الدرس الرابع: الخوف والرجاء

إنضم
26/11/2007
المشاركات
429
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بسم الله الرحمن الرحيم


الدرس الرابع: الخوف والرجاء​

الحمد لله الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على عبده ورسوله البشير النذير، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير أما بعد:
فهذا هو الدرس الرابع من دروس شرح التحفة العراقية ، وأرجو أن أوجز الكلام على مقاصد التحفة في بضعة دروس ، ثم يكون التعليق بعد ذلك على التحفة تعليقاً يسيراً بحسب ما يقتضيه الحال، والمهم في هذه الدروس هو فهم ودراسة مقاصد التحفة لأنها هي لب ما احتوته.
وما ذكره شيخ الإسلام في التحفة هو جملة من أعمال القلوب على تفاوت في تناولها بين إسهاب واقتضاب؛ فأسهب في الكلام على المحبة في مواضع من التحفة، وأوجز في غيرها .
وقد رأيت الأنفع للطالب أن أذكر أهمَّ أعمال القلوب ثم ألخص له أهم المسائل المتعلقة بذلك العمل من مصادر تلك المباحث في كتب السلوك والتفسير والحديث وشروحه وغيرها مما يتيسر، ليجد الطالب أمامه مادة ملخصة جامعة له أطراف المسائل وعُمَد الدلائل والآثار.
ومحاولةُ الجمع بين التقصي والاختصار فيها صعوبة، وينتج عن ذلك تطويل غير مقصود، فلذلك أعتذر إليكم عما أطلت به عليكم فيما سبق، وأرجو أن أوجز لكم فيما بقي بما لا يخلّ إن شاء الله بالغرض من إقامة هذه الدروس، والله المستعان وبه التوفيق.
ودرسنا اليوم في الخوف والرجاء، وسيكون في العناصر التالية بإذن الله:
الخوف
· منزلة الخوف
· أنواع الخوف
· أسباب الخوف من الله تعالى وموجباته
· آثار الخوف من الله
· أقسام الناس في الخوف من الله
· الفرق بين خوف العبادة وغيره
· أحكام الخوف الطبيعي.
الرجاء
· حقيقة الرجاء
· منزلة الرجاء
· أنواع الرجاء
الجمع بين المحبة الخوف والرجاء
 
منزلة الخوف
الخوف عبادة من أجل العبادات، بل هو أصل التقوى،وإنما سمِّي المتقي متقيًا لأنه يجعل بينه وبين ما يخاف وقاية؛ فالحامل على التقوى في الأصل هو الخوف.
وقد أمر الله تعالى بإفراده بالخوف وتعظيم مقامه جلَّ وعلا فقال تعالى: ﴿إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾)
وقال تعالى: {وإياي فارهبون}
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}
وقال تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}
وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}
فالخوف من الله تعالى أصل عظيم من أصول الدين، لا يصح الإيمان إلا به، وهو أصل التقوى، ورأس الحكمة، ومفتاح التوفيق، وجُنَّة المؤمن، وقيدُه عن المعاصي والتفريط، وهو عبادة من أجل العبادات ، وقد عرفنا أنه عبادة بأمور:
أولها: أن الله تعالى أمر به فقال :{وخافون}، وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} ، وهو يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، وامتثال أمر الله عبادة.
وثانيها : أن الله تعالى جعل الخوف منه شرطاً للإيمان ومقتضى من مقتضياته فقال تعالى: {وخافون إن كنتم مؤمنين}.
وثالثها: أن الله تعالى يحب أن نخاف منه، ووعد الذين يخافون مقامه بالثواب العظيم ؛ وقد عرفنا أن كل ما يحبه الله منَّا فهو عبادة.
ورابعها: أن الله تعالى أثنى على الذين يخافونه ومدحهم بل جعل وَجَلَ القلوب من مخافة الله تعالى شرطاً لحقيقة الإيمان، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
-وقال تعالى في مدح المصلّين الذين تنفعهم صلاتهم: { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}
-وقال تعالى في مدح المنفقين الذين ينفعهم إنفاقهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}.
- وقال تعالى في مدح أهل القرآن الذين يتلونه حق تلاوته:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
وهذه العبادات: الصلاة والصدقة والتلاوة والذكر هي أصول أعمال الجوارح، كما أن المحبة والخوف والرجاء أصول أعمال القلوب.
وخامسها: أن الله تعالى أمر بالاتساء بنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبما أخبر به عن نفسه أحسن الهدي في أعمال القلوب ومنها الخوف من الله عز وجل، فقال: ((أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له)). متفق عليه.
فتبيَّن بذلك أن الخوف من الله عبادة من أجل العبادات .​

أنواع الخوف
الخوف له أنواع ثلاثة:​
النوع الأول: الخوف من سخط الله تعالى ، والحرمان من رضوانه ، وهذا هو خوف المحبين ، فإن خوف المؤمن من فوات ما يحبه ويتعلق به قلبه من رضوان الله عز وجل ومحبته وما يتبع ذلك من بركات عظيمة أشد من خوف كل خائف على أعظم كنز عنده، أو صحة نفسه أو حياة حبيبه.
ويكفي في ذلك أن تعلم أن غاية من تعلقت قلوبهم بمحبة الله جل وعلا أن ينظروا إليه، فهذه أغلى الأمنيات وأعز المطالب، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)).
فأعظم عقوبة للمحب حرمانه من رؤية محبوبه الأعظم ورضاه، وخوفُه على هذا المطلب لا يعادله خوفٌ على غيره، وقد جعل الله من عقوبة الكفار حرمانهم من رؤيته فقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم}
فبدأ بعقوبة الحجاب قبل الجحيم؛ والتقديم مشعر بالتعظيم.
قال شيخ الإسلام: (فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات ؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى).

ثم إنَّ أنس المؤمن في حياته ونعيم روحه إنما هو في رضوان الله عز وجل عليه، فإذا تعرض لسخط الله باقتراف معصية كان خوفه على فقد أنسه بالله وما تنعُم به روحُه من بركات رضوان الله أعظمَ من خوف أصحاب الأموال على أموالهم، بل إنه في حال الاستقامة يخاف من زوال هذه النعمة، ويخاف أن لا يدرك درجات تتوق إليها نفسه ويسعى لبلوغها؛ فيخاف من اقتراف ما يحول بينه وبينها.

وخوف المؤمن من الحرمان من رضوان الله عز وجل في الدنيا سببه معرفته بضعف نفسه وعجزها وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، وأنه إذا لم يرض الله عنه ولم يهيئ له أسباب رحمته وفضله وبركاته فهو حليف الحرمان والشقاء والخسران والعياذ بالله.
فإذا تيقَّن المؤمن ذلك يقينا يحلّ في سويداء القلب ويستشعره في نفسه كان أحرص شيء على رضوان الله، ولا أخوف عنده على نفسه من أمر يجلب له مقت الله تعالى وسخطه ويحرمه من رضوانه.
وسخط الله تعالى له سبب واحد: هو معصية الله، لأن العبد إذا اجتنب فعل المعصية لم يعاقب، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (خمسٌ احفظوهن، لو ركبتم الإبل لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يخاف العبدُ إلا ذنبَه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، و لا إيمان لمن لا صبر له). رواه عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان.​
فبدأ الوصايا بقوله: (لا يخاف العبد إلا ذنبه) لأن مصدر شقاء العبد وحرمانه وعذابه هو ذَنْبه.

النوع الثاني: الخوف من العذاب الدنيوي والأخروي، وهذا الخوف ملازم لقلب المؤمن، قال الله تعالى في صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}
وأشدّ ذلك وأشرفه الخوف من عذاب الآخرة وذلك يشمل عذاب القبر وأهوال يوم القيامة وعذاب النار، وهو مع ذلك يخاف من العذاب الدنيوي أيضاً.
ومن ذلك: أن كل معصية توعد عليها بلعنة الله وغضبه فهي مجال خوف عظيم ، وكم من إنسان بقي معذباً سنوات من عمره بسب لَعنةٍ لُعنها على كبيرة عملها، قد استهان بما عمل، ونسي وغفل، فلم يتب من ذنبه، ولم يسترح من عذابه.
فهذا من عذاب الدنيا الذي يخافه المؤمنون، فيوجب لهم ذلك محاسبة النفس وتأمل ما يعانونه من العذاب ومناسبته لما يخشون اقترافهم له من الذنوب؛ فإن الغالب أن يكون الجزاء من جنس العمل.
قال ذو النون المصري: (الخوف رقيب العمل).
وبين المحاسبة والخوف تلازم ؛ فالخوف يوجب محاسبة النفس حتى ينظر العبدُ ما ارتكب مما يستحق عليه العذاب، ومحاسبة النفس توجب الخوفَ من الله تعالى لأنه إذا حاسب نفسه عرف تقصيره فخاف أن يعاقب عليه.​

وأما الخوف من عذاب الآخرة فله شأن آخر في قلوب المؤمنين، وقد أثنى الله عليهم بهذه الخصلة فقال تعالى عن عباده المصلين الذاكرين: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}
وقال تعالى عن عباده الأبرار أنهم يقولون: { إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}
وقال تعالى: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}
وقال تعالى عن أهل الجنة: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }
فالخوف من العذاب هجيرى قلوب المتقين، ومن خاف سلك سبيل النجاة، ومن أمن العقوبة أساء العمل.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقول : (( إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ يوضعُ في أخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ . مَا يَرَى أنَّ أَحَداً أشَدُّ مِنْهُ عَذَاباً ، وَأنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَاباً)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: (خطبنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً مَا سَمِعْتُ مِثلها قطّ، فَقَالَ: (( لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ ، لَضحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيتُمْ كَثِيراً )) فَغَطَّى أصْحَابُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَجُوهَهُمْ ، وَلَهُمْ خَنَينٌ) . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .​

النوع الثالث: الخوف من فوات الثواب؛ فإن العامل المجتهد يرجو ثمرة عمله ، ويخاف أن يخيب سعيه بشيء يقترفه فيخسر ما كان يرجوه من الثواب العظيم، ولذلك اشتد خوف الصالحين من اقتراف محبطات الأعمال، لأنها توبق سعي العبد وتحرمه من ثواب ما عمل.
ولا شيء أخوف عندهم من الشرك لأنه محبط لجميع العمل ولا يعفى عمَّن ارتكبه مهما بلغ من العلم والعبادة، كيف وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}
وقال في أنبيائه الذين آتاهم الكتاب والحكم والنبوة: { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من محبطات الأعمال عامها وخاصها تحذيراً شديداً، فالمحبطات العامة هي التي تحبط جميع العمل وهي نواقض الإسلام، والمحبطات الخاصة هي التي تحبط ثواب بعض الأعمال؛ كالمنَّة في النفقة ، والرياء الأصغر في العبادة، وطلب الدنيا بعمل الآخرة، ونحو ذلك.
وهذا التحذير يوجب الخوف من فوات الثواب بسبب ذنب يرتكبه العبد فيوبق سعيه، والعياذ بالله.​

أسباب الخوف من الله وموجباته
الخوف من الله تعالى منزلة عظيمة توجبها أمور:
الأمر الأول: العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته جل وعلا ، فإنَّ من تفكر في أسماء العظمة والجلال ، وتفكر في آثارها ومقتضياتها، وتفكر في أفعال الملك العظيمة ، وآمن بها أوجب له ذلك الخوف الشديد من الله تعالى؛ وكلما كان المؤمن أعلمَ بالله كان أخشى له، ولذلك قال الله تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)) متفق عليه، وفي رواية أخشاكم.
وقد قيل:
على قدر علم المرء يعظم خوفه = فما عالم إلا من الله خائف
فآمن مكر الله بالله جاهل = وخائف مكر الله بالله عارف​

فمن ذلك: أن تعلم أن الله هو الواحد القهار، والعزيز الجبار، والعلي الكبير ، والقوي القدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه شيء، فعال لما يريد، له الكبرياء والمجد، شديد العقاب والبطش، ذو انتقام ممن يعصيه، يغار إذا انتهكت محارمه، ويغضب ويمقت، ويقبض ويمحق، ولا يخاف عاقبة فعله؛ فمن شهد ذلك بقلبه وآمن به حق الإيمان ارتعدت فرائصه قبل أن يفكر في المعصية.
وقد قال الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} وقال: {ولا يغرنكم بالله الغرور}​
الأمر الثاني: الخوف من المقام بين يدي الله جلَّ وعلا، وهو أمر كائن لا محالة لكل مكلَّف محسن أو مسيء، فمن تفكر في هذا المقام وخافه في الدنيا هوَّنه الله عليه يوم القيامه، ومن استخف به في الدنيا شدده الله عليه يوم القيامة.
قال الله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}
وقال تعالى : {ولمن خاف مقام ربه جنتان}
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا النار ولو بشق تمرةٍ )) متفق عليه .​
الأمر الثالث: مطالعة آيات الوعيد وأحاديثه ، وتأمّلُ ما أعده الله للعصاة من العذاب الشديد، فمن تفكر في ذلك وآمن به أوجب له ذلك الخوف من التعرض لسخط الله وعقابه.
قال الله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} وقال: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}.​
الأمر الرابع: كثرة الذكر؛ فإن الغفلة تقسي القلب ؛ ولا يزال الغافل يقسو قلبه شيئاً فشيئاً لكثرة ما يرين عليه؛ حتى يختم على قلبه فلا يؤثر فيه زجر ولا وعظ إلا أن يشاء الله أن يتداركه برحمته فيمنَّ عليه بتوبة من عنده.
قال الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.​
الأمر الخامس: تزكية النفس من الأخلاق السيئة ولا سيما الكبر والعجب والغرور.

آثار الخوف من الله وثمراته
للخوف من الله تعالى ثمرات عظيمة وآثار جليلة:
منها: أنه يوجب في القلب إجلال الله تعالى وتعظيمه وتوقيره وخشيته ، وهذا هو حقيقة التعبد.
ومنها: أنه يدفع العبد للاستقامة والمسارعة إلى الخيرات، والتورع عن الشبهات، والتقلل من فضول المباحات، ومراقبة الجوارح.​

قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }​
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة )) رواه الترمذي.
قال النووي: ( (( أدْلَجَ )): بإسكان الدال ومعناه سار من أول الليلِ، والمراد التشمير في الطاعة).
قال أبو عثمان الحناط: سمعت ذا النون وشكا إليه رجل السُّبات فقال له: (لو خفت البيات لم يغلبك السبات). رواه البيهقي في الشعب.
ومنها: أنه سبب للانتفاع بالقرآن العظيم وما يتبع ذلك من بركات عظيمة؛ فإن الخوف هو ثمرة الإنذار ، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}، وقال تعالى: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}
ومنها: أنه يهذب النفس وينقيها من الأخلاق السيئة ، ويطهر القلب من أدوائه؛ فالخوف والكبر لا يجتمعان، إذا حل الوجل في القلب طرد الكبرَ والغرور والعجب ، وما يتركب من هذه الآفات ويتولد عنها من شرور عظيمة وبلايا جسيمة تودي بصحابها إلى المهالك.
ومنها: أنه يزجر العبد عن الظلم والعدوان ؛ فمن خاف انزجر، فيأمن الناس شرَّه، ويسلم المسلمون من لسانه ويده، بل يجعل الله له في القلوب مودة ومهابة، وقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن محمد بن زين العابدين والفضيل بن عياض أنهم قالوا: (من خاف الله أخاف منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء).
وقد روي مرفوعاً من حديث ابن مسعود وحديث واثلة ابن الأسقع ولا يصحان.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (على قدر حبك الله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل في أمرك الخلق). رواه البيهقي في الشعب.​

وأما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) فلم يرد به نفي الخوف عنه، وإنما مراده أن إجلاله لله يمنعه من معصيته.​
 
§ الفرق بين خوف العبادة وغيره
الخوف على قسمين:
القسم الأول: خوف العبادة: وهو الذي يحمل معنى العبادة من التذلل والرهبة والخشية من إيقاع الضرر ممن يملك إيقاعه، فيقوم بالقلب عبادات عظيمة من الرهبة والخشية والإنابة والتوكل وتعلق القلب فهذا الخوف لا شك أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك أكبر مخرج عن الملة، قال الله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُون وهذا الخوف هو من عمل المشركين، ولذلك إذا أردت أن تعرف معنى الخوف الشركي فاعرف حال المشركين الذي يخافون هذا الخوف، وقد ذكر الله لنا من أخبارهم، قال الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
وقال عن عاد قوم هود في مجادلتهم لنبيهم: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك).
وقال قتادة: (بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام ليكسر العزّى، فقال سادنها -وهو قيمها -: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها).
وقال مجاهد: (﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: «يخوفونك بالأوثان التي يعبدون من دون الله عز وجل»).
ومن عبَّاد الأوثان والقبور اليوم من يخوِّف الناس من هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله بأن لهم قدرة وتصرفاً وإذا غضبوا على شخص أرسلوا له من يعذبه ويصيبه بالأمراض وربما يشل جسده أو يقتله ونحو ذلك من التخويف الذي لا يجوز لمؤمن أن يخافه.
oخوف السر
يذكر بعض العلماء عبارة (خوف السر) ويقصدون به خوف التعبد، كما صرَّحوا بالتمثيل له بخوف عباد القبور والأولياء، وهؤلاء في الحقيقة جمعوا أنواعاً من الشرك منها اعتقادهم أن أولئك الأموات يطلعون على ما يعملون، واعتقادهم قدرتهم على المؤاخذة وإحلال العقوبة والسخط، وخوفهم أن يقطعوا عنهم المدد أو يتخلوا عن الشفاعة لهم ونحو ذلك؛ فلذلك تجد بعضهم إذا سمع أحداً يذكر أحد أولئك الأموات بسوء أو ينهى عن الغلو فيهم يُرى عليه أثر الخوف من غضب ذلك الولي بزعمهم.
وخوف السر هذا فيه معاني التعبد من الرهبة والخشية وتعلق القلب بالمعبود والالتجاء إليه، وهذه عبادات عظيمة من صرفها لغير الله تعالى فقد أشرك، والعياذ بالله تعالى من الشرك.
فالخوف التعبدي عبادة من أجَلّ العبادات صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.

القسم الثاني من الخوف: الخوف الطبيعي، وهو ما خلا من معاني التعبد، وهذا حكمه بحسب ما يحمل عليه:
مثاله: خوف العبد من السباع والهوام والظلمة الطغاة فهذا لا يلام عليه العبد بل قد يعذر بسببه في أحوال؛ فقد يسقط عن الرجل وجوب صلاة الجماعة للخوف، وقد يجوز له جمع ما يجمع الصلوات بسبب الخوف، ونحو ذلك.
× أما إن حمل هذا الخوف صاحبَه على ترك بعض الواجبات التي لا يعذر بتركها أو ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه فهو محرم لا يجوز.
مثاله: جماعة من المسلمين ظاهرون في بلد من البدان حملهم الخوف من العدو على ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ وترك إعداد العدة لذلك؛ فهؤلاء مذمومون مفرطون مذنبون بتركهم فريضة الجهاد في سبيل الله عز وجل، وسنة الله تعالى جارية بأن يسلط الله عليهم أعداءهم وينزع مهابتهم من صدور الكافرين بسبب مخالفتهم لاتباع هدى الله جل وعلا، وتقديمهم خوف العدو على الخوف من الله جل وعلا، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ أي يعظمهم في نفوسكم حتى تخافوهم.
فهذا الخوف من أولياء الشيطان محرم لا يجوز.
بل قد يصل الخوف من غير الله تعالى بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله؛ كمن يحمله الخوف على الرضا بالكفر واختياره خوفاً وجبناً كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ
وهذا هو أصل خوف الأتباع من المتبوعين من أئمة الكفر كما قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
فهؤلاء حملهم خوفهم الطبيعي على الكفر والعياذ بالله.

§ أقسام الناس في الخوف من الله
الناس في خوف العبادة على درجات:
الدرجة الأولى: السَّابِقون المقرَّبون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على المسارعة في الخيرات والتقرُّب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل والورع واجتناب المحرمات والشبهات؛ فهؤلاء بخير المنازل
وهم الذين أثنى الله تعالى عليهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
وقوله: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
الدرجة الثانية: المقتصدون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على اجتناب المحرمات وفعل الواجبات فهؤلاء هم المتقون المقتصدون.
الدرجة الثالثة: المفرِّطون الظالمون لأنفسهم من المسلمين، وهؤلاء معهم أصل الخوف من الله تعالى بحيث يمنعهم من الشرك الأكبر وارتكاب ناقض من نواقض الإسلام والامتناع عن بعض الكبائر، لكنهم لضعف خوفهم من الله تعالى يرتكبون بعض الكبائر ويتركون بعض الفرائض الواجبة والعياذ بالله، فهؤلاء مذنبون مستحقون للعذاب بقدر ما وقعوا فيه من المخالفة، وهم باقون في دائرة الإسلام.
الدرجة الرابعة: الغلاة المُفْرِطُون وهم الذين حملهم الخوف الشديد على نوع من اليأس من رحمة الله والقنوط من رحمته؛ فهؤلاء مذنبون غلاة، ولا يجوز للمؤمن أن ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمته.
الدرجة الخامسة: المشركون وهم الذين صرفوا هذه العبادة العظيمة لغير الله جل وعلا؛ فهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.
فهذه درجات الناس في خوف التعبد وهم في كل درجة تتفاوت منازلهم.
 
الرجاء.
الرجاء نقيض اليأس، وهو طمع القلب في حصول منفعة.
قال الله تعالى: ﴿وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين
وقال عن أوليائه المتقين: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون
والرجاء على قسمين:
القسم الأول: رجاء العبادة.
القسم الثاني: رجاء نفع الأسباب.
- فرجاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا، ومن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك لأنه يحمل معاني العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والانقياد واعتقاد النفع والضر وتفويض الأمر وتعلق القلب والتقرب إلى المعبود، وهذه كلها عبادات عظيمة تقتضيها عبادة الرجاء فمن صرفها لغير الله جل وعلا فهو مشرك كافر.
وهذا كرجاء المشركين في آلهتهم التي يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم عند الله أو أنها تقربهم إلى الله زلفى، وكرجاء بعض عباد الأولياء والقبور بأنهم ينجونهم من الكربات ويدفعون عنهم البلاء ويجلبون لهم النفع ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
- القسم الثاني: رجاء نفع الأسباب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا.
وهذا على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: رجاء جائز، وهو رجاء نفع الأسباب المشروعة مع عدم تعلق القلب بها، فهذا جائز، وليس بشرك، وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من يُرجى خيره ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيره ولا يُؤمن شره)). وإسناده صحيح.
فهذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة، وإنما هو رجاء نفع السبب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا.
الدرجة الثانية: رجاء محرم، وهو الرجاء في الأسباب المحرمة ليستعين بها على معصية الله جل وعلا.
الدرجة الثالث: شرك أصغر، وهو تعلق القلب بالأسباب؛ كتعلق بعض المرضى بالرقاة والأطباء تعلقاً قلبياً يغفلون معه عن أن الشفاء بيد الله عز وجل؛ فهذا من شرك الأسباب كما تقدم شرحه.

وهذه العبادات قاعدتها واحدة من فقهها سهل عليه معرفة هذه التقسيمات وتيسر له ضبط مسائلها إن شاء الله تعالى.
وهو أن هذه الألفاظ: المحبة والخوف والرجاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والرغبة والرهبة والخشية ونحوها تطلق في النصوص على معنيين:
المعنى الأول: ما كان يحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والانقياد واعتقاد النفع والضر فتكون حينئذ عبادة من صرفها لغير الله عز وجل فقد أشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويكون بذلك كافراً خارجاً عن الملة.
وإذا أردت أن تعرف هذا المعنى فانظر إلى ما يفعله مَن أثنى الله عليهم من الموحدين في هذه العبادات، وما يفعله مَن ذمَّهم الله من المشركين بهذه العبادات.
وبذلك تعرف المعنى التعبدي فيها الذي لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا.
المعنى الثاني: ما ليس فيه معنى العبادة، وإنما هو سبب من الأسباب أو غرض من الأغراض فهذا حكمه بحسب ما يترتب عليه فإن استعين به على طاعة الله فهو طاعة وقربة، وإن استعين به على محرم فهو حرام، وإن حمل على فعل محرم أو ترك واجب لا يعذر بتركه فهو محرم؛ فأما إن تعلق القلب بالسبب وصار فيه نوع تذلل له مصحوب بخوف ورجاء فيكون حينئذ شركاً أصغر.

§ الجمع بين المحبة والخوف والرجاء
اعلم أن هذه العبادات الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء هي أصول العبادات وعليها مدارها، وقلب المؤمن يتقلب بينها.
قال الله تعالى : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
فالإحسان في العبادة أن يجمع العبد بين الخوف والرجاء، ومن فعل ذلك كانت رحمة الله قريب منه.
ومما يعين على ذلك استحضار الثواب والعقاب؛ فعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (( لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤمِنُ مَا عِنْدَ الله مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ الله مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أحَدٌ )) رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الجَنَّةُ أقْرَبُ إِلى أحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذلك )) رواه البخاري .
وهذا يوجب التلازم بين الخوف والرجاء.
قال مكحول: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد).
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (الإيمان ثلاثة: الخوف والرجاء والمحبة، وفي جوف الخوف ترك الذنوب، وفيه النجاة من النار وفي جوف الرجاء الطاعة، وفيه وجوب الجنة، وفي جوف المحبة احتمال المكروهات و به تجد رضا الله عز وجل). رواه البيهقي.
ولذلك كان العلماء يحذرون ممن يُعرف عنه الإكثار من دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية، فالذي يدعي المحبة وهو بعيد عن الخشية واتباع السنة والموالاة في الله والمعاداة في الله والغيرة على حرمات الله فدعواه كاذبة.
في الحديث القدسي (المتحابون بجلالي) قرن المحبة بالجلال للتنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه مع التحاب وبذلك يكونون حافظين لحدود الله.
قال ابن القيم رحمه الله: (القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر).
وبيان ذلك أن ما يدفع القلب للعمل ثلاثة أمور: المحبة، والخوف، والرجاء فمن أحب الله أطاعه، ومن خاف الله أطاعه، ومن رجا ثواب الله أطاعه فمن المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله عز وجل محبة له، مع خوفه من الله ورجائه له، لكن الذي يغلب على قلبه المحبة وصدق التقرب إلى الله عز وجل.
ومن المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله فيطيع الله خوفاً منه، سواء خاف عقابه الدنيوي أو عقابه الأخروي؛ فالذي يحمله غالبا على فعل الطاعات واجتناب المحرمات خوفه من الله.
ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أن أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله.
والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه، ورجاء لثوابه وفضله.
المحبة أعلى مرتبة من مرتبة الخوف والرجاء إذا أردنا المفاضلة بينها، لأن المحبة تبقى في الدنيا والآخرة، وأما الخوف فإنه يزول في الآخرة.

والجمع بين هذه الثلاثة هو منهج السلف الصالح وهو الذي عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبادات بينها تلازم؛ فالمحب خائف راجٍ، والخائف محب راجٍ، والراجي محب خائف، وقد سبق شرح ذلك.
قال أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العيني (ت:211هـ):
لَيسَ يَرجو اللَهَ إِلّا خائِفٌ = مَن رَجا خافَ وَمَن خافَ رَجا

وقال بعض ضلال الصوفية بالتفريق بينها وزعموا أن من يعبد الله محبة له فقط أعلى وأكمل ممن يعبد الله رجاء لثوابه أو خوفاً من عقابه، حتى كان بعضهم يدعو: (اللهم إن كنت تعلم أني أطيعك رغبة في جنتك فاحرمني منها!!) وهذا ضلال مبين وخسران عظيم - إن لم يرحمه الله لجهله وقلة عقله –
فإن الله أمر بسؤاله من فضله ورغَّب في ثوابه فمن ترك رجاء الله فقد عصى الله.
وحذر الله من عقابه وعذابه فمن لم يخف الله فقد عصى الله.
والمقصود أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه الجمع بين هذه العبادات العظيمة
فيعبدون الله محبة له كما وصفهم الله بقوله: ﴿والذين آمنوا أشد حباً لله
ويعبدون الله خوفاً من عقابه كما أمرهم الله بقوله: ﴿وخافون إن كنتم مؤمنين
وجعل صفة الرجاء فرقاناً بين المؤمنين والكافرين فقال: ﴿وترجون من الله ما لا يرجون
ورغَّبهم في ثوابه وأمرهم بسؤاله من فضله فقال تعالى: ﴿واسألوا الله من فضله.
فاللهم إنا نسألك من فضلك يا ذا الفضل العظيم.
ولتوضيح منازل هذه العبادات العظيمة والتلازم الشرعي بينها، وحاجة المؤمن إليها جميعاً في سلوكه الصراط المستقيم يقال: إن من أحب الله سار إليه وتقرب إليه، والسير إليه يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فهو سير معنوي على الصراط المستقيم الذي هو الطريق إلى المحبوب الأعظم.
فمحبة الله تدفع العبد إلى التقرب إليه، وعلى حسب قوة المحبة وضعفها تكون مسارعة العبد في الطاعات ومسارعته في الكف عن المحرمات.
فإن شدة المحبة تحمل على صدق العمل، وتذهل العبد عن المشقة وتخلصه من علل النفس فيخف عليه العمل، ولا يلتفت لعذل عاذل ولا لوم لائم؛ فتقوم النفس بأعمال لا يقوم بها من لم يجد هذه المحبة.
ومن جيد قول سويد بن أبي كاهل:

وكذاك الحب ما أشجعه = يركب الهول ويعصي من وزع
أي أن الحب الصادق يحمل على الشجاعة فيركب العبد الأهوال، ويجعله لا يلتفت إلى من يعذله ويزعه ليثنيه عن مقتضى الحب، بل ذلك يغريه ويزيده.
والمقصود أن صدق المحبة يحرك قلب العبد المحب إلى العمل.
والخوف من الله يمنعه من الانحراف عن الصراط المستقيم فلا يتعدى حدود الله وهو يخاف عقاب الله.
ورجاؤه لفضل الله يحفزه لفعل الطاعات ويؤمله لقاء الله تعالى والفوز بقربه والتنعم بعظيم ثوابه، والنظر إلى وجهه الكريم.
نسأل الله تعالى من فضله ورحمته وبركاته.
 
عودة
أعلى