طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,330
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
الحداثة وحلقة الأزمة المفرغة وفصولها المزمنة
ميريام ريفو دالون *
الأربعاء ٢٨ نوفمبر ٢٠١٢
توسلت اليونان القديمة كلمة أزمة «كريزيس» في الطب للدلالة على حال المريض المفصلية، فإما أن يموت وإما أن يعيش. وجذور «كريزيس» اليونانية وثيقة الصلة بكلمة أخرى يكثر استخدامها اليوم، وهي النقد («كريتيك»). فالنقد يفترض تصنيف المعطيات وفرزها والاختيار بينها والمفاضلة للوصول الى قرار. وفي فرنسا برزت كلمتا أزمة ونقد في آن في القرن الثامن عشر: ففي المجال الفلسفي صدر كتاب كانط «نقد المنطق المحض». وانشغل عصر الأنوار بنقد الدين، والسلطات التقليدية والأحكام المسبقة. وفي المجال السياسي، رفع ديدرو وروسو لواء النقد، وقال الاخير: «نحن على قاب قوسين من الازمة ومن قرن الثورات».
وامتداد مفهوم الأزمة الى جوانب حياة المجتمع وثيق الصلة بالحداثة. فصلة القدامى بالوقت التاريخي مختلفة عن صلة العالم الغربي اليوم. فاليونانيون رأوا أن التاريخ يُصبغ بصبغة النزاع بين أفعال البشر والقدر الذي ترسمه الآلهة، أو بين العقل الانساني والمأساة الناجمة عن الأهواء المنفلتة من عقالها، فيما يرى اهل الحداثة ان وجهة التاريخ تسير نحو التقدم. فالإنسان «سيد قدره» و «سيرته»: فالتطور أو التقدم هو السبيل الى يقين لم يعد بديهياً أو معطى ومضموناً. وفي هذا السياق، برز مفهوم الأزمة: ففي غياب اليقين، ينقسم أهل الحداثة، اذا جازت العبارة، على أنفسهم وفي الرأي. فكأنهم «ممزقون» تتجاذبهم الاحتمالات والأفكار. وهم لا يقرون على معيار واحد. والازمة هي تجاذب وانقسام واجب وحتمي، ووصف كارل ماركس الرأسمالية بنظام انتاج الأزمة: فالأزمات هي الجسر بين مرحلة آفلة ومرحلة وليدة. وهذا نواة الجدلية.
في القرن العشرين، قوضت جرائمُ النازية ومعسكرات الاعتقال السوفياتية وبروز آثار التقنية المدمرة، واستغلال العقلانية مآرب عقائدية سياسية، الاعتقاد بأن التقدم سيعمّ البشرية كلها وأنها على موعد معه لا محالة، على رغم التقدم الكبير في بعض المجالات الصحية والتعليمية والمادية. فانهار التعويل على الزمن التاريخي ووعوده بالتقدم. ولم يعد الزمن مرتكزاً إلى إنضاج ثمار الفعل والمشاريع. فغلبت كفة شعور الانسان بضعف سيطرته على المستقبل وتعويله على الوقت، وعجز السياسة عن المبادرة. ولم تعد الأزمة الجسر الى مستقبل افضل، بل تحولت حالاً مزمنة. وحلقة الازمة المفرغة أو الأزمة من غير نهاية وثيقة الارتباط بالحيرة والمراوحة في اتخاذ القرار، وأضاع سكان العالم المعاصر بوصلة الخروج من الازمة. وحال الازمة المزمنة أو إزمانها وثيقة الصلة بالتناقض اللصيق بانهيار التعويل على الزمن التاريخي: يسود الانفعال والانطباع بأن الامور على حالها ولا تتغير. ويبدو الوقت كأنه يسري سرياناً سريعاً وكأنه مجمد و «موقوف»، في آن. وهذا ما وصفه عالم الاجتماع الالماني، زيغموند بومان، بـ «الحاضر السائل».
الحداثة تتسم بفقدان المعايير والحيرة وغياب اليقين. وفي العالم المعاصر، ثمة ميل الى منح الكارثة مكانة القدر ودوره عند اليونانيين. والميل هذا هو إحدى وسائل طمأنة الذات، وتحديد وجهتها، ولو كانت تسير نحو الكارثة. ويبدو في ميزان هذه الرؤى، ان المستقبل المظلم «أفضل» من المستقبل الغامض المعالم. وليس القصد من كلامي نفي الأزمة الاقتصادية أو التعاسة الساحقة المولودة من القلق والفقر. لكن الكلام على الأزمة بوصفها مفهوماً شاملاً يحولها خطاباً يبدد سحر العالم وينذر بالكارثة والأفول الوشيكين.
إن قصر معالجة الأزمة على جانبها الاقتصادي مظهر فقر ثقافي. ففي الأربعينات من القرن العشرين، لاحظ الاقتصادي كارل بولانيي أن الرؤية الى المشكلات صارت اقتصادية، كما لو أن قبلة السلوك الانساني هي البحث عن المصلحة المادية فحسب. لكن الأزمة من غير نهاية أو حلقة الأزمة المفرغة تتجاوز هذا الاطار. فالحداثة مرتبطة بالأزمة ارتباطاً بنيوياً: أزمة معايير تقليدية في وقت يرفع الفرد لواء الاستقلال و «الاحتكام الى ذاته»، وأزمة مقاييس، فلا معيار يثبت صواب أعمالنا، وأزمة هوية: شاغل الفرد الدائم هو ذاته، والسؤال المزمن عنها.
طوال قرنين، كان عقال فكرة التقدم والتطور يقيّد الحيرة الثلاثية هذه او التباس اليقين الثلاثي. ولكن، اليوم يجد المرء نفسه مشرعاً على الحيرة الثلاثية من غير راد لها.
ومفهوم الازمة هو أقرب الى الاستعارة والتشبيه، فالكلام على الازمة هو امتداد لمعناها الطبي، وكلام على ارث المُعاش، والمعاناة والانطباعات الذاتية الساعية في ابتكار ترجمة لها في المفاهيم. والحال أن سيل الكلام على الأزمة لم ينقطع في العقود الأربعة الماضية، ولم يجد تعريفاً شاملاً لها بعد. وتلقى لائمة المشكلات كلها على الأزمة. واقترح توسل استعارة أخرى، الثغرة، التي اشارت اليها حنة أراندت في مقدمة كتاب «أزمة الحضارة». والاستعارة هذه تشير الى لحظة القطيعة حين يلجأ الانسان المعلق بين الماضي والمستقبل الى تصور المستقبل القلق والعاري من يقين، فيملك، تالياً، فرصة البدء مجدداً وإعادة ابتكار نفسه. وعوض توقع الكارثة واستباقها، فلنبدأ بجبه التشكك والقلق.
* فيلسوفة واستاذة جامعية، عن «لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية، 8/11/2012، اعداد منال نحاس
Al Hayat-ط§ظ„طط¯ط§ط«ط© ظˆطظ„ظ‚ط© ط§ظ„ط£ط²ظ…ط© ط§ظ„ظ…ظپط±ط؛ط© ظˆظپطµظˆظ„ظ‡ط§ ط§ظ„ظ…ط²ظ…ظ†ط©
ميريام ريفو دالون *
الأربعاء ٢٨ نوفمبر ٢٠١٢
توسلت اليونان القديمة كلمة أزمة «كريزيس» في الطب للدلالة على حال المريض المفصلية، فإما أن يموت وإما أن يعيش. وجذور «كريزيس» اليونانية وثيقة الصلة بكلمة أخرى يكثر استخدامها اليوم، وهي النقد («كريتيك»). فالنقد يفترض تصنيف المعطيات وفرزها والاختيار بينها والمفاضلة للوصول الى قرار. وفي فرنسا برزت كلمتا أزمة ونقد في آن في القرن الثامن عشر: ففي المجال الفلسفي صدر كتاب كانط «نقد المنطق المحض». وانشغل عصر الأنوار بنقد الدين، والسلطات التقليدية والأحكام المسبقة. وفي المجال السياسي، رفع ديدرو وروسو لواء النقد، وقال الاخير: «نحن على قاب قوسين من الازمة ومن قرن الثورات».
وامتداد مفهوم الأزمة الى جوانب حياة المجتمع وثيق الصلة بالحداثة. فصلة القدامى بالوقت التاريخي مختلفة عن صلة العالم الغربي اليوم. فاليونانيون رأوا أن التاريخ يُصبغ بصبغة النزاع بين أفعال البشر والقدر الذي ترسمه الآلهة، أو بين العقل الانساني والمأساة الناجمة عن الأهواء المنفلتة من عقالها، فيما يرى اهل الحداثة ان وجهة التاريخ تسير نحو التقدم. فالإنسان «سيد قدره» و «سيرته»: فالتطور أو التقدم هو السبيل الى يقين لم يعد بديهياً أو معطى ومضموناً. وفي هذا السياق، برز مفهوم الأزمة: ففي غياب اليقين، ينقسم أهل الحداثة، اذا جازت العبارة، على أنفسهم وفي الرأي. فكأنهم «ممزقون» تتجاذبهم الاحتمالات والأفكار. وهم لا يقرون على معيار واحد. والازمة هي تجاذب وانقسام واجب وحتمي، ووصف كارل ماركس الرأسمالية بنظام انتاج الأزمة: فالأزمات هي الجسر بين مرحلة آفلة ومرحلة وليدة. وهذا نواة الجدلية.
في القرن العشرين، قوضت جرائمُ النازية ومعسكرات الاعتقال السوفياتية وبروز آثار التقنية المدمرة، واستغلال العقلانية مآرب عقائدية سياسية، الاعتقاد بأن التقدم سيعمّ البشرية كلها وأنها على موعد معه لا محالة، على رغم التقدم الكبير في بعض المجالات الصحية والتعليمية والمادية. فانهار التعويل على الزمن التاريخي ووعوده بالتقدم. ولم يعد الزمن مرتكزاً إلى إنضاج ثمار الفعل والمشاريع. فغلبت كفة شعور الانسان بضعف سيطرته على المستقبل وتعويله على الوقت، وعجز السياسة عن المبادرة. ولم تعد الأزمة الجسر الى مستقبل افضل، بل تحولت حالاً مزمنة. وحلقة الازمة المفرغة أو الأزمة من غير نهاية وثيقة الارتباط بالحيرة والمراوحة في اتخاذ القرار، وأضاع سكان العالم المعاصر بوصلة الخروج من الازمة. وحال الازمة المزمنة أو إزمانها وثيقة الصلة بالتناقض اللصيق بانهيار التعويل على الزمن التاريخي: يسود الانفعال والانطباع بأن الامور على حالها ولا تتغير. ويبدو الوقت كأنه يسري سرياناً سريعاً وكأنه مجمد و «موقوف»، في آن. وهذا ما وصفه عالم الاجتماع الالماني، زيغموند بومان، بـ «الحاضر السائل».
الحداثة تتسم بفقدان المعايير والحيرة وغياب اليقين. وفي العالم المعاصر، ثمة ميل الى منح الكارثة مكانة القدر ودوره عند اليونانيين. والميل هذا هو إحدى وسائل طمأنة الذات، وتحديد وجهتها، ولو كانت تسير نحو الكارثة. ويبدو في ميزان هذه الرؤى، ان المستقبل المظلم «أفضل» من المستقبل الغامض المعالم. وليس القصد من كلامي نفي الأزمة الاقتصادية أو التعاسة الساحقة المولودة من القلق والفقر. لكن الكلام على الأزمة بوصفها مفهوماً شاملاً يحولها خطاباً يبدد سحر العالم وينذر بالكارثة والأفول الوشيكين.
إن قصر معالجة الأزمة على جانبها الاقتصادي مظهر فقر ثقافي. ففي الأربعينات من القرن العشرين، لاحظ الاقتصادي كارل بولانيي أن الرؤية الى المشكلات صارت اقتصادية، كما لو أن قبلة السلوك الانساني هي البحث عن المصلحة المادية فحسب. لكن الأزمة من غير نهاية أو حلقة الأزمة المفرغة تتجاوز هذا الاطار. فالحداثة مرتبطة بالأزمة ارتباطاً بنيوياً: أزمة معايير تقليدية في وقت يرفع الفرد لواء الاستقلال و «الاحتكام الى ذاته»، وأزمة مقاييس، فلا معيار يثبت صواب أعمالنا، وأزمة هوية: شاغل الفرد الدائم هو ذاته، والسؤال المزمن عنها.
طوال قرنين، كان عقال فكرة التقدم والتطور يقيّد الحيرة الثلاثية هذه او التباس اليقين الثلاثي. ولكن، اليوم يجد المرء نفسه مشرعاً على الحيرة الثلاثية من غير راد لها.
ومفهوم الازمة هو أقرب الى الاستعارة والتشبيه، فالكلام على الازمة هو امتداد لمعناها الطبي، وكلام على ارث المُعاش، والمعاناة والانطباعات الذاتية الساعية في ابتكار ترجمة لها في المفاهيم. والحال أن سيل الكلام على الأزمة لم ينقطع في العقود الأربعة الماضية، ولم يجد تعريفاً شاملاً لها بعد. وتلقى لائمة المشكلات كلها على الأزمة. واقترح توسل استعارة أخرى، الثغرة، التي اشارت اليها حنة أراندت في مقدمة كتاب «أزمة الحضارة». والاستعارة هذه تشير الى لحظة القطيعة حين يلجأ الانسان المعلق بين الماضي والمستقبل الى تصور المستقبل القلق والعاري من يقين، فيملك، تالياً، فرصة البدء مجدداً وإعادة ابتكار نفسه. وعوض توقع الكارثة واستباقها، فلنبدأ بجبه التشكك والقلق.
* فيلسوفة واستاذة جامعية، عن «لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية، 8/11/2012، اعداد منال نحاس
Al Hayat-ط§ظ„طط¯ط§ط«ط© ظˆطظ„ظ‚ط© ط§ظ„ط£ط²ظ…ط© ط§ظ„ظ…ظپط±ط؛ط© ظˆظپطµظˆظ„ظ‡ط§ ط§ظ„ظ…ط²ظ…ظ†ط©