سلوك الصراط المستقيم لا تكون إلا بالله.
وقد سبق ذكر كلام ابن القيم في آخر الدرس السابق عن التناسب بين التوكل والاستعانة،وبين الصدق والإخلاص.
وقوله أن العبد إذا قام في الحق لله وبالله لم يقم له شيء ، وكان منصوراً مؤيداً أبداً.
وذكرت أن القيام لله يكون بالصدق والإخلاص، والقيامَ بالله يكون بالتوكل والاستعانة.
ومن صحَّح هذه المقامات صح توحيده وسلوكه؛ ثم كلما كان أكثر حظاً ونصيباً منها كان ذلك أعظم لهدايته ونصره وفوزه.
والله يؤتي فضله من يشاء، والله واسع عليم.


عناصر الدرس:
§ التوكل
· معنى التوكل
· منزلة التوكل على الله
· ثواب المتوكل
· أنواع التوكل
· تحقيق التوكل
· أقسام الناس في التوكل
· أحكام المخالفين في التوكل
· ذكر خطأ من عدَّ التوكل من مقامات العامة

§ الاستعانة
· معنى الاستعانة، ومنزلتها من أعمال القلوب
· درجات الناس في العبادة والاستعانة
· تحقيق الاستعانة
· أنواع الاستعانة بالله
· أقسام الاستعانة وأحكامها
 
التوكل

· معنى التوكل
التوكل طلب الوكالة من الوكيل ، والوكيل والمتوكل بالأمر هو الذي يضمن القيام به.
فالوكيل هو الذي يُسند إليه الأمر ويُفوَّضُ إليه ويعتمد عليه فيه.
والمتوكِّل هو المعتمِد والمفوِّض.
فالتوكُّل على الله تعالى حقيقته : اعتماد القلب على الله وتفويض الأمر إليه ثقة في حسن تدبيره واعتقاداً بأن النفع والضر بيده وحده سبحانه.


· منزلة التوكل
التوكل عبادة من أجل العبادات، وهو جامع لعبادات عظيمة من التذلل لله، والخضوع إليه، والالتجاء إليه، والتسليم له، والثقة به، ورجائه وتفويض الأمر إليه، وحسن الظن به، والرضا به، واعتقاد أن النفع والضر بيده وحده جلَّ وعلا.
والتوكل يستلزم الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيؤمن المتوكّل بسعة علم الله تعالى وقدرته، وعظيم ملكه وسعة رحمته، وكمال غناه وجميل حمده، وحسن ولايته وربوبيته، وبديع حُكْمِهِ وحِكمته، وغيرها من الصفات العليا الجليلة التي هي من آثار أسمائه الحسنى؛ فما يقوم في قلب المتوكل عند توكله من هذه العبادات وغيرها أمر لا تحيط به العبارة ولا يوفيه الشرحُ حقَّه.


· ثواب المتوكل
وثواب التوكل على الله عظيم جليل جزيل إذ جعل الله ثواب المتوكل أن الله هو حسبه وكافيه وأن الله يحب المتوكلين وفي ذلك غَناء له عن كل ما تتطلبه النفس، فليس وراء الله مذهب، ولا بعده مطلب؛ فبيده ملكوت كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} فجعل هذا من ثواب التقوى وهو تفريج الشدة وحصول الرزق أيا كان نوعه، أما التوكل فثوابه أعظم : {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
وقد أثنى الله تعالى على نفسه بأنه {نعم الوكيل} وهذا الثناء يفتح لأولي الألباب أبواباً من المعاني الجليلة التي يستلزمها هذا الثناء الجميل فيثمر التفكر فيها من ثمرات اليقين والإيمان ما يحمل العبد على الثقة بالله جل وعلا والرضا به.
فكونه {نعم الوكيل} يستلزم علمه جل وعلا بحاجة من اتخذه وكيلاً، وعلمه بما يرجوه ويخافه كما قال الله تعالى: {والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيرا}
ويستلزم قدرته على تحقيق ما ينفع عبده ودفع ما يضره، ويستلزم نصره لعبده، ولطفه به ورحمته وإحسانه إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي يكفي فيها وصف {نعم الوكيل} ليحصل للنفس المؤمنة من اليقين والسكينة، والأمن والطمأنينة، والثقة العظيمة بالله جل وعلا ما لا تقوم له هموم الدنيا لو اجتمعت.
ولذلك تجد هذه العبارة {حسبنا الله ونعم الوكيل} يقولها أناس فتبلغ بهم من رضوان الله جل وعلا والقرب منه والزلفى لديه منزلاً عالياً جداً، ويقولها أقوام لا تجاوز حناجرهم.
وسر ذلك ما وقر في القلب من أنواع العبودية لله جل وعلا من الصدق والإخلاص أو عدمهما.
يقولها أقوام وهمهم النكاية بآخرين لأمر من أمور الدنيا غضبوا لأجله، وقد يكون هذا الأمر محرماً في أصله أو في التعلق به، وقد يكونون هم الظالمين المسيئين، ويقولها أقوام وهمهم إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وتحقيق العبودية له جل وعلا وطلب كفايته والاستغناء به جل وعلا والرضا به وعبادته على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأن يكفيهم ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا.


· أنواع التوكل
التوكل على الله تعالى لا يختص بالأمور الدنيوية كما يتوهمه بعض الجهال، بل التوكل على الله في الأمور الدينية من أداء واجبات العبودية لله تعالى والجهاد في سبيله في جميع مراتب الجهاد والتوكل عليه في طلب الهداية في جميع الأمور كبيرها وصغيرها أولى وأعظم.
وإن كان التوكل على الله في المصالح الدنيوية مطلوباً ومثاباً عليه بل قد يجب أحياناً، لكن التوكل على الله في أمور الدين أعظم وأنفع.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (التوكل على الله نوعان:
أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
وَبَيْنَ النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله؛ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتي توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه.
- فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم)ا.هـ.

وقد بدأ الله تعالى بالحث على التوكل عليه في أمور الدين قبل أمور الدنيا كما في الحديث القدسي العظيم: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أَكْسِكُم).
وهذا الحديث يتضمن وجوب التوكل على الله جل وعلا فإنه لا تحصل منفعة في دين ولادنيا إلا بإذن الله تعالى وعلمه وقدرته، وقد بين الله تعالى أن جميع أبواب النفع مغلقة إلا من طريقه جل وعلا، فما أذن الله في نفعه نفع، وما لم يأذن به فلن ينفع.
ذلك أن الله له ما في السماوات وما في الأرض، وبيده ملكوت كل شيء، وهو الغني الذي لا أغنى منه، والملك الذي لا يخرج شيء عن ملكه، وهو الحميد الذي لا يخذل من توكل عليه ولجأ إليه وطلب النفع منه جل وعلا واتبع رضوانه.
تأمل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
تأملوا التأكيد على أن لله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات في هذه الآيات، والتأكيد على غناه جل وعلا بأكثر من وجه، وترغيبه عباده أن يسألوه من خير الدنيا والآخرة، وما في ضمن ذلك من وعده الكريم بتحقيق ما يأملون إن هم استجابوا له واتبعوا هديه، وأنه لن يضيع شيئاً من دعائهم ولا يفوته شيء من ذلك فهو السميع البصير.
كل هذه المعاني إذا تأملها المؤمن أورثته يقيناً وإيماناً وإخباتاً وإنابة لله جل وعلا.
وعلم أن الله تعالى هو {نعم الوكيل} {وكفى بالله وكيلا}
وقوله تعالى في الحديث القدسي: (فاستهدوني أهدكم) (فاستطعموني أطعمكم) (فاستكسوني أكسكم) يتضمن إرشاداً ووعداً لا يخلفه الله أبداً، ومن أوفى بوعده من الله ؟!!.
ويصدّق هذا ويبينه ما في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنَّكم تتوكلون على الله حقَّ توكلهِ : لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدو خماصاً وتَرُوحُ بِطانا)) .


· تحقيق التوكل
تحقيق التوكل يكون بأمرين:
الأمر الأول: صدق الالتجاء إلى الله وتفويض الأمر إليه وإحسان الظن به جل وعلا وتعظيم الرغبة في فضله وإحسانه، وإفراده جل وعلا بما تقتضيه عبودية التوكل من العبادات العظيمة.
الأمر الثاني: اتباع هدى الله عز وجل ، وذلك بفعل ما يهدي إليه من الأسباب، فيمتثل الأمر ويجتنب المنهي عنه ويحرص على بذل الأسباب التي أذن الله بها في جلب النفع ودفع الضر.
وهذا أمر دل عليه الحديث الآنف الذكر فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطير تغدو، وغُدُوُّها هو بذلها السبب في التماس الرزق.

فمن جمع الأمرين: العبادة القلبية بالتوكل وبذل السبب الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وبيانه؛ فقد حقق التوكل واتبع رضوان الله.​

ولما اجتمع هذان الأمران للمؤمنين عقب غزوة أحد كفاهم الله ما أهمهم، فكفاهم شر القتال، وأحل عليهم رضوانه، وحفظهم من كل سوء، وأعقب لهم ذكراً حسناً في كتابه الكريم لا يزال يتلى إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
فهؤلاء حققوا الأمرين فازداد إيمانهم بالله وتوكلوا عليه جل وعلا وقام في قلوبهم من أنواع العبودية لله جل وعلا ما يحبه الله ويرضاه {إن الله يحب المتوكلين}، واستجابوا لله والرسول واتبعوا رضوان الله فأحل الله عليهم رضوانه وحفظهم من كل سوء وأثابهم من الثواب العظيم ما لا يبلغه وصف واصف.
وهذان الأمران حققهما مؤمن آل فرعون فجعله الله آية للناس وأبقى له الذكر الحسن والثناء الكريم؛ فإنه اتبع رضوان الله وبذل الأسباب التي أمر الله بها؛ فأنكر على قومه الكفر، وقام بواجب نصرة موسى عليه السلام، واجتهد في النصيحة، وفوض أمره إلى الله؛ فحفظه الله ووقاه، وأعلى ذكره وكفاه ما أهمه، وانتقم له ممن أراد المكر به، قال الله تعالى حكاية عنه بعد أن نصح قومه بما نصحهم به: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}
قال الإمام الشنقيطي: (وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء).
فالتوكل على الله في تحقيق عبوديته جل وعلا -وهو أعظم أنواع التوكل- أَمَرَ الله معه ببذل الأسباب والقيام بأعمال العبادة كما أرشد الله عباده وهداهم، قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} ، وقال: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} ، وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبَّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}.
وكذلك من توكل على الله في جلب منفعة أو دفع مضرة وجب عليه أن يبذل ما يستطيع من الأسباب التي أذن الله بها وهدى إليها لجلب تلك المنفعة ودفع تلك المضرة.
وأما من قال بلسانه توكلت على الله وقلبه غافل لاه أو غير عازم على الصدق في التوكل فهو لم يحقق التوكل، وكذلك من لم يتبع هدى الله ولم يبذل الأسباب التي أمر الله بها فهو جاهل ظالم لنفسه، ضال في فهمه، مقدوح في عقله.
في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: (نحن المتوكلون) ؛ فإذا قدموا مكة سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} ).
وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}
فجمع بين التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وبَذْلَ السبب لحمايتهم من العين وذلك بأمره لهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة على قول جماعة من المفسرين.
ومن فقه هذا المعنى حق الفقه كان حريصاً على بذل الأسباب لأنها من هدى الله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولم يتعلق قلبه إلا بربه جل وعلا، لأنه هو وحده الذي بيده النفع والضر.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )) حسنه الترمذي واستدل به جماعة من أهل العلم، ومن أهل العلم من يضعف إسناده، ومعناه صحيح.
فإن العاجز هو الذي يقعد عن بذل الأسباب مع إمكانها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل، فقرن بينهما.
والعاجز محروم مخذول مذموم ومن زعم أنه متوكل على الله وهو لا يتبع هدى الله ببذل الأسباب فهو كاذب في دعواه.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود والنسائي من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين؛ فقال المقضي عليه لما أدبر: (حسبي الله ونعم الوكيل)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ)).
فقال: (( ما قلتَ؟)).
قال: قلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).
وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال ، لكن معناه حق، فإن العاجز الذي لا يبذل الأسباب مع إمكانها ملوم على عجزه، فإن فاته شيء من الخير أو حصل له ما يكره بسبب تفريطه فيما يمكنه من الأسباب لم يكن له حجة.
أما الذي يتوكل على الله ويبذل الأسباب التي هدى الله إليها فهو المؤمن المهتدي الموفق المتبع لرضوان الله جل وعلا.
والعبد لا يطالَب من الأسباب إلا بما يستطيع كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}
فإذا بذل العبد ما يستطيع من الأسباب وتوكل على الله فقد حقق التوكل وصدق في الرغبة وكان موعوداً وعداً لا يتخلف بتحقيق مطلوبه أو أفضل منه .
فإن غلبه أمر بعد ذلك أو حصل له ما يكره من المصائب التي يقدرها الله عز وجل عليه ابتلاء واختباراً فهو غير ملوم، بل هو موعود بأن يعوضه الله خيراً مما فاته، وأن يثيبه على ما أصابه ثواباً عظيماً .​

قال ابن القيم رحمه الله: (سرُّ التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلوِّ القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: (توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به؛ فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء، فقول العبد: (توكلت على الله) مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله: (تبت إلى الله) وهو مصر على معصيته مرتكب لها!!).
وخلاصة القول أن من عقل معنى التوكل على الله وفقهه حق الفقه سعد في الدنيا والآخرة.


· أقسام الناس في التوكل
التوكل عبادة عظيمة من أجل العبادات وجامع لعبادات عظيمة فمن صرفه لغير الله تعالى فلا شك في كفره وشركه وظلمه وضلاله.
قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} فقدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، كما صرح به في قوله تعالى: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا}.
-وقال تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} .
-وقال: {فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم}
-وقال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون}
-وقال الله تعالى: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}
وقال الإمام أحمد: (التوكل عمل القلب).
فهو عبادة من صرفها لغير الله عز وجل فهو مشرك كافر، وإذا أردت أن تعرف معنى التوكل الشركي فانظر إلى حال المشركين الذين ذمهم الله عز وجل؛ وكيف توكلوا على آلهتهم التي يدعونها من دون الله عز وجل في جلب النفع ودفع الضر وفي الشفاعة وغيرها.
وهذا مشاهد معروف لمن عرف أحوال المشركين اليوم وخالط بعضهم ؛ فإنه يسمع منهم ما يدل على توكلهم الشركي على ما يعبدونه من دون الله من الأولياء والجن وغيرهم.
فهؤلاء أصحاب التوكل الشركي كفار خارجون عن ملة الإسلام والعياذ بالله؛ وأصحاب هذا القسم لم يحققوا الدرجة الأولى من درجات العبودية لله تعالى.
والقسم الثاني: الذين لم يصرفوا هذه العبادات لغير الله جل وعلا؛ لكنهم وقعوا في التفريط في واجبات التوكل ولم يحققوه ؛ إما بضعف اعتماد القلب على الله لغلبة الغفلة والتعلق بالأسباب على القلب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله وحده، أو بالتفريط في الأسباب الواجبة.
وهذا حال من يسميهم العلماء "عصاة الموحدين"؛ وهم أصحاب الكبائر من المسلمين.
والقسم الثالث: الذين حققوا التوكل على الله عز وجل؛ بتفويض الأمر إليه ، وبذل الأسباب التي هدى الله عز وجل إليها، وهذه حال المؤمنين الأتقياء.
ثم هم على درجات متفاضلة في التوكل تفاضلاً كبيراً بحسب ما يقوم في قلوبهم من أعمال العبادة لله جل وعلا، وبحسب ما يتبعون من هدى الله جل وعلا.


· أحكام المخالفين في التوكل.
إذا تبين ما تقدَّم علمنا أن التوكل عبادة من أجل العبادات فمن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك كافر خارج عن دين الإسلام والعياذ بالله؛ فمن توكل في جلب النفع ودفع الضر على أحد غير الله جل وعلا وصرف له ما تقتضيه عبادة التوكل من أعمال العبادة فلا شك في كفره.
- أما الاعتماد على الأسباب من الأشخاص والأعمال وغيرها فإن كان في القلب نوع تعلق بالسبب وتذلل له مع اعتقاده أن النفع والضر بيد الله وحده؛ فهو شرك أصغر من شرك الأسباب كما سبق بيانه في نظائره.
- وأما بذل السبب بلا تعلق قلبي فهذا ليس بشرك، ويكون حكمه على حسب ما يترتب عليه فالاعتماد على الأسباب في أمر مباح حُكْمُه الإباحة، والاعتماد عليها في أمر محرم حُكْمُه التحريم، وهكذا في نظائر ذلك.


· خطأ من عدَّ التوكل من مقامات العامة
عدَّ بعض من صنف في أعمال القلوب التوكل من مقامات العامة ، ولهم شبه في ذلك، وسنرجئ الحديث عنها إلى حين الحديث عن المقصد الثالث وهو الرد على شبهات المخالفين في أعمال القلوب والتحذير من البدع والأغاليط فيها.
 
الاستعانة

الاستعانة هي طلب الإعانة على تحصيل نفع يرجى حصوله، وهذا الطلب يكون بالقلب والقول والعمل.
والاستعانة عند الإطلاق تشمل الاستعاذة والاستغاثة؛ فهي أوسع هذه المعاني الثلاثة، لأن حقيقة الاستعاذة طلب الإعانة على دفع مكروه، والاستغاثة هي طلب الإعانة على تفريج كربة.
فالاستعانة بابها واسع وهي من أعظم العبادات وأجلها، ولذلك جعلت قسيمةً العبادة في سورة الفاتحة وهي من العبادة لأهميتها فقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
فالاستعانة بمعناها العام تشمل الدعاء والتوكل والاستعاذة والاستغاثة والاستهداء والاستنصار والاستكفاء وغيرها.
وبيان ذلك أن كل ما يقوم به العبد من قول أو عمل يرجو به تحصيل منفعة أو دفع مفسدة فهو استعانة.
وحاجة العبد إلى الاستعانة بالله تعالى لا تعدلها حاجة ، بل هو مفتقر إليه في جميع حالاته،
فهو محتاج في كل أحواله إلى الهداية والإعانة عليها ، ومحتاج إلى تثبيت قلبه على الحق ، ومغفرة ذنبه وستر عيبه وحفظه من الشرور والآفات وقيام مصالحه وغير ذلك من الحاجات التي لا تنفك عنها لحظة من لحظات حياته، وغيرها كثير مما يكثر احتياجه إليه وافتقاره إلى الإعانة عليه.
والعبد حارث همام يجد في قلبه كلَّ وقت مطلوباً من المطلوبات يحتاج إلى الإعانة على تحقيقه.
والله تعالى هو المستعان الذي بيده تحقيق النفع ودفع الضر ، فلا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يدفع السيئات إلا هو سبحانه .
وهذا أمر تكرر تأكيده في القرآن العظيم في مواضع كثيرة :
منها: قول الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}
وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
وقوله: {أمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}
فالرزق هو جلب النفع، والنصر هو دفع الضر.
وقوله: {فابتغوا عند الله الرزق}
وقوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} وتقديم الظرف للحصر.
وقوله: {وأن إلى ربك المنتهى}
قال ابن القيم رحمه الله: ({ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه }متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كلَّ شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه.
وقوله: {وأن إلى ربك المنتهى} متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يُرَد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع؛ فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها؛ فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه؛ فهو غاية كل مطلوب.
وكل محبوب لا يحب لأجله؛ فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله؛ فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه؛ فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه.
فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} واجتمع ما يراد له كله في قوله: {وأن إلى ربك المنتهى} فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى.
وتحت هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقرُّ ولا يطمئنُّ ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد؛ فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين؛ فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمته ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد)ا.هـ.

والمقصود أنه لا يحصل لعبد نفع في أمر من أمور دينه ودنياه إلا بالله جل وعلا، فهو المستعان وحده على كل ذلك.
وكل سبب من الأسباب التي يبذلها العبد لتحقيق النفع أو دفع الضر لا يستقل بالمطلوب، فلا يوجد سبب مستقل بالمطلوب، بل لا بد أن يكون معه سبب مساعد ولا بد معه أيضاً من انتفاء المانع، ولا يكون كل ذلك إلا بإذن الله جل وعلا.
فمن أبصر هذا حقيقةً أسلم قلبه لله جل وعلا، وعلم أنه لا يكون إلا ما يشاء الله ، وأن ما يطلبه من خير الدنيا والآخرة لا يناله إلا بإذن الله وهدايته ومشيئته، وأن لنيل ذلك أسباباً هدى الله إليها وبيَّنها.
فيقوم في قلبه أنواع من العبودية لله جل وعلا من المحبة والرجاء والخوف والرغب والرهب والتوكل وإسلام القلب له جل وعلا والثقة به وإحسان الظن فيه ؛ ويحصل في قلب المؤمن بسبب ذلك من السكينة والطمأنينة والبصيرة ما تطيب به حياته وتندفع به عنه شرور كثيرة وآفات مستطيرة.


· درجات الناس في العبادة والاستعانة
والناس في العبادة والاستعانة على أقسام فأفضلهم الذين أخلصوا العبادة والاستعانة لله تعالى فحققوا {إياك نعبد وإياك نستعين} وهؤلاء بأفضل المنازل ؛ فإنهم استعانوا بالله تعالى على عبادة الله كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل أن يقول دبر كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))
وقد فقه معاذ بن جبل هذا الحديث أحسن الفقه؛ ففي الصحيحين من حديث أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذاً إلى اليمن فقال: ((ادعوا الناس، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا)).
قال: فكان لكل واحدٍ منا قبة ٌ نزلها على حِدَةٍ.
فأتى معاذٌ أبا موسى وكانا يتزاوران..
ثم جلسا يتحدثان فقال معاذ: يا أبا موسى كيف تقرأ القرآن؟
قال: أتفوَّقُه تفوقاً على فراشي وفي صلاتي وعلى راحلتي.
ثم قال لمعاذ: كيف تقرأ أنت؟
قال: سأنبئك بذلك؛ أما أنا فأنام ثم أقوم فأقرأ فأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي).
وهذا أمر قد يغفل عنه كثير من الناس ؛ فإن من أخلص قلبه لله جل وعلا جعل ما يفعله من المباحات سبباً للتقوي على طاعة الله جل وعلا وحسن عبادته حتى تكون حياته كلها لله كما قال الله تعالى لنبيه : {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
والمسلمون يتفاضلون في هاتين الصفتين تفاضلاً عظيماً فهم على درجات فيهما لا يحصيهم إلا من خلقهم ، فمن حقق إخلاص العبادة والاستعانة فهو سابق بالخيرات بإذن ربه.
ويكون لدى بعض الناس ضعف في إخلاص العبادة ، وضعف في إخلاص الاستعانة.
والتقصير في إخلاص العبادة تحصل بسببه آفات عظيمة تحبط العمل أو تنقص ثوابه كالرياء والتسميع وابتغاء الدنيا بعمل الآخرة، وأخف من هؤلاء من يؤدي هذه العبادات لله لكن لا يؤديها كما يجب؛ فيسيء فيها ويخلّ بواجباتها لضعفٍ في إخلاصه وصدقه وإيمانه.
والتقصير في الاستعانة تحصل بسببه آفات عظيمة من الضعف والعجز والوهن فإن أصابه ما يحِبُّ فقد يحصل منه عجب واغترار بما يملك من الأسباب، وإن أصابه ما يكره فقد يبتلى بالجزع وقلة الصبر.
وكلا التقصيرين لا يحصل لصاحبه طمأنينة قلب ولا سكينة نفس ولا تطيب حياته حتى يحقق هذين الأمرين؛ إخلاص العبادة وإخلاص الاستعانة.

· تحقيق الاستعانة
وتحقيق الاستعانة يكون بأمرين:
أحدهما: التجاء القلب إلى الله تعالى، والإيمان بأن النفع والضر بيده جل وعلا، وأنه مالك الملك ومدبر الأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سميع عليم وقريب مجيب، فيستعين به راجياً إعانته.
والآخر: بذل الأسباب التي هدى الله إليها وبينها ، فيبذل في كل مطلوب ما أذن الله تعالى به من الأسباب.
وهذان الأمران أرشد إليهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
- فالحرص على ما ينفع عام في أمور الدين والدنيا.
- والاستعانة بالله تكون بطلب عونه وتأييده وتحقيق ما ينفع.
- والعجز هو ترك بذل السبب مع إمكانه؛ فنُهي عنه.
وقد رتَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات الثلاث ترتيباً بديعاً لتوافق الحال ؛ فإن معرفة المطلوب ومعرفة نفعه والحرص عليه سابقة للاستعانة على تحقيقه ، ثم تكون الاستعانة مرتبة بعدها؛ فيطلب العبد العون من ربه جل وعلا على تحقيق ما ينفعه وأن يهديه لتحصيله من الوجه الذي يحبه ويرضاه، ثم يبذل الأسباب التي أذن الله بها.
- فإذا قام العبد بهذه الأمور فقد حقق الاستعانة.
فإن تحقق له ما يطلب كان من الشاكرين، وإن أصابه ما يكره من فوات مطلوبه قال: ((قدَّر الله وما شاء فعل)) فصبر لذلك وأحسن الظن بالله، ورجا أن يعوضه ربُّه خيراً فيما فاته، والله تعالى كريم لا يضيع أجر العاملين، ولا يخيب رجاء من صدق الرجاء فيه.

وأما ترك الأخذ بالأسباب فهو عجز مذموم، كما أن تعلق القلب بها شرك مذموم.

· أنواع الاستعانة بالله
- وأفضل أنواع الاستعانة وأكملها وأحبها إلى الله الاستعانة بالله على طاعة الله، وكلما كان المؤمن أشد حباً لله ورجاء في فضله وخوفاً من سخطه وعقابه كان على هذا الأمر أحرص، وعرف أن حاجته إليه أشد.
والمؤمن مأمور بأن يستعين الله تعالى في جميع شؤونه حتى في شسع نعله فإنه إذا لم ييسره الله لم يتسير ، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مختلف في صحته، ومعناه صحيح، وقد أمر الله تعالى بالسؤال من فضله فقال: {واسألوا الله من فضله} وهو يشمل فضله في الدنيا والآخرة.
لكن من الناس من يغلب عليه الاستعانة بالله لتحقيق المطالب الدنيوية حتى تشغله عن المطالب الأخروية فإن تحقق له ما يطلب من أمور الدنيا فرح به، وإن حُرمه ابتلاء واختباراً جزع وسخط؛ فهذا النوع في قلوبهم عبودية للدنيا ، وقد تُعجَّل لهم مطالبهم فتنة لهم ثم تكون عاقبتهم سيئة ؛ فإنهم شابهوا الكفار فيما ذمهم الله به ؛ فقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}
وقال: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}
وقال: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار}
وأصل بلاء الكفار إيثارهم الحياة الدنيا على الآخرة كما قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى} وقال: {وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة}. وقال:{فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى}

والناس في إرادة الدنيا على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة إيثاراً مطلقاً فهي همهم ولأجلها عملهم ؛ فهؤلاء هم الكفار الذين عناهم الله تعالى في الآيات السابقة، ويلتحق بهم كل من ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام بسبب إيثاره للحياة الدنيا ، والعياذ بالله.
القسم الثاني: الذين لديهم نوع إيثار للحياة الدنيا حملهم على ترك بعض الواجبات واقتراف بعض المحرمات مع بقائهم على أصل الدين من التوحيد واجتناب نواقض الإسلام؛ فهؤلاء هم أهل الفسق من المسلمين.
القسم الثالث: الذين استعانوا بأمور الدنيا على ما ينفعهم في الآخرة،فأخذوا منها ما يستعينون به على إعفاف أنفسهم والتقوي على طاعة الله ؛ فهؤلاء هم الناجون السعداء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((نعم المال الصالح للرجل الصالح )). رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وأصحاب القسم الثالث هم بأفضل المنازل، وأسعد الناس بالحياة الطيبة لمن أبصر حقائق الأمور؛ فإنهم إن أعطوا شكروا، وإن منعوا ابتلاء وامتحاناً صبروا ورضوا؛ ثم كانت عاقبتهم حسنة؛ مع ما يؤيدهم الله به من معاني معيته للصابرين والمحسنين، وما يمنعهم الله إياه يمنحهم خيراً منه.

· أقسام الاستعانة
قاعدة هذا الباب أن الاستعانة على قسمين:
القسم الأول: استعانة العبادة ، وهي التي يصحبها معان تعبدية تقوم في قلب المستعين من المحبة والخوف والرجاء والرغب والرهب فهذه عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل ، ومن صرفها لغيره فهو مشرك كافر ، وقد قال الله تعالى فيما علمه عباده المؤمنين : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
وتقديم المعمول يفيد الحصر، فيستعان بالله جل وعلا وحده، ولا يستعان بغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: ((وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وكذلك استعاذة العبادة واستغاثة العبادة فإنه لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل؛ فمن صرفها لغير الله عز وجل فهو مشرك شركاً أكبر مخرج عن الملة والعياذ بالله، كما يفعله عباد القبور والأولياء فإنه يقوم في قلوبهم من العبوديات لمن يدعونهم ويستعينون بهم ويستعيذون بهم ويستغيثون بهم ما هو من أعظم الشرك والكفر بالله جل وعلا.
والاستعانة ملازمة للعبادة فكل عابد مستعين؛ فإنه لم يعبده إلا ليستعين به على تحقيق النفع ودفع الضر.

القسم الثاني: استعانة التسبب، وهو بذل السبب رجاء نفعه في تحصيل المطلوب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ فهذه الاستعانة بهذا السبب ليس فيها معان تعبدية، وهي على أقسام في حكمها بحسب حكم السبب والغرض منه:
فمنها الاستعانة المشروعة وهي بذل الأسباب المشروعة لتحقيق المطالب المشروعة ؛ فهذه قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة بحسب المأمور به، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة}
فالاستعانة هنا بالصبر والصلاة هي من باب استعانة التسبب؛ فالصبر والصلاة سببان عظيمان للاستقامة على دين الله جل وعلا والفوز بفضله ورضوانه وهما أصل كل خير ، وإيضاح ذلك يستدعي بسطاً ليس هذا موضعه وقد تكلم فيه جماعة من أهل العلم وأفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في تفسير قول الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} ورسالته تحتاج إلى شرح وإيضاح.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فِتَن، القاعِدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي، مَنْ تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَن وَجَدَ مَلْجأ أو مَعاذا فَلْيَعُذْ به)).
وفي رواية عند مسلم: ((فليستعذ)) ومعناهما واحد.
والمقصود الاستعاذة بهذه الأسباب من الوقوع في تلك الفتن ؛ فهي استعاذة تسبب، والكلام في الاستعاذة والاستعانة واحد.
وكالاستعانة على إعفاف النفس بالكسب الطيب والزواج، والاستعانة على دفع المرض بالدواء واختيار الطبيب الحاذق ونحو ذلك فهذه استعانة تسبب مشروعة وقد تجب في أحوال.
لكن إن تعلق القلب بالسبب كتعلق بعض المرضى بالأطباء والرقاة؛ فهذا من شرك الأسباب كما سبق إيضاحه.
- وأما الاستعانة على تحقيق غرض محرم فغير جائزة كالاستعانة بالحيل المحرمة على الكسب غير المشروع .
والمقصود أن استعانة التسبب حكمها بحسب حكم السبب وحكم الغرض فإذا كان الغرض مشروعاً والسبب مشروعاً كانت الاستعانة مشروعة.
وإذا كان الغرض محرماً أو كان السبب محرماً لم تجز تلك الاستعانة.
فإن تعلق القلب بالسبب كان ذلك شركاً أصغر من شرك الأسباب.


تم الدرس، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
عودة
أعلى