محمد خليل الزروق
New member
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
[align=justify]نقل القرآن الكريم له جناحان لا بد منهما : الرواية والدراية ، والمقصود بالرواية مشافهة القارئ لقارئ آخر يرتفع سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يسمع منه القراءة ويعرض عليه ويقرَّه على قراءته ، أو في الأقل يعرض عليه فحسب مع الإقرار . والمقصود بالدراية معرفة قوانين العربية التي منها أحكام التجويد ونصوص الكتب في اختلاف الأئمة التي هي مصنفات القراءات ، وما يلتحق بها من رسم وضبط وفواصل .
والغرض الأصيل من الرواية في قراءة القرآن الكريم معرفة كيفيات النطق وإتقانها مما لا تحيط به العبارة ، بدءًا من لفظ الحروف والحركات إلى ضبط أحوالها من تفكيك وإدغام ، وإخفاء وتبيين ، وتحريك وتسكين ، وتسهيل وتحقيق ، وتفخيم وترقيق ، وتمييل وتقليل ، وروم وإتمام ، وإخلاص وإشمام .
والغرض الأصيل من الدراية التفقه في هذا المنطوق بمعرفة القواعد التي ينبني عليها ، والأصول التي يرجع إليها ، معرفةً نظرية محيطة به من كل جهاته ، صوتًا وصرفًا ونحوًا وكتابًا واختلافًا واتفاقًا .
وهكذا وصل إلينا القرآن الكريم محفوظًا في الصدور ، متلوًّا بالألسنة ، مسموعًا بالآذان ، ووصل إلينا مرسومًا في المصاحف ، مبينة أحكام نقله ، وحقائق نظمه ، في مصنفات العربية والقراءة والرسم .
وكلا الطريقين الرواية والدراية مرجعه النقل ، والفرق بينهما أن الرواية نقل عملي باللقاء والرؤية والسماع والعرض ، وأن الدراية نقل علمي بالنص والتأصيل والتقعيد والقياس .
ولهذا اشترطوا في القراءة الصحيحة أن يجتمع لها شهادتان : ثبوت الرواية ، وذلك صحة السند ، وإقرار الدراية ، وذلك موافقة الرسم والعربية .
وكما يكون العمل مضبوطًا بقواعد يرجع إليها ، ومقيدًا بطرق يسير فيها ، ومحكومًا بقوانين يُعرَض عند التنازع أو الخطأ عليها - تكون الرواية مضبوطة بقواعد الدراية ، مقيدةً بنظامها ، محكومة بقوانينها ، راجعة عند التنازع أو الخطأ إلى أحكامها .
لأن الرواية بمعناها الذي شرحته غير معصومة من الخطأ ، ويمكن أن يشيع الخطأ ويُنقل ويتطاول أزمنةً ، ولا يقوِّمها إلا الرجوع إلى كتاب مكتوب ، وعلم مكنوز ، وذكر محفوظ ، قد نقله الأئمة ، ودراه الوعاة ، وسطره في مصنفاتهم الرواة ، كما يرجع التالي عند نَسْيه إلى مصحفه ، وعند سهوه إلى كتابه ، فالضعف يُقوَّى بالذكر ، والخطأ يُقوَّم بالعلم ، والنسيان يُكمَّل بالكتاب .
فإذا تعارضت الرواية والدراية ، وتناقضتا تناقضًا بينًا صريحًا - كان هذا دليلاً على أن المعمول به خطأ ، وأن المقروء به لحن ، فيؤخذ حينئذ بالنص والفقه فيه ، فإن لم يكن ذلك بأن تمسك القارئ بما هو عليه مخالفًا للقواعد والأصول والنصوص - لم يكن لهذه القواعد والأصول والنصوص معنى ، وكان عدمها كوجودها ، وبطلت العلوم ، وسقطت الكتب ، وعُطلت النصوص .
وهذا الذي شرحته ليس بدعًا من القول ، ولا محدثًا من الرأي ، ولا جديدًا من المذهب ، بل هو ما تدل عليه أقاويل العلماء ، وتشير إليه شروح الأئمة ، وتنبئ به سطور الكتب . ولولا قلة الفراغ ، وزحمة الأعمال ، وانشغال البال - لاستقصيتها لك ، وأحضرتها إليك ، وعرضتها عليك ، فترى فيها علمًا راسخًا ، وفقهًا راشدًا ، ونظرًا ثاقبًا ، ونصحًا بليغًا . وسأنقل لك ما تيسر منه وأعلق خلاله بين قوسين ، أو بعده .[/align]
[align=center]قال ابن مجاهد ( -324 ) :[/align]
[align=justify]" وحملة القرآن متفاضلون في حمله ، ولنقل الحروف منازل في نقل حروفه ...
1- فمن حملة القرآن المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات ، العارف باللغات ومعاني الكلمات ، البصير بعيب القراءات ، المنتقد للآثار ، فذلك الإمام الذي يَفْزَع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين .
( هذا القسم الأول هو ما ينعتونه بالإمام الكامل ، الذي يروي ويدري ، وينقل ويفقه ، فيطير بجناحين ، وينظر بعينين ، ويمسك بيدين ، ويمشي على رجلين ، ينتقد ما يرويه ، ويُبصر عيب ما يصل إليه ، بعلمه بالعربية واللغة ، وخبرته بطرق القراءة ) .
2- ومنهم من يعرب ولا يلحن ، ولا علم له بغير ذلك ، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ، ولا يقدر على تحويل لسانه ، فهو مطبوع على كلامه .
( هذا القسم الثاني لا وجود له في هذه الأيام ، وهو صاحب السليقة العربية الخالصة ، لم تكدرها العجمة ، ولم تشُبها الهجنة ، ولم يخالطها اللحن ، وقد كان يوجد على أيام ابن مجاهد ، أواخر القرن الثالث ، وأوائل القرن الرابع ) .
3- ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم ، لا يعرف الإعراب ولا غيره ، فذلك الحافظ ، فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده ، فيضيِّع الإعراب لشدة تشابهه وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة ؛ لأنه لا يعتمد على علم بالعربية ، ولا بصر بالمعاني يرجع إليه ، وإنما اعتماده على حفظه / وسماعه ، وقد ينسى الحافظ فيضيِّع السماع ، وتشتبه عليه الحروف ، فيقرأ بلحن لا يعرفه ، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه ، وعسى أن يكون عند الناس مصدَّقا فيحمل ذلك عنه ، وقد نسيه ووهم فيه ، وجَسَر على لزومه والإصرار عليه . أو يكون قد قرأ على من نسي وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم ، فذلك لا يُقَلَّد القراءة ، ولا يحتج بنقله .
( هذا القسم الثالث هو من ينقل بلا فقه ، ويروي بلا دراية ، لا يؤمن عليه النسيان والخطأ ، ولا يؤمن عليه الإصرار عليه ، واللجاج فيه ، وأخذ الناس عنه بلا بصيرة ) .
4- ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني ، ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار ، فربما دعاه بصره بالإعراب أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين فيكون بذلك مبتدعًا " . انتهى . ( السبعة ص 45-46 ) .
هذا القسم الرابع هو من له بعض الدراية لا جميعها ، فله علم بالعربية ، ولا علم له بالاختلاف وطرقه ، وما ثبت منه وما لم يثبت ، وما صح منه وما لم يصح ، فربما ابتدع ، وقرأ بلا أثر أو سند أو ثبوت . وفي مثل هذا المقام يقال : القراءة سنة متبعة ، واقرؤوا كما علمتم .
موضع الشاهد في كلامه على القسم الأول ، إذ فضله على الأقسام الأخرى ، ووصفه بأنه المنتقد للآثار بعلمه وبصره .[/align]
[align=center]وقال الداني ( -444 ) :[/align]
[align=justify]" وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد ، والمعرفة بالتحقيق ، فمنهم من يعلم ذلك قياسًا وتمييزًا ، وهو الحاذق النبيه ، ومنهم من يعلمه سماعًا وتقليدًا ، وهو الغبي الفهيه ، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعًا ورواية ، فللدراية ضبطها ونظمها ، وللرواية نقلها وتعلمها ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " . ( التحديد ص 67 ) .
الشاهد في جعله الدراية آكد من الرواية ؛ لأنها الضابطة لها ، المبصِّرة بها ، الحاكمة عليها .
وشبه هذا النص في كتاب الرعاية لـ[/align]
[align=center]مكي بن أبي طالب ( -438 )[/align]
[align=justify]وإنما قدمت نقله عن الداني لأنه صُدِّر في كتابه بالقول : قال أبو عمرو ، ونسبه مكي إلى غيره ممن تقدم ، مع أن مكيًّا أسن بست عشرة سنة ، والله أعلم .
قال مكي : " وقد وصف من تقدمنا من علماء المقرئين القراء فقال : القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد ، فمنهم من يعلمه رواية وقياسًا وتمييزًا ، فذلك الحاذق الفطن ، ومنهم من يعرفه سماعًا وتقليدًا ، فذلك الوهِن الضعيف ، لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف والتصحيف ، إذ لم يبن على أصل ، ولا نقل عن فهم . قال : فنقل القرآن فطنة ودراية أحسن منه سماعًا ورواية . قال : فالرواية لها نقلها ، والدراية لها ضبطها وعلمها . قال : فإذا اجتمع للمقرئ النقل والفطنة والدراية وجبت له الإمامة ، وصحت عليه القراءة ، إن كان له مع ذلك ديانة " ( الرعاية 89-90 ) .[/align]
[align=center]وقال ابن الباذش ( -540 ) :[/align]
[align=justify]" لكن ليس من أينعت له أيكة العلم فهو يهدِب ، كمن اقتصر على رواية إليها يَنتدب ، ذلك تمتع بالجنى ، وتصرف بين اللفظ والمعنى ، ودنا فتدلى ، وكشف له عن أسراره فاجتلى . وهذا خازن أمين أدى ، وظَرْف باطنه عَرْف نضح بما فيه وأندى ، فحسبك منه ما بدا ، وأن تجد على النار هدى " . ( الإقناع 1/47 ) . يهدب : يجني الثمر ، ينتدب : يتبع ويستجيب . عَرْف : رائحة .[/align]
[align=justify]الشاهد في المفاضلة بين النوعين ، وتفضيل الأول .[/align]
[align=center]وقال المرعشي ( -1150 ) :[/align]
[align=justify]" لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء كثير من شوخ الأداء ، والشيخ الماهر الجامع بين الرواية والدراية ، المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات - أعز من الكبريت الأحمر . فوجب علينا ألا نعتمد على أداء شيوخنا كل الاعتماد ، بل نتأمل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفن ، ونقيس ما سمعنا من الشيوخ على ما أودع في الكتب ، فما وافقه فهو الحق ، وما خالفه فالحق ما في الكتب " . ( هذا النص في جهد المقل ، وقد غاب عني موضعه فيه ، فلو دلني من يعرفه من الإخوة على صفحته شاكرًا له ) .
وقال المرعشي أيضًا : " ولكن الله سبحانه وتعالى قد حفظ كتابه الكريم عن التحريف في كلماته ، وفي كيفية أدائها ، كما وعد ، إذ وفق العلماء لحفظ كلماته ، وتبيين صفات حروفه في مؤلفاتهم ، بحيث إن من يطلب الحق يجده البتة . ثم إنه لا يجوز للشيخ المقرئ أن يكتفي بالتقليد من شيخه ، بل يطلب معرفة صفات الحروف من الكتب المبسوطة " ( كيفية أداء الضاد 25 ) .[/align]
[align=center]وقال الشيخ محمد تميم الزعبي :[/align]
[align=justify]" والعبرة في ذلك كله موافقة الرواية للدراية ، وكثيرًا ما سمعت شيخنا عبد العزيز عيون السود - رحمه الله تعالى - يقول : يجب أن يوافق التلقين الكتاب . لأنه وللأسف الشديد قد يصيب التلقي وموازين الأداء بعض الخلل في نقل الألفاظ " ( المقدمة الجزرية ص 39 ) ثم نقل عبارة المرعشي في جهد المقل مقرًّا لمعناها ، مستشهدًا بها .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه والتابعين .[/align]
[align=justify]نقل القرآن الكريم له جناحان لا بد منهما : الرواية والدراية ، والمقصود بالرواية مشافهة القارئ لقارئ آخر يرتفع سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يسمع منه القراءة ويعرض عليه ويقرَّه على قراءته ، أو في الأقل يعرض عليه فحسب مع الإقرار . والمقصود بالدراية معرفة قوانين العربية التي منها أحكام التجويد ونصوص الكتب في اختلاف الأئمة التي هي مصنفات القراءات ، وما يلتحق بها من رسم وضبط وفواصل .
والغرض الأصيل من الرواية في قراءة القرآن الكريم معرفة كيفيات النطق وإتقانها مما لا تحيط به العبارة ، بدءًا من لفظ الحروف والحركات إلى ضبط أحوالها من تفكيك وإدغام ، وإخفاء وتبيين ، وتحريك وتسكين ، وتسهيل وتحقيق ، وتفخيم وترقيق ، وتمييل وتقليل ، وروم وإتمام ، وإخلاص وإشمام .
والغرض الأصيل من الدراية التفقه في هذا المنطوق بمعرفة القواعد التي ينبني عليها ، والأصول التي يرجع إليها ، معرفةً نظرية محيطة به من كل جهاته ، صوتًا وصرفًا ونحوًا وكتابًا واختلافًا واتفاقًا .
وهكذا وصل إلينا القرآن الكريم محفوظًا في الصدور ، متلوًّا بالألسنة ، مسموعًا بالآذان ، ووصل إلينا مرسومًا في المصاحف ، مبينة أحكام نقله ، وحقائق نظمه ، في مصنفات العربية والقراءة والرسم .
وكلا الطريقين الرواية والدراية مرجعه النقل ، والفرق بينهما أن الرواية نقل عملي باللقاء والرؤية والسماع والعرض ، وأن الدراية نقل علمي بالنص والتأصيل والتقعيد والقياس .
ولهذا اشترطوا في القراءة الصحيحة أن يجتمع لها شهادتان : ثبوت الرواية ، وذلك صحة السند ، وإقرار الدراية ، وذلك موافقة الرسم والعربية .
وكما يكون العمل مضبوطًا بقواعد يرجع إليها ، ومقيدًا بطرق يسير فيها ، ومحكومًا بقوانين يُعرَض عند التنازع أو الخطأ عليها - تكون الرواية مضبوطة بقواعد الدراية ، مقيدةً بنظامها ، محكومة بقوانينها ، راجعة عند التنازع أو الخطأ إلى أحكامها .
لأن الرواية بمعناها الذي شرحته غير معصومة من الخطأ ، ويمكن أن يشيع الخطأ ويُنقل ويتطاول أزمنةً ، ولا يقوِّمها إلا الرجوع إلى كتاب مكتوب ، وعلم مكنوز ، وذكر محفوظ ، قد نقله الأئمة ، ودراه الوعاة ، وسطره في مصنفاتهم الرواة ، كما يرجع التالي عند نَسْيه إلى مصحفه ، وعند سهوه إلى كتابه ، فالضعف يُقوَّى بالذكر ، والخطأ يُقوَّم بالعلم ، والنسيان يُكمَّل بالكتاب .
فإذا تعارضت الرواية والدراية ، وتناقضتا تناقضًا بينًا صريحًا - كان هذا دليلاً على أن المعمول به خطأ ، وأن المقروء به لحن ، فيؤخذ حينئذ بالنص والفقه فيه ، فإن لم يكن ذلك بأن تمسك القارئ بما هو عليه مخالفًا للقواعد والأصول والنصوص - لم يكن لهذه القواعد والأصول والنصوص معنى ، وكان عدمها كوجودها ، وبطلت العلوم ، وسقطت الكتب ، وعُطلت النصوص .
وهذا الذي شرحته ليس بدعًا من القول ، ولا محدثًا من الرأي ، ولا جديدًا من المذهب ، بل هو ما تدل عليه أقاويل العلماء ، وتشير إليه شروح الأئمة ، وتنبئ به سطور الكتب . ولولا قلة الفراغ ، وزحمة الأعمال ، وانشغال البال - لاستقصيتها لك ، وأحضرتها إليك ، وعرضتها عليك ، فترى فيها علمًا راسخًا ، وفقهًا راشدًا ، ونظرًا ثاقبًا ، ونصحًا بليغًا . وسأنقل لك ما تيسر منه وأعلق خلاله بين قوسين ، أو بعده .[/align]
[align=center]قال ابن مجاهد ( -324 ) :[/align]
[align=justify]" وحملة القرآن متفاضلون في حمله ، ولنقل الحروف منازل في نقل حروفه ...
1- فمن حملة القرآن المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات ، العارف باللغات ومعاني الكلمات ، البصير بعيب القراءات ، المنتقد للآثار ، فذلك الإمام الذي يَفْزَع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين .
( هذا القسم الأول هو ما ينعتونه بالإمام الكامل ، الذي يروي ويدري ، وينقل ويفقه ، فيطير بجناحين ، وينظر بعينين ، ويمسك بيدين ، ويمشي على رجلين ، ينتقد ما يرويه ، ويُبصر عيب ما يصل إليه ، بعلمه بالعربية واللغة ، وخبرته بطرق القراءة ) .
2- ومنهم من يعرب ولا يلحن ، ولا علم له بغير ذلك ، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ، ولا يقدر على تحويل لسانه ، فهو مطبوع على كلامه .
( هذا القسم الثاني لا وجود له في هذه الأيام ، وهو صاحب السليقة العربية الخالصة ، لم تكدرها العجمة ، ولم تشُبها الهجنة ، ولم يخالطها اللحن ، وقد كان يوجد على أيام ابن مجاهد ، أواخر القرن الثالث ، وأوائل القرن الرابع ) .
3- ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم ، لا يعرف الإعراب ولا غيره ، فذلك الحافظ ، فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده ، فيضيِّع الإعراب لشدة تشابهه وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة ؛ لأنه لا يعتمد على علم بالعربية ، ولا بصر بالمعاني يرجع إليه ، وإنما اعتماده على حفظه / وسماعه ، وقد ينسى الحافظ فيضيِّع السماع ، وتشتبه عليه الحروف ، فيقرأ بلحن لا يعرفه ، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه ، وعسى أن يكون عند الناس مصدَّقا فيحمل ذلك عنه ، وقد نسيه ووهم فيه ، وجَسَر على لزومه والإصرار عليه . أو يكون قد قرأ على من نسي وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم ، فذلك لا يُقَلَّد القراءة ، ولا يحتج بنقله .
( هذا القسم الثالث هو من ينقل بلا فقه ، ويروي بلا دراية ، لا يؤمن عليه النسيان والخطأ ، ولا يؤمن عليه الإصرار عليه ، واللجاج فيه ، وأخذ الناس عنه بلا بصيرة ) .
4- ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني ، ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار ، فربما دعاه بصره بالإعراب أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين فيكون بذلك مبتدعًا " . انتهى . ( السبعة ص 45-46 ) .
هذا القسم الرابع هو من له بعض الدراية لا جميعها ، فله علم بالعربية ، ولا علم له بالاختلاف وطرقه ، وما ثبت منه وما لم يثبت ، وما صح منه وما لم يصح ، فربما ابتدع ، وقرأ بلا أثر أو سند أو ثبوت . وفي مثل هذا المقام يقال : القراءة سنة متبعة ، واقرؤوا كما علمتم .
موضع الشاهد في كلامه على القسم الأول ، إذ فضله على الأقسام الأخرى ، ووصفه بأنه المنتقد للآثار بعلمه وبصره .[/align]
[align=center]وقال الداني ( -444 ) :[/align]
[align=justify]" وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد ، والمعرفة بالتحقيق ، فمنهم من يعلم ذلك قياسًا وتمييزًا ، وهو الحاذق النبيه ، ومنهم من يعلمه سماعًا وتقليدًا ، وهو الغبي الفهيه ، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعًا ورواية ، فللدراية ضبطها ونظمها ، وللرواية نقلها وتعلمها ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " . ( التحديد ص 67 ) .
الشاهد في جعله الدراية آكد من الرواية ؛ لأنها الضابطة لها ، المبصِّرة بها ، الحاكمة عليها .
وشبه هذا النص في كتاب الرعاية لـ[/align]
[align=center]مكي بن أبي طالب ( -438 )[/align]
[align=justify]وإنما قدمت نقله عن الداني لأنه صُدِّر في كتابه بالقول : قال أبو عمرو ، ونسبه مكي إلى غيره ممن تقدم ، مع أن مكيًّا أسن بست عشرة سنة ، والله أعلم .
قال مكي : " وقد وصف من تقدمنا من علماء المقرئين القراء فقال : القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد ، فمنهم من يعلمه رواية وقياسًا وتمييزًا ، فذلك الحاذق الفطن ، ومنهم من يعرفه سماعًا وتقليدًا ، فذلك الوهِن الضعيف ، لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف والتصحيف ، إذ لم يبن على أصل ، ولا نقل عن فهم . قال : فنقل القرآن فطنة ودراية أحسن منه سماعًا ورواية . قال : فالرواية لها نقلها ، والدراية لها ضبطها وعلمها . قال : فإذا اجتمع للمقرئ النقل والفطنة والدراية وجبت له الإمامة ، وصحت عليه القراءة ، إن كان له مع ذلك ديانة " ( الرعاية 89-90 ) .[/align]
[align=center]وقال ابن الباذش ( -540 ) :[/align]
[align=justify]" لكن ليس من أينعت له أيكة العلم فهو يهدِب ، كمن اقتصر على رواية إليها يَنتدب ، ذلك تمتع بالجنى ، وتصرف بين اللفظ والمعنى ، ودنا فتدلى ، وكشف له عن أسراره فاجتلى . وهذا خازن أمين أدى ، وظَرْف باطنه عَرْف نضح بما فيه وأندى ، فحسبك منه ما بدا ، وأن تجد على النار هدى " . ( الإقناع 1/47 ) . يهدب : يجني الثمر ، ينتدب : يتبع ويستجيب . عَرْف : رائحة .[/align]
[align=justify]الشاهد في المفاضلة بين النوعين ، وتفضيل الأول .[/align]
[align=center]وقال المرعشي ( -1150 ) :[/align]
[align=justify]" لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء كثير من شوخ الأداء ، والشيخ الماهر الجامع بين الرواية والدراية ، المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات - أعز من الكبريت الأحمر . فوجب علينا ألا نعتمد على أداء شيوخنا كل الاعتماد ، بل نتأمل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفن ، ونقيس ما سمعنا من الشيوخ على ما أودع في الكتب ، فما وافقه فهو الحق ، وما خالفه فالحق ما في الكتب " . ( هذا النص في جهد المقل ، وقد غاب عني موضعه فيه ، فلو دلني من يعرفه من الإخوة على صفحته شاكرًا له ) .
وقال المرعشي أيضًا : " ولكن الله سبحانه وتعالى قد حفظ كتابه الكريم عن التحريف في كلماته ، وفي كيفية أدائها ، كما وعد ، إذ وفق العلماء لحفظ كلماته ، وتبيين صفات حروفه في مؤلفاتهم ، بحيث إن من يطلب الحق يجده البتة . ثم إنه لا يجوز للشيخ المقرئ أن يكتفي بالتقليد من شيخه ، بل يطلب معرفة صفات الحروف من الكتب المبسوطة " ( كيفية أداء الضاد 25 ) .[/align]
[align=center]وقال الشيخ محمد تميم الزعبي :[/align]
[align=justify]" والعبرة في ذلك كله موافقة الرواية للدراية ، وكثيرًا ما سمعت شيخنا عبد العزيز عيون السود - رحمه الله تعالى - يقول : يجب أن يوافق التلقين الكتاب . لأنه وللأسف الشديد قد يصيب التلقي وموازين الأداء بعض الخلل في نقل الألفاظ " ( المقدمة الجزرية ص 39 ) ثم نقل عبارة المرعشي في جهد المقل مقرًّا لمعناها ، مستشهدًا بها .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه والتابعين .[/align]