أبو فهر السلفي
New member
- إنضم
- 26/12/2005
- المشاركات
- 770
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
بسم الله والحمد والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
فليس خفياً أن غرض هذه المقالات هو تحريض الباحثين في الأوساط الأكاديمية وغيرها على أن يولوا هذا الضرب من الكتب عنايتهم درساً وتمحيصاً ،وأن غرض هذه المقالات بعد هذه المقدمات المعرفية هي أن تقترح عليهم طائفة من هذه الكتب مصحوبة بقوائم بيبليوجرافية عنها بحيث تكون مفتاحاً لدراستها.
غير أن البراءة من الغرر هاهنا واجبة،وتقتضي أن نقول لأولئك الباحثين أنكم إن أقبلتم على درس هذا الضرب من الكتب دراسة تجزيء عنكم أنكم حينها لن تكونوا أبداً في نزهة أو على متن عمل يسير بل على العكس تماماً فأنتم بإقبالكم على هذا الضرب من الكتب قد اخترتم من أنواع الدراسات أشقها،ولولا المشقة ساد الناس كلهم.
ذلك أن لدراسة الكتب الأعمدة شرط لازم لا تنفك عنه وإذا فقدت هذه الدراسة هذا الشرط =فقدت قيمتها ، وإذا فقد الباحث هذا الشرط =فقد أهليته لهذا النوع الشريف من أنواع دراسة العلم وكتبه.
ذلكم الشرط هو= إدمان الطَرق وجلد الصبر وطول المراجعة وشدة اليقظة والتوسد أمام باب الفكرة البكر حتى ينفض رتاجها...
وأنا أكتفي في بيان هذا الشرط بذكر نصين عاليين للشيخ الدكتور محمد محمد أبي موسى يوضح فيهما بأتم عبارة وأوفاها شرط هذه الدراسة :
(1)
[من أهم ما يجب أن يكون = أن نبذل في دراسة علومنا القدر الذي بذله كل جيل من أجيال علمائنا الذين سبقونا بإحسان مع زيادة المجهود وزيادة في التحرير والتدقيق ، وزيادة في إتقان الوسائل ، وتجويد العمل ، تتعادل هذه الزيادة مع التقدم السريع الذي تحققه الأجيال في سباقها المحموم نحو التقدم والسبق والغلبة .
وكانت أجيالنا من العلماء الذين سبقونا يبذلون كل وقتهم ، وكدهم وجهدهم في تقريب علم الأمة إلى أجيالها ، وخلق السبل الميسرة للتواصل بين أهل الزمان الذين يعيش فيه العالم وبين العلم الذي شغل به ، إيماناً منهم بضرورة أن تُقارب هذه العلوم عقول الأجيال ، وأن تُساكن نفوسهم وهم يمارسون ما يمارسون من بناء وتقدم؛ لأن روح الأمة وماهيتها وما تمتاز به بين الناس من خصوصية إنما هو في هذه العلوم ، وما تتضمنه من قيم وأفكار ومعان ومبادئ وليس تقريب العلم من روح العصر بالأمر الهين ، ولا هو بتغيير في أسلوب العلم ولغته ، وإنما تقريب العلم من روح العصر وأهل الزمن عمل أبعد من ذلك ، ولا يقف أبداً عند اللغة لأنه إعمال العقل في جوهر المعرفة ، وتحوير في هذا الجوهر وتعديل في البناء الفكري، حتى يتلاءم جوهر العلم مع الزمن الجديد ، وهذا جهاد آخر لا يقل عن جهاد الذين أسسوا ، واستنبطوا ، ثم هو نفسه تطوير للفكر وتجديد له وتحديث له ، لأن إعمال العقل لا يكون أمراً معتداً به ما لم ينفذ هذا العقل إلى حقائق العلم وينفث فيها من روحه فيستحسن ما يستحسن من أفكار ، ويطيل الكلام فيه ويستكشف وجهاً من وجوه حسنة كان مغشى في كلام من سبق، ويستهين بفكرة ، ويغمض الكلام فيها وكانت بارزة في كلام من سبق ، وبذلك وغيره كثير يصير هذا العلم مصبوغاً بعقل هذا الباحث الذي درسه وقربه وأحضره لعصره ، ولهذا نرى كل كتاب في العلم الواحد والذي له ثوابت واحدة يتميز مصنفه ، ويحمل روح كاتبه ، هذه الروح التي تصر على أن تظهر من وراء الثوابت الكثيرة والضوابط المطردة .
ولا يكون تقديم العلم إلى الزمن الذي نحن فيه تغييراً في الأسلوب فحسب إلا عند المخلصين للمعرفة ، والذين يأخذون ظواهرها ولا تتولج قلوبهم وعقولهم في حقائقها وجوهرها . وقد قالوا إن كتاب سيبويه مع جودته وأنه لم يشذ عنه شيء في بابه حتى إن أبا الطيب اللغوى كان يسميه قرآن النحو ، أقول هو مع هذا قالوا فيه إنه كتب على شريطة زمانه قال ابن كيسان نظرنا في كتاب سيبويه فوجدناه في الموضع الذي يستحقه ، ووجدنا ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح لأنه كتاب ألف في زمان كان أهله يألفون مثل هذه الألفاظ فاختصر على مذهبهم . انتهي كلام بن كيسان .
وقوله: وجدنا ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح ، لا أفهم منها غرابة الألفاظ لأن كتاب سيبويه ليس فيه ألفاظ غريبة وإنما الألفاظ هنا المراد به صياغة الأفكار وتركيب الأفكار وأن الإيضاح المقصود هو إعادة تركيب هذه الأفكار على الوجه الذي يفهمه أهل الزمان وأن سر وروده في كتاب سيبويه هو أن أهل زمانه كانوا يألفون هذه الأبنية أعنى أبنية الأفكار ولذلك نجد أ، الغموض الذي ذكره العلماء في كتاب سيبويه وسأل فيه الأكابر الأكابر ، لم يكن راجعاً إلى لفظ غريب وإنما كان راجعاً إلى بيان مراد سيبويه من عبارته وراجع شروحه سيبويه في الأزمنة المتتابعة تجد كل شرح كأنه صناعة جديدة لعلم سيبويه أعنى وعياً جديداً للمادة النحوية وبناء جديداً لها وهذا هو الذي يفسر لنا ولع أهل العلم بقراءة الكتاب حتى إن أحد نحاة الأندلس وهو عبد الله بن محمد بن عيسي كان يختم كتاب سيبويه في كل خمسة عشر يوماً ، وهذا قاطع في أن المراد ليس هو تحصيل المادة العلمية كما هي في الكتاب وإنما المراد التدسس في أعطاف هذه المادة لاستخراج ما خفي من علم الرجل ، وكان أبو جعفر النحاس يقول إن سيبويه جعل من كتابه شروحاً وجعل فيه مشتبهاً ليكون لمن استنبط ونظر فضل وعلى هذا خاطبهم الله عز وجل بالقرآن .
الذي أريده هو أن اللاحقين من علمائنا بذلوا من الجهد في مزاولة وتحرير وتدقيق علم من سبقوهم الشيء الكثير حتى إنك لو قلت إنهم كانوا أكثر كداً وكدحاً ومزاولة وصبراً لم تتجاوز وإن كانوا دائماً يعترفون بالتقصير وتقديم من سبق لأن هذا من خلق وطبع أهل العلم .
لا أشك في أن من شراح سيبويه وممن قرؤوا كتابه وعقبوا علتيه من لا يقل فضلاً وعلماً عن سيبويه ، ولا أتردد في أن أبا سعيد السيرافي كان من طبقة سيبويه في علمه ، وذكائه ووعيه باللسان وربما كان أوسع ميداناً من سيبويه لأن كان مفسراً وفقيهاً ومفتياً وقد وصفه أبو حيان بقوله كان أبو سعيد أجمع لشمل العلم وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب وأخرج من كل طريق وألزم للجادة الوسطى ، في الدين والخلق ، وأقضى في الأحكام وأفقه في الفتوى .
أردت أن أؤكد أن الذين عالجوا نقل المعرفة من جيل إلى جيل على الوجه الأفضل والأشمل والأمكن هم الذين طوروها من خلال هذه المعالجة ، وقد بذلوا في ذلك جهوداً لا تقل عن جهود اللذين استنبطوا و استحرجوا ، وانهم كانوا يعانون التغلغل في أعطاف المعرفة وفي جوهر المعرفة تغلغلاً يكشف لهم خباياها و سرها و فقهها ، و أن زماننا حرم من هذا الصبر و الانقطاع ،و طول الملازمة و كل ذلك و ما هو اكثر منه واجب في تقريب العلوم و استمرار تيارها ، و تفاعلها ، و فعلها في أجيال العامة و الخاصة ،و من الخطر أن يتوقف هذا التيار ، و خصوصا بعد هجمات التغريب التي داخلت العلوم العربية و الاسلامية و هي في أحضان المخلصين لها .
الأصل أن يجتهد المشتغلون بعلم البلاغة في زماننا اجتهاد عبد القادر و الزمخشري و الرازي و أبى يعقوب و ابن الأثير و ابن أبى الاصبع و غيرهم و أن يجتهد النحاة اجتهاد الخليل و سيبوية و يونس و الأخفش و السيرافي و أبى على و أبى الفتح ، و أن يجتهد الفقهاء اجتهاد مالك و الشافعى و أحمد ومن في طبقتهم .
و لا يكون ذلك إلا بالانقطاع و الصبر و طول الملابسة و الصدق و الاخلاص ، و هذا هو الطريق الذي لا طريق للناس سواه في تطوير المعرفة و نموها و ازدهارها و ليس باللغو الكاذب الذي تراه من حولك و تسمعه.
و هذا الاجتهاد و هذا الصبر و هذا الإخلاص و هذا الصدق هو الذي تتخلق في محيطه النقي الصادق عبقريات لا غنى لحياة الناس عنها ، و أن يكون ذلك في كل ميادين المعرفة، و انه لمن الشيء الذي يجب أن نتوقف عنده بحذر و خوف و هو أن تنقطع سلسلة النبوغ في أي فرع من فروع المعرفة ، حتى لا نرى ما نابها من كل عقد من الزمن في كل باب من أبواب العلم.
إنه لمن المخيف بل و المرعب أن تنسى حياتنا ظهور النوابغ ، و أن تغفل عن صناعتها ، و أن تكون جامعاتنا كالأرض الخراب ليس فيها إلا أصداء أصوات الأخرين في كل فروع المعرفة ،و ليس لهذا كله علة إلا علة واحدة هي أننا نسينا مذاهب العلماء في الانقطاع لطلب العلم ، و الصبر على ملازمة الدرس و المراجعة و الصدق النقي في طلب وجه الصواب ، وتخليص النفس من كل شيء إلا لهذا ، ولم تضع يد لبنة في بناء المعرفة في أي باب إلا بالصبر و طول المراجعة و طول الانقطاع ، و الصدق ، و هؤلاء في تاريخنا هم الشراة الذي اشترى الله منهم أنفسهم .
و هذا الانقطاع الواجب الذي لابد أن يكون في جمهرة الدارسين في كل فرع من فروع المعرفة ليس من الترف و إنما هو من الواجب الذي لا سبيل إلا التخلي عنة ، و ذلك لأن طبيعة المعرفة لا تكشف لنا عن جوهرها المكنون إلا بهذا الصبر ، و هذا الانقطاع، و أن عبد الله بن محمد بن عيسى الأندلسي الذي كان يختم كتاب سيبويه كل خمسة عشرة يوماً لم يكن عابثاً ، و لم يقتل فراغة بذلك و طول المراجعة لكتب العلماء تكشف جوانب ، لأن مدد العلم لا ينقطع و شريعتة دائما زرقاء كما يقول عبد القاهر يعنى فيها الجديد لكل من طلب العلم على وجهة ، ووجهة هو الانقطاع و الصدق و الصبر ، و معنى قولهم أن العلم لا يؤتيك بعضة إلا إذا أتيته كلك ، إن العلم الذي أعطيته بعضك لا يعطيك شيئاً و ما طالت مراجعاتي لباب إلا تكشفت لي وجوه من المعاني لم تكن قبل طول المراجعة ، و تحصيل العلم وحدة هو الخطوة الأولى و الدرجة الأولى التي يجب أن يقف عليها عامة الناس و خاصتهم ثم تأتى المراقي بعد ذلك مرقاة فوق مرقاة و تمتد بامتداد الحياة و امتداد المراجعة و الانقطاع و الصبر و الصدق .
و هذا هو العاصم الذي يعصم عقل الأمة من الانزلاق في مستنقع التبعية الفكرية التي ترى كثيراً منا غارقاً فيها و هو مغتبط بتبعيته و عبوديته لعدوه الألد و لله في خلقة شؤون] .
(2)
[واعلم أن الصبر وطول المراجعة ، وشدة اليقظة ، وتكرار النظر كل ذلك يوسع آفاق المعرفة ، التي تدرسها ويكشف خفاياها وأسرارها وأننا نخطئ خطأً ظاهراً حين نعتقد أننا نفرغ من الكتاب بقراءته مرة أو مرتين أو ثلاثة ، والكتب التي أسست المعرفة أو شاركت في بنائها تربو بتكرار المدارسة ، وطول الملابسة ، وقد قال الأخفش : ((مات سيبويه وهو أعلم بالكتاب منى ، وأنا الآن أعلم بالكتاب منه)) ، وهذه كلمة نبيلة قالها مجرب حى وإنك لتعجب كيف يكون أعلم بالكتاب ممن كتبه ، وخرج مسائله ووعاها ، وراجعها وصفاها وليس لهذا معنى إلا ما قلته من أن أطول الملابسة للفكرة يجعلها تربو وتتغازر ، وتتسع والفكرة كالبذرة يمكن للعقل الطيب الخصب أن ينبت منها شجرة تمد الثمار .
إن واجبنا ليس هو الأخذ عن من صبروا ، وكابدوا وإنما أن نصبر نحن ونكابد ، حتى يكون منا رجال من طبقة من نأخذ عنهم ، والذين نأخذ عنهم لم يكونوا شيئاً إلا بالرجوع إلى علومهم ، وتحليلها ، وتفتيشها ، والصبر عليها..
وليس من الوهم أن نقول يجب أن يكون منا رجال من طبقة من نأخذ عنهم وبدلاً من أن يعيش الكتاب والأساتذة والباحثون العرب وهم يدورون حول منهج فلان يجب أن يخرج من صفوفهم صاحب منهج وصاحب فكر ، وصاحب مدرسة وألا تكون لنا قبلة إلا قبلتنا وألا يكون لنا إمام إلا عقولنا ، وقد كان علماؤنا في أزمانهم متفردين في علومهم ، فلم يكن في أمم الأرض أيام الخليل ، وسيبويه ، ويونس من يفضلهم في علوم اللغات ، وكذلك الحال مع غيرهم ، فلم يكن في أمم الأرض زمن الجاحظ من يسبق الجاحظ وفي كلام عبد القاهر ما يشير إلى هذا ، تراه يقول ومثل هذا إن وجد في كلام غير العرب فهو من كلام العرب .
ويقول صاحب كتاب تاريخ الحضارة إنك لو جمعت كل كتاب في ديار العجم ما جمعت في شرقها وغربها ما يساوي مكتبة فقيه من الدرجة الرابعة من علماء الإسلام ، فأي شيء يحول بين أحفاد الخليل وسيبويه ويونس ومالك والشافعي وأحمد، من أن يكونوا في زمانهم كما كان أولهم في زمانه ، ليس هناك إلا الجد ، والعزم ، والإصرار ، والحزم ، و إلا أن نطرح من رؤوسنا هذه السموم التي تقنعنا بأن سبيلنا هو أن نحذو حذو الآخرين ، وأن نكون مأمومين لهم ، وأن نصطنع علومهم ومناهجهم وأن هذا هو التطوير والتجديد والتحديث ، هذا سم زعاف نفرغه في عقول أجيالنا وخصوصاً أن هؤلاء الآخرين يقعدون لنا ك مرصد ، وليس بيننا وبينهم إلا بحار الدم التي أراقوها في الجزاير ، ومصر ، والشام وفلسطين وإلا المشانق الجماعية التي علقوا عيها شبابنا في الجيزة والأزهر ، والمدافن الجماعية للأحياء في سيناء ولو كان الأمر بيدي لجعلت ذلك كله من مناهج الدراسة وبدلاً من أن أُحدث طلابي عن مذاهبهم في الأدب ، أحدثهم عن مذاهبهم في الإجرام والحقد الأسود على كل ما هو عربي و ك ما هو مسلم ، ومواقف التحدي هذه هي التي تصنع الأجيال ، وليس هذا بعيداً عن الدرس لأننا لا نربي عبيداً ، وإنما نربي رجالاً لا يموتون إلا وهم وقوف لا تنحنى عقولهم لعقول غيرهم ولا يتركون الدم إلا بدم .
واعلم أن المعرفة كما تتولد من الصواب تتولد كذلك من الخطأ ، وقد أشرت إلى أن طول ملابسة الفكرة ، ينفحها غزارة ورحابة وتنوعاً وسوف تجد كثيراً من علم أئمة العلم مستخرجاً من رحم أخطاء من سبقوهم .. مستخرجاً من هذا كلاً بكل في مهارة نادرة ، وصبر ويقظة وانقطاع وكثير من علمهم استخرجوه من صلب الباطل ، والخلط والخطأ ، الذي لزَّ بعقول الناس وصار كالداء العياء وقد رد هؤلاء الأئمة هذا بعلم استخرجوه من أغوار عقولهم وحللوا هذه الأقاويل الزائفة تحليلاً أعمق من تحليلهم للصواب وكشف موطن الخلل .. وأنت تعجب حين ترى أهل الصدق في طلب العلم يصير الخطأ بين أيديهم معدنا من معادن استخراج المعرفة كما يكون الصواب معدنا من معادن استخراج المعرفة .
وتجد متعة وأنت تتابع الصواب الذي تولد من الخطأ ، يعنى العلم الذي خرج من سراديب الجهل ، وكيف استفز الاختلال عقول العلماء فاستخرج من أغوارها علماً ، ما كان ليخرج هذا الاختلال ومن الممتع أن ترقب حركة الأفكار وهي تتحاور ، ويفتح بعضها لبعض ، ويخرج بعضها من بعض وخصوصاًَ إذا كانت هذه الأفكار ترصد لك تاريخ مذهب أو مذاهب يأتي بعضها في إثر بعض ويخرج بعضها من بعض ، وكيف يقوم الثانى على المراجعة الدقيقة للأول وإخراج ما يقتضى الرأي إخراجه وإضافة ما يقتضى الرأى إضافته . وتجد الأول لا يذهب وإنما تظل منه عناصر فاعلة في الثاني ، ثم يأتي عقل راجح يرمي بعينيه خوافي هذا المذهب الثاني فيري فيها رأيا وتبدأ عملية النقض أو هدم التضاريس ثم ترى الحذق واليقظة في استخراج رسيس الصواب من تحت أنقاض الخطأ . وهكذا نجد أن المراجعة الدائمة هي التي تتولد منها المعرفة وهذا لا يوجد إلا إذا عكف الثاني على علم الأول ، واستخراج منه صافيات الصواب ، وخافيات الخطأ ، وكان علماؤنا يرون أن العالم لا يكون عالماً إلا إذا أخذ وترك .
واعلم وفقني الله وإياك أن للعلماء مع العلم شأناً يجب أن ننبه إليه وهو أن العالم حين يصبر على مسألة من مسائل العلم وتطول ملابسته لها يراها تتسع بمقدار صبره عليها وانقطاعه لها . وأن طول مدة المراجعة وشمول الدراسة وعمق التحقيق والتحرير لا يفضى إلى السيطرة على حدود المسألة كما هو الشأن عند المحصلين وإنما يفضى إلى سعتها وتباعد أطرافها . وكلما أمعن في الإبحار تباعدت عنه الشطآن وإنما مرجع هذا إلى خصوصية في العلم الشريف وهي رحابته وعمقه واتساعه وأن أهله هم الغارقون في محيطاته وكلما ازدادوا علماً ازدادوا معرفة بأنه لا يعلمون لأن زيادة العلم تكشف آفاقاً من المجهول هي أضعاف المعلوم الذي حصلوه ، وأن العقول التي منحت القدرة على كشف الأستار وإزالة الحجب هي التي تفسح لها المجالات تلو المجالات وتتراءى لها الآفاق بعد الآفاق ومن وراء كل ذلك غيب من ورائه غيب ، وهذه هي طبيعة رحلة أهل العلم في مضاربة وآباده وقد قال سقراط في آخر أيامه التي قضاها في استكشاف الحقيقة : إذا كنت علمت شيئاً فهو أنى لا أعلم ، وقال علماؤنا من ظن أنه علم فقد جهل ، ولا معنى لهذا إلا الذي قلته من أن طبيعة المعرفة أنها تقودك من معلوم تعمه إلى مجهول لا تعلمه وإذا لم ينته بك المعلوم إلى مجهول فاعلم أن هذا المعلوم خدعك وأوهمك أنك علمته وما علمته .
وقد كان علماؤنا يواجهون صعوبات وطرقاً محفوفة بالمخاطر ثم يقدمون وينبهون القاريء إلى غموض ما هم فيه ليأخذ حذره ويراجع ما يقولون ويجتهد في المراجعة وفي التمحيص وفي التدقيق ، وكان أبو الفتح ابن جنى أحد الفرسان الخواضين لهذه الغمرات وكان يستشعر الخوف والحذر ثم يرفض الصمت ولولا ذلك لما ترك لنا هذا الكتاب المتفرد وهو كتاب ((الخصائص)) الذي تركه إخواننا وأخذوا يعلمون طلابنا البنية العميقة عند تشومسكى وهذا مما يضحك الثكلى ، والمهم أن الرجل الذي تركه ورثة علمه هداهم الله ، كان يضرب بجبهته مغاليق أسرار اللغة الشريفة ويري أشياء غامضة وطرائق صعبة ثم يسلكها ويقول :
(( وهذه الطرائق التي نحن فيها حزنة المذهب ، والتورد لها وعر المسلك ولا يجب مع هذا أن تستنكر ولا أن تستبعد )) يعنى الوصول إليها صعب جداً ، وطريقها وعر ثم هي غريبة ومن شأن العقول التي اعتادت على النغمة المألوفة أن تنكرها وتستبعدها ومع هذا لا يجوز أن تستنكر ولا أن تستبعد ، وهذا السطر النفيس لو استطعت لكتبته بماء الذهب وعلقته على أبواب الجامعات العربية كلها] .