أبو معاذ البخيت
New member
- إنضم
- 03/04/2003
- المشاركات
- 34
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
موضوع آخر يتعلق أيضا بنزول القرآن وهو :
بيان أول ما نزل وآخر ما نزل:
فوائد معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل :
1 / معرفة الناسخ والمنسوخ .
2/ أن معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل، يدل على شدة عناية الصحابة رضي الله عنهم بكتاب الله عز وجل حيث ضبطوا هذه الأمور، وهذا لا تجده في كتاب آخر من الكتب التي نزلت على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فهذا دليل أكيد على سلامة القرآن من التبديل والتحريف لعظم العناية التي حظي بها،إضافة إلى أن الله تكفل بحفظه فكان من أسباب الحفظ التي يسرها الله عز وجل له، أن جعل الصحابة رضي الله عنهم يعنون به هذه العناية العظمى.
3/ ومن الفوائد أيضاً: إدراك أسرار التشريع والمنهج التربوي القرآني، فكان أول ما نزل عليهم يتعلق بتقرير الأصول الكبار والعقائد، وما أشبه ذلك، وكان التركيز عليها، ثم بعد ذلك جاءت الأمور الأخرى مشروحة في المدينة، وكان أواخر ما حرّم عليهم بعض الأمور التي كانوا يتعلقون بها أشد التعلق، خلاف عبادة غير الله عز وجل فهذا أصل قرره القرآن لأول وهلة، وأنه أمر باطل وأنه لا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى.
بيان أول ما نزل من القرآن بإطلاق :
إن أول ما نزل من القرآن بإطلاق،أي ليس في موضوع معين، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) فهذا أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله عز وجل، والدليل على ذلك:ما أخرجه الشيخان ( خ / 4 ، م / 160 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبّب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود بذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها، فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ما أنا بقارئ .. الحديث) فهذا أول ما نزل بإطلاق .
ولحديث عائشة أيضا ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( أول سورة نزلت من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) ( إسناده حسن).
وكذلك أيضاً ما صح عن أبي رجاء قال :كان أبو موسى يُقرئنا فيُجلسنا حِلَقاً عليه ثوبان أبيضان، فإذا تلا هذه السورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) قال : هذه أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم . - إسناده صحيح-.
وأيضاً صح عن عبيد بن عمير قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اقرأ قال : وما أقرأ؟ فوالله ما أنا بقارئ فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) فكان يقول: هو أول ما نزل، فهذا مرسل، وإسناده صحيح إلى عبيد بن عمير، ولكنه مع إرساله يعتضد بما قبله.
وكذلك صح عن مجاهد قال : إن أول ما أُنزل من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) و (نْ وَالْقَلَمِ )
فإذا تقرر هذا المعنى فإنه يرد عليه إشكال يحتاج إلى جواب، هو ما أخرجه الشيخان( خ/ 4 ، م / 161 ) عن أَبَي سَلَمَةَ َقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . فَقُلْتُ: أَوْ اقْرَأْ؟ قَالَ جَابِرٌ : أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ :"جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) (المدثر: :1 :4) وفي رواية للبخاري عنه قَالَ " سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ فَقَالَ فِى حَدِيثِهِ:« فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ " فيمكن أن يقال في جواب ذلك:
لعل جابراً ـ رضي الله عنه ــ أراد أول سورة نزلت كاملة؛ لأن سورة اقرأ نزلت إلى قوله (عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5) ،ثم نزلت المدثر كاملة قبل تمام اقرأ.
ويمكن أن يقال: إنه نبئ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، فمراده أول سورة في الإرسال .
ويمكن أن يقال: إنه أراد أول ما نزل بعد فترة الوحي؛ إذ الوحي نزل قبل ذلك بنص هذا الحديث.
ويدل على ذلك أيضاً قوله في الحديث : " فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء" إذاً فهو قد جاءه بحراء أول مرة فنزل بإقرأ، ثم جاء الثانية فنزل بالمدثر . فهذان شاهدان من نفس الحديث على أن يا أيها المدثر ليست أول ما نزل .
والجواب الرابع أن يقال: لعل ذلك قاله جابر رضي الله عنه اجتهاداً منه، والاجتهاد يصيب ويخطئ.
وهنا إشكال آخر يحتاج إلى جواب، وهو ما أخرجه البخاري ( 4993 ) عنَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ " وسورة (اقرأ) ليس فيها ذكر الجنة والنار.
فالجواب : أن أحسن ما يجاب به في هذه المسألة أن ( مِن) مقدرة، يعني: إن من أول ما نزل، أي أنها تريد ابتداء نزول الوحي، ولا تريد أن تقرر أن أول سورة نزلت من القرآن بإطلاق هي تلك السورة، وإنما تريد أن تبين تدرج التشريع، فيفهم هذا من السياق، والله تعالى أعلم، وإلا فمعلوم أن ذكر الجنة والنار في آخر سورة المدثر.
ولهذا يمكن أن يقال ــ والله تعالى أعلم ــ إن أول ما نزل سورة اقرأ،لكنها لم تنزل كاملة، ثم بعد ذلك نزلت سورة المدثر وفيها ذكر الجنة والنار، ثم بعد ذلك بزمن الله أعلم به نزلت بقية سورة اقرأ.
وأما الأقوال الأخرى ـ سوى هذين ـ فهي أقوال ضعيفة.
أول ما نزل باعتبار موضوع خاص :
إذا عرفت أول ما نزل مطلقا،فهناك أوائل نسبية تتعلق بموضوعات معينة:
فمن ذلك؛ما صح عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أن أول آية نزلت في القتال هي قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا )(الحج: من الآية39).
وكذلك أول آية نزلت في الخمر؛ فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء، فنزلت التي في البقرة (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)(البقرة: من الآية219) فدُعي عمر فقُرأت عليه ، قال اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)(النساء: من الآية43) فدُعي عمر فقُرأت عليه، ثم قال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء.. فنزلت التي في المائدة (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:91) فدُعي عمر فقُرأت عليه فقال: " انتهينا انتيهنا " أخرجه الترمذي ( 3049 ، والنسائي 5540 )
فهذه آخر آية نزلت في الخمر ، وأول آية نزلت فيه هي (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ).
ومن ذلك : أن أول سورة نزلت فيها سجدة هي: سورة النجم؛ كما في البخاري(4863) عن ابن مسعود رضي الله عنه .
و بإسناد حسن عن مجاهد في قوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ )(التوبة: من الآية25) قال هي أول ما نزل من سورة براءة، ومعلوم أن سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن.
وأيضا صح عن أبي الضحى قال: أول ما نزل من براءة (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً)(التوبة: من الآية41) ثم نزل أولها، ثم نزل آخرها،فهذه عن بعض التابعين ولها حكم المرسل.
وكذلك: أول من نزل من آل عمران، فقد صح عن سعيد بن جبير قال: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138)، ثم أُنزلت بقيتها يوم أحد.
هذه بعض الروايات الصحيحة الثابتة في تحديد أول ما نزل في موضوع معين، أوفي سورة معينة، وهناك روايات كثيرة جداً، لكن هذه الروايات في أغلبها لا تصح فتركتها. ولا أُورد في هذه المواضيع إلا رواية صحيحة أو حسنة إلا إذا بينت ضعفها.
بيان آخر ما نزل على الإطلاق :
أخرج البخاري ( 4544 ) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت آية الربا.
وصح عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا" وهذا وإن كان ليس قاطعا؛ لقوله : "إن من آخر القرآن نزولا" لكن عندنا روايات صريحة أنها آخر ما نزل.
وأيضا صح عن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )(البقرة: من الآية281) الآية .
وصح عن ابن شهاب الزهري ــ وهو من صغار التابعين ــ قال: آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين.
فكيف نجمع بين هذه الأقوال ؟
نستطيع أن نجمع بين هذه الروايات الصحيحة المشهورة، بأن يقال: هذه الآيات متتابعة في المصحف كما هو معروف، والقصة واحدة، فهي نزلت جملة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل، فيصح بهذا الاعتبار إذا تحدثت عن آية منها أن تقول هي آخر ما نزل من القرآن، فنقول آية الدين آخر ما نزل ـ بهذا الاعتبار ـ، ويصح أن نقول آية الربا آخر نزل، ويصح أن نقول آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )(البقرة: من الآية281) آخر ما نزل لأنها نزلت جملة واحدة، فلا إشكال، فهذا هو وجه الجمع بين هذه الروايات الصحيحة المشهورة في آخر ما نزل.
وقد صح عن البراء رضي الله عنه كما أخرج الشيخان : قال آخر ما نزل : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(النساء: من الآية176)فهذا يشكل على ما سبق،ويمكن الجمع بين حديث البراء ـ رضي الله عنه ــ وبين ما قبله من أن الآيات الثلاث هي آخر ما نزل بعدة أجوبة:
فإما أن يقال: إن هذا اجتهاد من البراء ـ رضي الله عنه ــ فقال بحسب ما أدّاه اجتهاده . وبحسب ما علم.
أو يقال: يمكن أن تكون هذه الآية أيضا نزلت في ذلك الوقت، فتكون هي فعلا أيضاً في حكم تلك الآيات، و هي آخر ما نزل .
ويمكن أن يقال: هي آخر ما نزل باعتبار موضوع خاص، وهو المواريث،أي أنها آخر ما نزل في المواريث فقط .
ويمكن أن يقال: إن كل واحد من هؤلاء سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه أنه نزل عليه شيء من هذه الآيات، ولم يعلم بنزول ما بعدها، فحكم على هذا بأنه آخر ما نزل، والله تعالى أعلم.
وقد جاء بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( آخر سورة نزلت المائدة فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ) فهل هذا يشكل على ما سبق ؟
الجواب: لا ،لأنها تتكلم عن السور، فسورة المائدة لا شك أنها آخر ما نزل، وإن لم تكن نزلت كاملة.
وجاء أيضا بإسناد حسن عن عبد الله بن عمروبن العاص قال: ( آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح) يعني (إذا جاء نصر الله والفتح ) وليست ( إنا فتحنا لك )، فأما سورة (إذا جاء نصر الله والفتح ) فيمكن أن يقال: هي آخر سورة نزلت كاملة،ولهذا استنبط منها ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها نعي للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه نعيت إليه نفسه عليه الصلاة والسلام .
فالحاصل أنه يجاب عن هذه الروايات بمثل ما سبق، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
وليس في هذا شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمكن أن تكون هذه اجتهادات من الصحابة، ويمكن أن يكون كل إنسان حدَّث بحسب ما شاهد وظن أنه فعلاً آخر ما نزل.
ومن غريب ما ورد في ذلك ما جاء عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه تلا قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(الكهف: من الآية110) وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن، وهذا إسناده حسن. فاستشكله الحافظ ابن كثير رحمه الله وقال: "لعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية ناسخة – أي: تنسخها – ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فكأنه لا يقصد الآخرية المطلقة، ولكن يقصد أن حكمها ثابت لم يتغير.
وهكذا ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس قال: نزلت هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ)(النساء: من الآية93) هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وعند أحمد والنسائي بإسناد حسن عنه،قال :" لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء"فيجاب عن ذلك بما يلي:
إما أن يقال: هي من أواخر ما نزل .
أو نقول هي آخر آية نزلت في موضوع القتل.
إشكال وجوابه :
بعد ذلك قد يقول قائل: إنه اشتهر على ألسنة الناس، وطرق أسماعهم كثيرا أن آخر ما نزل هو قول الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3)
فهذا غير صحيح إطلاقا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بقي بعد هذه الآية مدة تزيد على الثمانين يوماً، فنزل بعدها فرائض وأحكام؛ كآية الربا، وآية الدين، وآية الكلالة.
لكن قد يشكل على هذا التقرير،معنى قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) مع أن هذه الأحكام نزلت بعدها ، فيمكن أن يجاب عن ذلك بما يلي :
أن يقال: إن معنى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي : أكمل لهم دينهم بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون، لا يخالطهم المشركون، ـ كما قال ابن جرير رحمه الله ـ ، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت براءة؛ نُفِيَ المشركون عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)
إذاً: فمعنى: ( اليوم أكملت لكم دينكم)، يعني: بإقرارهم بالبيت الحرام، وإفرادهم فيه، بعد أن كان المسلمون يحجون مع المشركين، فمُنِعوا في حجة أبي بكر رضي الله عنه، فحج المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة منفردين بالبيت الحرام، ما حج معهم مشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في العام التاسع، في حجة أبي بكر ــ رضي الله عنه ــ: " ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. "
هذا والله أعلم . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
بيان أول ما نزل وآخر ما نزل:
فوائد معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل :
1 / معرفة الناسخ والمنسوخ .
2/ أن معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل، يدل على شدة عناية الصحابة رضي الله عنهم بكتاب الله عز وجل حيث ضبطوا هذه الأمور، وهذا لا تجده في كتاب آخر من الكتب التي نزلت على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فهذا دليل أكيد على سلامة القرآن من التبديل والتحريف لعظم العناية التي حظي بها،إضافة إلى أن الله تكفل بحفظه فكان من أسباب الحفظ التي يسرها الله عز وجل له، أن جعل الصحابة رضي الله عنهم يعنون به هذه العناية العظمى.
3/ ومن الفوائد أيضاً: إدراك أسرار التشريع والمنهج التربوي القرآني، فكان أول ما نزل عليهم يتعلق بتقرير الأصول الكبار والعقائد، وما أشبه ذلك، وكان التركيز عليها، ثم بعد ذلك جاءت الأمور الأخرى مشروحة في المدينة، وكان أواخر ما حرّم عليهم بعض الأمور التي كانوا يتعلقون بها أشد التعلق، خلاف عبادة غير الله عز وجل فهذا أصل قرره القرآن لأول وهلة، وأنه أمر باطل وأنه لا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى.
بيان أول ما نزل من القرآن بإطلاق :
إن أول ما نزل من القرآن بإطلاق،أي ليس في موضوع معين، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) فهذا أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله عز وجل، والدليل على ذلك:ما أخرجه الشيخان ( خ / 4 ، م / 160 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبّب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود بذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها، فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ما أنا بقارئ .. الحديث) فهذا أول ما نزل بإطلاق .
ولحديث عائشة أيضا ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( أول سورة نزلت من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) ( إسناده حسن).
وكذلك أيضاً ما صح عن أبي رجاء قال :كان أبو موسى يُقرئنا فيُجلسنا حِلَقاً عليه ثوبان أبيضان، فإذا تلا هذه السورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) قال : هذه أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم . - إسناده صحيح-.
وأيضاً صح عن عبيد بن عمير قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اقرأ قال : وما أقرأ؟ فوالله ما أنا بقارئ فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) فكان يقول: هو أول ما نزل، فهذا مرسل، وإسناده صحيح إلى عبيد بن عمير، ولكنه مع إرساله يعتضد بما قبله.
وكذلك صح عن مجاهد قال : إن أول ما أُنزل من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) و (نْ وَالْقَلَمِ )
فإذا تقرر هذا المعنى فإنه يرد عليه إشكال يحتاج إلى جواب، هو ما أخرجه الشيخان( خ/ 4 ، م / 161 ) عن أَبَي سَلَمَةَ َقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . فَقُلْتُ: أَوْ اقْرَأْ؟ قَالَ جَابِرٌ : أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ :"جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) (المدثر: :1 :4) وفي رواية للبخاري عنه قَالَ " سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ فَقَالَ فِى حَدِيثِهِ:« فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ " فيمكن أن يقال في جواب ذلك:
لعل جابراً ـ رضي الله عنه ــ أراد أول سورة نزلت كاملة؛ لأن سورة اقرأ نزلت إلى قوله (عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5) ،ثم نزلت المدثر كاملة قبل تمام اقرأ.
ويمكن أن يقال: إنه نبئ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، فمراده أول سورة في الإرسال .
ويمكن أن يقال: إنه أراد أول ما نزل بعد فترة الوحي؛ إذ الوحي نزل قبل ذلك بنص هذا الحديث.
ويدل على ذلك أيضاً قوله في الحديث : " فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء" إذاً فهو قد جاءه بحراء أول مرة فنزل بإقرأ، ثم جاء الثانية فنزل بالمدثر . فهذان شاهدان من نفس الحديث على أن يا أيها المدثر ليست أول ما نزل .
والجواب الرابع أن يقال: لعل ذلك قاله جابر رضي الله عنه اجتهاداً منه، والاجتهاد يصيب ويخطئ.
وهنا إشكال آخر يحتاج إلى جواب، وهو ما أخرجه البخاري ( 4993 ) عنَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ " وسورة (اقرأ) ليس فيها ذكر الجنة والنار.
فالجواب : أن أحسن ما يجاب به في هذه المسألة أن ( مِن) مقدرة، يعني: إن من أول ما نزل، أي أنها تريد ابتداء نزول الوحي، ولا تريد أن تقرر أن أول سورة نزلت من القرآن بإطلاق هي تلك السورة، وإنما تريد أن تبين تدرج التشريع، فيفهم هذا من السياق، والله تعالى أعلم، وإلا فمعلوم أن ذكر الجنة والنار في آخر سورة المدثر.
ولهذا يمكن أن يقال ــ والله تعالى أعلم ــ إن أول ما نزل سورة اقرأ،لكنها لم تنزل كاملة، ثم بعد ذلك نزلت سورة المدثر وفيها ذكر الجنة والنار، ثم بعد ذلك بزمن الله أعلم به نزلت بقية سورة اقرأ.
وأما الأقوال الأخرى ـ سوى هذين ـ فهي أقوال ضعيفة.
أول ما نزل باعتبار موضوع خاص :
إذا عرفت أول ما نزل مطلقا،فهناك أوائل نسبية تتعلق بموضوعات معينة:
فمن ذلك؛ما صح عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أن أول آية نزلت في القتال هي قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا )(الحج: من الآية39).
وكذلك أول آية نزلت في الخمر؛ فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء، فنزلت التي في البقرة (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)(البقرة: من الآية219) فدُعي عمر فقُرأت عليه ، قال اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)(النساء: من الآية43) فدُعي عمر فقُرأت عليه، ثم قال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء.. فنزلت التي في المائدة (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:91) فدُعي عمر فقُرأت عليه فقال: " انتهينا انتيهنا " أخرجه الترمذي ( 3049 ، والنسائي 5540 )
فهذه آخر آية نزلت في الخمر ، وأول آية نزلت فيه هي (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ).
ومن ذلك : أن أول سورة نزلت فيها سجدة هي: سورة النجم؛ كما في البخاري(4863) عن ابن مسعود رضي الله عنه .
و بإسناد حسن عن مجاهد في قوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ )(التوبة: من الآية25) قال هي أول ما نزل من سورة براءة، ومعلوم أن سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن.
وأيضا صح عن أبي الضحى قال: أول ما نزل من براءة (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً)(التوبة: من الآية41) ثم نزل أولها، ثم نزل آخرها،فهذه عن بعض التابعين ولها حكم المرسل.
وكذلك: أول من نزل من آل عمران، فقد صح عن سعيد بن جبير قال: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138)، ثم أُنزلت بقيتها يوم أحد.
هذه بعض الروايات الصحيحة الثابتة في تحديد أول ما نزل في موضوع معين، أوفي سورة معينة، وهناك روايات كثيرة جداً، لكن هذه الروايات في أغلبها لا تصح فتركتها. ولا أُورد في هذه المواضيع إلا رواية صحيحة أو حسنة إلا إذا بينت ضعفها.
بيان آخر ما نزل على الإطلاق :
أخرج البخاري ( 4544 ) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت آية الربا.
وصح عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا" وهذا وإن كان ليس قاطعا؛ لقوله : "إن من آخر القرآن نزولا" لكن عندنا روايات صريحة أنها آخر ما نزل.
وأيضا صح عن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )(البقرة: من الآية281) الآية .
وصح عن ابن شهاب الزهري ــ وهو من صغار التابعين ــ قال: آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين.
فكيف نجمع بين هذه الأقوال ؟
نستطيع أن نجمع بين هذه الروايات الصحيحة المشهورة، بأن يقال: هذه الآيات متتابعة في المصحف كما هو معروف، والقصة واحدة، فهي نزلت جملة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل، فيصح بهذا الاعتبار إذا تحدثت عن آية منها أن تقول هي آخر ما نزل من القرآن، فنقول آية الدين آخر ما نزل ـ بهذا الاعتبار ـ، ويصح أن نقول آية الربا آخر نزل، ويصح أن نقول آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )(البقرة: من الآية281) آخر ما نزل لأنها نزلت جملة واحدة، فلا إشكال، فهذا هو وجه الجمع بين هذه الروايات الصحيحة المشهورة في آخر ما نزل.
وقد صح عن البراء رضي الله عنه كما أخرج الشيخان : قال آخر ما نزل : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(النساء: من الآية176)فهذا يشكل على ما سبق،ويمكن الجمع بين حديث البراء ـ رضي الله عنه ــ وبين ما قبله من أن الآيات الثلاث هي آخر ما نزل بعدة أجوبة:
فإما أن يقال: إن هذا اجتهاد من البراء ـ رضي الله عنه ــ فقال بحسب ما أدّاه اجتهاده . وبحسب ما علم.
أو يقال: يمكن أن تكون هذه الآية أيضا نزلت في ذلك الوقت، فتكون هي فعلا أيضاً في حكم تلك الآيات، و هي آخر ما نزل .
ويمكن أن يقال: هي آخر ما نزل باعتبار موضوع خاص، وهو المواريث،أي أنها آخر ما نزل في المواريث فقط .
ويمكن أن يقال: إن كل واحد من هؤلاء سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه أنه نزل عليه شيء من هذه الآيات، ولم يعلم بنزول ما بعدها، فحكم على هذا بأنه آخر ما نزل، والله تعالى أعلم.
وقد جاء بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( آخر سورة نزلت المائدة فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ) فهل هذا يشكل على ما سبق ؟
الجواب: لا ،لأنها تتكلم عن السور، فسورة المائدة لا شك أنها آخر ما نزل، وإن لم تكن نزلت كاملة.
وجاء أيضا بإسناد حسن عن عبد الله بن عمروبن العاص قال: ( آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح) يعني (إذا جاء نصر الله والفتح ) وليست ( إنا فتحنا لك )، فأما سورة (إذا جاء نصر الله والفتح ) فيمكن أن يقال: هي آخر سورة نزلت كاملة،ولهذا استنبط منها ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها نعي للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه نعيت إليه نفسه عليه الصلاة والسلام .
فالحاصل أنه يجاب عن هذه الروايات بمثل ما سبق، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
وليس في هذا شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمكن أن تكون هذه اجتهادات من الصحابة، ويمكن أن يكون كل إنسان حدَّث بحسب ما شاهد وظن أنه فعلاً آخر ما نزل.
ومن غريب ما ورد في ذلك ما جاء عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه تلا قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(الكهف: من الآية110) وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن، وهذا إسناده حسن. فاستشكله الحافظ ابن كثير رحمه الله وقال: "لعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية ناسخة – أي: تنسخها – ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فكأنه لا يقصد الآخرية المطلقة، ولكن يقصد أن حكمها ثابت لم يتغير.
وهكذا ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس قال: نزلت هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ)(النساء: من الآية93) هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وعند أحمد والنسائي بإسناد حسن عنه،قال :" لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء"فيجاب عن ذلك بما يلي:
إما أن يقال: هي من أواخر ما نزل .
أو نقول هي آخر آية نزلت في موضوع القتل.
إشكال وجوابه :
بعد ذلك قد يقول قائل: إنه اشتهر على ألسنة الناس، وطرق أسماعهم كثيرا أن آخر ما نزل هو قول الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3)
فهذا غير صحيح إطلاقا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بقي بعد هذه الآية مدة تزيد على الثمانين يوماً، فنزل بعدها فرائض وأحكام؛ كآية الربا، وآية الدين، وآية الكلالة.
لكن قد يشكل على هذا التقرير،معنى قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) مع أن هذه الأحكام نزلت بعدها ، فيمكن أن يجاب عن ذلك بما يلي :
أن يقال: إن معنى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي : أكمل لهم دينهم بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون، لا يخالطهم المشركون، ـ كما قال ابن جرير رحمه الله ـ ، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت براءة؛ نُفِيَ المشركون عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)
إذاً: فمعنى: ( اليوم أكملت لكم دينكم)، يعني: بإقرارهم بالبيت الحرام، وإفرادهم فيه، بعد أن كان المسلمون يحجون مع المشركين، فمُنِعوا في حجة أبي بكر رضي الله عنه، فحج المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة منفردين بالبيت الحرام، ما حج معهم مشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في العام التاسع، في حجة أبي بكر ــ رضي الله عنه ــ: " ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. "
هذا والله أعلم . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين