اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة – كما يقول ابن خلدون - لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله. وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته ؛ فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع ، كانت الحرب ، وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل .
وسبب هذا الانتقام في الأكثر : إما غيرة ومنافسة ، وإما عدوان ، وإما غضب لله ولدينه ، وإما غضب للملك وسعي في تمهيده . فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة ؛ والثاني وهو العدوان ، أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم ، لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ، ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ، ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك ، وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم ؛ والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد . والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها ، فهذه أربعة أصناف من الحروب : الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة ، والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل ( [1] ) . ولم يتعرض ابن خلدون – رحمه الله – إلى حروب الدول الباغية الظالمة للسيطرة على الدول الضعيفة واستغلال مواردها ونهب ثرواتها ( الاستعمار ) ؛ وهي تدخل في الصنف الثاني - بلا ريب - فهي حروب بغي وعدوان . وإذا كانت الحرب في مفهوم السياسيين أو العسكريين الساسة هي امتداد لسياسة الدولة بوسائل أخرى ( [2] ) - كما يقول كلاوزفيتز - ويوافقه على ذلك كثير ممن كتب في الاستراتيجية ؛ ففي كتابه ( الاستراتيجية وتاريخها في العالم ) يقول ليدل هارت : الاستراتيجية هي فن توزيع واستخدام مختلف الوسائل العسكرية لتحقيق هدف السياسة ؛ ويقول الجنرال بوفر في كتابه ( مدخل إلى الاستراتيجية العسكرية ) : الاستراتيجية هي فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف السياسة ( [3] ) . ويقول بيير نافيل : إن تبعة الحرب للسياسة ، والتمييز بين حرب حقيقية وحرب مطلقة يدخلان في ساحة المحاكمة داخل عالم المصالح والمهل الزمنية والتوازن ، أي : أنهما يدخلان أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، ومن جهة النظر هذه يكون العنف الذي يلعب دورًا رئيسيًا في التاريخ بعيدًا عن أن يصبح المحرك الأول أو أداة الاستخدام الدائم في خدمة المصالح أو المثل العليا المتعارضة ( [4] ) . بل إن لينين - كما يقول اللواء الركن أحمد داود سليمان - أدرك دور العنف والقوة المسلحة ، فقد حور قول كلاوزفيتز المتقدم وكتب مكانه : ( الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل العنف ) ( [5] ) . وتبعية الحرب للسياسة هي الإستراتيجية الغربية الإمبريالية أيضًا ، فيقول الكاتب الألماني برنغاردي : يجب على السياسة أن تلائم متطلباتها مع ما تراه الحرب مناسبًا وقابلا للتحقيق .ا.هـ .. وبغض النظر عن التصريحات المشابهة لبعض الكتاب الإستراتيجيين ، فإن العلم العسكري الغربي يعترف بتبعية الإستراتيجية العسكرية للسياسة ( [6] ) . يقول رشيد رضا – رحمه الله : تلهج الأمم المتمدنة بلفظ السلام عالمها وجاهلها ، وحاكمها ومحكومها ، ويخدعون أنفسهم أو سواهم من الناس بأن الحرب قد وضعت من بينهم أوزارها ، وغلب أولياء العقل والفلسفة أولياءها وأنصارها ، حتى بلغت منهم هذه الخِلابة أن قالوا : إن جميع الاستعدادات الحربية برية وبحرية إنما هي لأجل منع الحرب من العالم ، ثم ترقوا في مدارج الاختلاب ( الخِلابة والاختلاب : الخديعة بالقول ) فقالوا : ( إن الحرب نفسها لأجل السلام ) ( [7] ) . فهذه المخادعة مما يسمى ( الدول الكبرى أو العالم الحر ) يخدعون بها الشعوب ليمضوا في أهدافهم التوسعية ، وليحققوا أغراضهم الدنية من إخضاع الشعوب لهم ، وإكراه هذه الشعوب المغلوبة على أمرها لتطبيق ما يريد ( هؤلاء الكبار ) بالتهديد والإرهاب ؛ أو بتلك الحرب المزعومة لإقرار السلام ، كي تفرض على العالم إرادتها ، وتحول العالم إلى تابع لها ، بكل ما للكلمة من معنى ، على الصعد الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها ... هذه الحرب التي يطلق عليها البعض ( الحرب القذرة ) . أما في الإسلام فليست الحرب كذلك ؛ إنما الحرب في الإسلام لنشر العدل وإزاحة الظلم ؛ هي لرفع كلمة الله تعالى ونصرة المظلوم ، هي لتعبيد المخلوقين لخالقهم وبارئهم وإبطال عبادة الطاغوت ، هي لإفشاء السلام والأمان بين جميع البشر الذين يدخلون تحت حكم الإسلام – وإن لم يسلموا – واسألوا التاريخ ... ومن هنا كان القتال في سبيل الله تعالى ، لا في سبيل مطامع دنيوية – وإن عظمت في أعين أهلها – ولا في سبيل إجبار الناس على عقيدة ما ، وإذلالهم وتركيعهم ونهب ثروات بلادهم . إن أهل الإسلام حملة رسالة الله تعالى إلى جميع البشر ؛ هذا ما فهمه الأولون ، وهذا هو الذي حوته رسائل رسول الله e إلى الملوك والحكام في عصره ؛ وهذا الذي انتهى إلى الناس في فتوحات المسلمين قولا وفعلا ، فهذا ربعي بن عامر t لما قال له رستم قائد الفرس : ما جاء بكم ؟ قال : الله ابتعثنا ، والله جاء بنا ؛ لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه يليها دوننا ، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله ؛ قال رستم : وما موعود الله ؟ قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن بقي ( [8] ) . هذه هي رسالة جند الإسلام ، والأدلة على ذلك كثيرة جدًا نقلا وعقلا وتاريخا ، وسيأتي – بعون الله تعالى – كثير منها ، فليعلم كل من يحاول أن يثير شبهات حول فريضة الجهاد ، أنه لا يضر إلا نفسه ، ولتعلم البشرية أنها لم ولن تر مثل جند الإسلام ، وقد شهد بذلك المنصفون من الشرق والغرب ؛ قال غوستاف لوبون في ( مجلة التمدن الإسلامي) : إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وبين روح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى ، وإنهم مع حملهم السيف فقد تركوا الناس أحرارًا في تمسكهم بدينهم ( [9] ) . ويقول توماس أرنولد في كتابه ( الدعوة إلى الإسلام ) : ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن ، وعسكر أبو عبيدة في بلدة فحل ، كتب الأهالي النصارى في تلك البلاد إلى العرب الفاتحين يقولون : يا معشر المسلمين ! أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا ، وأنتم أوْفى لنا وأرأف بنا ، وأكفُّ عن ظلمنا ، وأحسن ولاية علينا ، ولكنهم غلبونا على أمرنا ... وغلَّق أهل حمص أبواب مدينتهم دون جيش هرقل ، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم وعدلهم أحب إليهم من ظلم الإغريق والروم وتعسفهم ( [10] ) . وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : ] لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [ هذا ما أمر به القرآن الكريم ، فلم يفرض العرب على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام ، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد إذ تشرق الشمس عليه بدفئها ! وكما تميل الزهرة إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة ؛ هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه ، إلى السادة الفاتحين ( [11] ) .
شهد الأنام بفضله حتى العدا والفضل ما شهدت به الأعداء
تنبيه : هذا الموضوع جزء من كتابي ( أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية ) [1] - انظر مقدمة ابن خلدون ( الفصل السابع والثلاثون ) ص 270 .
[2] - انظر مذكرة رقم ( 2 ) من مذكرات كلاوزفيتز ضمن كتاب ( في الحرب ) ص 73 ، وانظر ص 98 .
يستفاد من كلام ابن خلدون المتقدم أن الحرب حربان : حرب ظالمة ، وحرب عادلة .. ومشكلة المشاكل أن كل من يشن حربًا يدعي أنها عادلة ، وإن كان في قرارة نفسه يوقن أنها عدوان ، لكنه يبررها بمبررات يحسب أنها تجعل الظلم عدلا والعدوان حقا . والحد الفاصل بين الحق والباطل ، أو بين العدل والظلم في الحروب ؛ هو الغايات والأهداف التي من أجلها تشن هذه الحرب ؛ وغالب الحروب الظالمة إنما يوضع لها ظاهرًا أسباب تلبس باطلها ثوب الحق ، وتظهرها في صورة المسوغات للحرب العادلة ؛ لكن سرعان ما يظهر أنها حرب عدوانية ظالمة ، ويتبين للناظرين أمرها بين الدعوى والحقيقة . ولنأخذ على سبيل المثال ( الحرب التي شنتها أمريكا وحلفاؤها على العراق ) فهذه الحرب كانت تحت شعارات عدة ( تحرير العراق - دعوى امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل ، دعوى رعاية الإرهاب ) !! فهل كانت هذه الدعاوى حقيقة ؟! وهل لو كانت حقيقة كانت مسوغة لشن هذه الحرب القذرة على العراق ؟؟!! في كتابه ( الحرب على العراق : نظام لم يتغير ) ( [1] ) يوضح الكاتب البريطاني المعروف ( ميلان راي ) الأهداف الحقيقية من وراء شن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الحربعلىالعراق،من خلال تحليل الخطاب الإعلامي الأمريكي الرسمي الذي يبرر لتلك الحرب ، فيتطرق الكتاب إلى الشائعات الرسمية ويكشف الأكاذيب التي دفعت بالهجوم المجرم على العراق ؛ كما يتطرق لسوء عرض الإعلام للأحداث ، ويظهر الكاتب كيف أفشلت واشنطن جهود مفتشي الأمم المتحدة لنزع السلاح بسلام من العراق ، وكيف ضربت بهذه المساعي عرض الحائط ؛ ويؤكد ( ميلان ) أن ليس هناك أي دليل على أن العراق يمتلك أسلحة كيميائية أو أنه متورط في الإرهاب ( [2] )، ثم يكشف (ميلان راي) عن براهين قاطعة كيف قامت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية عمدًا - وبعد شهر من احتلال العراق ، وفي جو من الفوضى العارمة - باعتماد مسار مشابه جدًا لذاك الذي اعتمدتاه في الأراضي التي احتلتاها بعد الحرب العالمية الثانية من تفكيك حركات المقاومة ، وإعادة العملاء والفاشيين ؛ ويثبت الكتاب أن هدف هذه الحرب لم يكن نزع السلاح أو تغيير النظام ، بل اكتساب مزيد من القوة . وطالعتنا جريدة ( الخليج - الإمارات ) بتاريخ 9 / 4 / 2007 م بهذا العنوان ( ضابط بريطاني سابق يصف عمليات بلاده في العراق وأفغانستان بالمجزرة ) ثم نقلت عن ( الاندبندنت ) تصريحات النقيب ( ليو دوهرتي ) - وكان رُفع إلى منصب نقيب عام 2001 م وأرسل إلى مدينة البصرة العراقية في نوفمبر/تشرين الثاني 2004 - وكان مما قال : لا أحد من بيننا من خليط الضباط البريطانيين كان يصدق الكلام الفارغ عن أسلحة الدمار الشامل العراقية ، والتي اعتبرناها جميعًا مجرد ذريعة ، كما أن الأمور بدأت تسير على نحو خاطئ في العراق وبسرعة ، وصرت أشعر بأن عملية القوات البريطانية سببت من المشكلات للسكان المحليين أكثر مما حلَّت .ا.هـ . فهذه هي حروب الأمم المتحضرة والعالم الحر .. أكاذيب .. وظلم وعدوان .. وعدم احترام لمواثيق ولا لعهود .. وعدم اعتراف بحقوق الآخرين .. ومحاولة تسويغ وتبرير الأعمال الإجرامية التي صاحبت الحرب ، وقتلت النساء والأطفال والعزل والمدنيين ، وهتكت الأعراض ، وسرقت ونهبت ، وعذبت الأسرى والسجناء بألوان من التعذيب النفسي والبدني ، وشردت الملايين ، وخربت البلاد وحطمت كل قيمة أخلاقية أو إنسانية . فالمسألة عندهم منطق القوة ، وليست قوة المنطق ؛ وحق القوة وليس قوة الحق ؛ كما يقول د. القرضاوي .
[1] - عنوان الكتاب الأصلي : REGIME UNCHANGED أو Why the War on Iraq Changed Nothing: لماذا لم تغير الحرب على العراق شيئًا ؟ المؤلف : RaiMilanصدر الكتاب عنPluto Press. ترجمهحسنالحسنبعنوان(الحربعلىالعراق) وطبع بدار الكتاب العربي – بيروت : 2003م ؛ وترجمه - أيضا - زينه مشورب بعنوان ( الحرب على العراق : نظام لم يتغير ) ونشرته شركة الحوار الثقافي 2005 م.
[2] - وهو الذي صرح به ( بوش ، وبلير ) زعيما هذه الحرب بعد ذلك .
هذا سؤال مهم جدًا ، والإجابة عليه بإنصاف وواقعية مهمة أيضًا ؛ وقبل أن أجيب على هذا السؤال ، أقول : لقد أنشئت عصبة الأمم التي آلت بعد ذلك إلى مايسمى بـ (هيئة الأمم المتحدة) ، وتأسس بعد ذلك ( مجلس الأمن الدولي ) ؛ للحد من الحروب وإرساء السلام ، وحل النزاعات بين الدول من خلال الحوار والمفاوضات ... فهل حلَّ السلام دول العالم ؟! إن الناظر في التاريخ من بعد تأسيس هذه الهيئات وإلى اليوم ليجد أن عدد الحروب التي قامت في هذه الفترة الزمنية ، أكثر بكثير من مثيلاتها عبر التاريخ ؛ فأين هذا السلام العالمي الذي يتشدق به هؤلاء المخادعون ، ويردده هؤلاء المخدوعون !!
وقـلتم لنا كفوا الحـروب لعلـنا ... نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الملا متألق
واقرأ بإمعان ما قاله المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي : أما فيما يخص مفهوم الإرهاب ، فله في واقع الأمر معنيان : فالأول معنى ( الإرهاب ) والآخر معنى ( مكافحة الإرهاب ) ، فإذا مـا نظرت في الكتب المدرسية العسكرية الأمريكية - مثلا - فستجد فيها تعريفًا لـ ( الإرهاب ) وتعريفًا لـ ( مكافحة الإرهاب ) ، واللافت للنظر أن التعريفين متماثلان إلى حد يكاد يكون تامًا ، ويتضح من ذلك أن الإرهاب هو مكافحة الإرهاب نفسها !! أما الفارق الرئيس بينهما فمرده النظر إلى من يقوم بالعنف الإرهابي ، فإذا قام به من لا نحبه فهو إرهاب ؛ أما إذا قام به من نحبه - وهو ما يشملنا - فهو مكافحة للإرهاب !! أما فيما عدا ذلك فالأعمال التي تنفذ في الحالتين متماثلة ... إلى أن قال : والآن نسمع عن وجود ( حرب على الإرهاب ) أعلنتها الدولة الأقوى في العالم ؛ والواقع أن هذا إعلان ثان للحرب ، فقد أعلنت هذه الحرب في سنة 1981 م ، أي قبل أكثر من عشرين سنة .. أي حين تسلمت إدارة الرئيس ريجان السلطة وأعلنت أن محور ارتكاز السياسة الخارجية الأمريكية سوف يكون الإرهاب الدولي الذي ترعاه الدولة وهو طاعون العصر الحديث ، وقد أعلنت إدارة ريجان أنها ستعمل على تخليص العالم من شره ، وأعيد إعلان هذه الحرب مرة أخرى باستعمال اللغة نفسها ، ومن قبل الأفراد أنفسهم غالبًا ، فالقادة الذين أعلنوا ( الحرب على الإرهاب ) في المرة الأولى قبل عشرين سنة ، هم القادة الذين يديرون الحرب ضد الإرهاب في الوقت الحاضر مستعملين اللغة نفسها .. وأكثر الاحتمال أن تكون النتائج نفسها ( [1] ) . إذًا ( الحرب معلنة ) شاءت الدول الضعيفة والمستضعفة أم أبت ؛ ويساغ لها مبرراتها في كل وقت حسبما يقتضيه الحال والزمان ؛ فأي سلام عالمي هذا الذي يدعو إليه هؤلاء ؟! قال الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله - في كتابه ( الإسلام والحضارة ) : يقول الباحثون في تاريخ حضارة الغرب : إن القتال لم يتوقف يومًا واحدًا منذ نشبت الحرب العالمية الأولى 1914 م وحتى الآن ، بما يمكن أن يسمى حرب الستين عامًا في القرن العشرين ( [2] ) ؛ ولا شك أن الحرب لها أثرها الخطير في إصابة نسيج الحضارة بالتمزق وصرحها من الشروخ ، ولقد استغلت هذه النزعة حتى أصابت النفس البشرية بأزمة التمزق الخطير من خوف الهلع وتوقع الحرب الذرية التي تقع في أية لحظة فلا تبقي ولا تذر ( [3] ) . وإذا كان ميثاق باريس 1928 م ، وميثاق الأمم المتحدة قد قررا مبدأ تحريم الحرب ؛ فالحقيقة أنهما لا يزالان يقرران مشروعية الحرب التي تدخل فيها الدولة دفعًا لاعتداء واقع عليها ، وهي الحالة الطبيعية لكل إنسان .. حالة الدفاع عن النفس ؛ فقد نصت المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على هذا الحق ، ففيها : ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات للدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة ، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين .ا.هـ . والواقع أن الحرب في نظر الكثيرين من رجال السياسة عملا مشروعًا دائمًا من حق الدولة أن تأتيه ، كلما كانت مصلحتها تقتضي ذلك ، بل إن البعض اعتبروا أن للحرب دائمًا ما يبررها ؛ فالتحريم القانوني للحرب ما عدا حالة الدفاع عن النفس لا ينفي من الوجهة الواقعية إمكان نشوب أعمال القتال على نطاق واسع بين دولتين أو أكثر من الدول المنضمة لنظام منع الحروب ( [4] ) . والحق الذي لا مرية فيه أن الحرب من سنن الحياة التي يدفع الله تعالى فيها الناس بعضهم ببعض ، لحكمة أرادها سبحانه وتعالى ؛ قال الله تعالى : ] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ ( البقرة :251 ) ؛ وقال Y : ] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ ( الحج :39 ، 40 ) . إن محاولة البعض في كلامه عن سنة التدافع أن يقصرها على الحوار فقط ليس صوابًا ، ولا يسعفه السياق القرآني ؛ فإن آيتي التدافع في سورة البقرة وسورة الحج إنما سيقتا في الحديث عن القتال ؛ ففي سورة البقرة بعد أن أخبرنا الله تعالى بما كان من خروج طالوت وجنوده من المؤمنين لقتال الكافرين ( جالوت وجنوده ) ، قال سبحانه : ] فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [ ، وفي سورة الحج وفي سياق الإذن بالقتال ، قال U : ] وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [ ، فسنة التدافع ليست هي بالحوار فقط ، إنما هي بحوار اللسان فإن لم يُجْدِ ، فبحوار السنان ؛ ومن هنا قال النبي e : " جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ " ( [5] ) ؛ وهذا الذي التزمه النبي e في سيرته ومعاملته مع الكافرين ، وقد كان e يأمر قادة جيوشه قائلا : " وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ... فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ " رواه مسلم . ولابد أن يُفهم أن الله تعالى الذي أمر بالجدال بالتي هي أحسن فقال : ] وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ هو سبحانه الذي أمر فقال : ] وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [ ( الأنفال : 60 ) ، وهو U الذي قال : ] وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [ ( التوبة : 36 ) إلى غير ذلك من آيات الأمر بالجهاد والقتال ؛ فلابد أن يفهم الأمران كلٌ في سياقه ، وإلا كان الخلل في الفهم مؤديًا إلى الاختلال في الموازين ؛ لأن للسلم حوار ، وللحرب حوار .
والحرب من سنن الحياة ... أأنت أعلم أم إلهك ؟
وللحديث صلة
[1] - انظر ( العولمة والإرهاب – حرب أمريكا على العالم ) مجموعة مقالات ومحاضرات لنعوم تشومسكي وآخرين – ترجمة د حمزة المزيني ؛ ص 72 ، 73 ( مكتبة مدبولي – ط1 2003 م ) .
[2] - كتب الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله - كتابه هذا في السبعينيات من القرن الماضي .
[3] - انظر ( الإسلام والحضارة ) لأنور الجندي ص 159 – دار الاعتصام – القاهرة .
[4] - انظر ( آثار الحرب ) د الزحيلي ، ص 125 ، 126 .
[5] - رواه أحمد : 3 / 124 ، 153 ، وأبو داود ( 2504 ) ، والنسائي ( 3096 ) ، وابن حبان ( 4708 ) ، والحاكم ( 2427 ) عن أنس .
الحَرْبُ نَقِيضُ السَِّلْمُ ، يَعْنُونَ به القِتَال ؛ وقد حاربه محاربة وحرابًا ، وتحاربوا واحتربوا وحاربوا بمعنى . والتحريب : إثارة الحرب . والحربة : آلة للحرب معروفة ، وأصله الفعلة من الحرب أو من الحراب . وأنا حرب لمن حاربني أي عدو ؛ وفلان حَرْبُ فلانٍ أي مُحَارِبهُ ، وفلان حرب لي ، أي : عدو محارب . ودَارُ الحَرْبِ بِلادُ المُشْرِكين الذين لا صُلْحَ بينهم وبين المسلمين . والْحَرَب ( بالتحريك ) السلب والنهب ، حربه يحربه إذا أخذ ماله وتركه لا شيء له ، فهو رجل حَرِبٌ نزل به الحَرَبُ ، وهو مَحْرُوبٌ حَرِيبٌ ؛ وحربته حربًا سلبته ، وبالحربة طعنته ؛ وحَرَب دينه وماله : سلبه . وحَرِبَ الرجل ( بالكسر ) يحرب حربًا اشتد غضبه ، فهو حرِب ؛ وحربته وأحربته أغضبته . والحرباء : دويبة تتلقى الشمس كأنها تحاربها . ومحراب المسجد قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ؛ وقيل : سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبًا [ أي سليبًا ] من أشغال الدنيا ومن توزع الخواطر ( [1] ) . وأما في الاصطلاح ، فقال المناوي في ( التعاريف ) : الحرب دفع بشدة عن اتساع المدافع بما يطلب منه الخروج فلا يسمح به ، ويدافع عنه بأشد مستطاع ؛ ذكره الحرالي ( [2] ) .ا.هـ . وفي المعجم الوسيط : الحرب : القتال بين فئتين ؛ والحرب الباردة أن يكيد كل من الطرفين المتعاديين لخصمه دون أن يؤدي ذلك إلى حرب سافرة ( [3] ) .
الحرب في اصطلاح العسكريين : يتناول كثير من الكتاب العسكريين تعريف كلاوزفيتز للحرب وهو : الحرب عمل من أعمال العنف يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا ( [4] ) . فالحرب إذًا صراع بمعناه الدقيق ، يقول كلاوزفيتز - أيضًا : الحرب نزاع بين المصالح الكبرى يسويه الدم ، وبهذا فقط تختلف عن النزاعات الأخرى ( [5] ) . فهذا هو تعريف الحرب الذي شاع عند كثير من العسكريين في هذا العصر .. إنها تقوم على مصالح الكبار ولأجل تنفيذ إرادتهم ، مفرغة من كل عنصر أخلاقي . يقول اللواء الركن أحمد داود سليمان في كتابه ( نظريات الإستراتيجية العسكرية الحديثة ) فالعنف في نظره (أيكلاوزفيتز)هوالوسيلة، أما الغاية فهي فرض إرادتنا على الخصم ( وليس هناك من حدود للتعبير عن العنف ) ، وبذلك فقد عارض الصورة العامة للحرب في القرن الثامن عشر ، فالحرب في نظره ليست مباراة علمية ، ولا يمكن أن تتم بدون أعمال عنف ، وليس في طبيعة الحرب شيء معتدل ، فقد قال : ( لا تحدثونا عن قادة ينتصرون بدون سفك دماء ) ... كما كانت نظرته عن علاقة الحرب والعلم صحيحة عندما قال : إن العلم لا يمكن أن يجعل الحرب شيئًا معتدلا ، ولا أن يجعل لها صلة بالروح الإنسانية ( [6] ) . وقد عرفت الحرب في أول معجم عسكري ألماني شرقي بأنها: صراع مسلح بين دول أو تحالفات أو طبقات معينة ؛ بغية تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية .. أي أنها استمرار للسياسة بوسائل العنف ([7]). الحرب في القانون الدولي : يُعرِّف واضعو القانون الدولي الحرب بأنها : صراع مسلح بين دولتين أو أكثر ينظمه القانون الدولي ، ويكون الغرض منه الدفاع عن المصالح الوطنية للدول المتحاربة ( [8] ) . وقيل : هي صراع مسلح بين الدول بقصد فرض وجهة نظر سياسة وفقًا للوسائل المنظمة بالقانون الدولي ( [9] ) . وهي على ذلك - كما يقول د عارف أبو عيد : لا تعني في حقيقتها إلا القتل المنظم الذي استدعته ظاهرة انقسام الإنسانية إلى وحدات سياسية متميزة ؛ وبذلك تكون الحرب هي أقصى صورة للتنافس البشري ، وتنتهي ببقاء الأقوى ( [10] ) . وعلى ذلك فإن كان القانون الدولي كما عرَّفه رجال القانون هو : مجموعة القواعد التي تنظم العلاقة بين مجموعة من الدول في الحرب وفي السلم ؛ والمراد بـ ( بين مجموعة من الدول ) أي : المستقلة المكتملة السيادة التي تترابط عرفًا أو اتفاقًا على قدم المساواة ، وعلى أساس التبادل المطلق ؛ فهو يقوم على مبدأ الإقليمية ، فينبسط سلطان الدولة - بحسب الأصل - على أرضها وما فوقها وما تحتها دون أن يمتد إلى ما وراء ذلك . هذا المفهوم لا تعرفه الشريعة الإسلامية ، إذ إن الدعوة الإسلامية بطبيعتها دعوة عالمية ، تقوم على اعتبار شخصي إنساني وليس على اعتبار إقليمي ، إذ لا يتصور بالنسبة لها : أن تكون الحدود الإقليمية عامل تفرقة بين المسلمين ( [11] ) . فالحرب في الإسلام رحمة بالضعفاء ، ونصرة للمظلومين ، وعدالة للمغلوبين ، وهداية للحائرين ، وإزاحة للظالمين الذين يحولون دون وصول دين الله تعالى الحق للعالمين ؛ إنها - كما يقول عبد الكريم الخطيب - حرب لحماية حق الإنسان في الحياة من ذئاب الإنسانية والشاعر العربي يقول :
ومن رعى غنمًا في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأُسد
ويقول شوقي في مدح رسول الله e :
الحرب في حقٍّ لديك فريضة ... ومن السموم الناقعات دواء
ويقول - أيضًا - في دفع مفتريات المفترين بأن دين الإسلام قام على السيف :
قالوا غزوت ورسْل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاؤوا لسفك دم
جهل وتسفيه أحلامٍ وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك منهم كل ذي حُلُمٍ ... تكفل السيف بالجهال والعَمَمِ
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ... ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم ( [12] )
هذا ؛ والعلم عند الله تعالى ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[1] - انظر لسان العرب باب الباء فصل الحاء ؛ ومفردات الراغب ، والنهاية في غريب الحديث ، وتهذيب اللغة ، وتاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي ( مادة ح ر ب ) .
[6] - انظر ( نظريات الإستراتيجية العسكرية الحديثة ) ص 72 ، 73 ، باختصار .
[7] - انظر ( الاستراتيجية السياسية العسكرية ) لمجموعة من الباحثين بإشراف العماد الدكتور مصطفى طلاس : 1 / 15 .
[8] - انظر مبادئ القانون الدولي – د محمد حافظ غانم ص 270 – مطبعة النهضة الجديدة - القاهرة .
[9] - انظر القانون الدولي العام في السلم والحرب - د الشافعي محمد بشير ص 439 – منشأة المعارف المصرية .
[10] - انظر العلاقات الخارجية في دولة الخلافة ص 101 .
[11] - انظر مقال ( القانون الدولي الإسلامي (علم السير) - مفهومه - تدوينه - خصائصه ) د عثمان جمعة ضميرية - مجلة البيان - العدد ( 101 ) ص 24 - المحرم 1417 - يونيو 1996 . وانظر ميثاق الأمم والشعوب ص 605 ، وقواعد العلاقات الدولية - د جعفر عبد السلام ص 35 .
[12] - انظر ( الحرب والسلام في الإسلام ) لعبد الكريم الخطيب ص 24 .