منزلة الخوف
الخوف عبادة من أجل العبادات، بل هو أصل التقوى،وإنما سمِّي المتقي متقيًا لأنه يجعل بينه وبين ما يخاف وقاية؛ فالحامل على التقوى في الأصل هو الخوف.
وقد أمر الله تعالى بإفراده بالخوف وتعظيم مقامه جلَّ وعلا فقال تعالى: ﴿إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾)
وقال تعالى: {وإياي فارهبون}
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}
وقال تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}
وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}
فالخوف من الله تعالى أصل عظيم من أصول الدين، لا يصح الإيمان إلا به، وهو أصل التقوى، ورأس الحكمة، ومفتاح التوفيق، وجُنَّة المؤمن، وقيدُه عن المعاصي والتفريط، وهو عبادة من أجل العبادات ، وقد عرفنا أنه عبادة بأمور:
أولها: أن الله تعالى أمر به فقال :{وخافون}، وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} ، وهو يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، وامتثال أمر الله عبادة.
وثانيها : أن الله تعالى جعل الخوف منه شرطاً للإيمان ومقتضى من مقتضياته فقال تعالى: {وخافون إن كنتم مؤمنين}.
وثالثها: أن الله تعالى يحب أن نخاف منه، ووعد الذين يخافون مقامه بالثواب العظيم ؛ وقد عرفنا أن كل ما يحبه الله منَّا فهو عبادة.
ورابعها: أن الله تعالى أثنى على الذين يخافونه ومدحهم بل جعل وَجَلَ القلوب من مخافة الله تعالى شرطاً لحقيقة الإيمان، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
-وقال تعالى في مدح المصلّين الذين تنفعهم صلاتهم: { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}
-وقال تعالى في مدح المنفقين الذين ينفعهم إنفاقهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}.
- وقال تعالى في مدح أهل القرآن الذين يتلونه حق تلاوته:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
وهذه العبادات: الصلاة والصدقة والتلاوة والذكر هي أصول أعمال الجوارح، كما أن المحبة والخوف والرجاء أصول أعمال القلوب.
وخامسها: أن الله تعالى أمر بالاتساء بنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبما أخبر به عن نفسه أحسن الهدي في أعمال القلوب ومنها الخوف من الله عز وجل، فقال: ((أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له)). متفق عليه.
فتبيَّن بذلك أن الخوف من الله عبادة من أجل العبادات .
أنواع الخوف
الخوف له أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الخوف من سخط الله تعالى ، والحرمان من رضوانه ، وهذا هو خوف المحبين ، فإن خوف المؤمن من فوات ما يحبه ويتعلق به قلبه من رضوان الله عز وجل ومحبته وما يتبع ذلك من بركات عظيمة أشد من خوف كل خائف على أعظم كنز عنده، أو صحة نفسه أو حياة حبيبه.
ويكفي في ذلك أن تعلم أن غاية من تعلقت قلوبهم بمحبة الله جل وعلا أن ينظروا إليه، فهذه أغلى الأمنيات وأعز المطالب، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)).
فأعظم عقوبة للمحب حرمانه من رؤية محبوبه الأعظم ورضاه، وخوفُه على هذا المطلب لا يعادله خوفٌ على غيره، وقد جعل الله من عقوبة الكفار حرمانهم من رؤيته فقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم}
فبدأ بعقوبة الحجاب قبل الجحيم؛ والتقديم مشعر بالتعظيم.
قال شيخ الإسلام: (فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات ؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى).
ثم إنَّ أنس المؤمن في حياته ونعيم روحه إنما هو في رضوان الله عز وجل عليه، فإذا تعرض لسخط الله باقتراف معصية كان خوفه على فقد أنسه بالله وما تنعُم به روحُه من بركات رضوان الله أعظمَ من خوف أصحاب الأموال على أموالهم، بل إنه في حال الاستقامة يخاف من زوال هذه النعمة، ويخاف أن لا يدرك درجات تتوق إليها نفسه ويسعى لبلوغها؛ فيخاف من اقتراف ما يحول بينه وبينها.
وخوف المؤمن من الحرمان من رضوان الله عز وجل في الدنيا سببه معرفته بضعف نفسه وعجزها وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، وأنه إذا لم يرض الله عنه ولم يهيئ له أسباب رحمته وفضله وبركاته فهو حليف الحرمان والشقاء والخسران والعياذ بالله.
فإذا تيقَّن المؤمن ذلك يقينا يحلّ في سويداء القلب ويستشعره في نفسه كان أحرص شيء على رضوان الله، ولا أخوف عنده على نفسه من أمر يجلب له مقت الله تعالى وسخطه ويحرمه من رضوانه.
وسخط الله تعالى له سبب واحد: هو معصية الله، لأن العبد إذا اجتنب فعل المعصية لم يعاقب، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (خمسٌ احفظوهن، لو ركبتم الإبل لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يخاف العبدُ إلا ذنبَه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، و لا إيمان لمن لا صبر له). رواه عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان.
فبدأ الوصايا بقوله: (لا يخاف العبد إلا ذنبه) لأن مصدر شقاء العبد وحرمانه وعذابه هو ذَنْبه.
النوع الثاني: الخوف من العذاب الدنيوي والأخروي، وهذا الخوف ملازم لقلب المؤمن، قال الله تعالى في صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}
وأشدّ ذلك وأشرفه الخوف من عذاب الآخرة وذلك يشمل عذاب القبر وأهوال يوم القيامة وعذاب النار، وهو مع ذلك يخاف من العذاب الدنيوي أيضاً.
ومن ذلك: أن كل معصية توعد عليها بلعنة الله وغضبه فهي مجال خوف عظيم ، وكم من إنسان بقي معذباً سنوات من عمره بسب لَعنةٍ لُعنها على كبيرة عملها، قد استهان بما عمل، ونسي وغفل، فلم يتب من ذنبه، ولم يسترح من عذابه.
فهذا من عذاب الدنيا الذي يخافه المؤمنون، فيوجب لهم ذلك محاسبة النفس وتأمل ما يعانونه من العذاب ومناسبته لما يخشون اقترافهم له من الذنوب؛ فإن الغالب أن يكون الجزاء من جنس العمل.
قال ذو النون المصري: (الخوف رقيب العمل).
وبين المحاسبة والخوف تلازم ؛ فالخوف يوجب محاسبة النفس حتى ينظر العبدُ ما ارتكب مما يستحق عليه العذاب، ومحاسبة النفس توجب الخوفَ من الله تعالى لأنه إذا حاسب نفسه عرف تقصيره فخاف أن يعاقب عليه.
وأما الخوف من عذاب الآخرة فله شأن آخر في قلوب المؤمنين، وقد أثنى الله عليهم بهذه الخصلة فقال تعالى عن عباده المصلين الذاكرين: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}
وقال تعالى عن عباده الأبرار أنهم يقولون: { إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}
وقال تعالى: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}
وقال تعالى عن أهل الجنة: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }
فالخوف من العذاب هجيرى قلوب المتقين، ومن خاف سلك سبيل النجاة، ومن أمن العقوبة أساء العمل.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقول : (( إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ يوضعُ في أخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ . مَا يَرَى أنَّ أَحَداً أشَدُّ مِنْهُ عَذَاباً ، وَأنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَاباً)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: (خطبنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً مَا سَمِعْتُ مِثلها قطّ، فَقَالَ: (( لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ ، لَضحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيتُمْ كَثِيراً )) فَغَطَّى أصْحَابُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَجُوهَهُمْ ، وَلَهُمْ خَنَينٌ) . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
النوع الثالث: الخوف من فوات الثواب؛ فإن العامل المجتهد يرجو ثمرة عمله ، ويخاف أن يخيب سعيه بشيء يقترفه فيخسر ما كان يرجوه من الثواب العظيم، ولذلك اشتد خوف الصالحين من اقتراف محبطات الأعمال، لأنها توبق سعي العبد وتحرمه من ثواب ما عمل.
ولا شيء أخوف عندهم من الشرك لأنه محبط لجميع العمل ولا يعفى عمَّن ارتكبه مهما بلغ من العلم والعبادة، كيف وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}
وقال في أنبيائه الذين آتاهم الكتاب والحكم والنبوة: { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من محبطات الأعمال عامها وخاصها تحذيراً شديداً، فالمحبطات العامة هي التي تحبط جميع العمل وهي نواقض الإسلام، والمحبطات الخاصة هي التي تحبط ثواب بعض الأعمال؛ كالمنَّة في النفقة ، والرياء الأصغر في العبادة، وطلب الدنيا بعمل الآخرة، ونحو ذلك.
وهذا التحذير يوجب الخوف من فوات الثواب بسبب ذنب يرتكبه العبد فيوبق سعيه، والعياذ بالله.
أسباب الخوف من الله وموجباته
الخوف من الله تعالى منزلة عظيمة توجبها أمور:
الأمر الأول: العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته جل وعلا ، فإنَّ من تفكر في أسماء العظمة والجلال ، وتفكر في آثارها ومقتضياتها، وتفكر في أفعال الملك العظيمة ، وآمن بها أوجب له ذلك الخوف الشديد من الله تعالى؛ وكلما كان المؤمن أعلمَ بالله كان أخشى له، ولذلك قال الله تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)) متفق عليه، وفي رواية أخشاكم.
وقد قيل:
على قدر علم المرء يعظم خوفه = فما عالم إلا من الله خائف
فآمن مكر الله بالله جاهل = وخائف مكر الله بالله عارف
فمن ذلك: أن تعلم أن الله هو الواحد القهار، والعزيز الجبار، والعلي الكبير ، والقوي القدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه شيء، فعال لما يريد، له الكبرياء والمجد، شديد العقاب والبطش، ذو انتقام ممن يعصيه، يغار إذا انتهكت محارمه، ويغضب ويمقت، ويقبض ويمحق، ولا يخاف عاقبة فعله؛ فمن شهد ذلك بقلبه وآمن به حق الإيمان ارتعدت فرائصه قبل أن يفكر في المعصية.
وقد قال الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} وقال: {ولا يغرنكم بالله الغرور}
الأمر الثاني: الخوف من المقام بين يدي الله جلَّ وعلا، وهو أمر كائن لا محالة لكل مكلَّف محسن أو مسيء، فمن تفكر في هذا المقام وخافه في الدنيا هوَّنه الله عليه يوم القيامه، ومن استخف به في الدنيا شدده الله عليه يوم القيامة.
قال الله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}
وقال تعالى : {ولمن خاف مقام ربه جنتان}
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا النار ولو بشق تمرةٍ )) متفق عليه .
الأمر الثالث: مطالعة آيات الوعيد وأحاديثه ، وتأمّلُ ما أعده الله للعصاة من العذاب الشديد، فمن تفكر في ذلك وآمن به أوجب له ذلك الخوف من التعرض لسخط الله وعقابه.
قال الله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} وقال: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}.
الأمر الرابع: كثرة الذكر؛ فإن الغفلة تقسي القلب ؛ ولا يزال الغافل يقسو قلبه شيئاً فشيئاً لكثرة ما يرين عليه؛ حتى يختم على قلبه فلا يؤثر فيه زجر ولا وعظ إلا أن يشاء الله أن يتداركه برحمته فيمنَّ عليه بتوبة من عنده.
قال الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
الأمر الخامس: تزكية النفس من الأخلاق السيئة ولا سيما الكبر والعجب والغرور.
آثار الخوف من الله وثمراته
للخوف من الله تعالى ثمرات عظيمة وآثار جليلة:
منها: أنه يوجب في القلب إجلال الله تعالى وتعظيمه وتوقيره وخشيته ، وهذا هو حقيقة التعبد.
ومنها: أنه يدفع العبد للاستقامة والمسارعة إلى الخيرات، والتورع عن الشبهات، والتقلل من فضول المباحات، ومراقبة الجوارح.
قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة )) رواه الترمذي.
قال النووي: ( (( أدْلَجَ )): بإسكان الدال ومعناه سار من أول الليلِ، والمراد التشمير في الطاعة).
قال أبو عثمان الحناط: سمعت ذا النون وشكا إليه رجل السُّبات فقال له: (لو خفت البيات لم يغلبك السبات). رواه البيهقي في الشعب.
ومنها: أنه سبب للانتفاع بالقرآن العظيم وما يتبع ذلك من بركات عظيمة؛ فإن الخوف هو ثمرة الإنذار ، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}، وقال تعالى: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}
ومنها: أنه يهذب النفس وينقيها من الأخلاق السيئة ، ويطهر القلب من أدوائه؛ فالخوف والكبر لا يجتمعان، إذا حل الوجل في القلب طرد الكبرَ والغرور والعجب ، وما يتركب من هذه الآفات ويتولد عنها من شرور عظيمة وبلايا جسيمة تودي بصحابها إلى المهالك.
ومنها: أنه يزجر العبد عن الظلم والعدوان ؛ فمن خاف انزجر، فيأمن الناس شرَّه، ويسلم المسلمون من لسانه ويده، بل يجعل الله له في القلوب مودة ومهابة، وقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن محمد بن زين العابدين والفضيل بن عياض أنهم قالوا: (من خاف الله أخاف منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء).
وقد روي مرفوعاً من حديث ابن مسعود وحديث واثلة ابن الأسقع ولا يصحان.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (على قدر حبك الله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل في أمرك الخلق). رواه البيهقي في الشعب.
وأما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) فلم يرد به نفي الخوف عنه، وإنما مراده أن إجلاله لله يمنعه من معصيته.