د. محمد بن جميل المطري
New member
ابن تيمية
هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية النُّمَيري الحرَّاني، وُلِد في حرّان جنوب شرق تركيا بالقرب من الحدود السورية، وحرَّان تقع بين نهري دِجْلة والفرات، وغالبية سكانها عرب، هاجرت عائلة ابن تيمية إلى دمشق بسبب ظلم التتار وعمره ست سنوات، فطلب ابن تيمية العلم في دمشق عند أبيه وغيره من مشايخ دمشق، وتعلم الخط والحساب، وحفظ القرآن الكريم، ثم حفظ كتاب الجمع بين الصحيحين للحُميدي، وبدأ سماع الحديث من صِغَره، فسمع مسند الإمام أحمد بن حنبل عدة مرات، وسمع الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، واهتم بعلم الحديث رواية ودراية، ودرس الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ثم اطَّلَع على المذاهب الأخرى، وقرأ العربية، واعتنى بقراءة كتاب سيبويه، وأتقن علم أصول الفقه، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ في مختلف العلوم الشرعية، وصار من العلماء في حياة مشايخه، وأفتى وعمره 17 عامًا، وبدأ في هذه السِّنِّ بالتأليف، وتصدَّر للتدريس بعد موت والده وعمره إحدى وعشرون سنة، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًا، وأكثر من الاطلاع على الكتب في مختلف العلوم، ولم يكن يقرأ شيئًا أو يسمعه إلا ويبقى على خاطره إما بلفظه أو معناه، وانبهر الناس من فُرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه، وعُرِض عليه منصب قضاء القضاة ومشيخة الشيوخ قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره فلم يقبل شيئاً من ذلك، وحج حجَّةً واحدة، وكان ذا عفاف واقتصاد في الملبس والمأكل، تقيًا ورِعًا عفيفًا عابدًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، وكسر عددًا من الأحجار التي كانت تُعبد من دون الله، وقطع أشجارًا كثيرة كان يُصرف لها شيء من العبادة، وكتب رسائل مناصحة إلى بعض ملوك العرب والأمراء وغيرهم، وكتب رسالة إلى ملك جزيرة قبرص النصراني لإطلاق سراح أسرى المسلمين، وبيَّن له في الرسالة بطلان دين النصرانية واليهودية وفضل الإسلام، ودعاه إلى الإسلام، وألَّف ابن تيمية كتبًا في الرد على اليهود والنصارى والفلاسفة وأهل البدع، وجمع الله لابن تيمية فضيلة العلم ونشره وفضيلة الجهاد في سبيل الله، فحين انتصر ملك التتار غازان على جيش السلطان محمد بن قلاوون ذهب ابن تيمية إلى ملك التتار فوعظه، وعاتبه على سفك دماء المسلمين، ودعاه إلى إطلاق سراح أسرى المسلمين والنصارى الذميين، فاستجاب له، وبعد ذلك سافر ابن تيمية إلى مصر ليحض السلطان والأمراء على جهاد التتار في سبيل الله، وتوحيد الصفوف، وترك الخلاف، وشجعهم على الخروج إلى الشام لقتال التتار، وخرج معهم لقتال التتار، وكان في الصفوف الأولى في معركة شقْحَب سنة 702 هـ التي انتصر فيها المسلمون على التتار، وطردوهم من الشام.
وحرص ابن تيمية على التأليف لنفع المسلمين، فألف مئات المجلدات، وكان يكتب بعض مؤلفاته من حفظه، وكتب بعض مؤلفاته وهو في السجن، وانشغل عن الزواج بالعلم والتعليم والتأليف والدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلم يتزوج قط.
قال العلامة القاضي ابن دقيق العيد الشافعي لما اجتمع بابن تيمية في مصر وابن تيمية في نحو الثلاثين من عمره: رأيت رجلًا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد!
وقال شيخ الشافعية القاضي كمال الدين بن الزَّمْلَكاني بعد أن اطلع على كتاب ابن تيمية رفع الملام عن الأئمة الأعلام فأُعجِب بما فيه من العلم والإنصاف فكتب على النسخة: أحمد ابن تيمية الإمام العالم العلامة الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، قامع المبتدعين، محيي السنة.
وقال الحافظ المِزِّي: ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما من ابن تيمية.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي: لم يبرح شيخنا أحمد ابن تيمية رحمه الله في ازدياد من العلوم، وبث العلم ونشره، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والإنابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والعفة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه.
وقال تلميذه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي: أحمد ابن تيمية الشيخ الإمام العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط، نظر في الرجال والعِلَل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والذِّكر والصيانة، ثم أقبل على الفقه، ودقائقه، وقواعده، وحججه، والإجماع والاختلاف، حتى كان يُقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثم يستدل ويرجِّح ويجتهد، وحُقَّ له ذلك، فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه، كأنَّ الكتاب والسنن نصْبُ عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وإفحام للمخالف، مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرِطة التي يُضرَب بها المثل، والفراغ عن ملاذ النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطَّيِّب، والراحة الدنيوية، كان قوَّالًا بالحق، نهَّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار، وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظِّمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا، له الذكاء المفرط، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، أثنى عليه الموافق والمخالف، وسارت بتصانيفه الركبان، لعلها ثلاث مئة مجلد، ولا ندَّعي له العصمة، وهو لا ينفرد بمسائل بالتشهي، فله أجرٌ على خطئه، وأجران على إصابته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: شهرة إمامة الشيخ تقي الدين ابن تيمية أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكية، ويستمر غدًا كما كان بالأمس، ولا يُنكِر ذلك إلا من جهِل مقداره، أو تجنب الإنصاف، وكلُّ العلماء معترفٌ بسعة علمه، وكثرة ورعه وزهده، وقيامه في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله في السر والعلانية، فإنه فاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار، وقوة الجنان، والتوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.
وقال الحافظ السيوطي: ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد، الفقيه المجتهد، المفسر، شيخ الإسلام، علَمُ الزهاد، نادرة العصر، كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين.
وقال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير اليماني: ابن تيمية شيخ الإسلام، العلامة الحافظ، شيخ الحديث.
وقال العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: ابن تيمية شيخ الإسلام، الإمام العلامة، كان متبحرًا في العلوم، واسع الاطلاع على أقوال السلف والخلف.
وقال العلامة الشوكاني: ابن تيمية شيخ الإسلام، إمام الأئمة، المجتهد المطلق.
وقال المُلَّا علي القاري الحنفي في كتابه مرقاة المفاتيح ردًّا على من يدَّعي أن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أهل التجسيم والتشبيه: صانهما الله عن هذه السِّمة الشنيعة، والنِّسبة الفظيعة، كانا من أهل السنة والجماعة، ومن أولياء هذه الأمة، وشيخ الإسلام ابن تيمية بريء مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل، على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك.
ولا يقدح في ابن تيمية ويُنكر علمه وفضله إلا جاهل أو مبتدع، والطاعن فيه كناطح الجبل، فابن تيمية من كبار مجتهدي الأمة، ومن أشهر العلماء الراسخين الموسوعيين المحققين، والناظر في كتبه يجد أنه يتميز بالدقة والتفصيل في نقل مذاهب الفقهاء، ويرجح ما يدل عليه الدليل أو التعليل بلا تعصب لمذهب، وقد يُرجِّح ما يخالف المذاهب الأربعة المشهورة، ويذكر من سبقه إلى قوله الذي رجحه، وهو واسع الصدر في مسائل الاجتهاد، ويرى عُذر المخالف بالجهل والتأويل السائغ.
والإمام ابن تيمية له أثر عظيم فيمن جاء بعده، فلا يزال العلماء وطلاب العلم يستفيدون من كتبه، وينقلون كلامه، ففوائده غزيرة، وتحقيقاته رصينة، وترجيحاته موفقة، وكتبه نافعة.
قال الحافظ ابن رجب: تصانيف ابن تيمية رحمه الله سارت سير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار.
وكلُّ عالمٍ يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، فابن تيمية كغيره يصيب ويخطئ، ومن المسائل التي أخطأ فيها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله القول بعدم وقوع طلاق الحائض، وقد بين خطأهما ووهمهما في هذه المسألة محدث العصر الألباني في كتابه إرواء الغليل (7/ 124 - 138)، في بحث ماتع نافع، والذي عليه جمهور أهل العلم أن طلاق الحائض يقع مع الإثم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما لما طلَّق امرأته في الحيض طلقة واحدة أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالمراجعة، وثبت في صحيح البخاري أن الطلقة حُسِبت عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المستفتين في الطلاق هل طلَّقوا في الحيض أم لا؟ ولو كان طلاقهم في الحيض لا يقع لاستفصلهم، وهذا هو الأظهر، والله أعلم.
ومن أشهر مصنفات ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، العقيدة الواسطية، التدمرية، الحموية، الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، حقوق آل البيت، الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح (6) مجلدات، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية (9) مجلدات، درء تعارض العقل والنقل (10) مجلدات، بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بِدَعِهم الكلامية (10) مجلدات، وطُبِع جامع المسائل لابن تيمية بإشراف الشيخ بكر أبو زيد في (6) مجلدات، وجُمِعت أقواله في التفسير في (7) مجلدات، وجُمِعت فتاواه في (35) مجلدًا.
وقد امتُحِن ابن تيمية بسبب المتعصبين والحاسدين، ونُفِي وسُجِن سبع مرات، إحداها لامتناعه من ترك الفتوى في الحلف بالطلاق، وآخرها حين أفتى بأنه لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فافترى عليه أعداؤه بأنه يمنع من زيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مع تصريحه باستحباب زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام من غير شد الرحل إلى القبر، وبقي مسجونًا أكثر من سنة صابرًا محتسبًا، مكثرًا من تلاوة القرآن الكريم إلى أن توفي رحمه الله في سجن قلعة دمشق سنة 728 هـ وعمره 66 عامًا.