بودفلة فتحي
New member
- إنضم
- 10/08/2010
- المشاركات
- 295
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
الخصائص الفنية والموضوعية في شعر أحمد سحنون
امتاز واتّصف أدب الشيخ أحمد سحنون بمجموعة من الخصائص والميزات لعلها بمجموعها انعكاس للبيئة التي نشأ وعاش فيها الشاعر ابتداء بأسرته المحافظة إلى شيوخه الذين اتّسموا بالتقليد إلى وضع الجزائر المزري تحت وطأة الاحتلال مرورا بمقتضيات الانتماء للحركة الإصلاحية فالثورية ثمّ الدعوية ....وغيرها من العوامل النفسية والاجتماعية والتاريخية والفنية التي أثّرت في أدب الشيخ سحنون أيّما تأثير وسأحاول ها هنا إبراز هذه الخصائص والميزات بشكل مقتضب وسريع :
1. الاتّجاه المحافظ والمنحى التقليدي في شعر أحمد سحنون :
من حيث الشكل لم يخرج عن القصيدة العمودية بكلّ مقتضياتها العروضية إلاّ موشحات قليلة هي معدودة في زمرة التراث الشعري القديم كقصيدة (اكسفي يا شموس) والتي نظمها في رثاء رائد الإصلاح الجزائري الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس حيث يقول في ملتزمتها :
اكسفي يا شموس واحتجب يا قمر
واطلعي بالنحوس يا نجوم القدر
وأطيلي العبوس يا ثغور الزهر
قد غدا باديس مودعا في الحفر...
ومن جهة الأغراض بقي محافظا على الأغراض القديمة ولم يبرحها (مدح , فخر , وصف , رثاء .....ولم يخرج إلى شيء ممّا استحدثه شعراء العصرنة والحداثة ...
حتى القوالب التعبيرية والصور البيانية لم تخرج عن معتاد الشعر العربي القديم
ولعل سبب ذلك أنّ أدباء الجزائر يومها والذين انطلقوا من واقع يكاد يخلو من الشعر والأدب بل ومن العلم والفكر حتى ...لم يجدوا أمامهم إلاّ تراثهم القديم وتجربة إخوانهم في المشرق التي غلب عليها في بداية النهضة النزعة التحفظية ...أمّا التجديد فلم يعرفه الأدب الحديث إلاّ نتيجة التفاعل مع الغرب أوّلاً والتأثر المفرط بهم ثانياً ...وشعر الشيخ أحمد سحنون وأدباء الحركة الإصلاحية إنّما أرادوا به العودة بالشعب إلى تراثه ومورده الأصلي وتمييزه عن الغرب المحتلّ الذي يريد فرض ثقافته ومنهجه في الحياة...فكان طبيعي أن يتّسم شعر الشيخ رحمه الله بالمحافظة والتقليد في مقابل التجديد المتعلق بالغرب غالبا ....وقد كان الشيخ رحمه الله متحفظا بل ورافضا لكلّ ما يأتي من وراء البحر ويعتبر الوقوف أمامها ودون تأثيرها في مبادئ ومفاهيم وعقائد الشعب الجزائري معركة حاسمة ومحتدمة يخوضها شعراء الإصلاح فهو يقول في مقدمة كتابه (دراسات وتوجيهات إسلامية) ما نصّه "...لقد كانت معركة وكانت جنود وكانت أسلحة وكان جنود هذه المعركة العلماء والمعلمين والطلاب , وكانت الأسلحة هي المقالة والقصيدة والنشيد والخطبة والدرس كما كان من الأسلحة الإيمان بالله وبحقّ الشعب والحماس لهذا الحقّ والغيرة عليه والحقد المتأجّج في صدر كلّ مسلم على كلّ ما هو أجنبي ودخيل من الأشخاص والمبادئ والعادات والمذاهب..."
2. إسلامية أدب الشيخ أحمد سحنون :
إنّ الشاعر قبل أن يكون أديبا يقرض شعرا أو يكتب نثرا ...ينتقي ألفاظه ويتخيّر معانيه وأفكاره, هو إنسان مخلوق ضعيف عابد لربّه من حيث شاء أو أبى ...مسئول يوم القيامة عن كلّ صغيرة وكبيرة من أفكاره وأقواله وأعماله ...فلن يشذّ الشاعر أبداً عن حقيقة الإنسان ولن يسلم الشعر قطعا من السؤال ...
وكما أنّ الإنسان مطالب بالتزام تعاليم ربّه , يأتمر بأوامره ويجتنب نواهيه كذلك الشاعر ينبغي أن يكون شعره ملتزما بتعاليم ربّه يمجّد فيه وينوّه بما أمر ويذمّ ويستقبح ما نهى...
وقد كان الشيخ سحنون ـ كما عرفه العام والخاص ـ الإنسان الذي عاش لدينه بكلّ ما فيه بجهده ووقته بماله ونفسه بفكره ورأيه .... وكان أيضا الشاعر الذي تمثل شعره تعاليم الإسلام , قوّته وسماحته , عزّته وطيبته , جهاده ودعوته ...
يستفاد هذا العنصر من خلال استقراء ديوان الشاعر كلّه فإنّه لم يخرج قطّ عن تعاليم الإسلام بل إنّ إطلالة فيه ولو بسيطة وسطحية كافية لإصدار حكما يقينيا بإسلامية أدب الشيخ أحمد سحنون رحمه الله ...فقد استفتحه بدعاء وابتهال لله سبحانه وتعالى ممّا جاء فيه :
يا ملهما لروائع الشعر يا موحيا بخوالد الفكر
يا مودع الإعجاز في الذكر يا مبدع الرهبة في البحر
يا موجد البسمة في الفجر يا خالق الفتنة في الثغر
هب لي خيال الشاعر الحرّ وقوّة التحليق كالنسر
وقدرة [الغوص] على الدرّ لعلني أظفر بالسرّ
فليس شاعرنا من الذين يعتقدون في شياطين الشعر يلهمون أصحابهم ومواليهم بفنون الكلام وبديع الأشعار ... لا بل هو الله سبحانه وتعالى (الملهم لروائع الشعر) هو (مبدع) الكون بإعجازه وجماله ...منه فقط يلتمس الشاعر ويطلب قوة قريحة (كقوّة تحليق النسر) وخيالا دافقا جامحا (كخيال الشاعر الحرّ) ومنه فقط يسأل الشاعر أن يمكّنه من (درر) الألفاظ وغررها (وأسرار) المعاني وبديعها ...
و يستطيع أن يلتمس القارئ بإطلالة أخرى في عناوين قصائد الشيخ أحمد سحنون ومناسباتها هذا الأدب الإسلامي الذي شمل الديوان كلّه ... فتوجيهاته وإرشاداته الإسلامية والوطنية في قصائده الإصلاحية والتربوية من نحو (إلى المعلم) التي يقول فيها :
حطه بالإسلام من كلّ أذى واحمه بالخلق من كلّ فساد
واهده بالعلم فالعلم سنى ومن القرآن زوده بزاد
صغه للإسلام نبراس هدى ومثالا من ذكاء واجتهاد
(إلى التلميذ) والتي جاء فيها :
اجعل العلم دليلا وهدى إنما الجهل دجى والعلم هاد
واقرأ القرآن واعرف هديه إنّه نهج فلاح وسداد
خالق الناس بخلق حسن فجمال الخلق عنوان رشاد
(كشاف) وممّا قاله فيها :
كشاف أنت مثال من الخلال الرفيعة
لك النشاط شعار والجدّ فيك طبيعة
وفيك حلم وعطف على النفوس الوجيعة
وفيك رقّة طبع والصبر عند الفجيعة
فهذه نماذج من أشعاره التوجيهية لا نحتاج إلى كبير جهد لكي نلتمس فيها أدبا إسلاميا رفيعا سواء من حيث المضمون والموضوع (قراءة القرآن , الخلق الحسن , الصبر , الحلم ,العلم ...) أو من حيث الشكل كذلك (الاقتباس الظاهر من الكتاب والسنة سواء من حيث الألفاظ المستعملة أو التراكيب كذلك)
قصائده التي خصّ بها جمعية العلماء المسلمين ورجالاتها وهي جمعية كما هو ظاهر من اسمها ومن تاريخها ومبادئها ذات صبغة إسلامية صرفة من نحو (جمعية العلماء أدّت دورها) (بوركت يادار) (عبد الحميد ابن باديس) (روح باديس) (مات ابن باديس) (اكسفي يا شموس) ....
القصائد التي قيلت في مناسبات دينية أو تناولت شخصيات إسلامية من نحو (سلمان منا أهل البيت) (عظمة محمد صلى الله عليه وسلم) (هنا ولد الإسلام) (يا لها أمنية أحيت مواتي) القصيدتين في التغني بالحرمين الشريفين ووصف مناسك الحج (يا أملا تجدد) بمناسبة المولد النبوي ...(شبيبة البرج) و(تعالوا إلى المسجد) قصائد قالها بمناسبة افتتاح بعض المساجد
و له في فلسطين ومأساتها وجراحاتها (فلسطين) (من وحي المأساة) (فلسطين إنا أجبنا الندا) (نحن نسل الهدى) ...
وفي رثاء أعلام ورجال الإسلام في مختلف البلاد الإسلامية كسيد قطب ومحي الدين القليبي التونسي والمنصف باي تونس ...
كلّ هذا من شأنه أن يأكّد إسلامية الأدب عند الشيخ أحمد سحنون .
3. الاتجاه الإصلاحي والدعوي في شعر الشيخ أحمد سحنون:
وهي ميزة قريبة من التي قبلها ولكنّها أخصّ منها , فالأدب في مفهوم الشيخ أحمد سحنون رسالة هدفها الدعوة والإصلاح ...والأديب ينبغي أن يرتقي بالقارئ بواسطة شعره إلى المسؤولية الجادّة أوّلاً ثمّ إلى العمل المستبصر ثانيا بما يمليه عليه من توجيهات دينية أو وطنية أو أدبية
فقرض الشعر عند الشيخ أحمد سحنون ونظمه ليس لذات الشعر أو لأجل الجمال والفنّ أو للتّنفيس والتعبير عن خوالج النفس ومكنوناتها لا غير بل للتوجيه والإصلاح هذه هي مهمّة الشعر والشاعر
يقول الشيخ رحمه الله في مقدّمة ديوانه : "...إنّني لا أرضى عن شعري لأنّني لا أراه معبّرا عمّا أشعر به من صور وأخيلة ..." فشعره ـ كما يراه ـ لم يرتقِ إلى درجة التعبير الصادق أو المطابق لما تكنّه نفسه من أحاسيس ومشاعر ولهذا السبب فهو لا يقرضه من أجل التعبير عن تجربة شعورية وإنّما لمهمة أجلّ وأعظم هي التوجيه والإصلاح والتغيير وممّا قاله ها هنا :"إنّه [أي شعره] كان يُعتبر شعرا له أهميته ومنزلته في فترة حماسة سبقت فترتنا الحاضرة هذه , وكان فيها ـ حقّاً ـ حاديا في قافلة حركتنا الفكرية الإصلاحية التي سبقت الثورة ومهّدت لها فكانت أساسها ..." فشعره إذًا إنّما يمثل حاديا للحركة الإصلاحية بمعنى معلما تمشي وفقه ومُعينا يأخذ بيدها ومشجعا يشحذ همم أصحابها...
وقد كان عليه رحمة الله لا يكتب ولا ينظم إلاّ في إطار ما يمليه عليه منهج جمعية العلماء ووفق خطّتها وما يحقق أهدافها وممّا قاله الشيخ رحمه الله في هذا المعنى : "...إنّ كلّ شيء كنّا نعمله لهذا الشعب وكلّ ما نبذله لهذا الوطن , إنّما كان بوحي من روح هذه الجمعية ووفق الخطّة التي رسمتها لتطهير هذه الأرض العربية المسلمة من وجود الاستعمار ومن سيطرة الأجنبي ومن عار الحكم بغير ما أنزل الله ..."
ومن قصائده الإصلاحية (إلى المعلم) والتي جاء فيها :
هات من نشئ الحمى خير عتاد وادّخر لغد جند جهاد
هات نشئاً صالحا يبني العلا ويفكّ الضاد من أسر الأعادي
هاته نشئاً قويا باسلا إن دجا خطب يكن أوّل فاد
وفي قصيدة (إلى التلميذ) نفس التوجيهات الإصلاحية حيث يقول :
وامتثل أمر مربيك وكن قبسا من روحه شهم الفؤاد
اجعل العلم دليلا وهدى إنما الجهل دجى والعلم هدى...
وليكن حاديك تحرير الحمى إنّ تحرير الحمى للحرّ حاد
هذه غايتك المثلى التي إن تحصلها تنل كلّ مراد
وقد طُبعت هاتان القصيدتان في كراسة واحدة ووزّعت في مدارس الجمعية على معلميها وتلامذتها باقتراح من الكاتب العام للجمعية السيّد توفيق المدني ...
4. غلبة النزعة الجماعية :
يكاد شعر الشيخ أحمد سحنون تغلب عليه النزعة الجماعية فجلّ ما كتب إنّما هو متعلق بأحاسيس الشعب وبشعوره ولم يخرج عن هذه القاعدة المطردة إلاّ القليلُ من القصائد التي نلمس فيها شيئا من وجدان الشاعر وأحاسيسه الخاصة كمثل قصيدة (إلى ولدي رجاء) و (عصفورة) التي كتبها لابنته فوزية وقصيدة (سلمان منّا أهل البيت) نظمها بناسبة ختان حفيده سلمان ...وحتى هذه القصائد التي تبدو ذات الصبغة فردية لم تخل من النزعة الجماعية ...ففي قصيدة ولدي رجاء إنّما يريد من ابنه أن يكون خادما لدينه ووطنه مستشعرا لمأساته عارفا بهمّه ومحيطا بغمّه ... حيث يقول :
متى أرى لك حظا كوجهك الوضاء
متى أراك مثالا من همة ومضاء
متى أراك دليلا يقود للعلياء
وللجزائر درعا تردّ كلّ الأعداء
متى أراك حساما لها على الأعداء
متى اراك فداء لها وأيّ فداء
وفي قصيدة سلمان أشاد بالإسلام وأنّه هو وحده الذي بلغ بسلمان ذلك المبلغ الرفيع حتى أصبح من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعظم شيء به تهنا قول الرسول سلمان منا
سلمان من صفوة كرام عاش لدين الإسلام ركنا
موطنه فارس ولكن بموطن الروح كان يعنى
فهو كما ترى حتى في قصائده الشخصية ينزع هذه النزعة الجماعية حتى في حديثه عن ختان حفيده يدرج الإسلام والدين والتقوى وفي اشتياقه لولده يدرج موضوع الجزائر والوطن والجهاد والفداء ...
وإذا كان كثير من النقاد يعتبرون هذا ضعفا في الشاعرية لأنّها لم ترقى بصاحبها إلى عكس وتصوير خفقان وجدانه الخاص ولا إلى التعبير عن تجاربه الشعورية الفردية فبقيت سجينة شعور الآخر وتجارب الغير ...
ولكن في حقّ شاعرنا الشيخ أحمد سحنون وشعراء الإصلاح والثورة والدعوة... لا ينبغي أن نسلّم بهذا الطرح الذي يجعل من الشعور الفردي منافسا ومناقضا للشعور الجماعي... إنّ أمثال الشيخ أحمد سحنون ـ والذي وصفه غير واحد بأنّه أمة ـ لا يعيشون لأنفسهم بل لأمتهم وقضيتهم , فشعورهم الفردي ووجدانهم ذاب في شعور الأمة ووجدانها وأحاسيسهم هي أحاسيس مجتمعاتهم التي يعيشون من أجل خدمتها ...فلا تعجب إن انصبّ اهتمامهم كلّه على تصوير آمال الأمة وآلامها لأنّهم في حقيقة الأمر إنّما يصورون آمالهم وآلامهم الخاصة بهم لا غير ...
5. جلالة مواضيع الشيخ أحمد سحنون :
فهو لا يكتب إلاّ في المواضيع الجليلة وذات الأهمية العظيمة , مواضيع تشغل اهتمام النّاس متعلقة بمصيرهم ومستقبلهم بماضيهم وتاريخهم متعلقة بدينهم وأوطانهم وبكل ما له شأن في حياتهم ولا يلتفت إلى الحوادث اليومية العادية ولا إلى الأشياء الصغيرة التي يحتقرها جلّ النّاس ولا يهتمون بها والتي يمكن للأديب الإسلامي من خلال أحاسيسه الدافقة وملاحظاته الدقيقة أن يصنع منها أدبا رفيعا يبثُّ فيها الحياة بتعظيم ما كان يظهر صغيرا وحقيرا وتجديد ما كان يبدو قديما وبليدا ...
ويبدو ـ والله أعلم ـ أنّ الديوان كلّه التزم بهذه السمة اللهمّ إلاّ قصيدة واحدة فيها شيء من الخروج عن الأمور الجليلة والعظيمة ؛ قصيدة (عصفورة) والتي وقف فيها ـ مستشعرا تجربة أبي فراس الحمداني ـ يتأمّل في عصفورة دخلت عليه زنزانته لعلّها كانت تصوّتُ من الخوف أن وجدت نفسها في هذا المكان المظلم الضيق...فإذا بالدخول المفاجئ يتحول في قصيدة الشيخ إلى زيارة لطيفة وإذا بصوت الخائفة يتحول إلى غناء ساحر يذكره بعصفورة أخرى هي عصفورته هو هي ابنته (فوزية) تشبهها في روعة جمالها في غنائها وتغريدها في لعبها ووثبها في صورتها وشكلها فيطلب من عصفورة السجن أن تكون رسولا صادقا لعصفورته تحمل لها وَلَهَ الوالدِ وحبَّه وتحيّتَه ونصيحته بالصبر والرجاء والأمل ...
عصفورة مرت على غرفـــــــتى تشدوا بلحن ساحر النبــــــرة
والناسُ صرعى النومِ لم يفطــــنو كأنهم ـ بالنوم ـ في ســـــــكرة
مرت تغنّى فا ستثارت جـــــــوى قلبي وأشواقى لعصفورتــــى
عصفورة تشبهها روعــــــــــة في الوثب والتغريد والصورة
عصفورتي إن جئت أرض الحــمى وشمت بيتا قد حوا حبيبـــتي
كوني رسولا صادقا للتـــــي من [بينهم] تدعى ب(فوزيـــة)
وبلغيها من أب والـــــــه تحية الطل إلى الزهـــرة
قولي لها لا تهلكي بالأســـى ولا يذب قلبك بالحســــرة
وابتسمي كالزهرة لا تعبســي واحتفلي بالعيد في غبطــــة
أبوك مازال حليف الوفــــاء حاشاه أن نسيان في الغربـــة
وسوف تأتي ساعة الملتــقى لابدّ للغائب من أوبـــة
6. شعرٌ اصطبغ بالمناسبات :
قد يرى البعض من النقاد أنّ هذا العامل يمثل نقصا وثلما في أدب الشيخ رحمه الله لأنّ المناسبات من شأنها أن تقدح في صدق عاطفة الأديب وشاعريته ...ولكن هذا الأمر إنّما يكون صحيحا في المناسبات التي تفرض على الشاعر فرضا ....
أما المناسبات المقصودة في شعر الشيخ أحمد سحنون فهي المناسبات التي عاشها بقلبه وقالبه هي المناسبات التي لها علاقة بوطنه وبقضيته الإصلاحية والدعوية بدينه وبعادات أهله ... هي مناسبات امتزجت بروحه ووجدانه فانفجرت نظما و شعرا وخطبا ونثرا...
وفي هذا الخصوص يقول شاعرنا : "...وكانت كلّ مناسبة كبيرة أو صغيرة تستغل لتعبئة الأفكار والعواطف بهذه الأفكار والعواطف وشحنها بكلّ متفجرات الحقد والكراهية لهذا المتطفّل البغيض والضيف الثقيل الذي فرض نفسه وحكمه ولغته وعاداته على هذا البلد المسلم المتحمس لإسلامه ليقضي على شخصيته وينسيه لغته ودينه وكلّ مقوماته...كانت مناسبات الزواج والختان والاحتفالات بالمولد النبوي ورأس السنة الهجرية وليلة السابع والعشرين من رمضان وما إليها , هي المجالات التي تلقن فيها الأمة ما يجب أن تعرفه من مبادئ وتقوم به من أعمال وتتخذه من وسائل للتخلّص من هذا الكابوس الخانق الجاثم على صدرها الذي هو الاستعمار..."
وجلّ قصائد ديوانه افتتحها الشاعر بكلمة وجيزة يبيّن من خلالها المناسبة التي ألقيت فيها وهي في الغالب مناسبات دينية كالمولد النبوي ورمضان وموسم الحجّ ...ومناسبات شخصية كموت عَلَمٍ أو صديق (وهي كثيرة) أو زيارة عالم أو وفد أو زواج أو ختان أو مناسبات متعلقة بالحركة الإصلاحية كافتتاح مدرسة أو مسجد أو صحيفة أو مقرٍّ أو مناسبات وطنية كعقد مؤتمر أو ملتقى أو ذكرى ...وغيرها من المناسبات
7. عدم التقيّد بمذهب أدبي أو مدرسة فنّية معيّنة :
فتجد في شعره ما ينزح نحو الرومانسية وكثير منه فيه شيء من الواقعية وعامته كلاسيكي.
ورومانسية الشيخ أحمد سحنون إنّما تتمثل في أفكاره التحررية ودعواته التجديدية كما تظهر في تسخيره لعناصر الطبيعة يخاطبها يشكو إليها ويأخذ صوره منها...
فمن ذلك مخاطبة البلابل وتسخير عنصر الليل والصباح والنجوم في نحو قوله :
أصدحي يا بلايل الأرواح لعناق القلوب والأرواح
انشدي لطلوع نجم من الصحب نشيد السرور والارتياح
ينجلي الهم باجتماعي بإخواني كما ينجلي الدجى بالصباح
وقوله :
كل شييء نسيته يا بـلادي وتلاشت أطيافه من فـؤادي
غير ذكراك فهي تكمن في قلبي كمون الّلظى بقلب الرمـاد والشذا في الزهور والحب فـي الأحشاء والكبرياء في الأطواد
فإذا ما بدا الصباح تجـلّت أغنيان سحرية الإنشــاد
وإذا ما دجا الظلام تراءت في طوف تحوم حول وتسادي
وإذا ما الرياض أبدت حلاّها قلت حسن من (الجزائر) بـاد
وإذا ما النجوم أبدت سناها خلته سحر نورك الوقاد
وإذا صافح النسيم حبيبتى خلته هب من نسيم بـلادي
ومن ذلك قصيدته (العصفورة)
عصفورة مرت على غرفتى تشدوا بلحن ساحر النبرة
والناس صرعى النوم لم يفطنو كأنهم ـ بالنوم ـ في سكرة
مرت تغنّى فا ستثارت جوى قلبي وأشواقى لعصفورتى
وواقعية الشيخ أكثر ما تتمثل في حديثه عن آلام أمّته وعن معاناتها عن الحزن والفقر عن الظلم والاستبداد ...فمن ذلك قصيدة (المبعد) والتي جاء فيها:
أيها المبعد ما أعظم صبرك
أنت قبل الموت أودعت قبرك...
أيها المبعد قد طال غيابك
وتمادى عن محبيك احتجابك
أي يوم يا ترى فيه إيابك...
ومثل ذلك قصيدة (من وحي المأساة) (الإخوان بلسم الأحزان) (أين يا صدّاح) (يا لها غربة)
كما تظهر واقعية الشيخ أحمد سحنون من خلال تعرضه لجزئيات واقع أمته ويومياتها بكلّ تفصيلاتها ومن ذلك وقوفه عند كلّ عيدٍ من أعيادها وكلّ حدثٍ صغير أو كبير من أيامها ومجرياتها فتحدث عن المعلم والتلميذ وعن الكشاف والشاعر وعن ذكرى المولد والهجرة ورمضان وليلة القدر والعيد والحجّ والإسراء وبدر وعن المؤتمر الإسلامي وثورة التحرير وجميع المناسبات المتعلقة بجمعية العلماء المسلمين وحرب 67 وحرب 73 ونقل رفاة الأمير عبد القادر و نعى ورثى كبار أعلام الجزائر ومشاهير الأمة العربية والإسلامية وتحدث عن السجناء والمنفيين والمبعدين كما تحدث عن الفقر والجهل عن الظلم والاستبداد عن الثورة والإصلاح وعن الدعوة والإرشاد...
ولعلّ شكل قصائده وأغراضها واقتباساته من القرآن والسنة واستشهاداته بالموروث التاريخي والحضاري كلّ ذلك من كلاسيكيته ...
وهكذا ينبغي للشاعر الإسلامي أن يكون ...لا يتقيّد بمذهب أدبي أو فكري بشري إلاّ بقدر ما يخدم ذلك المذهب أو الرأي مهمته في الأدب والحياة ...
8. أسلوبه الخطابي والوعظي :
وهو أسلوب يبدو أنّه انعكاس لمحيط الشاعر وظروفه ...فالخطيب المتفوّه والإمام المرشد الواعظ لمدّة أكثر من ستين سنة تردّد على مساجد عدّة وخطب ووعظ في مناسبات شتى لا بدّ وأن يؤثر ذلك في شعره ويظهر في أسلوبه وفي مختارات ألفاظه وأفكاره ...
ومن مظاهر هذا الأسلوب كثرة الاقتباس من القرآن والسنّة
والشواهد على ذلك كثيرة جدّاً نكتفي ها هنا بذكر شاهدين اثنين اقتبس الشاعر فيهما من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قل نقل نص الحديث كلّه
فقصيدة (سلمان منا أهل البيت) وقوله فيها :
أعظم شيء به تهنا قول الرسول سلمان منا
ومثلها قوله في قصيدة (إلى التلميذ) :
خالق الناس بخلق حسن فجمال الخلق عنوان الرشاد
ويكفي العودة إلى الشواهد المذكورة في غير هذا المطلب وهذا المبحث ليلاحظ المتأمّل أنّ الاقتباس ظاهرة مطّردة في شعر الشيخ أحمد سحنون ...
ومن مظاهره كذلك كثرة الابتهالات والاستغاثة و الوعظ والدعاء في أشعار الشيخ أحمد سحنون ومن شواهد ذلك ما يلي:
رباه لم تبق لنا حيلة ومالنا حول ولا قوة
ومالنا غيرك من عاصم يعصمنا من هده الهوة
وقوله في قصيدة (ربي) :
رب إنا إلى حماك التجأنا ربي إنا على نداك اعتمدنا
رب إنا منا إليك فررنا رب إنا تبنا إليك وعدنا
ومن مظاهره كذلك استعمال الأساليب الخطابية كالنداء الذي لا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائده
فمن ذلك (يا رجاء الضاد) (كشاف يا ابن الطليعة) (يا أخا الوحي) (يا بني الضاد)
ومن مظاهر هذا الأسلوب استعمال التراكيب التفاعلية (التفاعل مع القارئ) من استفهام وتعجب وأمر ونهي ونحو ذلك
ولاحظ معي قصيدة (إلى المعلم) يكاد لا يخلو بيت فيها من أفعال الأمر والنهي
(هات من نشء , وادّخر لغدٍ , هات نشئاً , هاته نشئاَ , حطه بالإسلام , احمه بالخلق , اهده بالعلم , زوده بزاد , صغه للإسلام , سرْ به , فاسقه من ينابيع المعالي , فاهده نهجه, لا تقل , لا تضق , لا تهلك ....)
امتاز واتّصف أدب الشيخ أحمد سحنون بمجموعة من الخصائص والميزات لعلها بمجموعها انعكاس للبيئة التي نشأ وعاش فيها الشاعر ابتداء بأسرته المحافظة إلى شيوخه الذين اتّسموا بالتقليد إلى وضع الجزائر المزري تحت وطأة الاحتلال مرورا بمقتضيات الانتماء للحركة الإصلاحية فالثورية ثمّ الدعوية ....وغيرها من العوامل النفسية والاجتماعية والتاريخية والفنية التي أثّرت في أدب الشيخ سحنون أيّما تأثير وسأحاول ها هنا إبراز هذه الخصائص والميزات بشكل مقتضب وسريع :
1. الاتّجاه المحافظ والمنحى التقليدي في شعر أحمد سحنون :
من حيث الشكل لم يخرج عن القصيدة العمودية بكلّ مقتضياتها العروضية إلاّ موشحات قليلة هي معدودة في زمرة التراث الشعري القديم كقصيدة (اكسفي يا شموس) والتي نظمها في رثاء رائد الإصلاح الجزائري الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس حيث يقول في ملتزمتها :
اكسفي يا شموس واحتجب يا قمر
واطلعي بالنحوس يا نجوم القدر
وأطيلي العبوس يا ثغور الزهر
قد غدا باديس مودعا في الحفر...
ومن جهة الأغراض بقي محافظا على الأغراض القديمة ولم يبرحها (مدح , فخر , وصف , رثاء .....ولم يخرج إلى شيء ممّا استحدثه شعراء العصرنة والحداثة ...
حتى القوالب التعبيرية والصور البيانية لم تخرج عن معتاد الشعر العربي القديم
ولعل سبب ذلك أنّ أدباء الجزائر يومها والذين انطلقوا من واقع يكاد يخلو من الشعر والأدب بل ومن العلم والفكر حتى ...لم يجدوا أمامهم إلاّ تراثهم القديم وتجربة إخوانهم في المشرق التي غلب عليها في بداية النهضة النزعة التحفظية ...أمّا التجديد فلم يعرفه الأدب الحديث إلاّ نتيجة التفاعل مع الغرب أوّلاً والتأثر المفرط بهم ثانياً ...وشعر الشيخ أحمد سحنون وأدباء الحركة الإصلاحية إنّما أرادوا به العودة بالشعب إلى تراثه ومورده الأصلي وتمييزه عن الغرب المحتلّ الذي يريد فرض ثقافته ومنهجه في الحياة...فكان طبيعي أن يتّسم شعر الشيخ رحمه الله بالمحافظة والتقليد في مقابل التجديد المتعلق بالغرب غالبا ....وقد كان الشيخ رحمه الله متحفظا بل ورافضا لكلّ ما يأتي من وراء البحر ويعتبر الوقوف أمامها ودون تأثيرها في مبادئ ومفاهيم وعقائد الشعب الجزائري معركة حاسمة ومحتدمة يخوضها شعراء الإصلاح فهو يقول في مقدمة كتابه (دراسات وتوجيهات إسلامية) ما نصّه "...لقد كانت معركة وكانت جنود وكانت أسلحة وكان جنود هذه المعركة العلماء والمعلمين والطلاب , وكانت الأسلحة هي المقالة والقصيدة والنشيد والخطبة والدرس كما كان من الأسلحة الإيمان بالله وبحقّ الشعب والحماس لهذا الحقّ والغيرة عليه والحقد المتأجّج في صدر كلّ مسلم على كلّ ما هو أجنبي ودخيل من الأشخاص والمبادئ والعادات والمذاهب..."
2. إسلامية أدب الشيخ أحمد سحنون :
إنّ الشاعر قبل أن يكون أديبا يقرض شعرا أو يكتب نثرا ...ينتقي ألفاظه ويتخيّر معانيه وأفكاره, هو إنسان مخلوق ضعيف عابد لربّه من حيث شاء أو أبى ...مسئول يوم القيامة عن كلّ صغيرة وكبيرة من أفكاره وأقواله وأعماله ...فلن يشذّ الشاعر أبداً عن حقيقة الإنسان ولن يسلم الشعر قطعا من السؤال ...
وكما أنّ الإنسان مطالب بالتزام تعاليم ربّه , يأتمر بأوامره ويجتنب نواهيه كذلك الشاعر ينبغي أن يكون شعره ملتزما بتعاليم ربّه يمجّد فيه وينوّه بما أمر ويذمّ ويستقبح ما نهى...
وقد كان الشيخ سحنون ـ كما عرفه العام والخاص ـ الإنسان الذي عاش لدينه بكلّ ما فيه بجهده ووقته بماله ونفسه بفكره ورأيه .... وكان أيضا الشاعر الذي تمثل شعره تعاليم الإسلام , قوّته وسماحته , عزّته وطيبته , جهاده ودعوته ...
يستفاد هذا العنصر من خلال استقراء ديوان الشاعر كلّه فإنّه لم يخرج قطّ عن تعاليم الإسلام بل إنّ إطلالة فيه ولو بسيطة وسطحية كافية لإصدار حكما يقينيا بإسلامية أدب الشيخ أحمد سحنون رحمه الله ...فقد استفتحه بدعاء وابتهال لله سبحانه وتعالى ممّا جاء فيه :
يا ملهما لروائع الشعر يا موحيا بخوالد الفكر
يا مودع الإعجاز في الذكر يا مبدع الرهبة في البحر
يا موجد البسمة في الفجر يا خالق الفتنة في الثغر
هب لي خيال الشاعر الحرّ وقوّة التحليق كالنسر
وقدرة [الغوص] على الدرّ لعلني أظفر بالسرّ
فليس شاعرنا من الذين يعتقدون في شياطين الشعر يلهمون أصحابهم ومواليهم بفنون الكلام وبديع الأشعار ... لا بل هو الله سبحانه وتعالى (الملهم لروائع الشعر) هو (مبدع) الكون بإعجازه وجماله ...منه فقط يلتمس الشاعر ويطلب قوة قريحة (كقوّة تحليق النسر) وخيالا دافقا جامحا (كخيال الشاعر الحرّ) ومنه فقط يسأل الشاعر أن يمكّنه من (درر) الألفاظ وغررها (وأسرار) المعاني وبديعها ...
و يستطيع أن يلتمس القارئ بإطلالة أخرى في عناوين قصائد الشيخ أحمد سحنون ومناسباتها هذا الأدب الإسلامي الذي شمل الديوان كلّه ... فتوجيهاته وإرشاداته الإسلامية والوطنية في قصائده الإصلاحية والتربوية من نحو (إلى المعلم) التي يقول فيها :
حطه بالإسلام من كلّ أذى واحمه بالخلق من كلّ فساد
واهده بالعلم فالعلم سنى ومن القرآن زوده بزاد
صغه للإسلام نبراس هدى ومثالا من ذكاء واجتهاد
(إلى التلميذ) والتي جاء فيها :
اجعل العلم دليلا وهدى إنما الجهل دجى والعلم هاد
واقرأ القرآن واعرف هديه إنّه نهج فلاح وسداد
خالق الناس بخلق حسن فجمال الخلق عنوان رشاد
(كشاف) وممّا قاله فيها :
كشاف أنت مثال من الخلال الرفيعة
لك النشاط شعار والجدّ فيك طبيعة
وفيك حلم وعطف على النفوس الوجيعة
وفيك رقّة طبع والصبر عند الفجيعة
فهذه نماذج من أشعاره التوجيهية لا نحتاج إلى كبير جهد لكي نلتمس فيها أدبا إسلاميا رفيعا سواء من حيث المضمون والموضوع (قراءة القرآن , الخلق الحسن , الصبر , الحلم ,العلم ...) أو من حيث الشكل كذلك (الاقتباس الظاهر من الكتاب والسنة سواء من حيث الألفاظ المستعملة أو التراكيب كذلك)
قصائده التي خصّ بها جمعية العلماء المسلمين ورجالاتها وهي جمعية كما هو ظاهر من اسمها ومن تاريخها ومبادئها ذات صبغة إسلامية صرفة من نحو (جمعية العلماء أدّت دورها) (بوركت يادار) (عبد الحميد ابن باديس) (روح باديس) (مات ابن باديس) (اكسفي يا شموس) ....
القصائد التي قيلت في مناسبات دينية أو تناولت شخصيات إسلامية من نحو (سلمان منا أهل البيت) (عظمة محمد صلى الله عليه وسلم) (هنا ولد الإسلام) (يا لها أمنية أحيت مواتي) القصيدتين في التغني بالحرمين الشريفين ووصف مناسك الحج (يا أملا تجدد) بمناسبة المولد النبوي ...(شبيبة البرج) و(تعالوا إلى المسجد) قصائد قالها بمناسبة افتتاح بعض المساجد
و له في فلسطين ومأساتها وجراحاتها (فلسطين) (من وحي المأساة) (فلسطين إنا أجبنا الندا) (نحن نسل الهدى) ...
وفي رثاء أعلام ورجال الإسلام في مختلف البلاد الإسلامية كسيد قطب ومحي الدين القليبي التونسي والمنصف باي تونس ...
كلّ هذا من شأنه أن يأكّد إسلامية الأدب عند الشيخ أحمد سحنون .
3. الاتجاه الإصلاحي والدعوي في شعر الشيخ أحمد سحنون:
وهي ميزة قريبة من التي قبلها ولكنّها أخصّ منها , فالأدب في مفهوم الشيخ أحمد سحنون رسالة هدفها الدعوة والإصلاح ...والأديب ينبغي أن يرتقي بالقارئ بواسطة شعره إلى المسؤولية الجادّة أوّلاً ثمّ إلى العمل المستبصر ثانيا بما يمليه عليه من توجيهات دينية أو وطنية أو أدبية
فقرض الشعر عند الشيخ أحمد سحنون ونظمه ليس لذات الشعر أو لأجل الجمال والفنّ أو للتّنفيس والتعبير عن خوالج النفس ومكنوناتها لا غير بل للتوجيه والإصلاح هذه هي مهمّة الشعر والشاعر
يقول الشيخ رحمه الله في مقدّمة ديوانه : "...إنّني لا أرضى عن شعري لأنّني لا أراه معبّرا عمّا أشعر به من صور وأخيلة ..." فشعره ـ كما يراه ـ لم يرتقِ إلى درجة التعبير الصادق أو المطابق لما تكنّه نفسه من أحاسيس ومشاعر ولهذا السبب فهو لا يقرضه من أجل التعبير عن تجربة شعورية وإنّما لمهمة أجلّ وأعظم هي التوجيه والإصلاح والتغيير وممّا قاله ها هنا :"إنّه [أي شعره] كان يُعتبر شعرا له أهميته ومنزلته في فترة حماسة سبقت فترتنا الحاضرة هذه , وكان فيها ـ حقّاً ـ حاديا في قافلة حركتنا الفكرية الإصلاحية التي سبقت الثورة ومهّدت لها فكانت أساسها ..." فشعره إذًا إنّما يمثل حاديا للحركة الإصلاحية بمعنى معلما تمشي وفقه ومُعينا يأخذ بيدها ومشجعا يشحذ همم أصحابها...
وقد كان عليه رحمة الله لا يكتب ولا ينظم إلاّ في إطار ما يمليه عليه منهج جمعية العلماء ووفق خطّتها وما يحقق أهدافها وممّا قاله الشيخ رحمه الله في هذا المعنى : "...إنّ كلّ شيء كنّا نعمله لهذا الشعب وكلّ ما نبذله لهذا الوطن , إنّما كان بوحي من روح هذه الجمعية ووفق الخطّة التي رسمتها لتطهير هذه الأرض العربية المسلمة من وجود الاستعمار ومن سيطرة الأجنبي ومن عار الحكم بغير ما أنزل الله ..."
ومن قصائده الإصلاحية (إلى المعلم) والتي جاء فيها :
هات من نشئ الحمى خير عتاد وادّخر لغد جند جهاد
هات نشئاً صالحا يبني العلا ويفكّ الضاد من أسر الأعادي
هاته نشئاً قويا باسلا إن دجا خطب يكن أوّل فاد
وفي قصيدة (إلى التلميذ) نفس التوجيهات الإصلاحية حيث يقول :
وامتثل أمر مربيك وكن قبسا من روحه شهم الفؤاد
اجعل العلم دليلا وهدى إنما الجهل دجى والعلم هدى...
وليكن حاديك تحرير الحمى إنّ تحرير الحمى للحرّ حاد
هذه غايتك المثلى التي إن تحصلها تنل كلّ مراد
وقد طُبعت هاتان القصيدتان في كراسة واحدة ووزّعت في مدارس الجمعية على معلميها وتلامذتها باقتراح من الكاتب العام للجمعية السيّد توفيق المدني ...
4. غلبة النزعة الجماعية :
يكاد شعر الشيخ أحمد سحنون تغلب عليه النزعة الجماعية فجلّ ما كتب إنّما هو متعلق بأحاسيس الشعب وبشعوره ولم يخرج عن هذه القاعدة المطردة إلاّ القليلُ من القصائد التي نلمس فيها شيئا من وجدان الشاعر وأحاسيسه الخاصة كمثل قصيدة (إلى ولدي رجاء) و (عصفورة) التي كتبها لابنته فوزية وقصيدة (سلمان منّا أهل البيت) نظمها بناسبة ختان حفيده سلمان ...وحتى هذه القصائد التي تبدو ذات الصبغة فردية لم تخل من النزعة الجماعية ...ففي قصيدة ولدي رجاء إنّما يريد من ابنه أن يكون خادما لدينه ووطنه مستشعرا لمأساته عارفا بهمّه ومحيطا بغمّه ... حيث يقول :
متى أرى لك حظا كوجهك الوضاء
متى أراك مثالا من همة ومضاء
متى أراك دليلا يقود للعلياء
وللجزائر درعا تردّ كلّ الأعداء
متى أراك حساما لها على الأعداء
متى اراك فداء لها وأيّ فداء
وفي قصيدة سلمان أشاد بالإسلام وأنّه هو وحده الذي بلغ بسلمان ذلك المبلغ الرفيع حتى أصبح من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعظم شيء به تهنا قول الرسول سلمان منا
سلمان من صفوة كرام عاش لدين الإسلام ركنا
موطنه فارس ولكن بموطن الروح كان يعنى
فهو كما ترى حتى في قصائده الشخصية ينزع هذه النزعة الجماعية حتى في حديثه عن ختان حفيده يدرج الإسلام والدين والتقوى وفي اشتياقه لولده يدرج موضوع الجزائر والوطن والجهاد والفداء ...
وإذا كان كثير من النقاد يعتبرون هذا ضعفا في الشاعرية لأنّها لم ترقى بصاحبها إلى عكس وتصوير خفقان وجدانه الخاص ولا إلى التعبير عن تجاربه الشعورية الفردية فبقيت سجينة شعور الآخر وتجارب الغير ...
ولكن في حقّ شاعرنا الشيخ أحمد سحنون وشعراء الإصلاح والثورة والدعوة... لا ينبغي أن نسلّم بهذا الطرح الذي يجعل من الشعور الفردي منافسا ومناقضا للشعور الجماعي... إنّ أمثال الشيخ أحمد سحنون ـ والذي وصفه غير واحد بأنّه أمة ـ لا يعيشون لأنفسهم بل لأمتهم وقضيتهم , فشعورهم الفردي ووجدانهم ذاب في شعور الأمة ووجدانها وأحاسيسهم هي أحاسيس مجتمعاتهم التي يعيشون من أجل خدمتها ...فلا تعجب إن انصبّ اهتمامهم كلّه على تصوير آمال الأمة وآلامها لأنّهم في حقيقة الأمر إنّما يصورون آمالهم وآلامهم الخاصة بهم لا غير ...
5. جلالة مواضيع الشيخ أحمد سحنون :
فهو لا يكتب إلاّ في المواضيع الجليلة وذات الأهمية العظيمة , مواضيع تشغل اهتمام النّاس متعلقة بمصيرهم ومستقبلهم بماضيهم وتاريخهم متعلقة بدينهم وأوطانهم وبكل ما له شأن في حياتهم ولا يلتفت إلى الحوادث اليومية العادية ولا إلى الأشياء الصغيرة التي يحتقرها جلّ النّاس ولا يهتمون بها والتي يمكن للأديب الإسلامي من خلال أحاسيسه الدافقة وملاحظاته الدقيقة أن يصنع منها أدبا رفيعا يبثُّ فيها الحياة بتعظيم ما كان يظهر صغيرا وحقيرا وتجديد ما كان يبدو قديما وبليدا ...
ويبدو ـ والله أعلم ـ أنّ الديوان كلّه التزم بهذه السمة اللهمّ إلاّ قصيدة واحدة فيها شيء من الخروج عن الأمور الجليلة والعظيمة ؛ قصيدة (عصفورة) والتي وقف فيها ـ مستشعرا تجربة أبي فراس الحمداني ـ يتأمّل في عصفورة دخلت عليه زنزانته لعلّها كانت تصوّتُ من الخوف أن وجدت نفسها في هذا المكان المظلم الضيق...فإذا بالدخول المفاجئ يتحول في قصيدة الشيخ إلى زيارة لطيفة وإذا بصوت الخائفة يتحول إلى غناء ساحر يذكره بعصفورة أخرى هي عصفورته هو هي ابنته (فوزية) تشبهها في روعة جمالها في غنائها وتغريدها في لعبها ووثبها في صورتها وشكلها فيطلب من عصفورة السجن أن تكون رسولا صادقا لعصفورته تحمل لها وَلَهَ الوالدِ وحبَّه وتحيّتَه ونصيحته بالصبر والرجاء والأمل ...
عصفورة مرت على غرفـــــــتى تشدوا بلحن ساحر النبــــــرة
والناسُ صرعى النومِ لم يفطــــنو كأنهم ـ بالنوم ـ في ســـــــكرة
مرت تغنّى فا ستثارت جـــــــوى قلبي وأشواقى لعصفورتــــى
عصفورة تشبهها روعــــــــــة في الوثب والتغريد والصورة
عصفورتي إن جئت أرض الحــمى وشمت بيتا قد حوا حبيبـــتي
كوني رسولا صادقا للتـــــي من [بينهم] تدعى ب(فوزيـــة)
وبلغيها من أب والـــــــه تحية الطل إلى الزهـــرة
قولي لها لا تهلكي بالأســـى ولا يذب قلبك بالحســــرة
وابتسمي كالزهرة لا تعبســي واحتفلي بالعيد في غبطــــة
أبوك مازال حليف الوفــــاء حاشاه أن نسيان في الغربـــة
وسوف تأتي ساعة الملتــقى لابدّ للغائب من أوبـــة
6. شعرٌ اصطبغ بالمناسبات :
قد يرى البعض من النقاد أنّ هذا العامل يمثل نقصا وثلما في أدب الشيخ رحمه الله لأنّ المناسبات من شأنها أن تقدح في صدق عاطفة الأديب وشاعريته ...ولكن هذا الأمر إنّما يكون صحيحا في المناسبات التي تفرض على الشاعر فرضا ....
أما المناسبات المقصودة في شعر الشيخ أحمد سحنون فهي المناسبات التي عاشها بقلبه وقالبه هي المناسبات التي لها علاقة بوطنه وبقضيته الإصلاحية والدعوية بدينه وبعادات أهله ... هي مناسبات امتزجت بروحه ووجدانه فانفجرت نظما و شعرا وخطبا ونثرا...
وفي هذا الخصوص يقول شاعرنا : "...وكانت كلّ مناسبة كبيرة أو صغيرة تستغل لتعبئة الأفكار والعواطف بهذه الأفكار والعواطف وشحنها بكلّ متفجرات الحقد والكراهية لهذا المتطفّل البغيض والضيف الثقيل الذي فرض نفسه وحكمه ولغته وعاداته على هذا البلد المسلم المتحمس لإسلامه ليقضي على شخصيته وينسيه لغته ودينه وكلّ مقوماته...كانت مناسبات الزواج والختان والاحتفالات بالمولد النبوي ورأس السنة الهجرية وليلة السابع والعشرين من رمضان وما إليها , هي المجالات التي تلقن فيها الأمة ما يجب أن تعرفه من مبادئ وتقوم به من أعمال وتتخذه من وسائل للتخلّص من هذا الكابوس الخانق الجاثم على صدرها الذي هو الاستعمار..."
وجلّ قصائد ديوانه افتتحها الشاعر بكلمة وجيزة يبيّن من خلالها المناسبة التي ألقيت فيها وهي في الغالب مناسبات دينية كالمولد النبوي ورمضان وموسم الحجّ ...ومناسبات شخصية كموت عَلَمٍ أو صديق (وهي كثيرة) أو زيارة عالم أو وفد أو زواج أو ختان أو مناسبات متعلقة بالحركة الإصلاحية كافتتاح مدرسة أو مسجد أو صحيفة أو مقرٍّ أو مناسبات وطنية كعقد مؤتمر أو ملتقى أو ذكرى ...وغيرها من المناسبات
7. عدم التقيّد بمذهب أدبي أو مدرسة فنّية معيّنة :
فتجد في شعره ما ينزح نحو الرومانسية وكثير منه فيه شيء من الواقعية وعامته كلاسيكي.
ورومانسية الشيخ أحمد سحنون إنّما تتمثل في أفكاره التحررية ودعواته التجديدية كما تظهر في تسخيره لعناصر الطبيعة يخاطبها يشكو إليها ويأخذ صوره منها...
فمن ذلك مخاطبة البلابل وتسخير عنصر الليل والصباح والنجوم في نحو قوله :
أصدحي يا بلايل الأرواح لعناق القلوب والأرواح
انشدي لطلوع نجم من الصحب نشيد السرور والارتياح
ينجلي الهم باجتماعي بإخواني كما ينجلي الدجى بالصباح
وقوله :
كل شييء نسيته يا بـلادي وتلاشت أطيافه من فـؤادي
غير ذكراك فهي تكمن في قلبي كمون الّلظى بقلب الرمـاد والشذا في الزهور والحب فـي الأحشاء والكبرياء في الأطواد
فإذا ما بدا الصباح تجـلّت أغنيان سحرية الإنشــاد
وإذا ما دجا الظلام تراءت في طوف تحوم حول وتسادي
وإذا ما الرياض أبدت حلاّها قلت حسن من (الجزائر) بـاد
وإذا ما النجوم أبدت سناها خلته سحر نورك الوقاد
وإذا صافح النسيم حبيبتى خلته هب من نسيم بـلادي
ومن ذلك قصيدته (العصفورة)
عصفورة مرت على غرفتى تشدوا بلحن ساحر النبرة
والناس صرعى النوم لم يفطنو كأنهم ـ بالنوم ـ في سكرة
مرت تغنّى فا ستثارت جوى قلبي وأشواقى لعصفورتى
وواقعية الشيخ أكثر ما تتمثل في حديثه عن آلام أمّته وعن معاناتها عن الحزن والفقر عن الظلم والاستبداد ...فمن ذلك قصيدة (المبعد) والتي جاء فيها:
أيها المبعد ما أعظم صبرك
أنت قبل الموت أودعت قبرك...
أيها المبعد قد طال غيابك
وتمادى عن محبيك احتجابك
أي يوم يا ترى فيه إيابك...
ومثل ذلك قصيدة (من وحي المأساة) (الإخوان بلسم الأحزان) (أين يا صدّاح) (يا لها غربة)
كما تظهر واقعية الشيخ أحمد سحنون من خلال تعرضه لجزئيات واقع أمته ويومياتها بكلّ تفصيلاتها ومن ذلك وقوفه عند كلّ عيدٍ من أعيادها وكلّ حدثٍ صغير أو كبير من أيامها ومجرياتها فتحدث عن المعلم والتلميذ وعن الكشاف والشاعر وعن ذكرى المولد والهجرة ورمضان وليلة القدر والعيد والحجّ والإسراء وبدر وعن المؤتمر الإسلامي وثورة التحرير وجميع المناسبات المتعلقة بجمعية العلماء المسلمين وحرب 67 وحرب 73 ونقل رفاة الأمير عبد القادر و نعى ورثى كبار أعلام الجزائر ومشاهير الأمة العربية والإسلامية وتحدث عن السجناء والمنفيين والمبعدين كما تحدث عن الفقر والجهل عن الظلم والاستبداد عن الثورة والإصلاح وعن الدعوة والإرشاد...
ولعلّ شكل قصائده وأغراضها واقتباساته من القرآن والسنة واستشهاداته بالموروث التاريخي والحضاري كلّ ذلك من كلاسيكيته ...
وهكذا ينبغي للشاعر الإسلامي أن يكون ...لا يتقيّد بمذهب أدبي أو فكري بشري إلاّ بقدر ما يخدم ذلك المذهب أو الرأي مهمته في الأدب والحياة ...
8. أسلوبه الخطابي والوعظي :
وهو أسلوب يبدو أنّه انعكاس لمحيط الشاعر وظروفه ...فالخطيب المتفوّه والإمام المرشد الواعظ لمدّة أكثر من ستين سنة تردّد على مساجد عدّة وخطب ووعظ في مناسبات شتى لا بدّ وأن يؤثر ذلك في شعره ويظهر في أسلوبه وفي مختارات ألفاظه وأفكاره ...
ومن مظاهر هذا الأسلوب كثرة الاقتباس من القرآن والسنّة
والشواهد على ذلك كثيرة جدّاً نكتفي ها هنا بذكر شاهدين اثنين اقتبس الشاعر فيهما من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قل نقل نص الحديث كلّه
فقصيدة (سلمان منا أهل البيت) وقوله فيها :
أعظم شيء به تهنا قول الرسول سلمان منا
ومثلها قوله في قصيدة (إلى التلميذ) :
خالق الناس بخلق حسن فجمال الخلق عنوان الرشاد
ويكفي العودة إلى الشواهد المذكورة في غير هذا المطلب وهذا المبحث ليلاحظ المتأمّل أنّ الاقتباس ظاهرة مطّردة في شعر الشيخ أحمد سحنون ...
ومن مظاهره كذلك كثرة الابتهالات والاستغاثة و الوعظ والدعاء في أشعار الشيخ أحمد سحنون ومن شواهد ذلك ما يلي:
رباه لم تبق لنا حيلة ومالنا حول ولا قوة
ومالنا غيرك من عاصم يعصمنا من هده الهوة
وقوله في قصيدة (ربي) :
رب إنا إلى حماك التجأنا ربي إنا على نداك اعتمدنا
رب إنا منا إليك فررنا رب إنا تبنا إليك وعدنا
ومن مظاهره كذلك استعمال الأساليب الخطابية كالنداء الذي لا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائده
فمن ذلك (يا رجاء الضاد) (كشاف يا ابن الطليعة) (يا أخا الوحي) (يا بني الضاد)
ومن مظاهر هذا الأسلوب استعمال التراكيب التفاعلية (التفاعل مع القارئ) من استفهام وتعجب وأمر ونهي ونحو ذلك
ولاحظ معي قصيدة (إلى المعلم) يكاد لا يخلو بيت فيها من أفعال الأمر والنهي
(هات من نشء , وادّخر لغدٍ , هات نشئاً , هاته نشئاَ , حطه بالإسلام , احمه بالخلق , اهده بالعلم , زوده بزاد , صغه للإسلام , سرْ به , فاسقه من ينابيع المعالي , فاهده نهجه, لا تقل , لا تضق , لا تهلك ....)