سعادة الدكتور / موراني
تحية طيبة
الحقيقة تعليقك أثارني علميا جدا، وبطبيعة الحال انا في طرحي لدليل وجود الغام اخترت- وبكل الخبث- هذا المثل تحديدا نظرا لما أعرف ما سيثيره هذا المثل، اضافة الى اني اختصرته اختصارا شديدا، نظرا أني لو عرضته تفصيلا واوضحته كاملا لاضطررت ان استل فصلا او بابا كاملا من رسالتي للماجستير حول ترجمة روبين، ولاضطررت ايضا ان اعرض ملاحق عبارة عن استبيان آراء اساتذة التفاسير، اضافة الى مراسلاتي الخاصة ( بالعبرية، والانجليزية، والعربية) مع البروفيسور " روبين" صاحب الترجمة، وكم كان فيها من ألغام وألغام وشد وجذب مع هذا الرجل، الذي ازعم- اني انتصرت عليه فكريا في نهاية المطاف، فقد كانت آخر رسائله لي، تقول ( كم كنت حادا يا سيد البهنسي في حكمك على ترجمتي للقرآن).
ودعني ارد على ما طرحته بشكل مرتب،
أولا: الربط بين الترجمة والتفسير، فهذا الربط لم يقم به العبد الفقير الى الله ( البهنسي) بل هو ربط قام به علماء كبار حينما فرقوا وبشكل واضح بين الترجمة الحرفية لآي القرآن والترجمة التفسيرية(حول الفرق بين الترجمة الحرفية التفسيرية لمعاني القرآن الكريم، أنظر مثلا: محمد حسين الذهبي(د)، التفسير والمفسرون، ، ص 8-12). ثم ان هذا الربط قام به صاحب الترجمة العبرية " روبين" حينما أشار في مقدمة ترجمته انه استعان بتفاسير بعينها لتعينه على ترجمة القرآن الكريم ( انظر تعليقي السابق)، ويكمن اللغم في ذلك- يا أخي العزيز- ان روبين صدّر ترجمته برسالة ضمنية للقارئ الإسرائيلي بل والعربي في آن واحد، بان ترجمته موضوعية تعكس السمت العام والمفهوم للقرآن كما يفهمه المسلمون انفسهم عن القرآن، متخيرا من اجل ذلك تفاسير بعينها تبدو وكأنها تفاسير معتمدة، ورغم انها بالفعل تفاسير معتمدة- إلا ان بها الكثير من المزالق والمآخذ لاسيما فيما يتعلق باعتمادها على التفاسير والإسرائيليات( انظر مثلا:رجب البنا، تفسير القرآن الكريم بين القدامى والمحدثين، دار الفكر الإسلامي، القاهرة 2003، ص 59-88. ومحمد محمد عبد الهادي شداد، الإمام البيضاوي ومنهجه في التفسير، رسالة دكتوراة ( غير منشورة) ، جامعة الأزهر، كلية أصول الدين، 1983، ص 233- 271. وعبد الرحيم أحمد الطحان، مرجع سابق، ص 396. وليلى محمد مسعود عبد المنعم، التفسير بالمأثور عند ابن الجوزي ( 508-597هـ) في تفسيره زاد المسير في علم التفسير، رسالة دكتوارة (غير منشورة)، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 2009، ص 61) . من هنا ينكشف اللغم رويدا رويدا، اذ استخدم روبين هذه التفاسير اما في نص الترجمة او التعليق عليها في الحواشي والهوامش لتشويه القرآن ايما تشويه، وقام بالكثير من الانحرافات ووضع الكثير من الألغام ، لعل ابسطها وابرزها "عمل اسقاطات سياسية وفكرية"، ومثال بسيط ووحيد لها :
استغل "روبين" بعض التفاسير الخاصة ببعض الآيات القرآنية، ولا سيما المتعلقة منها ببني إسرائيل وبالقدس وبقضية "الجهاد"، وذلك لعمل إسقاطات سياسية أو فكرية تخدم أهدافه كمستشرق إسرائيلي، ففي تعليقه على الآية 1 من سورة الإسراء ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾، إذ يقول: إن هناك بعض الكتب التراثية الإسلامية القديمة التي تقلل من مكانة القدس، وورد بها أن المسجد الأقصى موجود بالسماء وليس بالقدس. وقد برز ذلك من خلال محاولته الوصول إلى فرضية أن القرآن يحتوي على دلائل تشير إلى عدم قدسية المسجد الأقصى لدى المسلمين وأحقية اليهود فيه، فهو يرى أن القرآن قلب لفظ (המקדש) إلى (مسجد)، وأن المفسرين المسلمين القدامى جدًا( الذين قال انه استعان بهم في مقدمة ترجمته) تحدثوا عن أن المسجد الأقصى هو (بيت المقدس)، أو القدس، وبالتالي فالأصل اليهودي للمدينة موجود في القرآن، كما إنه يؤكد أن القرآن يعترف بكل القصص المتعلقة بخراب الهيكل الأول والثاني.
ثانيا: اختيار التفاسير وتقييمها: ان تقييم الباحث للتفاسير اعتمد على منهج علمي موضوعي دقيق اشارت اليه من قبل، وساعيد الاشارة اليه وهو 1- التركيز على معرفة وتقييم مصادر كل تفسير والمنهج الذي اتبعه؛ إذ أن هذين العاملين مهمان للغاية في استيضاح جوانب الضعف والقوة في أي تفسير، أو في أي مؤلف علمي أو فكري عامة، 2- تحري الدقة الشديدة في معرفة موقف كل تفسير من "الإسرائيليات" و"الخرافات والأساطير"، وذلك نظرا لاعتماد "روبين" عليهما بشكل كبير في محاولاته التفسيرية حول الآيات القرآنية، كذلك موقفها من قضية "الناسخ والمنسوخ" في القرآن الكريم، إذ اعتمد روبين على ما جاء حولها في بعض التفاسير لعمل إسقاطات سياسية وفكرية تخدم أهدافه الاستشراقية الإسرائيلية. 3- معرفة ما شاب هذه التفاسير من عقائد "الشيعة" و"المتصوفة" سواء بسبب التشويه الذي شاب عقائد هاتين الطائفتين، أو بسبب وجود بعض التقارب العقدي والفكري بينهما وبين بعض الفرق اليهودية( أنظر: بطاقات الإخباريين البطاقة الخاصة بالدكتور عبد البديع أبو هاشم ( ملحق رقم 2 )، خاصة فيما يتعلق بتفسير صفات الإله والقول بإمكانية التوحد معه، والإعلاء من قدر بعض الشخصيات الدينية التراثية لدرجة تصل إلى حد التأليه. وقد اتبع الباحث هذا المنهج بشكل مركز ومختصر للغاية، نظرا لعدم احتمال البحث للإطالة والاستفاضة في "تقييم" هذه التفاسير، بشكل لا يخدم الهدف من البحث وتقديم رؤية موضوعية للإشكالية المطروحة من خلاله.
ثم قام الباحث بعمل " استبيان" على شكل " دليلي مقابلة" وهي وسيلة بحثية يتسخدمها لعماء الاجتماع لاىستقار آراء شريحة معينة ومعنية بشأن معين من المختصين والعلماء، فقابلت أكبر كبار علماء التفاسير في مصر في جامعات الأزهر وكلية دار علوم بالقاهرة، وتواصلت مع اساتذة سعوديين، وطرحت عليهم أسلئة وآراء حول هذه التفاسير وخرجت من خلال هذا الاستبيان الذي ارفقته كملحق ف ينهاية الرسالة بالرأي الذي توصلت اليه، وبالتالي فان رأي- يا استاذي المحترم- يقوم على اسس علمية موضوعية، وهو خلاصة آراء اباطرة علوم التفسير، ولم احكم على تفسير الجوزي او غيره من تلقاء نفسه، واذا كنت تخالفني في حكمي على تفسير او غيره، فلترجع لعلماء التفاسير الذين استعنت بهم وتخالفهم هم ولا تخالفني أنا، فان هدفي من البحث لم يكن نقد التفاسير بقدر ما كان معرفة لماذا اختارها روبين تحديدا؟
ثالثا: اهتمام المترجم باللغة: من هنا كان الفخ او اللغم يا استاذي، فقد استخدم روبين هذه التفاسير للظهور بمظهر العالم والمترجم الموضوعي ورغم انه عرف العربية منذ صغره واطلع على كثير من التفاسير، إلا انه اختار تفاسير في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، الم يثيرك انه لم يستخدم أي تفسير حديث مثل تفسير المنار لرشيد رضا، او حتى تفسير الشعرواي، او تفسير سيد قطب، او أي تفسير من التفاسير الحديثة التي صححت ما شاب التفاسير القديمة وقفزت على ما وقعت به من مزالق؟؟؟؟!!!!
دعوني انقل لكم عبارات " روبين" في احدى مراسلاته لي، فقد قال " عزيزي البهنسي، انا لم استخدم أي منهج علمي نقدي في ترجمتي او تعليقي على آيات القرآن، بل ترجمت القرآن كما يراه اهله من المسلمين، وارجو ان تكون عادلا في حكمك على ترجمتي، فمع الاسف هناك الكثير من الكتابات الظالمة حول ترجمتي" .
وانا اقول كيف ذلك يا استاذ روبين يا موضوعي يا عالم يا كبير وانت مختص في التفاسير وعلوم القرآن، كيف اصدقك؟ وقد علقت في ترجمتك على القرآن مستخدما بعض التفاسير لاثبات حق اليهود الديني في المسجد الاقصى، زاعما ان القرآن وتفاسيره بهما اثباات ان لليهود حق ديني وتاريخي في المسجد الاقصى( انظر المثال الذي ضربته سابقا).
الأمر الأخير الذي اود ان اقوله ان حكمي على اختيار روبين لهذه التفاسير كان انه " اختيارا مشكوكا فيه" وشرحت لماذا، ولم اصدر حكما عاطفيا منفعلا، بل استندت الى اسانيد وادلة علمية واتبعت منهجا علميا دقيقا استخدمت فيه المنهج الاستقرائي والتحليلي لسيرة روبين الذاتية العلمية والحياتية، وترجمت مقابلاته الاذاعية بالعبرية على اذاعة الجيش الإسرائيلي والاذاعة الإسرائيلية العامة (انظر مثلا: مقابلة إذاعية مع "أوري روبين" حول ترجمته لمعاني القرآن الكريم، بتاريخ 3/9/2004، نقلا عن:
Interviews) ، ثم استخدمت علوم التفاسير ومناهج نقد التفاسير لتقييم التفاسير التي اعتمد عليها، ثم علم الاجتماع في عمل استبيان ودليل مقابل وبطاقات اخباريين لاستبيان آراء علماء التفاسير، ثم علم الاحصاء حيث وضعت هذه الآراء في جداول احصائية نخرج منها بنتائج احصائية رقمية دقيقة ( والأرقام لا تكذب) فمعظم اساتذة التفاسير وافقوني في رأي. بل دعني اقول انهم كانوا فخورين ومتحمسين للعغمل الذي اقوم به، رغم ان بعضهم لم يكن متعاونا معي على الاطلاق.
وفي النهاية، اقول ان " روبين" كان يظن ان ": البهنسي" ذلك الباحث المصري الصغير المبتدئ، ما هو الا " باحثا غرا ساذجا ابلها" سيغره انه- أي روبين- اعتمد على تفاسير قديمة ومعتبره في ترجمته، لكني كنت حريصا على التدقيق في كل شيء، حتى اني كنت حريصا على معرفة كيف تعلم هذا المستشرق العربية وعلى يد من، وافردت فصلا كاملا اناقش فيه سؤال واحدا" هل روبين مؤهلا لترجمة القرآن الكريم؟؟
ان " مسألة الألغام المخفية" هي مسألة عانى منها الباحث ومازال في مسيرة نقده لفرضيات المستشرقين الإسرائيليين حول القرآن الكريم، فقد القيت مؤخرا بحثا في مؤتمر علمي دولي بالجزائر بعنوان" أزمة فهم القرآن الكريم في الكتابات الاستشراقية"، وكان هذا البحث استعراضا لهذه الالغام التي ما أكثرها. وكل ما فعلته في هذا البحث اني استخدمت نظريات علم مقارنة الأديان الغربية، وقمت بتبطيقها على الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية حول القرآن الكريم، فاذا بالالغام تتفجر لغما تلو الآخر، لكني بطبيعة الحال لن اعرض هذا البحث الآن، وسيكون في مشاركة لاحقة باذن الله. والآن افكر جيدا في عمل دورات تدريبية عن كيفية نقد الكتابات الاستشراقية للقرآن الكريم ( او بمعنى اصح كيفية كشف الالغام وتفجيرها.
ارجو ان اكون اوضحت بعض الشيء، وسامحوني ان كنت قصرت او اغفلت شيء، فالحقيقة المعلومات كثيرة وكثيرة جدا، والتحليلات والآراء اكثر واكثر، ومن الصعب ان اطرح فصلا او بابا كاملا من رسالة علمية على هذا الملتقى، ومن الصعب ان اتعرض لكل النقاط في تعليق واحد، لذلك اجدد دعوتي مرة اخرى برفع بحثي حول الاستشراق الإسرائيلي، ودعوتي لمحاولة تبني فكرة عمل مؤتمر دولي علمي حول الاستشراق الإسرائيلي، حتى يكون النقاش اوسع وافيد.