الخشية
· معنى الخشية
الخشية: هي شدة الخوف المبني على العلم، وبذلك فُرق بينها وبين الخوف وإن كان بينهما تقارب في المعنى.
فالخشية فيها معنى الخوف الشديد المبني على العلم بعظمة المخشي منه والهيبة منه، قال الله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ}.
وبين العلم الصحيح والخشية تلازم، ولا يكون المرء عالماً حقاً حتى يكون من أهل الخشية، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
· إخلاص الخشية
إفراد الله بالخشية من سمات الأنبياء كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}.
وأمر الله تعالى عباده المؤمنين بإفراده بالخشية فقال: {أتخشونهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وقال تعالى: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ }: (فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ)ا.هـ.
· حقيقة الخشية
الخشية تاج أعمال القلوب، وعنوانها الجامع، وأما حقيقتها فهي عمل قلبي جامع لمعانٍ كثيرة قائمة على أصلين:
الأصل الأول: العلم.
والأصل الثاني: التقوى.
فالخشية إذا صحَّت كانت دليلاً على علم صاحبها وتقواه؛ وهذان الأمران قد جمعهما إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قال: (( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا )).
فكان بذلك أخشى الناسِ لله جل وعلا، كما في الرواية الأخرى في الصحيحين أيضاً: ((والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي)).
وقيام الخشية على أصلي العلم والتقوى ظاهر لمن تأمل النصوص والآثار والواردة في شأن الخشية وأحوال أهلها.
واجتماع العلم والتقوى في قلب العبد يثمر له أنواعاً من الأعمال التعبدية الجليلة، ولذلك كانت الخشية كالتاج لأعمال القلوب لكثرة ما تجمع من الأعمال القلبية من التذلل والمحبة والتعظيم والخضوع والانقياد والخوف الرجاء والرغب والرهب والحياء والإجلال والمراقبة والمحاسبة والهيبة والأدب مع الله عز وجل.
· فضائل الخشية
لخشية الله تعالى فضائل عظيمة، وبركات كثيرة، ومن تأمل ما ورد فيها من نصوص الكتاب والسنة علم أن لها شأناً عظيماً عند الله جل وعلا.
وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين بأنهم يخشونه بالغيب ، ووعدهم على هذه الخشية ما وعدهم من المغفرة والأجر الكريم والفضل العظيم في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}
وقال جلَّ وعلا: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
وقال تبارك وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) }
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله...)) فذكرهم ومنهم: (( رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
قال النووي: (فيه فضيلة البكاء من خشية الله تعالى) ، وهذا المعنى قد جاء منصوصاً عليه في أحاديث أخرى:
منها: ما رواه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في منخري امرئ أبداً».
قال الترمذي: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».
ومنها: ما رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله».
وروي نحو هذا الحديث مرفوعاً عن عثمان بن عفان والعباس بن عبد المطلب وأبي سعيد الخدري وأبي ريحانة والزبير بن عبد الله القيسي.
وفي التاريخ الكبير للبخاري والمعجم الأوسط للطبراني من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( عينان لا تريان النار: عين بكت وجلا من خشية الله و عين باتت تكلأ في سبيل الله)). وقد صححه الألباني.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى أنه قال: (( ثلاثٌ مهلكاتٌ: شح مطاعٌ، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاثٌ منجياتٌ: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب )).
وهذه الروايات قد أحسن الألباني رحمه الله بيان طرقها وتخريجها في السلسلة الصحيحة، وخلَص إلى تحسين الحديث بمجموع تلك الطرق.
وروى عبد الرزاق في تفسيره عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أو غيره في قوله تعالى: {هذا عطاؤنا ...}، قال: قال سليمان: « أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتَوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا؛ فلم نر شيئا أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة ، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الرضا والغضب »
وإخلاص عبادة الخشية لله تعالى باب عظيم لبركات كثيرة عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله جل وعلا.
فهي مفتاح فهم القرآن وتدبره والاعتبار بما فيه، وهي باب التذكر النافع الذي يزداد به اليقين ويرتفع به الإيمان وتزكو به النفس، ويتيسَّر به اتباع الهدى، بل بيَّن الله تعالى أن مقصوده الأعظم من إنزال كتابه هو تذكير أهل خشيته ومخاطبتهم به؛ فهم أحق الناس بهذا الكتاب وأسعد الناس به، والرسالة لهم فيه خاصة وهي للناس عامة، وحسبك بهذا فضلاً وشرفاً عظيماً تشرئب إليه أعناق المؤمنين، طمعاً أن يكونوا من هؤلاء المكرَّمين، وينالوا ما اختصهم الله به من الفضل المبين؛ فيدعوهم ذلك إلى التعرف على أسباب كرامتهم، وهديهم وسمتهم، رجاء أن يكونوا معهم، ويعدوا منهم، ويحشروا في زمرتهم.
قال الله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}
وقد تقدَّم ذكر آية الزمر
وقال تعالى: {وأنذر به الذي يخشون ربهم}، وقال تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم وأقاموا الصلاة}
وقال تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى} وهذا وعد من الله لأهل خشيته أنهم سيذكرون وينتفعون بكتابه العظيم.
قال ابن كثير: (وقولُه: {سَيَذَكَّرُ مَنْ يَخْشَى}. أي: سَيَتَّعِظُ بما تُبَلِّغُه يا محمدُ, مَن قَلْبُه يَخْشَى اللَّهَ ويَعْلَمُ أَنَّه مُلاقيهِ).
فالذي تقوم في قلبه خشية العبادة لله تعالى من شدة محبته لله، وتعظيمه إياه، وانقياده لأمره، وتصديقه لوعده، ورجائه للقاء الله ورغبته في فضله وإحسانه، ورهبته من سخطه وعقابه، وخوفه من أن يتخلى عنه ربه ووليه إذا هو ارتكب ما يسخطه، مَنْ قامت في قلبه هذه المعاني الجليلة كان من أوفر الناس حظاً وانتفاعاً بالقرآن العظيم ، لأنه يقرأ القرآن ويسمعه وقلبه معظّمٌ لله تعالى معظّم لكلامه معظم لما فيه من الهدى، يفرح بما يفتح الله له من فهمه ويستبشر ، ويعرف لما فتح الله عليه من ذلك قدره وفضله، ويتطلع إلى مزيد من الهدى الذي يتعرَّف به على أسباب التقرب إلى الله تعالى والفوز برضوانه وفضله العظيم، والسلامة من سخطه وعقابه.
ومن كان هذا حاله فهو موعود بما يسره ويرضيه، من الهداية لما يقربه إلى الله تعالى ويدنيه، ويسعده في الدنيا والآخرة ولا يشقيه.
وتأمَّلْ وصفَ اللهِ تعالى حالَ أهلِ خشيته عند تلاوتهم لكتاب ربهم أو سماعهم لآيات الله تتلى عليهم، وكيف أنهم تفطنوا إلى أنهم المعنيّون أولاً بما فيه من العبر والبينات، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }
ومن تأمل العبر والآيات البينات التي جمعها الله لأهل خشيته وبيَّنها لهم وأرشدهم إلى التأمل فيها والاعتبار بها كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ} عَلِمَ أن أهل الخشية خطاباً خاصاً في القرآن الكريم لأنهم هم أهل التذكر والتفكر، وهم أهل الاعتبار والتبصر، وهم أحرص الناس على الهداية وأعظمهم فرحاً بما يقربهم من الله تعالى ويدنيهم منه، وأشدهم حرصاً على التحرز مما يسخطه جل وعلا، لأنهم على يقين تام بأن فوزهم وفلاحهم ونجاتهم مداره على رضوان الله تعالى عنهم، وأنه ليس بينهم وبين الله سبب يتمسكون به إلا ما يرشدهم إليه من العمل الصالح واتباع هداه جل وعلا ، فهم العلماء على الحقيقة وهم أولوا الألباب، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
فحاول أن تصحّح هذه المعاني الجليلة في قلبك؛ ثم تفكَّر في هذه الآيات العظيمة وتدبَّر ما فيها من دلائل الخطاب الخاص لأهل الخشية وما ضرب الله لهم من الأمثال البيّنة التي يتعظون بها ويعتبرون:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
فجمع الله لهم في هذه الآيات البينات مواضع جليلة للاعتبار والتفكر وضرب لهم الأمثال التي تنبههم على ما وراءها، فأرشدهم إلى التفكر في آياته الكونية المخلوقة وآياته المتلوة ، فهذا الماء الذي ينزل من السماء هو ماء واحد وتخرج به ثمراتٌ مختلف ألوانها؛ فكذلك وحي الله تعالى المنزل هو وحي واحد ولكن انظر إلى اختلاف آثاره في قلوب الناس وأعمالهم ؛ فمنتفع ومحروم، ومستقل ومستكثر، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
وسرِّح نظرك في دلائل هذه الآيات العظيمة وحسن التناسب بين ذكر الآيات الكونية والآيات المتلوة، ومدح أهل الخشية الذين هم العلماء على الحقيقة، وغيرهم أهل جهالة وإن قرؤوا ما قرؤوا.
ثم تأمل ما أعده الله لأهل خشيته من الفضائل العظيمة؛ فقد وعدهم أن يوفيهم أجورهم ويزيدهم زيادة من عنده تليق بفضله وكرمه سبحانه لم يبينها لهم بل أخفاها لهم ليتشوقوا إليها، وأخبرهم أنه غفور شكور ، فيغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ويفتح لهم أبواب الرجاء في مغفرته وعفوه وتجاوزه ، وهو تعالى شكور لا يضيع لهم أي عمل صالح يعملونه ولو كان مثقال ذرة، بل يقبله منهم وينميه لهم ويضاعف لهم مثوبته.
وتأمل على هذا النحو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
وهذا وعد من الله لعباده الذين يخشونه بالغيب أن يغفر لهم ذنوبهم، وهذا يدلك على أنه ليس من شرط الذين يخشون ربهم السلامة من الوقوع في المعاصي والآثام، بل قد يقعون في بعضها، وهم على ذلك يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، ويستغفرون ربهم ويُتْبِعون السيئةَ الحسنة ويتوبون إلى الله ويستغفرونه وبذلك مدحهم الله وأثنى عليهم ووعدهم بمغفرة ذنوبهم.
وقد جعل الله من اجتنب الكبائر والفواحش من أهل الإحسان كما دل على ذلك قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}
فليس من شرط أهل الخشية عصمتهم من الذنوب الخطايا، بل هم من جملة البشر ينسون ويغفلون ويخطؤون ويذنبون، ويغان على قلوبهم، لكنهم يسرعون الإنابة إلى الله تعالى، ويجتنبون كبائر الإثم، ولا يتكلفون، ولا يراؤون، ولا يتزينون بما ليس فيهم.
وأنت إذا تأملت هذا المعنى جيداً وجدت أنَّ من سلم من الكبائر فهو من أهل الإحسان، ذلك أن سيئاته سوى الكبائر تُغفر له إذا اجتنب الكبائر كما قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}
ومن كُفِّرَت عنه سيئاته قدم على الله تعالى وليس له سيئة يُعاقَب عليها، وما الناس إلا محسن أو مسيء أو خالط إحسانه بالإساءة.
والذي يقدُم على الله يوم القيامة وليس له سيئة فهو من أهل الإحسان الخالص، نسأل الله من فضله.
قالت عائشة رضي الله عنها: (إنكم لن تلقوا الله عز وجل بشيء خير لكم من قلة الذنوب، فمن سرَّه أن يُدْرِكَ الدائب المجتهد، فليكفَّ نفسه عن الذنوب). رواه ابن المبارك وهناد بن السري وأحمد بن حنبل وأبو داوود السجستاني في كتب الزهد لهم.
· أسباب الخشية
أسباب الخشية ثلاثة جامعة لمعانٍ كثيرة:
السبب الأول: محبة الله جل وعلا، فصدق المحبة يحمل على الخشية من الانقطاع عن الله جل وعلا والحرمان من رضوانه، ولذلك إذا وجد أصحاب هذه المحبة في نصوص الكتاب والسنة أن من عقوبة بعض الذنوب أن الله لا يكلم فاعليها ولا ينظر إليهم أورثهم ذلك خشية خاصة يجدونها في قلوبهم لما وقر فيها من معرفة الله جل وعلا ومحبته والشوق إلى لقائه، واليقين بأن الحرمان من تكليمه والنظر إليه عقوبة عظيمة لا يحتملها من صدقت محبته لله جل وعلا.
والسبب الثاني: الرجاء ، فإنَّ صدق الرجاء يحمل على الخشية من فوات ثواب الله عز وجل وفضله العظيم.
والسبب الثالث: الخوف، فالخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
فعادت أسباب الخشية إلى أصول العبادات القلبية الثلاثة: (المحبة والرجاء والخوف) فهي أركان العبادة، وعليها مدراها، وصلتها – إذا صحَّت - بالخشية وثيقة كما تقدَّم.
وبهذا تعلم شيئاً من الفرق بين الخشية والخوف، وأن خشية العبادة لها لوازم تعبدية من المحبة والخوف والرجاء.
وقول الله تعالى: {سيذكَّر من يخشى} يدل على أنواع التذكر الثلاثة:
1: التذكر الذي يحمل على محبة الله جل وعلا ، ومحبة لقائه والتقرب إليه من تذكر صفات الله عز وجل وكرمه وفضله وإحسانه.
2: والتذكر الذي يحمل على رجاء فضل الله عز وجل وحسن ثوابه؛ فإنه إذا تذكر ما أعده الله لعباده من الثواب والفضل العظيم دعاه ذلك إلى الازدياد من الأعمال الصالحة لما يرجو من حسن ثوابها.
3: والتذكر الذي يحمل على الخوف سخط الله تعالى وعقابه، وهذا ما يزجره عن ارتكاب المحرمات والتفريط في أداء الفرائض.
والأصل الجامع لهذه الأصول الثلاثة والمغذي لها هو العلم فإذا صح العلم بالله وعظم في قلب العبد ازداد نصيبه من الخشية لمعرفته بما يستوجب محبةَ الله تعالى وخوفَه ورجاءَه.
قال ابن رجب رحمه الله : (فلما زادت معرفة الرسول بربه زادت خشيته له وتقواه ، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله . وقد خرج البخاري في آخر " صحيحه " عن مسروق قال : قالت عائشة : صنع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية)) )ا.هـ.
فالعلم الصحيح يهدي العبد إلى ربه جلَّ وعلا، وإذا اهتدى العبد إلى ربه وعرفه حق المعرفة خشيه ؛ كما قال تعالى لموسى عليه السلام: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)}
· عناية السلف الصالح بالخشية
من الأصول المقررة لطلاب التحقيق في أي علم من العلوم أن عليهم أن يتعرفوا على أئمة ذلك العلم وأساتذته؛ لأنهم أهله وأعرف الناس به، فيلازموا أحياءهم ويقرؤوا سِيَر من مات من أئمتهم؛ ليتبيَّنوا أحوالهم وطرائقهم ويعرفوا أخبارهم في ذلك العلم، وكيف حصَّلوه وانتفعوا به، وليرتسموا هديهم، ويسيروا على نهجهم حتى يكونوا منهم.
ومعرفة أحوال السلف الصالح في مسائل السلوك والعبادات من الأصول المهمة في حسن فهم هذه المسائل وحسن سلوك سبيلهم وانتهاج نهجهم والسير على طريقتهم؛ وما ابتلينا به في هذا الزمان من كثرة الفتن وقلة المعين، وكثرة الشواغل عن لزوم أهل العلم والخشية ، وتقلب القلوب بالفتن وتبدل الأحوال يجعل قراءة سير السلف الصالح وتأملها أكثر أهمية وأعظم نفعاً ، ورب خصلة حميدة يكتسبها العبد من سيرة رجل صالح تكون مفتاحاً لخير عظيم تصيبه بركته في دنياه مع ما يرجو من ثواب ذلك وحسن عائدته عليه في آخرته.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (سبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي تخلفت من المصنفات فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة، وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا ترى فيهم ذا همة عالية فيقتدي به المبتدئ ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد، فالله الله، وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم).
وقال حمدون القصَّار فيما نقله الشاطبي في الاعتصام: (من نظر في سير السلف عرف تقصيره ، وتخلّفه عن درجات الرجال).
فقراءة سير السلف الصالح من العلماء وأئمة الدين تثبت السائرين، وتشحذ عزائم المتهاونين، وتبصر الإنسان بمعرفة قدر نفسه، فتعينه على مداواة ما في نفسه من آفات لو استمرت به لأضرته وربما أردته من العجب والغرور والوهن والفتور، واستصعاب معالي الأمور، وكم من سيرة استنزلت عَبرة، وأورثت عِبرة، وتسلى بها محزون، وتبصر بها غافل، وانفتح بها باب من العلم والمعرفة، وتيسر بها سبيل من الهدى وحسن العمل.
ومن أنفع الأشياء لطالب هذا العلم أن يدمن قراءة سير أئمته، ويرتسم أحوالهم.
وسأذكر لك شذرات من أقوال السلف وأحوالهم في شأن خشية الله تعالى لعلها تكون سائقاً ودليلاً يحفزك إلى مزيد من الاطلاع على أخبارهم وآثارهم والانتفاع بوصاياهم:
- قال مغيرة بن سعد بن الأخرم، قال: «ما خرج عبد الله إلى السوق، فمر على الحدادين، فرأى ما يخرجون من النار إلا جعلت عيناه تسيلان» رواه ابن أبي شيبة.
عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه.
- وقال أُبَيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه: (عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبدٍ على سبيلٍ، وسنةٍ ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فمسته النار أبدًا، وليس من عبدٍ على سبيلٍ، وسنةٍ ذكر الله فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرةٍ يبس ورقها، فهي كذلك إذ أصابتها ريحٌ فتحات ورقها عنها إلا تحاتت خطاياه، كما يتحات من هذه الشجرة ورقها، وإن اقتصادًا في سنةٍ وسبيلٍ خيرٌ من اجتهادٍ في غير سنةٍ وسبيلٍ، فانظروا أعمالكم، فإن كانت اقتصادًا واجتهادًا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم). رواه الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة في مصنفه، وأبو داوود في الزهد، وغيرهم.
- وقال أبو رجاءٍ العطاردي: «كان هذا المكان من ابن عباسٍ مجرى الدموع، مثل الشراك البالي من الدموع» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة وابن أبي شيبة في مصنفه ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم.
- وقال محارب بن دثارٍ رحمه الله قال: دخلت على ابن عمر رضي الله عنه بيته وهو يصلي، فإذا هو يبكي في صلاته، فلما انصرف أقبل عليَّ وعلم أني قد رأيته وهو يبكي، فقال: (إن هذه الشمس لتبكي من خشية الله، ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا).
- وقال عبد الله بن عمر أيضا: (( لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار)) ذكرهما محمد بن نصر المروزي في قيام الليل.
- وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة: (عن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك؛ فكثيراً ما كان يخطر ببالي؛ فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟
إن كان يصلي إنا نصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج!
قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلةً نتعشى في بيت إذْ طفئ السراج؛ فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح؛ فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع؛ فقلت في نفسي: (بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذَكَر القيامة).
قال المروذي: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل قال: (ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له) )ا.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (روى ابن أبي حاتم عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قال عمرو يعني ابن دينار إني ليلة أطوف بالبيت إذ سمعت حنين رجل بين الأستار والكعبة وبكاءه وتضرعه فوقفت لأعرفه فذهب ليل وجاء ليل وهو كذلك حتى كاد يسفر فانكشف الستور عنه فإذا هو طاووس رضي الله عنه فقال من هذا عمرو قلت نعم أمتع الله بك قال متى وقفت ههنا قال قلت منذ طويل قال ما أوقفك قلت سمعت بكاءك فقال أعجبك بكائي قلت نعم قال وطلع القمر في حرف أبي قبيس قال ورب هذه البنية إن هذا القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له ولا يسأل عما عمل ولا يجازى به فعجبت أن بكيت من خشية الله وأنا صاحب الذنوب وهذا القمر يبكي من خشية الله)ا.هـ.
وأخبار السلف في هذا الشأن كثيرة مشتهرة، وتعاهد مطالعتها وتذكير النفس بها، يعرّف العبد بتقصيره وقصوره ، ويحفزّه إلى سلوك سبيلهم، ولذلك كانت عناية الأئمة بجمع أخبارهم وآثارهم ووصاياهم عناية ظاهرة، وتأمل مصنفات أهل العلم في كتب الزهد والرقائق تجد هذا الأمر ظاهراً جلياً.
· درجات الخشية
الخشية على ثلاث درجات، ولكل درجة أحكامها وآثارها:
الدرجة الأولى: درجة أصل الخشية، وهي الخشية التي تحمل العبد على الدخول في الإسلام وعبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الشرك وما ينقض الإسلام.
فيجتنب نواقض الإسلام من خشية الله تعالى، وخشية عذابه والخلود في نار جهنم، ورجاء دخول جنته والفوز برؤيته جل وعلا.
وهذه الدرجة هي الفارفة بين الإسلام والكفر، ومن انتفت عنه هذه الخشية حتى ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فهو كافر خارج من ملة الإسلام والعياذ بالله.
وأهل هذه الدرجة وإن كانوا يقعون في بعض الكبائر ويفرّطون في بعض الفرائض فلهم نصيب من الثواب الذي أعده الله لأهل خشيته ما دام معهم أصل الخشية الذي يحجزهم عن الكفر بالله جل وعلا.
وهذه الدرجة درجة عصاة المسلمين من أصحاب الكبائر.
الدرجة الثانية: درجة عباد الله المتقين؛ الذين حملتهم خشية الله تعالى على اجتناب ما حرَّم الله، وامتثال ما أمر الله؛ فاتقوا الله جلَّ وعلا، واستقاموا على أمره ونهيه، وهؤلاء لهم الأمن والفضائل والبركات التي جعلها الله لعباده المتقين؛ كما تقدَّم بيانه في نظائره.
والدرجة الثالثة: درجة المحسنين ؛ الذين حملتهم خشية الله تعالى على عبادة الله كأنهم يرونه، فسارعوا في الخيرات وتقربوا إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وتوقوا الشبهات والمكروهات بعد المحرمات، فهؤلاء هم أصحاب مرتبة الإحسان التي هي أعلى مراتب الدين.
· تفاضل أهل الخشية
وأهل خشية الله تعالى يتفاضلون في الخشية تفاضلاً عظيماً فهم على درجات لا يحصيهم إلا من خلقهم ، فمن كان معه أصل الإسلام فمعه أصل الخشية لأن خشيته لله حجزته عن الشرك بالله جل وعلا، وكلما ازداد العبد من الخشية ازداد نصيبه من تكميل منازل العبودية لله تعالى والفوز بفضله ورحمته وما يفتح الله له به من الفضل العظيم بتذكر آياته والانتفاع بعظاته واتباع هدى الله الذي أرشده إليه.
وأعلاهم درجة السابقون المقربون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
وعمادُ الخشية على العلم والتقوى وتفاضل العباد في هاتين الصفتين ظاهر وعظيم.
· ثمرات الخشية
الخشية إذا حلَّت في القلب أينعت ثمارها وظهرت فضائلها وتوالت بركاتها على العبد في حاله وعلمه وعمله؛ وكان كلما ازداد منها حظا ازداد نصيبا من العلم والعمل وحسن الحال، وازداد تعرضاً لفضل الله تعالى وبركاته على أهل خشيته.
وأعظم ثمرات الخشية: الإنابة إلى الله تعالى، وهي مقصودها الأعظم.
ومن ثمراتها الجليلة: أنها سبب عظيم مبارك لفهم القرآن الكريم وحسن التذكر والاعتبار بما فيه كما تقدَّم، وما يتبع ذلك من بركات كثيرة.
ومن ثمراتها: أنها تعين على المسارعة إلى الخيرات، والانتهاء عن المحرمات وما لا يليق بأهل الخشية.
ومن ثمراتها: أنها تهذب النفس وتزكيها، وتخلصها من علل وأدواء وآفات لا حصر لها يُبتلى بها من يُبتلى؛ فهي تعين العبد على ترك ما لا يعنيه، وتزهّده في الدنيا، وتقطع عليه طول الأمل، وتعين على المراقبة والمحاسبة، وعلى نهي النفس عن الهوى ، وزجرها عن وساوسها المردية.
ومن ثمراتها: أنها تحجز النفس عن الانبساط المذموم، ولا سيما في دعوى المحبة، فإن محبة الله تعالى محبة مصحوبة بإجلال وخشية وتعظيم، وبعض الطوائف قد ضلت في هذا الباب بدعوى المحبة من غير خشية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع فى أهوائها إذا لم يزعها وازع الخسية لله حتى قالت اليهود والنصارى: {نحن أبناء الله وأحباؤه} ويوجد فى مدّعي المحبة من مخالفة الشريعة مالا يوجد فى أهل الخشية، ولهذا قرن الخشية بها فى قوله: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب . أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود} وكان المشائخ المصنفون فى السنة يذكرون فى عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية لما فى ذلك من الفساد الذى وقع فيه طوائف من المتصوفة) ا.هـ.
· أحكام خشية غير الله تعالى
ما سبق كله كان في خشية العبادة، أما ما يطلق عليه لفظ الخشية وهو لا يحمل معاني تعبديه ؛ فهذا حكمه حكم الخوف الطبيعي يكون بحسب ما يحمل عليه فإن لم يحمل صاحبه على ارتكاب محظور أو ترك مأمور فهي خشية طبيعية لا يلام عليها كأن يخشى السباع والهوام والطغاة.
أما مَن حملته تلك الخشية على ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه أو ترك مأمور به لا يعذر بتركه فإنه مذنب آثم وإثمه على حسب جرمه؛ فإنْ أدَّت به هذه الخشية إلى فعل صغيرة من الصغائر فإثمه بحسبه، وإن أدَّت به إلى فعل كبيرة كان إثمه أعظم، وهو ملوم مذموم على الحالين كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
ولهذا تكثر هذه الخشية عند المنافقين حتى إنها ربما أخرجتهم من دائرة الإسلام والعياذ بالله وذلك إذا حملتهم على موالاة الكفار على المؤمنين كما قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}
- وأما من حملته خشيته من فوات بعض حظوظ الدنيا على التعلق بالدنيا تعلقاً يكون فيه تذلل وخوف ورجاء فهذا قد وقع في الشرك الأصغر وعبودية الدنيا والعياذ بالله.
فإن حملته عبوديته للدنيا على ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام كفر والعياذ بالله؛ كحال الذين يخشون الناس كخشية الله تعالى، وكخشية الضعفاء من الذين استكبروا حتى تبعوهم على دينهم فاستحقوا عذاب النار معهم كما قصَّ الله خبرهم في كتابه الكريم.