عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 138
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
للباحث السوري : مختار فوزي النعال
ذكر الإخباريون والرواة حكايات مختلفة متباينة عن الطوفان ومدته، وعن سفينة نوح (، وما حُمل فيها من الناجين ومكان رُسوّها... وقد شاب هذه الحكايات كثير من المبالغات والأقاويل التي لا تقوم على سند صحيح، حتى كان بعضها ضرباً من الأساطير، كما قيل في قصة السباع والطير والوحش والبهائم التي حملها نوح معه في السفينة، وتعلّقِ الشيطان بذنب الحمار، وقصة الحية والعقرب، والفأر التي قرضت حبال السفينة، وسواها(1)...
غير أن رجال الدين وعلماء الجغرافية لم يختلفوا في وقوع الطوفان، ولا في مكانه الذي استوت عليه سفينة نوح (، وإن كان هناك خلاف في تسمية هذا المكان، فقد قيل: هو جبل بالجزيرة قرب الموصل، وقيل: إنه بآمِد ـ ديار بكر ـ وقيل: هو جبل يقع في جنوب أرمينية، وقيل: هو جبل مطلّ على جزيرة ابن عُمر، في الجانب الشرقي من نهر دجلة(2). فجميع هذه المسميات هي لمكان واحد تعاورته أسماء جمّة، فآمِد في الجزيرة جنوب أرمينية وقرب الموصل، وجزيرة ابن عمر قرب الموصل جنوب أرمينية، يطل عليها جبل آرارات.
وقد أيدت الكتب المقدسة وعلماء الجغرافية قصة الطوفان ووقوعه، كما حدد بعضهم مكان رسو السفينة، فالطوفان حادثة كونية كبرى شملت أنحاء المعمورة في رأي المفسرين وعند أهل الكتاب، ويؤيد هذا الرأيَ ما عثر عليه الجيولوجيون من المستحاثات والأحافيز، فقد عثروا على أصداف وأسماك متحجرة في أعالي الجبال، وهي لا تكون عادةً إلا في البحار.
والذي انعقد عليه الرأي: أن الطوفان كان شاملاً لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم يومذاك. فقد كانوا مُقيمين في منطقة الشرق الأوسط، أما في سائر أجزاء الكرة الأرضية، فليس ثمة نص قاطع ـ لا في القرآن الكريم، ولا في سواه ـ يشير إلى تغطية الأرض جميعها بالمياه.
يقول عبد الوهاب النجار: (ليس في هذه المسألة نص قاطع في القرآن، والذي أميل إليه أن يكون الطوفان خاصة، وأن النوع الإنساني لم يكن منتشراً في جميع أنحاء الكرة الأرضية)(3).
ذكر الطوفان في القرآن الكريم بلفظه صراحة مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: (ولقد أرسلْنا نوحاً إلى قومه فلبِثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً، فأخذهم الطوفانُ وهم ظالمون( العنكبوت /14. وأشير إليه بغير لفظة في سورة القمر بقوله تعالى:
( ففَتْحنا أبوابَ السماءِ بماءٍ منهمرٍ، وفجّرنا الأرضَ عيوناً، فالتقى الماءً على أمر قد قُدِر( القمر /11 ت 12. أما "قصة الطوفان" فقد جاءت موسعة في سورة هود وذلك في قوله تعالى، بعد الكلام على نوحٍ وصُنعه للسفينة: (حتى إذا فارَ التنُّور قلنا احمِلْ فيها من كلّ زوجِيْنِ اثنَيْنِ وأَهْلَكَ، إلاَّ مَن سَبقَ عليه القولُ ومَن آمَنَ، وما آمنَ معه إلاَّ قليل، وقال اركبوا فيها باسم الله مَجراها ومُرساها إنّ ربّي لغفورٌ رحيم* وهي تَجري بهم في موجٍ كالجبال، ونادى نوحٌ ابنَه، وكان في مَعزِلٍ يا بنيَّ اركبْ معَنا ولا تكن من الكافرين* قال سآوي إلى جبلٍ يَعصمني من الماء، قال لا عاصمَ اليومَ من أمرِ اللهِ إلاَّ مَن رَحِمَ. وحالَ بينهما الموجُ فكان من المُغرَقين* وقيل يا أرضُ ابلَعي ماءكِ ويا سماءُ اقلِعي. وغِيضَ الماءُ وقُضي الأمرُ واستَوتْ على الجُودِيّ، وقيلَ بُعداً للقوم الظالمين( هود / الآيات 40 ـ 44.
فهذه الآيات تفصّل القول في قصة "الطوفان" دون أن تسميه، كما تشير الآيات الأخيرة إلى أن السفينة استقرّت على "الجودي".. هكذا أطلق القرآن الكريم اسم "الجودي" على هذا الجبل التي استوت عليه سفينة نوح... وفي اسم هذا الجبل أقوال تختلف لفظاً باختلاف الأمم التي تعاقبت عليه، وأطلقت كل أمة عليه اسماً وفق لغتها، لكن جميع هذه الأسماء حدّدت له مكاناً مخصوصاً معلوماًن نذكر منها ما جاء في الكتاب المقدس: (وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض، وأَجاءَ اللهُ ريحاً على الأرض، فهدأت المياه وانسدّت ينابيع الغّمْر، ورجعت المياه عن الأرض واستقرّ الفُلك على أراراط( التكوين /7 ـ 8.
وآراراط هذا لفظ عِبريّ مأخوذ من أصل أكادي (أورارطو) أُطلق على منطقة جبلية في آسية، وهي أعلى مكان في هضبة أرمينية، وعلى أحد هذه الجبال استقرّ فُلك نوح، وقمة هذا الجبل يطلق عليها "أرارات"، واسمها في التركية "اغري داغ"(4)، ويقول ابن الأثير: (... انتهت السفينة إلى الجودي، وهو جبل بناحية "قردي"(5) قرب الموصل)(6)، فالجودي جبل في "أرارات" يقع شمال العراق، ولفظ "أرارات" في النصوص الآشورية جاء بصيغة "أورارتو"، ولفظ الجودي في اللغة البابلية والكلدانية من "جدا ـ جوديا" أي علا وشب وارتفع. قال ياقوت الحموي: "... واستقرّت السفينة على الجودي... فلما جفّت الأرض خرج نوح ومن معه من السفينة وبنى مسجداً ومذبحاً لله تعالى وقرّب قرباناً، هذا لفظ تعريب التوراة حرفاً حرفاً، ومسجد نوح ( موجود إلى الآن، بالجوديّ)(7).وجاء في دائرة المعارف الإسلامية (... الجُوديّ جبل شامخ في الشمال الشرقي لجزيرة ابن عُمر، وترجع شهرة هذا الجبل إلى استواء سفينة نوح عليه، وجاء في الكتاب المقدس: أن الفُلك استقر على جبل أرارات، هذا الجبل يعرف بـ (ماسيس) في أرمينيا، وتذهب بعض التفاسير الدينية إلى أن الجبل المعروف بجبل الجودي هو بالأرمينية "كردخ" كما تقول المصادر النصرانية، وهو المكان الذي استقر عليه فُلك نوح)(8).
وجاء في الصفحة 691 من المجلد الأول للموسوعة الأرمنية: "إن لأرارات ثلاثة أسماء هي: الجودي، قردى، أرارات". وقال القرطبي: (الجودي: اسم لكل جبل... ويقال إنّ الجُوديّ من جبال الجنة، فلهذا استوت عليه [السفينة]، ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجوديّ بنوح، وطُور سِيناء بموسى، وحراء بمحمدٍ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)(9).
وقال الفيروز أبادي: "الجوديّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح ("(10)). كما وردت قصة الطوفان لدى البابليين في ملحمة "جلجامش". وجاءت قصة الطوفان في التوراة: "إن عدداً من البشر ازدادوا فكثرت شرورهم وآثامهم فعزم الرب على محو الجنس البشري وأمر نوحاً أن يصنع سفينة ضخمة يُدخِل فيها من كل زوجين اثنين، أهله وزوجاته وأبناءه ثم كان الطوفان". وقال الحميري: (جبل الجودي بالجزيرة وهو قبل "قردي" وحدّث من رآه أنه ثلاثة أجبل بعضها فوق بعض.... وهناك بيعتان للنصارى ومسجد للمسلمين... وفي أسفل هذا الجبل مدينة "ثمانين")(11).
وذهب الأخباريون والمؤرخون ورجال التاريخ القدامى مذهباً بعيداً، فيه شيء من التمحل والتعسف، فذكروا في تاريخ ركون نوح ومن معه من الناجين في السفينة وفي تاريخ استوائها ورسوّها على الجودي أقوالاً لا يُطمأن إليها، فقالوا: كان ركوب نوح ومن معه في السفينة لعشر خلون من رجب، وكان خروجهم منها بعد استوائها على الجودي في العاشر من شهر المحرم أي في عاشوراء، فالشهور العربية في الجاهلية كانت شهوراً منسوبة إلى عاد أو إلى ثمود، وكانت بأسماء أخرى غير هذه الأسماء المعروفة اليوم، فضلاً عن النسيء الذي كانوا يؤرخون به شهراً ويقدمون شهراً آخر..
نخلص من هذه الأقوال إلى النتائج التالية:
ـ الطوفان حادثة كونية وقعت في زمن نوح ( أيدتها الكتب الدينية المقدسة، ورجال العلم.
ـ الطوفان كان خاصاً بقوم نوح، لأنّ النوع البشري لم يكن منتشراً في الكرة الأرضية.
ـ في مكان استواء السفينة ورسوّها تذكر عدة أسماء هي: آراراط، قردي، اغرى داغ، كردخ، ماسيس، الجودي...
وجميع هذه الأسماء اسم لمكان واحد بعينه استوت عليه سفينة نوح ثم نزل منها هو ومن معه فبنوا حيث نزلوا قرية سماها نوح "ثمانين" بعدد الأشخاص الناجين من الغرق، وبنى مسجداً لا تزال آثاره باقية. وقد ذكرت وكالات الأنباء العالمية إن إحدى طائرات التجسس الأمريكية اكتشفت بقايا سفينة قديمة فوق جبل أرارات قيل إنها سفينة نوح، ولا تزال هذه البقايا موجودة عليه ومتحجرة.
ـ لم يذكر القرآن الكريم مكان الجودي(12)، لأن العبرة ليست في المكان وإنما فيما آلت إليه قصة الطوفان وأسبابه، وما آل إليه مصير الكافرين حيث تمت كلمة الله وقيل بعداً للقوم الظالمين.
ثبت المصادر والمراجع :
1) الجامع لحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ القاهرة.
2) حياة الحيوان الكبرى ـ كمال الدين بن محمد الدميري ـ دار التحرير للطباعة والنشر ـ القاهرة.
3) دائرة المعارف الإسلامية ـ لفيف من المستشرقين ـ مركز الشارقة للإبداع الفكري.
4) الروض المعطار في خبر الأقطار ـ محمد عبد المنعم الحميري ـ مكتبة لبنان الطبعة الثانية 1984م.
5) قاموس الكتاب المقدس ـ بطرس عبد الملك وزميلاه ـ منشورات مكتبة المشعل، بيروت 1981م.
6) القاموس المحيط ـ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي ـ مؤسسة الرسالة ـ الطبعة الأولى ـ القاهرة 1986 م.
7) قصص القرآن ـ عبد الوهاب النجّار ـ مكتبة وهبة ـ الطبعة الثالثة ـ القاهرة. 0د.ت)
8) الكامل في التاريخ ـ محمد بن محمد بن عبد الكريم، المعروف بابن الأثير ـ نشر وتوزيع دار صادر ـ بيروت.
9) معجم البلدان ـ ياقوت بن عبد الله الحموي ـ دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر ـ بيروت 1955 ـ 1957م.
الحواشي :
(1) حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين محمد الدميري ج2 مادة "السنور" وينظر الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزء الأول ص 71.
(2) يقول ياقوت في معجم البلدان الجزء الأول ص 138: ((جزيرة ابن عُمر فوق الموصل، يحيط بها نهر دجلة)).
(3) قصص الأنبياء لعبد الوهاب نجار، ص: 36.
(4) قاموس الكتاب المقدس مادة (ارارات) ص 42.
(5) يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان الجزء الرابع، مادة (قردي): "قردي قرية قريبة من جبل الجودي وعندها رست سفينة نوح (".
(6) الكامل في التاريخ الجزء 1 ص 73.
(7) معجم البلدان لياقوت الحموي "الجودي" الجزء 2 ص 179.
(8) دائرة المعارف الإسلامية، مركز الشارقة للإبداع الفكري: "الجودي".
(9) الجامع لأحكام القرآن ج9 ص 42 عند الآية 44 من سورة هود.
(10) القاموس المحيط، للفيروز أبادي، مادة (جود) [وزارة الزبيدي في التاج بعد قول الفيروز أبادي "بالجزيرة": "قرب الموصل. وقيل: بالشآم، وقيل: بالهند" ـ هيئة التحرير].
(11) الروض المعطار في خبر الأقطار ص 181 مادة (الجودي).
(12) قال العلامة محمود محمد شاكر في تقديمه للكتاب "جمهرة نسب قريش" للزبير بن بكار ص52 عن ط الجودي" :" قالوا: جبلٌ بالجزيرة، استوت عليه سفينة نوح، ولا أقطع القول في أي جبل هو؟ فإنهم ذكروا أن "الجودي" أيضاً جبل آخر بأجأ، أحدِ جبلَيْ طيّء. وقيل أيضاً: إن الجودي اسم لكل جبل. وقيل: الجودي هو جبل الطور. وكل ما لم يأت فيه بيانٌ فصلٌ في كتاب الله، فهو من الحقائق التي لا تُدرك إلاَّ بخبرٍ عن رسول الله (، وهو الذي جعل اله إليه بيان القرآن، فإنْ لم يأت "البيانُ عنه، فالتوقف فيه واجب، أيّ الجبال التي ذكروها هو؟. اهـ. [هيئة التحرير].
المصدر :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-العدد 97 - السنة الرابعة والعشرون - آذار 2005 - آذار 1425
ذكر الإخباريون والرواة حكايات مختلفة متباينة عن الطوفان ومدته، وعن سفينة نوح (، وما حُمل فيها من الناجين ومكان رُسوّها... وقد شاب هذه الحكايات كثير من المبالغات والأقاويل التي لا تقوم على سند صحيح، حتى كان بعضها ضرباً من الأساطير، كما قيل في قصة السباع والطير والوحش والبهائم التي حملها نوح معه في السفينة، وتعلّقِ الشيطان بذنب الحمار، وقصة الحية والعقرب، والفأر التي قرضت حبال السفينة، وسواها(1)...
غير أن رجال الدين وعلماء الجغرافية لم يختلفوا في وقوع الطوفان، ولا في مكانه الذي استوت عليه سفينة نوح (، وإن كان هناك خلاف في تسمية هذا المكان، فقد قيل: هو جبل بالجزيرة قرب الموصل، وقيل: إنه بآمِد ـ ديار بكر ـ وقيل: هو جبل يقع في جنوب أرمينية، وقيل: هو جبل مطلّ على جزيرة ابن عُمر، في الجانب الشرقي من نهر دجلة(2). فجميع هذه المسميات هي لمكان واحد تعاورته أسماء جمّة، فآمِد في الجزيرة جنوب أرمينية وقرب الموصل، وجزيرة ابن عمر قرب الموصل جنوب أرمينية، يطل عليها جبل آرارات.
وقد أيدت الكتب المقدسة وعلماء الجغرافية قصة الطوفان ووقوعه، كما حدد بعضهم مكان رسو السفينة، فالطوفان حادثة كونية كبرى شملت أنحاء المعمورة في رأي المفسرين وعند أهل الكتاب، ويؤيد هذا الرأيَ ما عثر عليه الجيولوجيون من المستحاثات والأحافيز، فقد عثروا على أصداف وأسماك متحجرة في أعالي الجبال، وهي لا تكون عادةً إلا في البحار.
والذي انعقد عليه الرأي: أن الطوفان كان شاملاً لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم يومذاك. فقد كانوا مُقيمين في منطقة الشرق الأوسط، أما في سائر أجزاء الكرة الأرضية، فليس ثمة نص قاطع ـ لا في القرآن الكريم، ولا في سواه ـ يشير إلى تغطية الأرض جميعها بالمياه.
يقول عبد الوهاب النجار: (ليس في هذه المسألة نص قاطع في القرآن، والذي أميل إليه أن يكون الطوفان خاصة، وأن النوع الإنساني لم يكن منتشراً في جميع أنحاء الكرة الأرضية)(3).
ذكر الطوفان في القرآن الكريم بلفظه صراحة مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: (ولقد أرسلْنا نوحاً إلى قومه فلبِثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً، فأخذهم الطوفانُ وهم ظالمون( العنكبوت /14. وأشير إليه بغير لفظة في سورة القمر بقوله تعالى:
( ففَتْحنا أبوابَ السماءِ بماءٍ منهمرٍ، وفجّرنا الأرضَ عيوناً، فالتقى الماءً على أمر قد قُدِر( القمر /11 ت 12. أما "قصة الطوفان" فقد جاءت موسعة في سورة هود وذلك في قوله تعالى، بعد الكلام على نوحٍ وصُنعه للسفينة: (حتى إذا فارَ التنُّور قلنا احمِلْ فيها من كلّ زوجِيْنِ اثنَيْنِ وأَهْلَكَ، إلاَّ مَن سَبقَ عليه القولُ ومَن آمَنَ، وما آمنَ معه إلاَّ قليل، وقال اركبوا فيها باسم الله مَجراها ومُرساها إنّ ربّي لغفورٌ رحيم* وهي تَجري بهم في موجٍ كالجبال، ونادى نوحٌ ابنَه، وكان في مَعزِلٍ يا بنيَّ اركبْ معَنا ولا تكن من الكافرين* قال سآوي إلى جبلٍ يَعصمني من الماء، قال لا عاصمَ اليومَ من أمرِ اللهِ إلاَّ مَن رَحِمَ. وحالَ بينهما الموجُ فكان من المُغرَقين* وقيل يا أرضُ ابلَعي ماءكِ ويا سماءُ اقلِعي. وغِيضَ الماءُ وقُضي الأمرُ واستَوتْ على الجُودِيّ، وقيلَ بُعداً للقوم الظالمين( هود / الآيات 40 ـ 44.
فهذه الآيات تفصّل القول في قصة "الطوفان" دون أن تسميه، كما تشير الآيات الأخيرة إلى أن السفينة استقرّت على "الجودي".. هكذا أطلق القرآن الكريم اسم "الجودي" على هذا الجبل التي استوت عليه سفينة نوح... وفي اسم هذا الجبل أقوال تختلف لفظاً باختلاف الأمم التي تعاقبت عليه، وأطلقت كل أمة عليه اسماً وفق لغتها، لكن جميع هذه الأسماء حدّدت له مكاناً مخصوصاً معلوماًن نذكر منها ما جاء في الكتاب المقدس: (وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض، وأَجاءَ اللهُ ريحاً على الأرض، فهدأت المياه وانسدّت ينابيع الغّمْر، ورجعت المياه عن الأرض واستقرّ الفُلك على أراراط( التكوين /7 ـ 8.
وآراراط هذا لفظ عِبريّ مأخوذ من أصل أكادي (أورارطو) أُطلق على منطقة جبلية في آسية، وهي أعلى مكان في هضبة أرمينية، وعلى أحد هذه الجبال استقرّ فُلك نوح، وقمة هذا الجبل يطلق عليها "أرارات"، واسمها في التركية "اغري داغ"(4)، ويقول ابن الأثير: (... انتهت السفينة إلى الجودي، وهو جبل بناحية "قردي"(5) قرب الموصل)(6)، فالجودي جبل في "أرارات" يقع شمال العراق، ولفظ "أرارات" في النصوص الآشورية جاء بصيغة "أورارتو"، ولفظ الجودي في اللغة البابلية والكلدانية من "جدا ـ جوديا" أي علا وشب وارتفع. قال ياقوت الحموي: "... واستقرّت السفينة على الجودي... فلما جفّت الأرض خرج نوح ومن معه من السفينة وبنى مسجداً ومذبحاً لله تعالى وقرّب قرباناً، هذا لفظ تعريب التوراة حرفاً حرفاً، ومسجد نوح ( موجود إلى الآن، بالجوديّ)(7).وجاء في دائرة المعارف الإسلامية (... الجُوديّ جبل شامخ في الشمال الشرقي لجزيرة ابن عُمر، وترجع شهرة هذا الجبل إلى استواء سفينة نوح عليه، وجاء في الكتاب المقدس: أن الفُلك استقر على جبل أرارات، هذا الجبل يعرف بـ (ماسيس) في أرمينيا، وتذهب بعض التفاسير الدينية إلى أن الجبل المعروف بجبل الجودي هو بالأرمينية "كردخ" كما تقول المصادر النصرانية، وهو المكان الذي استقر عليه فُلك نوح)(8).
وجاء في الصفحة 691 من المجلد الأول للموسوعة الأرمنية: "إن لأرارات ثلاثة أسماء هي: الجودي، قردى، أرارات". وقال القرطبي: (الجودي: اسم لكل جبل... ويقال إنّ الجُوديّ من جبال الجنة، فلهذا استوت عليه [السفينة]، ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجوديّ بنوح، وطُور سِيناء بموسى، وحراء بمحمدٍ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)(9).
وقال الفيروز أبادي: "الجوديّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح ("(10)). كما وردت قصة الطوفان لدى البابليين في ملحمة "جلجامش". وجاءت قصة الطوفان في التوراة: "إن عدداً من البشر ازدادوا فكثرت شرورهم وآثامهم فعزم الرب على محو الجنس البشري وأمر نوحاً أن يصنع سفينة ضخمة يُدخِل فيها من كل زوجين اثنين، أهله وزوجاته وأبناءه ثم كان الطوفان". وقال الحميري: (جبل الجودي بالجزيرة وهو قبل "قردي" وحدّث من رآه أنه ثلاثة أجبل بعضها فوق بعض.... وهناك بيعتان للنصارى ومسجد للمسلمين... وفي أسفل هذا الجبل مدينة "ثمانين")(11).
وذهب الأخباريون والمؤرخون ورجال التاريخ القدامى مذهباً بعيداً، فيه شيء من التمحل والتعسف، فذكروا في تاريخ ركون نوح ومن معه من الناجين في السفينة وفي تاريخ استوائها ورسوّها على الجودي أقوالاً لا يُطمأن إليها، فقالوا: كان ركوب نوح ومن معه في السفينة لعشر خلون من رجب، وكان خروجهم منها بعد استوائها على الجودي في العاشر من شهر المحرم أي في عاشوراء، فالشهور العربية في الجاهلية كانت شهوراً منسوبة إلى عاد أو إلى ثمود، وكانت بأسماء أخرى غير هذه الأسماء المعروفة اليوم، فضلاً عن النسيء الذي كانوا يؤرخون به شهراً ويقدمون شهراً آخر..
نخلص من هذه الأقوال إلى النتائج التالية:
ـ الطوفان حادثة كونية وقعت في زمن نوح ( أيدتها الكتب الدينية المقدسة، ورجال العلم.
ـ الطوفان كان خاصاً بقوم نوح، لأنّ النوع البشري لم يكن منتشراً في الكرة الأرضية.
ـ في مكان استواء السفينة ورسوّها تذكر عدة أسماء هي: آراراط، قردي، اغرى داغ، كردخ، ماسيس، الجودي...
وجميع هذه الأسماء اسم لمكان واحد بعينه استوت عليه سفينة نوح ثم نزل منها هو ومن معه فبنوا حيث نزلوا قرية سماها نوح "ثمانين" بعدد الأشخاص الناجين من الغرق، وبنى مسجداً لا تزال آثاره باقية. وقد ذكرت وكالات الأنباء العالمية إن إحدى طائرات التجسس الأمريكية اكتشفت بقايا سفينة قديمة فوق جبل أرارات قيل إنها سفينة نوح، ولا تزال هذه البقايا موجودة عليه ومتحجرة.
ـ لم يذكر القرآن الكريم مكان الجودي(12)، لأن العبرة ليست في المكان وإنما فيما آلت إليه قصة الطوفان وأسبابه، وما آل إليه مصير الكافرين حيث تمت كلمة الله وقيل بعداً للقوم الظالمين.
ثبت المصادر والمراجع :
1) الجامع لحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ القاهرة.
2) حياة الحيوان الكبرى ـ كمال الدين بن محمد الدميري ـ دار التحرير للطباعة والنشر ـ القاهرة.
3) دائرة المعارف الإسلامية ـ لفيف من المستشرقين ـ مركز الشارقة للإبداع الفكري.
4) الروض المعطار في خبر الأقطار ـ محمد عبد المنعم الحميري ـ مكتبة لبنان الطبعة الثانية 1984م.
5) قاموس الكتاب المقدس ـ بطرس عبد الملك وزميلاه ـ منشورات مكتبة المشعل، بيروت 1981م.
6) القاموس المحيط ـ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي ـ مؤسسة الرسالة ـ الطبعة الأولى ـ القاهرة 1986 م.
7) قصص القرآن ـ عبد الوهاب النجّار ـ مكتبة وهبة ـ الطبعة الثالثة ـ القاهرة. 0د.ت)
8) الكامل في التاريخ ـ محمد بن محمد بن عبد الكريم، المعروف بابن الأثير ـ نشر وتوزيع دار صادر ـ بيروت.
9) معجم البلدان ـ ياقوت بن عبد الله الحموي ـ دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر ـ بيروت 1955 ـ 1957م.
الحواشي :
(1) حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين محمد الدميري ج2 مادة "السنور" وينظر الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزء الأول ص 71.
(2) يقول ياقوت في معجم البلدان الجزء الأول ص 138: ((جزيرة ابن عُمر فوق الموصل، يحيط بها نهر دجلة)).
(3) قصص الأنبياء لعبد الوهاب نجار، ص: 36.
(4) قاموس الكتاب المقدس مادة (ارارات) ص 42.
(5) يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان الجزء الرابع، مادة (قردي): "قردي قرية قريبة من جبل الجودي وعندها رست سفينة نوح (".
(6) الكامل في التاريخ الجزء 1 ص 73.
(7) معجم البلدان لياقوت الحموي "الجودي" الجزء 2 ص 179.
(8) دائرة المعارف الإسلامية، مركز الشارقة للإبداع الفكري: "الجودي".
(9) الجامع لأحكام القرآن ج9 ص 42 عند الآية 44 من سورة هود.
(10) القاموس المحيط، للفيروز أبادي، مادة (جود) [وزارة الزبيدي في التاج بعد قول الفيروز أبادي "بالجزيرة": "قرب الموصل. وقيل: بالشآم، وقيل: بالهند" ـ هيئة التحرير].
(11) الروض المعطار في خبر الأقطار ص 181 مادة (الجودي).
(12) قال العلامة محمود محمد شاكر في تقديمه للكتاب "جمهرة نسب قريش" للزبير بن بكار ص52 عن ط الجودي" :" قالوا: جبلٌ بالجزيرة، استوت عليه سفينة نوح، ولا أقطع القول في أي جبل هو؟ فإنهم ذكروا أن "الجودي" أيضاً جبل آخر بأجأ، أحدِ جبلَيْ طيّء. وقيل أيضاً: إن الجودي اسم لكل جبل. وقيل: الجودي هو جبل الطور. وكل ما لم يأت فيه بيانٌ فصلٌ في كتاب الله، فهو من الحقائق التي لا تُدرك إلاَّ بخبرٍ عن رسول الله (، وهو الذي جعل اله إليه بيان القرآن، فإنْ لم يأت "البيانُ عنه، فالتوقف فيه واجب، أيّ الجبال التي ذكروها هو؟. اهـ. [هيئة التحرير].
المصدر :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-العدد 97 - السنة الرابعة والعشرون - آذار 2005 - آذار 1425