الدراسات القرآنية الحديثة... إلى أين تتجه ؟

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,331
مستوى التفاعل
138
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
مقال منقول للكاتب عبدالرحمن الحاج - سوريا

هل نحن مقبلون على ثورة علمية في الدراسات القرآنية؟ سيردُ هذا السؤال ربما للمتتبعين لما كتب من الأبحاث والدراسات القرآنية خلال العقود الأخيرة؛ إذ نقف على نتاج كبير لم يسبق أن ظهر مثله في مدة زمنية مماثلة من قبل، كما أننا لأول مرة أمام تعدد منهجي يخرج عن المناهج التقليدية المألوفة في التفسير ودراسات علوم القرآن، إضافة إلى ذلك نجد أنفسنا أيضاً أمام استخدام لمناهج أجنبية وافدة جديدة ومتنوعة لم تنبت في أرض المعرفة الإسلامية وثقافتها الخصبة، ثم إن هذا النتاج الجديد من الأبحاث والدراسات أسهم فيه غير المسلمين (المستشرقون) بشكل واضح، وذلك بغض النظر عن تقييم ما قدَّموه.
ويعود هذا الاهتمام المتزايد بدراسات القرآن الكريم لدى المسلمين أساساً إلى قضية "النهضة"، التي أصبحت الشاغل الأكبر للفكر الإسلامي خلال القرن ونصف القرن الماضيين، حيث بات مسلماً أن مشروع النهضة الإسلامي يمر من قناة الإصلاح الديني، وكون القرآن الكريم المصدر الأول لكل فكر إسلامي فإن العودة إليه هي حاجة معرفية وتاريخية لتجاوز ثقل الثقافة التاريخية وفهُومها التي تفصل بيننا وبين النص الكريم وتعوق "الفهم الصحيح" للدين، ومن ثمَّ تعوق نهضته. ثم إن دراسة القرآن وتفسيره هي "تقليد" سارت عليه كل حركات الإصلاح الديني والسياسي في تاريخ الحضارة الإسلامية، فكل تفكير بالنهضة لا بد له أن يتخذ موقفاً تجاه النص الكريم وفهماً يسوِّغ رؤيته للحاضر والمستقبل.
أضف إلى ما سبق أن الحاجات المتزايدة للمعرفة الدينية وطريقة عرضها ومقاربتها وفق التطورات المتسارعة لإيقاع العصر الحديث وأطروحاته الفكرية، كل ذلك اضطر المشتغلين في الإصلاح الديني للبحث عن مناهج جديدة قادرة على تقديم رؤية كلية للقرآن وموضوعاته وتاريخه، وقادرة أيضاً على مساعدة المسلمين في مواجهة إشكالاته المعرفية من خلال تقديم تصورات متماسكة منطقياً في فهم القرآن، وعلى مدِّهم بالاطمئنان الكافي لخوض هذا العالم الجديد بقوة ودون خوف، بله الدعوة إلى الإسلام والتبشير بهديه بين العالمين في زمن حضارة الحداثة الغربية الجديدة.
أما الدراسات الاستشراقية فقد كانت موظفة لأغراض إمبريالية؛ إذ نشأت أساساً (بصفتها فرعاً علمياً مستقلاً) لخدمة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي؛ وعندما انتهت الحقبة الكولنيالية (الأولى) لم تعد عموماً كذلك، وبعد أن أصبحت فرعاً علمياً مستقلاً أفرزت كثيراً من الدراسات الجادة (وخصوصاً في مجال الدراسات القرآنية) ذات الأهمية الخاصة لنا، ولكن الأهم في موضوع الدراسات القرآنية الاستشراقية أنها جلبت إلى العالم الإسلامي مناهج جديدة في دراسة القرآن الكريم، وقدمت خدمات جليلة للباحثين المختصين في مجال الفهرسة والتوثيق، ولكنها في المقابل أيضاً جلبت معها كثيراً من الإشكالات والتفسيرات الغريبة، بل و"المطاعن" الجديدة في القرآن، وقد كان لذلك كله أثراً مهمَّاً في تحفيز الدراسات القرآنية الحديثة.
ولكن الدراسات الغربية المعنية بالإسلام الآن تتحول شيئاً فشيئاً نحو الدراسة الأنثربولوجية، فيما يبدو توجه لتصنيف الحضارة الإسلامية ضمن مفهوم "الثقافة" الخاصة بالمجتمعات غير الغربية، ودراسات القرآن الجديدة الآن إذا لم تكن تدرس في إطار الفيلولوجيا التاريخية (مثل دراسة كريستوف لوكسمبورغ Christoph Luxenberg عام 2000) فإنها تصب في توجه الدراسات الأنثربولوجية.
وفي سياق الصراع الأيديولوجي مع الماركسية والاتجاهات العلمانية الحداثية في العالم الإسلامي لجأ بعض المفكرين الماركسيين والحداثيين بدءاً من السبعينيات ـ وتحت ضغط الإحساس بفشل هذه الأيديولوجيات في النفوذ والانتشار في العالم العربي والإسـلامي ـ إلى محاولة خلخلة ثقة جمهور المسلمين بالقرآن الكريم، وإعادة تفسير القرآن بما يفضي إلى نتائج تلائم الأيدلوجيا التي يؤمنون بها، وفي كلا الأمرين تم الاستعانة بمناهج جديدة، ضمَّت إلى جانب المناهج الاستشراقية مناهج من العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة، ولكن هذه الدراسات والبحوث ـ التي لم تكن نزيهة على الإطلاق ـ لم تستطع أن تحقق هدفها بعد، إلا أنها استنفرت الباحثين المسلمين لمواجهتها والدفاع عن القرآن، مما حدا بهم إلى دراسة المناهج الغربية والاتصال بالعلوم الاجتماعية الغربية الحديثة، فسعى هؤلاء الباحثون للكشف عن المشكلات العلمية والمنهجية الكامنة في هذه الدراسات، وتبيَّن لكثير منهم ـ فيما بعد ـ أن التلويح بالمناهج الحديثة الذي تضمنته كان في معظمه نوع من الإرهاب الفكري لا أكثر.
والملاحظ أن الأبحاث والدراسات القرآنية المختلفة بتأثير هذه الظروف تركزت في محورين رئيسين، الأول: توثيق القرآن ونقله (تاريخية القرآن)، والثاني: الدلالة الكلية للقرآن.
في توثيق القرآن فإن من أوئل الدراسات الفيلولوجية النصية المقارنة للقرآن كانت عام 1856م للمؤلف ثيودور نولدكه (T. Noldeke)، بعنوان "أصل وتركيب سور القرآن" والذي نشره بعدما أعاد النظر فيه وطوره عام 1880م بعنوان "تاريخ القرآن" (ترجم إلى العربية 2004م)، وفي العالم العربي تصب جهود مثل جهود محمد أركون عموماً في قصد ما يسميه "أرخنة القرآن" وإعادته "بشكل علمي إلى قاعدته البيئوية والعرقية ـ اللغوية والاجتماعية والسياسية الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي"، (بدءاً من بحثه "نسبة القرآن إلى الله" 1969م، مروراً بكتابه "قراءات في القرآن" 1982م، وأخيراً كتابه "القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني" 2001م، ويندرج في هذا السياق دراسة نصر حامد أبو زيد في كتابه "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" 1990م، ودراسة عبد المجيد الشرفي في كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" 2001م، وطالعنا هذا العام الكاتب والطبيب الليبي كامل النجار بكتاب يتجه إلى المنحى نفسه، ولكن بعدة غاية في البساطة، بعنوان "قراءة منهجية للإسلام" 2005م. وباستثناء محمد أركون ونصر حامد أبو زيد فإن الكتابات العربية هي كتابات أيديولوجية أو كتابات لا تتسلح بعدة معرفية حقيقية تستحق الاهتمام. لكن الملتفت للانتباه أنه ليس هناك اهتمام جاد بقضية أرخنة من قبل المؤسسات الأكاديمية وبحوثها، ربما بسبب خطورة البحث في هذا الموضوع، إلا أن المسألة لا تحتمل التأخير وعلينا بذل الجهد لذلك، وأذكر أن صديقاً لي أراد أن يسجل أطروحة دكتوراه في إحدى الجامعات المصرية بعنوان "النسبي والتاريخي في القرآن الكريم" فاتهم بأنه من "أذيال الاستشراق وأعداء الإسلام من أمثال أبو زيد وإخوانه المرتدين"! على الرغم من أن الرجل كان يريد أن يبحث في المسألة في سياق الدفاع عن القرآن الكريم.
وفي صلب الدلالة الكلية جاء الاهتمام بدلالة المفردات القرآنية باعتبارها مدخلاً في غاية الأهمية لهذا التحليل الكلي، فقد اعتمدت معظم الدراسات على المفردة كأداة لتحليل الخطاب القرآني، تارةً تحت تأثير المنهجيات الحديثة في اللسانيات، مثل دراسة توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu "الله والإنسان: دلاليات تصور العالم القرآني" (باللغة الإنكليزية 1963م)، وعائشة بنت الشاطئ في "التفسير البياني للقرآن الكريم" مطلع الستينيات، وشكري عياد في دراسته "يوم الدين والحساب: دراسات قرآنية" 1984م، ومحمد أركون أيضاً في كتابه "القرآن" 2001م، ودراسة تلميذته جاكلين الشابِّي J. Chabbi (بالفرنسية) بعنوان "رب القبائل: إسلام محمد" 1997م.
وثمة دراسات أخرى عمدت بسبب أهميتها المفهومية، مثل دراسة أبو الأعلى المودودي "المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله، الرب، العبادة، الدين" 1941م، ومحمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه/مشروعه "العالمية الإسلامية الثانية: جدل الغيب والإنسان والطبيعة" 1979م، ومحمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة" 1990م وفي مؤلفاته الأخرى التي كان آخرها "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي: فقه المرأة" 2001م، إذ إن مفاهيم القرآن الجديدة حملتها مصطلحات خاصة هي في المحصلة مفردات قرآنية، وقد أبانت معظم تلك البحوث والدراسات عن خطورة الدور الذي تحتله المفردة في دراسة القرآن وتحليل خطابه.
لقد بدأت المفردة القرآنية تصبح محط اهتمام متزايد وتستحوذ على عناية مختلف المناهج الحديثة في دراسة القرآن الكريم منذ بدأ الالتفات إليها في الأربعينيات من القرن المنصرم، لقدرتها على تحليل كليَّاني للخطاب القرآني؛ وقد حدا هذا الأمر بمعظم الباحثين لاستثمارها واتخاذها أساساً لدراسة الخطاب القرآني تحت تأثير بواعثهم المختلفة، وقد أثبتت المناهج الحديثة ـ في معظمها ـ نجاعتها في الكشف عن وجوه للخطاب ربما ليس بمقدور غيرها الكشف عنها، وأبان بعضها عن قدرة فائقة في تحليل الخطاب القرآني عبر مفرداته، خصوصاً تلك المناهج التي استفادت من المعرفة الغربية الحديثة وجمعت معها المعرفة التراثية مع وعيها لخصائص نص منتسب إلى الإله المتعال المفارق للوضع الإنساني.
وبالرغم من ذلك فإن الدراسات النظرية والتقعيدية لدلالة المفردة القرآنية قليلة إلى حدٍ لا يناسب تكاثر الاهتمام فيها، فمعظم الدراسات لم تناقش بشكل جيد المشكلات الثاوية في المعجم العربي وصلتها بتأويل القرآن الكريم وتفسيره، إن لم نقل إنها كانت تبسيطية إلى أقصى الحدود، كما أنها تفتقر عموماً لرؤى نظرية واضحة فيما يتصل بالتحولات الدلالية الطارئة على المفردة القرآنية في السياق النصي.
وفيما يتصل بتحليل الخطاب القرآني فإن العلاقة الواهية بالتراث تارةً والثملة منه تسليماً ونهلاً تارة أخرى قللت من إمكانية الاستفادة منه لتطوير مناهج جديدة خاصة بالقرآن الكريم، ولو خلال رؤية نقدية للتراث نفسه، كذلك الأمر بالنسبة للمعرفة الغربية الحديثة، فالمؤمنون بجدواها إما رافضون كلياً للتراث الإسلامي، أو يقيمون معه علاقة باهتة للغاية كأنها نوع من "فض العتب"، وغير المؤمنين بجدواها إما رافضون لها كلياً، أو متعلقون بأهدابها التي لا تُسمن من جوع.
أضف إلى ذلك أن ثمة مسافة تفصل بين الادعاءات النظرية التي ذكرها أصحاب الدراسات (على قلتها) والتطبيق المقام عليها عموماً، وهي مسألة ترجع بنظرنا إلى عدم الاهتمام الجاد بالمسألة النظرية لدراسة المفردة القرآنية، بقدر الاهتمام بالنتائج التطبيقية التي ستتوصل إليها الدراسة، وهذا بحد ذاته لا يفسره إلا الباعث الأيديولوجي الذي يختفي وراء أكثر الدراسات الحديثة على اختلاف أصحابها وتنوعهم أيديولوجياً.
الدراسات القرآنية الحديثة ستبقى مشغولة إلى أمد غير قليل: بمسألة تاريخية القرآن والتحليل الكلي له، وكلا الموضوعين في الواقع هما تعبير عن مركز تحديات الإسلام في معركته مع الحداثة، فالعلمانية (بمنظورها الفلسفي) تقتضي أنسنة كل شيء ووضعنته، والتعامل مع العصر يحتاج إلى مفاهيم وتأويلات جديدة سيكون التفسير الكلي بابها، والمفردة القرآنية أداتها.

منقول
 
بسم الله الرحمن الرحيم
د عبد الرحمن الشهري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا على هذا الطرح

ولكنى أضيف إليه وجود إتجاه آخر
متمثل فى إسلامية المعرفة ، والإعجاز العددى ، والإعجاز العلمى

ما زال هذا الإتجاه فى بدايته ، ولم يتبلور منهج واضح له بعد ( وعدم وجود منهج له خاصة فى دراسته للقرآن الكريم بأساليب حسابية وإحصائية -كما فى الإعجاز العددى- أو مقارنات بالظواهر الكونية - كما فى الإعجاز العلمي - أو محاولة وضع تصور للمعرفة وعلوم تنطلق من القرآن والسنة - كما فى إسلامية المعرفة-

يمثل بذلك نهضة إسلامية علمية غير مسبوقة
فقط ينقصه تأصيل منهج متكامل هو المنهج الإسلامي العلمي
الذى يضيف لذلك أصول الفقه والنحو والبلاغة ومناهج التفسير وغيره

ليضع منهج دراسة متكامل للقرآن والسنة ( مستقل تماما عن الفكر الغربي )
هذا رأي ،
وهذا إقتراحي

والله أعلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
بارك الله فيكم أخي يسري ، ولعل أخي الأستاذ عبدالرحمن الحاج يضيف لنا الجديد حول مقاله هذا وما ذهب إليه فيه فهو منشور منذ خمس سنوات تقريباً.
 
عودة
أعلى