كان للشيخ مناع القطان (ت1420 ) - رحمه الله - جهود علمية كبيرة في تقريب التفسير وعلوم القرآن لطلاب العلم، وعامة الناس، فقد ساهم إسهامات واضحة في عدة مجالات، كمجال التعليم والتدريس، ومجال الإشراف على الرسائل، ومجال التأليف، ومجال الخطب والمحاضرات، والدعوة إلى الله تعالى.
وبين يدي الآن بحث للشيخ، نشر في "مجلة البحوث الإسلامية" عام 1403هـ، وعنوانه: "الحاجة إلى الرسل"، أحببتُ وضعه هنا إحياءً لذكرى الشيخ - رحمه الله -، ومساهمة في نشر علمه.
وارتأيت أن يكون على شكل حلقات عوضاً عن إرفاقه في ملف؛ ليستفاد منه بشكل مباشر، بدلاً من تحميله في ملف "النسيان"، وضياعه في كومة زحام الملفات.
وهذا أوان الشروع في المقصود.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، لقد فطر الله الناس على توحيده وطاعته ، وأودع في النفس البشرية استعداها للخير واستعدادها للشر ، ومنح الإنسان القوى المدركة المميزة ، وما كان لهذه القوى أن تدرك الصواب والحق دائمًا فضلا عن عالم الغيب ، فامتنَّ الله على عباده ببعثة رسله ، بيانًا للحق وموازينه وإعذارًا لهم وإسقاطًا لحجتهم .
وأصل الفطر : الشق ، ومنه قوله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ، وتفطرت الأرض بالنبات: إذا تصدعت ، وفطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم ، والفطرة: الابتداء والاختراع ، وفي التنزيل العزيز : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما: أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأت حفرها .
والفطرة ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به ، وقد فَطَرَه يفطرُه ، بالضم فطرًا ، أي خلقه ، وقوله تعالى: وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني ، ومن الحديث : كل مولود يولد على الفطرة .
والفطرة كذلك: الكلمة التي يصير بها العبد مسلمًا ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، فتلك الفطرة للدين ، والدليل على ذلك حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه علّم رجلا يقول دعاء إذا نام وقال: فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة ، وقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا فهذه فطرة فُطر عليها المؤمن ، وقيل: فُطر كل إنسان على معرفته بأن الله رب كل شيء وخالقه .
وإذا كان الفَطر بمعنى الابتداء والاختراع ، فالفِطرة منه الحالة كالجِلسة ، والمعنى أنه يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها ، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد .
هذه هي المعاني التي يذكرها علماء اللغة في معنى الفِطرة ، ولا يخرج كلام المفسرين في تفسيرهم عن هذا ، وجماعه في معنيين:
* المعنى الأول: أن يكون المراد بالفطرة الخلقة والجبلة والطبع ، فقد خلق الله الناس على حالة تمكنهم من إدراك الحق وقبوله .
*والمعنى الثاني: أن يكون المراد بالفطرة ملة الإسلام التي خلقهم الله تعالى عليها ، فإنهم لو خُلُّوا وما خلقوا عليه لكانوا مسلمين موحدين .
وقد توجه الخطاب في صدر الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أمره الحق تبارك وتعالى أن يسدّد وجهه ويستمر على الدين الذي شرعه الله ، ويثبت عليه مائلا عما سواه ، غير ملتفت إلى غيره ، وأن يلزم الفطرة السليمة التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر الخلق على توحيده وعبادته: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ولكن الخطاب يشمل جميع الأمة ، وإنما توجه الخطاب بصيغة المفرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا لأمته ، فأمْرُه عليه الصلاة والسلام يستتبع أمرهم ، ولذا جاء قوله تعالى بعد: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ بصفة الجمع .
ويتأكد الأمر بلزوم فطرته تعالى بالجملة التي وقعت تعليلا له: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ سواء أكانت هذه الجملة خبرًا بمعنى الطلب ، أي لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها ، أم كانت خبرًا على بابه ، والمعنى أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة ، لا يولد أحد إلا على ذلك ، ولا تفاوت بين الناس في هذا . أو المعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل الفطرة بما يُخِل بها من اتباع الهوى وخطوات الشيطان ، فالخبر على بابه وليس بمعنى الطلب .
وذلك هو الدين المستوي الذي لا عوج فيه ، وهو الفطرة السليمة المستقيمة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، فيصدون عنه ، ويتنكبون طريقه ، وفي مثل هذه الحال يكون الرجوع إلى الله والإنابة إليه واجتناب ما نهى عنه والقيام على الدين ، وعماده الصلاة ، يكون ذلك ضمانًا للحفاظ على سلامة الفطرة مرة أخرى .
ثم يأتي النهي عن الشرك بما يدل على أن انحراف الفطرة من ضروب الشرك ، وأن المبدلين لفطرة الله تعالى يشركون به ، فيختلفون في معتقداتهم وسلوكهم باختلاف أهوائهم وشهواتهم ، واختلاف نحل من يستدرجونهم للضلال والباطل ، ويتفرقون فرقًا
تشايع كل منها عقيدتها الزائغة وإمامها الذي أضلها ، فهي فرق شر في مزاعمها الباطلة ، ومذاهبها المنحرفة ، كل حزب منها فرح بما لديه ، يظن أنه على حق ، والحق لا يتعدد ، فإنه صراط الله المستقيم .
وجاءت الأحاديث مبينة لهذا المعنى ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرّانه ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الآية.
إن الإنسان يولد على الفطرة الكاملة السليمة ، التي لا تشوبها شائبة تكدر صفوها ، أو تؤثر على جبلتها كما تولد البهيمة مجتمعة الأعضاء ، سليمة الحواس ، لا نقص فيها ، وإنما يعرض للفطرة ما يعرض لها من تغير وتبديل وزيغ وانحراف تحت تأثير العوامل التي تحيط بها من بيئة خاصة كبيئة المنزل ، أو بيئة عامة من بيئات المجتمع ، فالتعبير بالأبوين وأثرهما في التهويد والتنصير والتمجيس رمز للمؤثرات الخارجة على الفطرة ، شأنها في ذلك شأن ما يعرض للبهيمة التي تولد كاملة الأعضاء ، فيطرأ عليها ما يطرأ من نقص وفساد ، ولم يذكر الإسلام في العوامل المؤثرة للدلالة على أنه دين الفطرة . وهذه الفطرة هي الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .
وقد ذهب المفسرون في بيان هذا الميثاق إلى مذهبين رئيسين:
* أولهما: أن يحمل هذا على الحقيقة كما جاء في عدة آثار بألفاظ متقاربة وإن تعددت روايتها ، منها ما جاء مرفوعًا ، ومنها ما جاء موقوفًا ، قال ابن كثير : " والموقوف أكثر وأثبت" . جاء في هذه الآثار أن الله سبحانه وتعالى مسح ظهر آدم ، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى . وكل فعل ينسب إلى الله بسند صحيح يجب الإيمان به والتسليم بوقوعه ، وإن لم ندرك كنهه أو نعلم كيفيته ، مع إيماننا بأن كيفيات أفعاله تعالى ليست مثل كيفيات أفعال خلقه ، كما أنه لا يشبه خلقه في ذاته ولا في صفة من صفاته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
ولا غرابة في ذلك ، فإن العلم الحديث عن الأجنة والوراثة ، يقرر أن الناسلات وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل الإنسان وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب ، يقرر العلم أن هذه الناسلات التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر ، وتكمن فيها خصائصهم كلها لا يزيد حجمها على (سنتمتر مكعب) .
* ثانيهما: وثاني هذين المذهبين في تفسير الآية أن يكون هذا من باب التمثيل لخلق الله تعالى الناس جميعًا على الفطرة ، فقد نصب الله دلائل توحيده في الأنفس والآفاق ، وخلق في الإنسان الحواس والقوى المدركة التي يؤدي النظر السليم بها في كائنات الله إلى الإيمان به والاعتراف بوحدانيته ، فجعل تمكينهم من ذلك كالاعتراف والإشهاد ، كما قيل في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ .
* قال القرطبي في تفسير آية الميثاق : وهذه آية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه ، فقال قوم:
معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض ، قالوا: ومعنى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ دلهم بخلقه على توحيده ، لأن كل بالغ ضرورة أن له ربًّا واحدًا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم ، كما قال تعالى في السماوات والأرض قالتا ائتيا طائعين أي هذا كان بلسان الحال لا بلسان المقال .
* وقال ابن كثير في تفسيره: قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة ، وقد فسر الحسن الآية بذلك . ولهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل من آدم ، مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهره ، ذريتهم أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنًا بعد قرن ، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ .
والشهادة تارة تكون بالقول كقوله تعالى: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك ، ومما يدل على أن المراد ذلك جعْل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه ، فإن قيل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده ، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جُعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ، ولهذا قال: أن تقولوا أي لئلا تقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا أي التوحيد غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا الآية .
وفي الحديث القدسي: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم .
وأصل الحنف في القدمين: إقبال كل واحدة منهما على الأخرى بإبهامها ، أو ميل كل واحدة من الإبهامين على صاحبتها ، والحنيف: المائل ، ثم عُبر بذلك عن الميل إلى الحق ، فالحنيف: المسلم المستقيم الذي يميل عن الباطل إلى الحق ، وعن الضلال إلى الهدى ، والحنيفية: ملة إبراهيم وهي ملة الإسلام .
واجتالتهم الشياطين: أي استخفتهم ، فجالوا معها في الضلال ، يقال: جال واجتال: أي ذهب وجاء ، ومنه الجولان في الحرب ، واجتال الشيء: إذا ذهب به وساقه .
أي أن الله سبحانه وتعالى خلق عباده بفطرتهم على ملة الإسلام ، فجاءتهم شياطين الإنس والجن وحادت بهم عن هذا الدين الحنيف .
ودلت أحاديث أخرى على أن الفطرة المركوزة في النفس البشرية هي توحيد الله تعالى .
ففي حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأ ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت ، واجعلهن من آخر كلامك ، فإن مت من ليلتك مت على الفطرة ، أي مت على الإسلام . 2 - وأودع الله في النفس البشرية استعدادها للخير واستعدادها للشر ، إن طبيعة الإنسان في خلقه تشبه طبيعته النفسية ، ولقد كان الخلق الإنساني مزدوجًا في أصل تكوينه من المادة والروح ، فمادته في النشأة الأولى من طين أو صلصال من حمأ مسنون ، وفي نسله الممتد من ماء مهين ، هو ماء الزوجين الذي يخرج من
صلب الرجل وترائب المرأة ، وروحه التي كانت بها حياته هي الجانب الأسمى الذي منحه الله إياه ، يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ، ويقول عز وجل: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ .
فالتكوين المادي الجسدي في نشأة آدم أبي البشر يرجع إلى الطين اليابس الذي يصلّ من يبسه أي : يصوت ، الطين المتغير من طول مكثه الذي أفرغ على صورة الإنسان ، ويرجع هذا التكوين الجسدي في النسل البشري إلى نطفة الرجل وبويضة المرأة ، والتكوين الروحي يرجع إلى النفخة العلوية من روح الله ، وهي النفخة التي نقلت هذا التكوين الجسدي إلى الأفق الأعلى في التلقي عن الله والاتصال بالله ، وأعطته خصائص الإنسانية الكريمة التي أهلته للخلافة في الأرض ، وكيفية هذا التكوين المزدوج من الأسرار الإلهية التي نؤمن بها أدرك العلم شيئًا منها أو لم يدرك .
وشتان بين عناصر الجانبين في هذا التكوين المزدوج ، فعناصر التكوين العضوي تشد الإنسانية إلى ضرورات بقائها في الطعام والشراب والملبس والمسكن وفي الشهوات والنزوات ، وتجذبه إلى أصلها ، إلى الطين أو الماء المهين ، وعناصر التكوين الروحي تسمو بالإنسانية إلى الأفق السماوي وتوثيق الصلة بالملأ الأعلى ، إيمانًا وعبادة واستقامة واستعلاء على جواذب الأرض ، وترفعًا عن مطالبها الهابطة ، وتطلعًا إلى القمة السامقة في نقاء النفس وطهارة الضمير ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ والروح من خلق الله ، وإنما أضيفت إلى الله تشريفًا وتكريمًا ، كقوله تعالى: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ، وقوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وكما
قال تعالى في عيسى عليه السلام: وَرُوحٌ مِنْهُ .
كذلك كانت طبيعة النفس البشرية ، فهي طبيعة مزدوجة في استعداها لازدواج طبيعة خلق الإنسان ، يقول تعالى في طبيعة هذه النفس واستعدادها للخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا والنفس: الروح ، أو ما يكون به التمييز ، وقد يعبر بها عن الإنسان جميعه ، والمراد بها هنا : القوة المدبرة المميزة في الإنسان ، وتسويتها : إعطاؤها القوى الكثيرة ، كالقوى السامعة والباصرة والمفكرة . وذلك عام في كل نفس ، والتنكير للتكثير ، هذه النفس الإنسانية زودها الله باستعدادات متساوية للتقوى والفجور ، تكمن في كيانها ، فإما أن يوفقها الله بالتقوى ، وإما أن يخذلها بالفجور ، والفائز هو الذي يزكيها بالطاعة ، وينمي استعدادها للخير بالاستقامة ، والخاسر من أخفى هذا الاستعداد الخيّر بالفجور والمعصية ، فالتزكية: التطهير ، والتزكية كذلك: الإنماء والإعلاء بالتقوى ، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور ، وأصل دسّ: دسس كما قيل في تقضض تقضَّي .
إن تعاهد بواعث الخير في النفس يجعلها زاكية نامية تفيض بالبر والهدى والخير والتقوى والصلاح ، ولا شيء يطفئ تلك البواعث ويحجب آثارها الخيّرة ويخفي استعدادها للنماء واستعلاءها على نوازع الشر كالفجور الذي يطمس معالمها .
وفي هذا المعنى جاء قول الله تعالى عن الإنسان: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ، جعل الله للإنسان من الحواس ما يطلعه على كائنات الله وما أودعه الله من أسرار وفي مقدمتها حاسة النظر ، وخلق فيه أداة التعبير والبيان عما يجول في جوانحه من أفكار ، وهداه النجدين ، والنجدان: هما سبيلا الخير والشر ، من النجد وهو الطريق المرتفع ، فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية لأنها واضحة للعقول وضوح الطريق العالي للأبصار .
وجاء هذا المعنى كذلك في قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا خلق الله الإنسان من نطفة أمشاج تختلط فيها خلية الرجل ببويضة المرأة بعد التلقيح ، والمشيج في اللغة : الخلط ، والأمشاج: الأخلاط ، واحدها مشج ومشيج ، وقال صاحب الكشاف: الأمشاج: لفظ مفرد وليس بجمع ، بدليل أنه صفة للمفرد نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ونظيره برمة أعشار ، أي قطع مكسرة ، وثوب أخلاق . وتحمل كل من الخلية والبويضة عامل الوراثة من الصفات المميزة للجنين ، ولا يخلق الله هذا عبثًا ، ولكنه يخلقه للابتلاء والامتحان والاختبار حتى تظهر آثار ذلك على الإنسان فيما قدره الله عليه ، وقد أعطاه الله ما يصح الابتلاء ، وهو السمع والبصر ، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز ، فيكون بهذا مستعدًا للتلقي والاستجابة والمعرفة والاختبار ، وبيّن له سبحانه سبيل الهدى والضلال ، سبيل الخير والشر ، سبيل النجاة والهلاك ، حيث خلق فيه وسائل الإدراك ودلائل العقل الهادي ، يستوي في هذا أن يكون شاكرًا يستثمر نعم الله عليه في عبادته وطاعته ، أو يكون كفورًا يجحد نعم الله ويضل عن سواء السبيل .
وهكذا كانت طبيعة النفس الإنسانية مزدوجة في استعدادها لازدواج طبيعة خلق الإنسان .
- ومنح الله الإنسان القوى المدركة المميزة: تميز الإنسان بأنه حيوان ناطق ، وهم يعنون بالنطق التفكير ، أي أنه مفكر بالقوة ، وهو ما يعبر عنه في الاصطلاح الشرعي بالعقل الذي كان مناطًا للتكليف .
وقد نوّه القرآن الكريم بالعقل وعوّل عليه في أمر العقيدة ، وأمر التبعة والمسئولية ، وجاء التنبيه بالرجوع إليه في كثير من الآيات ، فهو ملكة تقوي الإنسان إلى القيام بالمعروف والامتناع عن المنكر ، وكان اشتقاقه من هذه المادة التي تدل في اللغة على المنع ، ومنها أخذ العقال ، لأنه يعقل صاحبه عما لا يليق .
فالعقل هو ملكة الإدراك والفهم والتصور والرشد ، والاستفادة من هذه الوظائف العقلية أمر يفرضه الإسلام ، حيث يخاطب القرآن الناس ويشحذ فيهم ملكة التفكير والنظر والتدبر والتعقل ، ويجعل هذا سبيل الاهتداء إلى وحدانية الله وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
ويذكر الله في سورة الروم آيات متتابعة تحث الناس على التفكير في طبيعة تكوين أنفسهم ، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم ، فإن هذا وذاك يدل دلالة قاطعة على أن هذا الوجود في نظامه الدقيق المحكم قائم على الحق وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ .
ويحثهم على السير في الأرض والتأمل في مصائر الغابرين الذين كانوا أولي بأس وقوة ، وذوي قدرة على عمارة الأرض ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ولم يؤمنوا فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ، ولم تغن عنهم قوتهم ولا حضارتهم .
ثم تأتي آيات بدء الخلق ومعاده ومصير المؤمنين والكافرين ، تتلوها آيات الله في الحياة والموت ، وفي خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان ، ونوم البشر بالليل وسعيهم ابتغاء رزق الله بالنهار ، وظاهرة البرق والمطر وحياة الأرض بالنبات بعد موتها ، وقيام السماوات والأرض بأمر الله ، ودعوة الناس للخروج من القبور ، وتقرير البعث والقيامة ، ويتخلل هذه الآيات تذييلها بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .
فضرب الله المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقًا من خلقه ، وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من الرزق فضلاً عن أن يساووهم فيه ، يخشون أن يجوروا عليهم خشيتهم من جور شركائهم والأحرار الأكفاء الأنداد ، فإذا كان هذا شأنهم فكيف يرضونه في حق الله ولله المثل الأعلى؟
إنه مثل واضح حاسم يعتمد على العقل المستقيم ، ولا مجال للجدال فيه كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
ويؤكد الإسلام على إزالة الموانع التي تعطل العقل وتعوقه عن أداء وظيفته ، وعلى رأسها موانع العرف والعادة ، وموانع الاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية ، وموانع الخوف من أصحاب السلطة الدنيوية .
فلا يقبل الإسلام من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ .
ويدعو القرآن الكريم في النظر والاستدلال والحكم والاعتقاد إلى الاستناد إلى اليقين وإلى الحقائق المدروسة التي يطمئن إليها العقل ، وينحى باللائمة على أولئك الذين يتعلقون بالأوهام والظنون فإنها لا تغني من الحق شيئًا .
4 - وما كان لهذه القوى أن تدرك الصواب والحق دائمًا فضلاً عن عالم الغيب . إن القوى المدركة في الإنسان تدرك الأشياء بالحواس المخلتفة ، ويتصورها العقل ويفكر فيها ويحكم عليها ، فيميز بين الجميل والقبيح في المبصرات والمسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات ، كما يميز بين الأمور المعقولة .
ففي المبصرات مثلاً يجد الإنسان إعجابًا بألوان بعض الزهور والطيور والتكوين الخلقي للمخلوقات ، ويدرك جمال كثير مما تقع عليه عينه من المرئيات ويشعر في المقابل نحو أمور أخرى يشاهدها بالقبح وسوء المنظر .
ويرجع هذا التمييز إلى الإحساس الوجداني وما يتبعه من لذة وألم حتى إن القبيح قد يجمل بجمال أثره ، والجميل يقبح بقبح ما يقتدي به .
فالمر قبيح مستبشع ، ولكنه يكون جميلاً مقبولاً لأثره في علاج المرض ، والسلطان جميل لنفوذه وسيطرته ، ولكنه يكون قبيحًا لظلمه وبطشه وفجوره . وأفعال الإنسان الاختيارية يصدق عليها هذا .
فالعمل الذي يجلب مصلحة أو يدفع مضرة يكون جميلاً ، والعمل الذي يجر إلى الضرر ويهدر المصلحة يكون قبيحًا .
واللذيذ يكون قبيحًا لسوء عاقبته ، فسماع الأغاني ، وشرب الخمر ، واتباع الشهوة مما فيه لذة ، ولكن هذا يقبح ما فيه من ضياع الوقت والصحة والعقل وإتلاف المال وانتهاك الحرمات .
والمؤلم يكون حسنًا لحسن عاقبته ، كتجشم المشاق في كسب الرزق واكتساب العلم والصبر على الطاعة وفعل المعروف وجهاد الأعداء دفاعًا عن البيضة وإعلاء لكلمة الحق .
فالعقل يميز بين النفع والضر ، والخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، وهذا التمييز فيما يدركه العقل يرد عليه أمور ينبغي أخذها في الحسبان .
أ) فالناس يتفاوتون في مداركهم تفاوت وسائل الإدراك عندهم ، وإذا كانت وسائل الإدراك سليمة صحيحة فإنها تدرك الشيء على حقيقته ، وتميز بين الجميل والقبيح ، والنافع والضار ، وإذا كانت هذه الوسائل ضعيفة لسبب خلقي أو لسبب مرضي مزمن أو عارض فإنها لا تدرك الشيء على حقيقته ولا تميز بين الجميل والقبيح ، ولا بين النافع والضار تمييزًا صحيحًا .
فمن أمراض العين ما يؤثر على الألوان في المبصرات فيراها على غير حقيقة لونها ، وربما رأى الشخص شيئًا في ضوء خافت أو على مسافة بعيدة فتصوره بغير صورته .
وقد يسمع الإنسان الكلام فيقع في سمعه حروف بعض الكلمات بأصوات أخرى فيفهم الكلام على غير معناه وإن كان حسب سمعه ، يحدث هذا لضعف في حاسة السمع ، أو لمرض يصيبها ، أو لعبد مصدر الصوت عنه .
ب) وتتوقف صحة الإدراك على اعتدال المزاج ، فإذا فسد المزاج وخرج عن سنن الاعتدال خرج العقل عن الصواب ، ووقع في الخطأ .
فتفكير الإنسان في حال الرضا يختلف عن تفكيره في حال الغضب ، وتفكيره في وقت راحته يختلف عن تفكيره في وقت تعبه ، وتفكيره في أحواله المعتادة يختلف عن تفكيره في شدة الحزن أو الجوع أو الخوف .
والرغبة الجامحة ذات أثر فعال ، يرى المرء في المال منفعة كبيرة في رخاء العيش والاستمتاع بالطيبات ، والقدرة على الإنفاق ، والوجاهة عند الناس ، ويؤثر عليه في هذا عواطفه نحو أهله وولده حتى يتركهم أثرياء وتشتد رغبته في الحصول على المال فتحجب عنه طريق التفكير الصحيح في وجوه التكسب ، فلا يقتصر على الكسب الحلال ، وإنما يعمد في الحصول على المال إلى وسائل غير مشروعة من أي وجه كان ، ويستبيح الكذب والغش وأكل المال بالباطل وسائر ما يحرز به كسبًا يحقق له الثراء ، فيعتدي على الآخرين بسلب أموالهم ويحرمهم من ثمار كدهم ويرى في ذلك منفعة له .
إن لاعوجاج الفكر واستقامته أعظم الأثر في التمييز بين النافع والضار وإن
للأمزجة ، وما يحف بالشخص من أهل وعشيرة تأثيرًا بالغًا على ما يحكم به العقل من خطأ أو صواب .
ج) وأهواء الإنسان وشهواته تتغلب عليه وتشل قدراته الفكرية فلا يكون إدراكه للأمور إدراكًا مجردًا من المؤثرات ، إنما يكون هذا الإدراك متأثرًا بغلبة الهوى ، أو نزوة الشهوة ، فلا يرى الشيء إلا بمنظار هواه ولا يبصر فيه إلا ما يروي ظمأ شهوته ، وهذا يجعل تفكيره جائرًا ، ينأى عن الحق ، ويبعد عن الصواب ، فيستمرئ الباطل ، ويتمادى في الخطأ ، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا .
د) ومهما كانت وسائل الإدراك صحيحة خالية من المؤثرات فإن الإنسان ينتهي فكره إلى أمد ، ويقف عند غاية محدودة ، وليس في استطاعة العقل البشري أن يدرك الأهداف البعيدة ويهتدي فيها إلى الحق والصواب .
ويقتصر هذا الإدراك على ما يتصل بالشخص من منفعة ومضرة ، أو لذة وألم ، أو ما يتصل به وبالأقربين من حوله ، ولا يتجاوز هذا إلى مصلحة الجماعة الكبرى ، أو إلى مصلحة الجماعة العامة ، ومصلحة الجماعة هي الجديرة بالنظر الصائب ، والفكر الثاقب ، والعقل الرشيد ، ولو كان في هذه المصلحة ما يضر بشخص أو أشخاص .
وكثيرًا ما يضر النظر العقلي بصاحبه ويجره إلى ما لا تحمد عاقبته ، لا عن قصد منه ، وإنما لسوء تقديره ، وخطأ تفكيره ، وزلة عقله ، فيقع ما لم يكن في حسبانه .
ولو أن كل إنسان هداه تفكيره إلى الصواب لوصل إلى بغيته ، ونجح في بلوغ قصده ، وما شاهدها من أرباب المهن والتجارة من تبور بضاعته وتكسد تجارته ، وما وجدنا أحدًا يبوء بالفشل ، إذ لا يرتضى عاقل أن يضر بنفسه مختارًا .
هـ) وتعجز العقول عن معرفة الضوابط السلوكية التي تحدد علاقة الإنسان بأخيه ، حفظًا للحقوق ، وصيانة للحرمات ، وضمانًا لاستقامة موازين الحياة الثابتة ، حتى
تستثمر مواهب الناس وقدراتهم بما فيه خيرهم وسعادتهم ، في ظلال الأمن والعدالة والرخاء .
وتعجز العقول كذلك عن إدراك أسرار العبادات ما لا يعرف العقل سره ، لأنه غير معقول المعنى ، لماذا كانت الصلوات الخمس؟ ولماذا كانت في هذه الأوقات؟ ولماذا تفاوتت في عدد ركعاتها؟ ولماذا كان هذا العدد دون غيره؟ ولماذا كانت بهذه الصورة دون سواها؟
وهكذا الشأن في تحديد الأموال التي تزكى ، ونصاب زكاتها ، وتحديد الصيام المفروض وكيفيته ، وكيفية الحج ومناسكه التي لم تدرك إلا بالشرع ، وقلما يفهم لها معنى معقول .
ومعرفة عالم الغيب وما فيه من بعث وحساب وصراط وميزان وجنة ونار ، ومعرفة الملائكة ووظائفهم ، والرسل وصفاتهم ، كل هذا وما يتصل به كيف يستطيع العقل أن يدركه؟ وهو عالم مجهول عنده ما لم يصله خبر صادق عنه .
لهذا ونظائره كان العقل الإنساني قاصرًا عاجزًا ، وكان في حاجة إلى هداية تجنبه المزالق ، وترشد قوى إدراكه إلى الصواب ، وتطلعه على ما لا قبل له بعلمه .
5 - وقد امتن الله على عباده ببعثة رسله بيانًا للحق وموازينه وإعذارًا لهم وإسقاطًا لحجتهم: لم يدع الله تعالى الناس لفطرتهم ، فإن هذه الفطرة يعرض لها ما يفسد جبلتها ، وتغشاها غواشي الحياة المختلفة التي تتجاذبها هنا وهناك فتقع فريسة لها ، تتأثر بها وتجنح نحوها ، وتنحرف عن جادة الحق ، وتحيد عن الصراط المستقيم ، وإنما تظل الفطرة سليمة إذا تركت وشأنها دون مؤثرات الحياة وعوارضها ونزوات النفس وشهواتها .
وفي الفطرة مقياس الخير والشر في إحساسها الذي ينبع من داخل النفس ويختلج بين الجوانح ، ولكن هذا لا يحول دون الوقوع في الإثم ، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البر والإثم فقال: البر حُسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وجاء هذا الحديث عن الإمام أحمد بأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بقوله: استفت قلبك واستفت نفسك ، ثلاث مرات ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك .
فالنفس السوية تفرق بين الحق والباطل ، والخير والشر ، فتنشرح للحق والخير ، وتجد الريبة والشك في الباطل والشر .
ولم يدع الله تعالى الناس لعقولهم مع ما في طبيعتهم من الاستعداد للخير والاستعداد للشر ، فإن العقل البشري يعجز عن إدراك كثير من الأمور ، ولا يبرأ من الهوى ، ولا يكون حكمه صائبًا في كل حال ، فهو في حاجة إلى معين يهديه ويحول بينه وبين زلاته وشططه. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى الرسل يدل على ذلك ما يأتي:
أولاً: الدليل الاعتقادي :
يجمع العقلاء في تاريخ البشرية على أن هذا العالم البديع الصنع في كائناته التي لا تحصى ونظامه المحكم الدقيق يدل دلالة قاطعة على وجود مبدع صانع خلقه ، وأحكم صنعه ، ودبر شئونه على هذه الحال التي تفوق تصور البشر فلم يوجد بمحض الصدفة ، كما أنه لم يوجد نفسه ، وإنما يختلفون في تسمية هذا الموجد الخالق ، ولا يدركون صفاته ، ولا ما يجب في حقه .
والدين يقرر أن هذا الموجد الخالق هو الله تعالى . فهو خالق كل شيء ولا سبيل للعقل إلى معرفة صفات الله وما يجب في حقه . وسبيل ذلك هو السمع وحده بالنقل عن الرسول الذي يصطفيه الله لإبلاغ الرسالة ، ويؤيده بالمعجزات الدالة على صدقه .
واتفقت كلمة العقلاء مع اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم على أن النفس البشرية لا تزول زوالاً مطلقًا بالموت إلى غير رجعة ، وإنما يكون لها نوع من البقاء ، واختلفوا في تصويره وفي طرق الاستدلال عليه .
فمن قائل: بالتناسخ ، ومن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عند ما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال . ومن قائل: إنها إذا فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذاتها أو ما به شقوتها .
ويسود شعور عام لدى البشرية كلها بحياة بعد هذه الحياة الدنيا التي يعيشها الناس ، وأن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود ، بل ينتهي عمره ويموت ثم يكون حيًّا باقيًا في طور آخر وإن لم يدرك كنهه ، ولا يستثنى من ذلك سوى الدهرين الذين قال الله تعالى عنهم: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ .
وهي نظرة سطحية قصيرة لا تتجاوز ظاهر الأمر الذي يشهدونه ، ولا تبحث عما وراء ذلك من أسرار ، فمن أين جاءت إليه الحياة الدنيا؟ وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم؟ إن هذا ظن غامض ، لا يقوم على تدبر ، ولا يستند إلى علم ، ولا ينظر إلى ما وراء ظاهرة الحياة والموت من سر .
وإذا كنا في عالم الشهادة نستعمل عقولنا في تقويم معيشتنا القصيرة الأمد ، ونتلقى من العلوم ما ينمي أفكارنا ، ويعيننا على استقامة حياتنا ، وإدراك رغباتنا ، ثم لا نلبث حتى نجد هذا غير كاف في الاستقامة على المنهج الأقوم ، فنعود إلى تعديل هذه الأفكار وتصحيحها مرة بعد أخرى ، إذا كنا في عالم الشهادة كذلك فكيف تصل عقولنا وأفكارنا إلى إدراك ما في عالم الغيب؟ وإلى معرفة ما يكون فيه ، وكيف تكون الحياة الجديدة الباقية؟ إن طرائق النظر والاستدلال الفكري لا تقود الناظر إلى العلم بذلك علم اليقين حتى يعتقده ويؤمن به ، وهو مجهول لديه ، والنظر في المعلومات الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة .
فاقتضت حكمة الصانع الحكيم الذي خلق الإنسان وعلمه البيان أن يصطفي من عباده من يشاء ، وأن يخصهم بصفات تميزهم ، وإن يوحي إليهم من أمره تعالى ما يشاء أن يعتقده العباد ، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه ، بما تحتمله طاقة عقولهم ، ولا يبعد عن متناول أفهامهم ، وأن يبلغوا عنه شرائع تحدد
لهم ما فيه تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله ، وإن علموه من داخل نفوسهم في إجماله ، ثم يؤيد الله هؤلاء الذين يصطفيهم لإبلاغ تلك الأمانة بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات ، حتى تقوم بهم الحجة ، ويتم الإقناع بصدق الرسالة ، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين ، يبشرون من آمن بهم واتبع هديهم بما وعد الله به المؤمنين من خير ومثوبة ، وينذرون من كفر بهم وتنكب طريقهم بما توعدهم الله به من شر وعقوبة .
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأبدع في كل كائن صنعه ، ووسعت رحمته كل شيء يكون من رحمته بمن خلقه في أحسن تقويم ، وهيأ له وسائل الإدراك والمعرفة ، أن ينقذه من حيرته ، ويخلصه من التخبط والضلال .
ثانيًا: دليل العدل وموازين الحق :
الإنسان كائن اجتماعي ، فهو في حاجة إلى غيره ، كما أن غيره في حاجة إليه ، ينبئ عن هذا الشعور النفسي ، والواقع الاجتماعي .
يشعر كل إنسان من داخل نفسه أنه لا يستطيع أن يعيش في عزلة عن غيره ، ينقطع فيها عن الناس ، ولا يتصل بأحد منهم ، فالعزلة قاتلة له ، والوحدة وأد لطبيعته ، وإذا عاش فترة قصيرة بعيدًا عن الناس منقطعًا عن الاتصال بهم أحس بالوحشة ، واشتدت مخاوفه ، وتبرّم من الحياة نفسها كأن الموت يطارده .
وفي طبيعة خلقه ضرورة اجتماعية ، فقد وهبه الخالق القدرة على الكلام ، وهذه الخاصة وحدها من أقوى الدلائل على حاجته إلى من يتكلم معه ، لأن اللسان أداة التفاهم ، وبه يكون التعبير عما في النفس ، فمع من يتفاهم إذا كان يعيش وحده؟ ولمن يعبر إذا كان في عزلة؟
وواقعه الاجتماعي يحتم عليه الاتصال بالآخرين ، فإن مطالبه كثيرة ، ومنذ ولادته يكون عاجزًا عن الوفاء بضرورات حياته ، وليس شأنه كشأن الحيوانات الأخرى التي
ألهمت سبل عيشها ، وكفاها هذا الإلهام مدة صغرها على قصرها ، ولازمها ذلك بعد في حياتها ، فإن الإنسان يولد ولا قدرة له على الحركة ، وهو في حاجة إلى غذاء جسمي ، وتعهد نظافته ، وتفقد أحواله للمحافظة على سلامته ، والعمل على راحته ، ويستمر هذا فترة طويلة من الزمن تمتد عدة سنين ، حتى يستطيع أن يخدم نفسه .
وإذا شب عن الطوق وقوي ساعده ، لازمه العجز عن الوفاء بمطالبه ، فلا يستطيع وحده أن يزرع ويحصد ، وأن يغزل وينسج ويحيك ثيابه ليلبس ، وأن يصنع طعامًا يقوته ومسكنًا يؤويه ، وكلما تطورت حياته اتسعت مطالبه ، وتشعبت حاجته ، فلا يقف في تعاونه مع غيره عند أهله وعشيرته كما كان حاله في عصره الأول ، بل زادت دائرة هذا التعاون ، وعاش في مجتمع أكبر ، يبذل فيه كل فرد ما عنده من قدرات للجماعة ، وتبذل الجماعة لكل فرد فيها ما لديها من ثمار كدحها ونتاج أيديها وعقولها .
ويوشك العالم اليوم في العصر الحديث أن يكون مجتمعًا واحدًا لو استطاع ، لتداخل مصالحه ، وترابط مطالبه ، واتساع حاجاته .
وليست الحياة الإنسانية كحياة النحل والنمل يكفي فيها الإلهام الغريزي لانتظامها ، وتحقيق تعاون أفرادها ، والقيام بوظائفها ، فإن الحياة الإنسانية تتميز بالعقل والتفكير والتدبير والاختيار ، فلا يجدي فيها هذا الإلهام ، ولا يستقيم أمرها إلا بانتظامها في سلك واحد ، عن فكر ونظر .
وفي الإنسان غرائز شتى ، كحب النفس ، وحب التملك ، وحب السيطرة ، وهذه الغرائز تصطرع فيها القوى البشرية ، ويسعى كل إنسان في المجتمع البشري إلى أن يكون حظه أوفر من غيره ، وأن يستأثر بالمنفعة واللذة ، وأن تكون له الغلبة والقهر ، وقد نشأ من ذلك التخاصم والتشاجر والعداء والمقاتلة في حياة الأفراد وحياة الأمم ، ويشتد التنافس في هذا المضمار فتضيع الحقوق وتهدر الحرمات وتكون السيطرة للأشد الأقوى ، ولا يقف الصراع البشري عند حد ، بل يتتابع في حياة كل قبيل بكل جيل ، وهذا يجعل الحياة الإنسانية جحيمًا لا يطاق ، ولا علاج لذلك إلا أن يكون هناك ضوابط سلوكية محكمة وموازين للحق ثابتة ، تقيم العدل
بين الناس ، فتنصف المظلوم من الظالم ، وتعيد الحق إلى نصابه .
فمن الذي يصنع الضوابط السلوكية وموازين الحق لتحقيق العدل بين الناس؟
قد يقول قائل: إن الناس عقلاء ، ولا يعدم المجتمع البشري أن يجد من علمائه ومفكريه وعباقرته من يسن الأنظمة والقوانين لضبط السلوك وقيام العدل ، وهذا حق من وجه .
ولكن العقل البشري بطبيعته لا يحيط بكل شيء علمًا ، وإذا أدرك الصواب في حالة فإنه يخطئ في حالات ، وأولئك النوابغ المفكرون الذين يقررون موازين الحق لن ترقى عقولهم إلى درجة تجنبهم الخطأ ، فإنهم ليسوا معصومين من الزلل .
والعقل البشري من ناحية أخرى يتأثر في تفكيره بالعواطف المختلفة ، ورجال الفكر في أي عصر لا يتجردون من هذه العواطف تجردًا كاملاً ، فلا تكون القوانين التي يضعونها منزهة عن كل عيب ، بل إن شواهد الحال في حياة الأمم تدل على أن واضعي القوانين يحصرون على تحقيق أهداف يرومونها ، فيصوغون قوانينهم لتحقيق هذه الأهداف حتى يكون نظام الحكم منسقًا معها ، ولذا اختلفت من أمة لأخرى ، وكانت عرضة للتغير والتبديل ، كلما ذهب قوم جاء آخرون بأهداف جديدة وصاغوا قوانينهم بفكر جديد .
ولو سلمنا جدلاً أن العقلاء النوابغ يستطيعون الوصول إلى موازين ثابتة تحقق العدل بين الناس فإن غيرهم لا يسلم لهم بذلك ، فالناس متفاوتون في مواهبهم وأفكارهم ونزغات أهوائهم ، ويأبى أرباب العقول أن يخضع بعضهم لبعض ، ويدعي كل أنه أرقى من الآخر فكرًا وأسمى عقلاً ، فلماذا يخضع له عن اختيار منه؟ إن خضوعه لا يكون إلا بالقهر والغلبة .
فلا بد إذًا من قوة قاهرة فوق قدرة البشر ، تقيم موازين الحق لتحقيق العدل بين الناس ، حتى يشعر جميع العقلاء أنهم فيها سواء ، وبهذا يكون خضوعهم ، فإن الناس جميعًا يتفقون على الإذعان لما فاق قدرتهم ، وعلا متناول استطاعتهم .
لذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يختار من بين أفراد النوع الإنساني مرشدين هادين ، يميزهم بخصائص في أنفسهم ، ويؤيدهم بالمعجزات التي تبهر
العقول ، وتأخذ بالألباب ، ويوحى إليهم بموازين الحق والعدل التي تدهش عظمتها المدارك ، فلا يملك الناس إزاءها إلا الإذعان والقبول لها ، لأنها شرع إلهي قاهر ، وليست من وضع البشر ، وأولئك هم المرسلون .
إذا كانت الفطرة لا تكفي في استقامة الإنسان على جادة الحق لما يعتريها من ركام العادات والأعراف والتقاليد .
وإذا كان العقل لا يكفي لهداية الإنسان لما فيه من قصور ولما يعرض له من نزوات الهوى والشهوة .
فإن هذا وذاك قد يجد الإنسان فيه مجالاً للاعتذار عما وقع فيه من خطأ ، وما ارتكبه من إثم .
لذا شاء الله تعالى رحمة منه أن يرسل إلى الناس الرسل مبشرين ومنذرين لاستنفاذ فطرتهم من ركام الإلف والعادة ، وتحرير عقولهم من أسر الأهواء والشهوات .
إنه مع وجود الفطرة التواقة إلى الاتصال ببارئها والإذعان له ، ومع هبة العقل الذي أوتي القدرة على النظر والتفكير والتدبر ، فإن الله سبحانه- بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها فتعطلها أو تفسدها أو تطمسها أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط- قد أعفى الناس من حجية الفطرة وحجية العقل ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا دلائل الفطرة ودلائل العقل مما يعتريها من عوامل الفساد ، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي في رسالتهم تلك الدلائل ، فتصح أحكامها ، وتستقيم على ضوابط شرع الله ، وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع ، أو تسقط حجتها وتستحق العقاب رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا .
ولو علم الله أن العقل البشري الذي وهبه للإنسان يكفي في أن يهتدى به وأن يدرك مصلحة حياته لوكله إلى هذا العقل وحده ، يبحث عن دلائل الهدى ، ويرسم لنفسه المنهج الذي تقوم عليه حياته حتى تستقيم على الحق والصواب ، ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ ، ولما جعل حجته على عباده لإرساله الرسل إليهم ، وتبليغهم عن ربهم ، ولما جعل حجة الناس عنده سبحانه وتعالى عدم مجيء الرسل إليهم لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ولكن لما علم الله سبحانه وتعالى أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط ، وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة لما علم الله سبحانه وتعالى هذا اقتضت رحمته أن يبعث للناس بالرسل وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا .
فلا يؤاخذهم بالفطرة التي خلقهم عليها أو بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم ولا يؤاخذهم بموجبات العقل ومقتضيات النظر في آياته الكونية المبثوثة في الوجود ، وإنما يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ليعذر إلى عباده قبل أن يأخذهم بالعذاب .
فوظيفة العقل أن يتلقى عن الرسالة وأن يفهم ما يتلقاه عن الرسول وليست وظيفة العقل أن يكون حاكمًا على الدين من حيث الصحة أو البطلان ، والقبول أو الرفض ، بعد صحة صدوره عن الله .
وإذا قلنا إن الإسلام يخاطب العقل فإننا نعني بهذا أن الإسلام يوقظه ويوجهه ويقيم له منهج النظر الصحيح ، ولا يعني هذا أن العقل يحكم بصحة الدين أو بطلانه ، وبقبوله أو رفضه ، فمثى ثبت النص كان هو الحكم ، وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه ، سواء كان مدلوله مألوفًا له أو غريبًا عليه .
ومهمة العقل أن يفهم ما الذي يعنيه النص وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح ، والمدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل ، فهذا النص من عند الله والعقل ليس إلهًا يحكم بالصحة أو البطلان ، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله .
لقد علم الله أن قدرات العقل تنوشها الشهوات والنزوات ، وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطوار النفس قد يحجبها الغرض والهوى ، ويحجبها الجهل والقصور ، ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال إلا بعد الرسالة والبيان ، ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة ، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله ، وترك له ما وراء ذلك يبدع فيه ما يشاء ، والاجتهاد يكون في فهم النص المجمل الذي يحتمل أكثر من معنى أو في تطبيق مدلول النص القطعي على الجزئيات المتجددة في الحياة .
وأخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم عن حال المكذبين ، وأنه تعالى أعذر إليهم إذ أرسل إليهم رسوله ، فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى . فقطعت عليهم الرسالة الحجة ولم يعد لهم من عذر بعدها .
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أحد أغير من الله ، من أجل
ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين وفي لفظ من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه .
وبعد: لقد فطر الله الناس على توحيده وطاعته ، وأودع في النفس البشرية استعدادها للخير واستعدادها للشر ، ومنح الإنسان القوى المدركة المميزة ، وما كان لهذه القوى أن تدرك الصواب والحق دائمًا فضلاً عن عالم الغيب ، فامتن الله على عباده ببعثة رسله بيانًا للحق وموازينه وإعذارًا لهم وإسقاطًا لحجتهم .
والعالم اليوم يهيم على وجهه باسم الحضارة والعلم ، وقد تملكه الغرور بما وصل إليه من معرفة ، وما أدركه من دقائقها ، فغزا الفضاء ، وابتكر وأبدع ، ولكنه يسير على غير هدى ، يتخبط في دياجير المذاهب والأفكار والنظم والقوانين ويتسابق في اختراع وسائل التدمير ، ويوشك أن تندلع فيه نار حرب ذرية أو نووية فتأتي على بنيانه من القواعد ، وتحوله إلى خراب ودمار .
وبيد المسلمين وحدهم مشعل الهداية الربانية التي بعث بها خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنقذ البشرية من براثن الشرك والجهالة ، وأخرجها من الظلمات إلى النور ، وأرسى دعائم الحضارة الإسلامية الفاضلة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً .
فهل آن لأمة الإسلام بعد أن حادت عن الجادة أن تنيب إلى ربها وتستقيم على صراط الله المستقيم؟ حتى تعود لها مكانتها ، وتقود الإنسانية إلى الهدى والخير والحق من جديد وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ؟ . هذا ما نرجوه ، وما ذلك على الله بعزيز .