د.أيوب جرجيس العطية
New member
- إنضم
- 05/12/2010
- المشاركات
- 17
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
ا
د.أيوب جرجيس العطية
مقدمة
إنّ القرآنَ قد حفِظه اللهُ من التحريف كما قال تعالى:] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظونَ[1][؛ لذا فالتحريفَ المتأتي من التلاعبِ بالألفاظِ زيادةً أو نقصاً باتَ مكشوفا للناس ولاسيّما بعد تقدّم العلم ،وتنوّع التقنيات،غيرَ أنّ الإشكالية في التحريف الأخطر هو الفَهْم والتأويل الفاسد للنص .
لذا لزمَ من أهل العلمِ في هذه الأمّة حراسةَ النصِّ القرآني، والتحذير من تحريفه؛ذلك لأنّ كلَّ فرقة أو طائفة أو ذي هوى يحاولُ إثبات مشروعيته اعتمادا على نصوص القرآن ، ويجهدُ نفسه لجمع النصوص، والتكلف في بيان الاستدلال لتسويغ تصوراته،وقد يصلُ إلى تحريف النصوص،أو ليّ أعناقها لإثبات ما يريد[2].
ومن مظاهر سوء الفهم للنص وضعه في غير موضعه الصحيح، وهذا يُعد من المزالق الخطيرة التي ينبغي التيقظ والالتفات إليها والتنبه عليها، فكثيراً ما يكون النص صحيحاً، ولكن العيب في الاحتجاج بهذا النص على أمر معين، وهو لا يدل عليه لأنه سيق مساقاً آخر، وقد يأتي ذلك كله من الخلل في الفكر وسوء الفهم للنص، وذلك نتيجة العجلة التي نراها ونلمسها عند السطحيين من الناس، الذين يتخرصون على النصوص بغير بينه ويتطاولون بغير سلطان آتاهم ويقولون على الله ما لا يعلمون وقد يكون ذلك من الخلل في الضمير وفساد النية، حيث يَعمد بعضُ الناس إلى ليِّ أعناق النصوص لتوافق هواه مثل الخوارج الذين احتجوا على رفض التحكيم بقوله تعالى: ] إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [[3] فَردَّ عليهم علي - - بقوله:" كلمة حق يراد بها باطل"[4].
وإن ما أشد ما تتعرض له النصوص خطراً : سوء التأويل لها، بمعنى أن تُفسر تفسيراً يُخرجها عما أراد الله تعالى ورسوله بها إلى معنى أخر يريدها المؤولون بها، وقد تكون هذه المعاني صحيحة في نفسها ولكن هذه النصوص لا تدل عليها، وقد تكون المعاني فاسدة في ذاتها وأيضاً لا تدل النصوص عليها فيكون الفساد في الدليل والمدلول معاً[5] .
وإذا كان المعنى الاصطلاحي للتأويل هو: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح يحتمله لدليل يُصيِّره راجحاً[6]، فلا بد أن يكون الصرف إلى معنى يحتمله اللفظ، ولو كان احتمالاً مرجوحاً وإلا لم يكن تأويلاً، وإنما هو جهل وضلال أو عبث وباطل.
وإذا كان القرآنُ يمثلُ منهجا لحياة الأمة، وشريعةً ينظمُ أمورَها فإنّه أوجب الله على المسلمين تدبر القرآن الكريم،وإمعان النظر فيه لتحقيق مصالح العباد الدنيوية والأخروية.
في ضوء ذلك يمكنُ القول: إنّ لكلِّ من أوتي العلمَ والفهم والإدراك أنْ يصوّبَ ما استطاع تصويبه في ردِّ النصّ إلى دلالته المرادة،أو نفي التحريف عنه وانطلاقا من قوله(صلى الله عليه وعلى آله سلم ): [ يرث هذا العلم من كل خلف عدولُهُ ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين ][7].
وهذا لايعني أنْ يُفتحَ الباب لكلِّ مؤهّلٍ للنظر وغير مؤهّلٍ،إنّما يتقدمُ المتأهّلون لعملية التصويب،ونفي الانحراف، والتأويل المعوج.ولابُدّ من مراعاة ضوابط الفهم والتأويل ومنها[8]:
أولا:الوسطية بمعنى: الجمع بين الظاهر والمعنى في اعتدال هي موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها وهي اتجاه بين اتجاهين: بين ظاهرية مفرطة، وباطنية مفرطة يتلخص كلام الشاطبي فيه فيما يلي:
1- الاتجاه الظاهري الذي لا يهتم بالمعاني وإنما يقتصر على ظواهر النصوص وهم يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.
2- يرى أن مقصد الشارع ليس في الظواهر ويطرد هذا في جميع الشريعة لا يبقى في ظاهر متمسك وهؤلاء هم الباطنية وألحق بهؤلاء من يغرق في طلب المعنى بحيث لو خالفت النصوص المعنى النظري كانت مطرحة.
والذي ارتضاه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه بقوله:
3- أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً( أي الظاهر والمعنى)، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع[9].
ويقع تحت هذا الضابط تفسير القرآن بالقرآن: وذلك أن القرآن الكريم يُصدِّق بعضه بعضاً، ويُفسر بعضه بعضاً: ] وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [[10] .فما أُجمل في موضع فُضِّل في موضوع آخر، وما أبهم في مكان بُين في آخر، وما أُطلق في سورة أو آية قُيِّد في أخرى، وما جاء عاماً في سياق خُصص في سياق آخر، ولا بد من ضم الآيات والنصوص بعضها إلى بعض، حتى يتكامل الفهم، ويستبين المقصود من النص.
وتفسير القرآن بصحيح السُنَّة؛ولهذا قال - -: [ أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ][11]. يعني: السنة. والسنة تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تُتلى كما يُتلى القرآن (ولهذا تُسمى الوحي غير المتلو). والانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين لأنهم تلاميذ المدرسة المحمدية، فيها تخرجوا ،ومنها اقتبسوا، وعنها تلقوا، وعلى مائدتها تغذت عقولهم وقلوبهم، فإذا صح عن الصحابة - رضى الله عنهم - تفسير مُعين أصغينا له أسماعنا، لما امتازوا به من مشاهدة أسباب التنزيل وقرائن الأحوال، فرأوا وسمعوا ما لم ير غيرهم ولم يسمع، مع عراقة في اللغة بالسليقة والنشأة، وصفاء في الفهم ،وسلامة في الفطرة، وقوة في اليقين، ولاسيما إذا أجمعوا على هذا التفسير، فإن إجماعهم قد يدل على أن لهذا الأمر أصلاً من السنة ،وإن لم يُصرحوا به، ويكفي في الإجماع هنا: أن ينتشر الرأي بينهم، ويشتهر عن جماعة منهم، ولا يعرف له منهم مخالف.
فإذا اختلفوا، فقد أتاحوا لنا أن نتخير من بين آرائهم ما نراه أقرب إلى السداد، أو نُضيف إلى أفهامهم فهماً جديداً، لأن اختلافهم قد أعطانا دليلاً على أنهم فسروا برأيهم واجتهادهم، وهو رأي بشر غير معصوم على كل حال.
ثانيا:اتفاق المعنى مع الظاهر أن يشهد له نصّ آخر أو يندرج في ضمن مقاصد الشريعة:
فلا يقبل معنى من المعاني إلا بشرطين هما:
أحدهما:أنْ يصحّ على مقتضى لسان العرب، وكل فهم لا يوافق كلام العرب فهو مردود.
والآخر: أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا، في محلّ آخر يشهد لصحته غير معارض.فإن لم يكن له من نص ظاهر ، أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن بغير دليل وهذا مردود أيضا[12].
وقد أفضى الإخلال بهذا الضابط إلى إهدار النصوص بزعم أنها لا تفي بحاجات الناس ومصالحهم،كما فعل الباطنية والصوفية؛لذا وضع العلماء ضوابط لاعتبار المصلحة المقصودة شرعا،منها: لا عبرة بالمعاني المأخوذة من الكشف والإلهام ، ولاعبرة بالاعتبارات الغيبية، ولاعبرة بالتفاسير الباطنية.
ثالثا: فهم النصّ وفق مقتضى لسان العرب:
إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين فيجب أن يفسر اللفظ بحسب ما تدل عليه اللغة العربية واستعمالاتها، وما يوافق قواعدها، ويناسب بلاغة القرآن المعجز.
هذا مع أن في الألفاظ ما جاء على سبيل المجاز ،ومنها ما هو مشترك، يدل على أكثر من معنى... ، واختيار أحد المعنيين أو المعاني يحتاج إلى دقة وتأمل بالنسبة لكلام الله العزيز.
ومما يعين قارئ القرآن أو مفسره على حسن الفهم: أن يتتبع الكلمة القرآنية في مواردها المختلفة في القرآن، فذلك أحرى أن يتبين له حقيقة معناها، ولا يشرد عن الصواب في معرفة مدلولها.
وذلك يتم بأمور مهمة منها:
1- معرفة قواعد البيان العربي، لئلا يقع في زلة في الفهم، فيستنبط معاني بعيدة عن مقاصد الشرع.
2- معرفة عادات العرب أيام نزول الوحي لأنّ القرآن نزل مراعيا عرفهم في الخطاب، ولايتم إلا بمعرفة القرائن ومنها أسباب النزول.
3- اختيار المعاني القريبة على أفهام العرب، ليتحقق مقصد الخطاب ؛ وعليه تجنب المعاني الغريبة أو المتكلفة التي لا يشهد لها كلام العرب من ذلك تفسير قوله تعالى: ] فاخلع نعليك[[13] أن باطن النعلين هو الكونان الدنيا والآخرة[14] ، أو: النعل يدل على الولد[15].فهذا التفسير لاتعرفه العرب في استعمالاتها الحقيقية أو المجازية[16].
4- رابعا: التفريق بين المعاني الشرعية المقصودة والمعاني اللغوية غير المقصودة:
معرفة المسميات الشرعية ومراعاتها، وعدم الخلط بينها وبين المسميات اللغوية أمر ضروري في إدراك الدلالة الشرعية ،أو إصدار الحكم الشرعي دون اللجوء إلى وسائل إضافية من خارج النص من أجل إدراك المعنى أو الحكم الشرعي كاستعمال القياس في مقابلة النص؛ ولهذا وقعت طائفة من الفقهاء في إدراك هذا الضابط، فمن تلك الأخطاء:
تقصير طائفة في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور ثم راموا قياسه في القطع على السارق فقال لهم منازعوهم الحدود والأسماء لا تثبت قياسا فأطالوا وأعرضوا في الرد عليهم ولو أعطوا لفظ السارق حده لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه بين سارق الأثمان وسارق الأكفان وأن إثبات الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس[17].
خامسا: التفريق بين المعاني الحقيقية والمعاني المجازية:
فالمعنى الحقيقي:هو اللفظ المستعمل فيما وضع له،وأما المجاز هو اللفظ المستعمل فيما غير وضع له[18].وقد يكون للفظ معنيان : حقيقي ومجازي، فلا يصار إلى المعنى المجازي إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة،قال الزركشي: (( وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وهو في احدهما اظهر فيسمى الراجح ظاهرا والمرجوح مؤولا.)) [19]، ثم ضرب أمثلة على ذلك:
- قوله تعالى: ] وهو معكم أينما كنتم[[20] فانه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات فتعين صرفه عن ذلك وحمله إما على الحفظ والرعاية آو على القدرة والعلم والرؤية كما قال تعالى ونحن اقرب إليه من حبل الوريد.
- وكقوله تعالى: ] واخفض لهما جناح الذل من الرحمة[[21] فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن يكون آدمي له أجنحة فيحمل على الخضوع وحسن الخلق.
والحمل على الحقيقة قد يثير إشكالا لايزيله إلا الحمل على المجاز كما في حديث: [الجنة تحت أقدام الأمهات ][22]. ومثله حديث:[ فقال: ألزمها فإن الجنة عند رجلها][23] فلا يمكن حمله على حقيقته من أن ّالجنة تحت أقدام الأمهات؛ لأنّه بعيد ولا يصحّ شرعا ولا عقلا، إنما المعنى أنّ برّ الأمّ من أوسع الأبواب إلى الجنة، وقد ورد الحديث تعليما لمن أراد الجهاد تاركا أمّه، وهي في حاجة إليه.
- ومثله حديث:[ واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف][24]، وليس المعنى أنّ الجنة تحت ظلال السيوف، إنما المعنى أن الضرب بالسيوف في سبيل الله تعالى هو السبب الموصل إلى الجنة.
سادسا: النظر قي سياق الخطاب لتحديد المقصود:
قد يحتملُ اللفظ أكثر من معنى، فالمعنى الأول يسمى عند الأصوليين بالنصّ،وهو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا، أو: ما يفيد بنفسه من غير احتمال،أيْ لا يتطرق إليه تأويل مثاله: قوله تعالى: ] تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [[25].وحكمه: أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ. وأما الظاهر فهو ما احتمل معنيين فأكثر، هو في أحدهما أو أحدها أرجح، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره، أيْ يقبل التأويل ولا يظهر المقصود مها إلا بعد النظر والتدبر[26].وعليه فلابدّ من النظر بما يحفّ الخطاب من قرائنَ لإزالة الاحتمالات البعيدة عم مراد المتكلم ،أو مراد الشارع من ذلك:
- لفظ الأمر من الظاهر يحتمل الوجوب أو الندب أو الإباحة ،والأصل للوجوب إلا إذا صرف إلى غيره من المعاني؛ لذا وجب البحث عن المراد الحقيقي من هذه المعاني في ظاهر الصيغة ،وما لابسها من قرائن، فإذا تعذر حمل عل الظاهر وهو الوجوب.
وهذا ما أشار إليه الشاطبي بقوله:(( إنّ المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل وهذا معلوم فى علم المعاني والبيان فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة فى شيء واحد فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع فى فهم المكلف فإن فرق النظر فى أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه لا بحسب مقصود )) [27].
بمعنى أنّ مراعاة سياق الآية في موقعها من السورة، وسياق الجملة في موقعها من الآية، وربط الآية بالسياق الذي وردت فيه، ولا تُقطع عما قبلها وما بعدها أمر ضروري في حسن فهم القرآن، وصحة تفسيره. قال الزركشي في ذكر الأمور التي تُعين على فهم المعنى عند الإشكال:
(( فدلالة السياق تُرشد إلى تَبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم الدلالة مراد المتكلم، فمن أهمله غَلط في نظره، وغالط في مناظراته، وانظر إلى قول تعالى: ]ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [[28] كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير.
إن الكلمة الواحدة قد ترد في القرآن لعدة معان مختلفة، وإنما يتحدد المعنى المراد منها في كل موقع بالسياق، ونعني بالسياق: ما قبل الكلمة وما بعدها....وكما أن اللفظ الواحد في القرآن قد يرد بعدة معان ،يحددها السياق، فإن المعنى الواحد، قد يرد كذلك في القرآن معبراً عنه بعدة ألفاظ، مثل كلمة (القرآن) يُعبر عنه بالكتاب والذكر والفرقان))[29].
وبناءً على ذلك فهذه محاولة في فهم النصّ القرآني، وهي محاولة تطبيقية أكثر مما هي تنظيرية، بينّتُ فيها فهم المسلمين اليوم لكثير من الآيات التي تحمل وضوحا لاغموض فيه ،غير أنهم أولوها تأويلا سيئا أو فهموها فهما مقلوبا، سائلا المولى أن ينفع بها المسلمين، ويبصّره في دينهم.