الجنوسة المتعوسة! هل كانت الثقافة العربية تحتقر المرأة وتقارنها بالحيوانات والجمادات؟

إنضم
18/03/2005
المشاركات
203
مستوى التفاعل
0
النقاط
16

الجنوسة المتعوسة!
هل كانت الثقافة العربية تحتقر المرأة وتقارنها بالحيوانات والجمادات؟
بقلم د. إبراهيم عوض


(هذا المقال مُهْدًى إلى أ. ناظم السيد، الذى كان قد دعانى منذ نحو شهر إلى بيروت كى أكون ضيفا فى برنامجه: "هُنّ" لمناقشة موضوع تذكير اللغة مع كاتبتين من المغرب ولبنان، لكن ظروفا قاهرة حالت بينى وبين المشاركة. فلولا هو ما فكرت فى معاودة الكتابة فى هذا الموضوع الآن)

وقع فى يدى منذ وقت غير بعيد بحث وجيز يقع فى نحو ستين صفحة بعنوان "الجنوسة والخطاب البلاغى" يتناول فيه أحد الزملاء وضع المرأة فى الحضارة العربية الإسلامية من خلال بعض النصوص التراثية مركزا على نصوص معينة منها يغلب على الظن أنه قد أقبل على بحثه وفى نيته البحث عنها وعن أشباهها بغية إثبات ما انتهى إليه فى ذلك البحث، وهو أن "العلاقة بين الرجل والمرأة كما تصورها البلاغة لا تصدر فى الغالب عن التراحم والتوادّ والمشاركة الوجدانية والعقلانية والمساواة، ولكنها قائمة على علاقة أشبه بالحرب والصراع تتخذ فيها المرأة أدوات الحرب من كيد واحتيال. كما أنها قائمة على اعتبار المرأة وعاء يفرغ فيه الرجل شهوته ويحفظ جنينه، فضلا عما فيها من استعلاء من جانب الرجل، وانسحاق من جانب المرأة. إنها بلاغة تحط من قدر الأنثى" وتجعلها حيوانا وجمادا لا كائنا إنسانيا له كرامته واحترامه (ص48). وهو ما يعنى أن العرب والمسلمين كانوا قوما متوحشين لا يعرفون أية أشواق عليا فى علاقتهم بالمرأة ولا يفكرون إلا فى إفراغ شهواتهم فيها، ولا تعرف بيوتهم سكينة ولا سلاما ولا حبا، بل حربا ضارية ضروسا تأتى على كل معنى كريم وعاطفة نبيلة. وللأسف لا يترك البحث شيئا من النصوص التى استشهد بها من تلك الثقافة أو أحدا من الأشخاص الذين ساق لهم شيئا من أقوالهم إلا وحمّلها وحمّلهم التبعة فى تلك العلاقة المنحطة التى كانت تربط بين الرجال والنساء حتى العصر الحديث. كما يزعم البحث أنه سوف يفكك تلك العلاقة إلى عناصرها الأولى كى يعرف القراء مدى ما فيها من انحطاط وتخلف ولاإنسانية فيعملوا على تصحيح مسارها، بالاستضاءة بمنجزات الحضارة الغربية الحديثة طبعا.
ومعنى ذلك أننا، نحن المسلمين، على مدار تاريخنا كله حتى عصرنا هذا الحالىّ، لم نكن نعرف شيئا من إنصاف المرأة ولا ننيلها أيا من حقوقها، وأن حضارتنا لا علاقة لها بقيم المساواة بين الرجال والنساء على الإطلاق. فكأن القرآن والرسول لم يقولا شيئا فى هذا الصدد، ولم يفعل المسلمون للمرأة شيئا طوال الأربعة عشر قرنا الماضية. وهو كلام فى منتهى الخطورة، إن صح، لأنه لا دلالة له إلا على أن العرب والمسلمين متخلفون عن ركب الحضارة والإنصاف، وأنهم وحوش يكرهون المرأة ويسيئون بها وبقدراتها بل وبإنسانيتها الظن، ولا يعرفون منها إلا أنها وعاء لتفريغ الشهوة ليس إلا. أى أنها فى نظرهم مجرد جسد، ثم لا شىء آخر.
ولست أقصد بهذا الكلام تحقير الشهوة الجنسية، إذ هى نعمة من النعم الإلهية، فضلا عن أنها سر الحياة والوسيلة الوحيدة لاستمرار النوع البشرى، بل كل ما أريد الإشارة إليه هو إبراز ما يقوله الزميل فحسب، وإلا فَقَدْ بان لكل ذى عينين ولكل غير ذى عينين أن الرهبانية التى تعرفها بعض الأديان الأخرى وينكرها الإسلام إنكارا عنيفا هى باب من أبواب الشيطان مهما علت الدعاوى وتشنجت الصيحات دفاعا عنها وتزيينا لها، وبخاصة بعدما افتضح الرهبان والقساوسة وانهتكت أستارهم وأسرارهم وظهر للقاصى والدانى اعتداءاتهم على الصبيان والنساء فى دور عبادتهم، فى الوقت الذى يتشدقون فيه بالزهد فى الدنيا وملذاتها، على حين يشبعونها فى ظلام نفاقهم الدنس البغيض.
لقد كانت المرأة الأوربية فى العصور الوسطى محرومة من حق التملك والتعليم، وظلت حتى وقت قريب محرومة من تولى معظم الوظائف، التى ما زالت أبواب بعضها مغلقة فى وجهها حتى الآن. بل كان الرجل فى بعض مناطق ألمانيا حتى نهاية القرن التاسع عشر يستطيع أن يبيع زوجته كأية سلعة. وفى فرنسا كان على النساء أن يغطين رأسهن فى الأماكن العامة حتى ذلك التاريخ أيضا. كذلك لم يكن للمرأة الغربية حتى بداية القرن العشرين الحق فى أن تدير عملا اقتصاديا، اللهم إلا من خلال وكيل يقوم هو بما تريد. كما لم يكن لها أى سلطان على أولادها دون إذن الزوج. وبالمثل لم يكن من حقها الحصول على الطلاق. وفوق ذلك كان رأى القساوسة فيها شديد السوء طوال العصور الوسطى. ليس ذلك فحسب، بل كانت آدميتها محل شك كبير فى الغرب إلى وقت قريب بتأثير الكنيسة. وكانت طوال التاريخ حتى العصر الحديث قعيدة بيتها، ولا تشارك فى الحياة العامة (انظر مادة "النسوية، feminism، féminisme" فى "الموسوعة العربية العالمية والموسوعة البريطانية والويكبيديا والإنكارتا الإنجليزية والفرنسية والموسوعة اليونيفرسالية الفرنسية وموسوعة لاروس الفرنسية"). ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن المرأة الغربية، حين تتزوج، تفقد ذاتيتها، إذ تتخلى عن لقب أسرتها وتتخذ بدلا منه لقب أسرة زوجها، وهو ما لا تعرفه بحمد الله المرأة العربية والمسلمة، اللهم إلا فى البيئات التى تقلد الغربيين تقليد القرود متصورة أنها بذلك تلحق بركب التحضر رغم أنها بذلك التصرف إنما توغل فى التخلف. وأى تخلف أشد من أن تفقد المرأة ذاتيتها وتتلقب بلقب الزوج؟
ثم ظهر الاتجاه النسوى فى الغرب واستفاض فى العالم كله تقريبا. وكان يدعو فى بداية الأمر إلى رفع الغبن عن المرأة، ثم اشتد فدعا إلى المساواة مع الرجل، وإن كان بعض الداعيات به يشتططن فيخرجن عن حد العقل كتلك الكاتبة المتهوسة المتهلوسة التى تحترق غيظا لأن للرجل ذَكَرًا، وهى لا. و لا أدرى ماذا تصنع به لو وهبها الوهّاب ذَكَرًا مثل الرجل! وتعود بداية حركة المناداة بحقوق النساء فى الغرب وتسويتهن بالرجال إلى نهاية القرن الثامن عشر، على حين تم ذلك فى الإسلام منذ نزول القرآن وفيه الآيات التى تدعو إلى احترام المرأة وإعطائها حقوقها من مثل قوله تعالى: "ولهن مِثْلُ الذى عليهن بالمعروف"، وإن جعل للرجال عليهن درجة هى درجة القوامة والإشراف لا درجة التسلط والاستبداد والتعسف. وإلى جانب ذلك أتى الإسلام بشىء لم تعرفه أية حضارة حتى الآن. ألا وهو أن التعلم، سواء بالنسبة إلى الرجل أو المرأة، ليس حقا لهما يمكنهما أن يأخذاه أو يهملاه إذا أرادا، بل هو فرض عليهما لا بد لهما من تأديته، وإلا أثما. بل إن الرسول قد أكد أن الأب إذا كان له من البنات ولو بنتا واحدة فأحسن تربيتها وتعليمها وتزويجها كتبت له الجنة. وهو ما لا وجود له فى أية حضارة لا فى القديم ولا فى الحديث. ومن حق المرأة فى الإسلام أن يكون لها رأى فيمن يتقدم لخِطْبتها، وأن تطلب الـخُلْع من زوجها متى كرهت عشرته.
وفى القرآن أيضا نلاحظ أنه سبحانه وتعالى يقرن النساء والرجال فى جَدِيلة واحدة على أساس تساويهما فى الحقوق والواجبات كما هو الحال فى قوله عز شأنه: "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ" (آل عمران/ 195)، "وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" (النساء/ 124)، "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل/ 97)، "مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ" (غافر/40). ذلك أن الرجل والمرأة جميعا مخلوقان من نفس واحدة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً". والرجال والنساء بعضهم من بعض: "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ" (آل عمران/ 195)، وبعضهم أولياء بعض: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ" (التوبة/ 71). وهم سواء فى تحمل المسؤولية وتلقى الجزاء: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب/ 35). وهو ما عبر عنه الرسول فى أكثر من حديث كقوله: "النساء شقائق الرجال". وهذا كله، وهو غيض من فيض، لم تطلبه امرأة ولا حزب نسائى أو مؤسسة تتعصب للنساء، بل نزل به ابتداءً الوحىُ الأمينُ على قلب الرسول الكريم ليكون به من المبشرين. وهذا فرق آخر بين حقوق المرأة فى ديننا وبينها فى الأديان والأنظمة السياسية الأخرى.
ومن هنا وجدنا كارين أرمسترونج الراهبة البريطانية السابقة تؤكد أن تحرير النساء كان يملك على الرسول عليه السلام لُبَّه، إذ حرم القرآنُ تحريما قاطعا وَأْد البنات، وقرَّع العرب على نفورهم من إنجاب الإناث، وأعطى النساء حقوقا شرعية فى الميراث والطلاق لم يكن فى يد نظيراتهن الغربيات منها شىء إلى القرن التاسع عشر، فضلا عن تشجيعه لهن على المشاركة فى شؤون الأمة وفى التعبير عن رأيهن بطلاقة (Karen Armstrong, A History of God, Ballantine Books, New York, 1994, PP. 157- 158).
وعلى نفس الشاكلة تقول آنى بيزانت (Annie Besant) فى كتابها: "The Life and Teachings of Muhammad" (طبعة Theosophical Publishing House, Madras, 1932) مشيرة إلى الأوهام التى يعتقدها البريطانيون حول الإسلام رغم أن الإسلام يتفوق على ما عندهم من أنظمة اجتماعية تفوقا هائلا، وبخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة وإنصافها، إذ أعطاها الإسلام حق طلب الطلاق والحصول عليه مثلما جعل لها حق قبول من يتقدم لطلب يدها أو رفضه دون أى إكراه. كما أشارت إلى ما يسود المجتمعات الغربية من نفاق عفن يتمثل فى وهم التمسك بزوجة واحدة على حين يعدد الرجال خليلاتهم بلا حدود بخلاف الإسلام، الذى نظم عملية التعدد وجعل حدها الأقصى أربعا وكفل لها جوا نظيفا طاهرا، فضلا عن تكليف الأب والأخ والابن بالإنفاق على المرأة بدلا مما يحدث فى بريطانيا مثلا حيث تُلْقَى المرأة فى الشارع متى لم تجد ما تنفقه على احتياجاتها:
"You can hear in England today good, kindly people saying of Islam that it denies to woman the possession of a soul. You can find others stating that the religion is evil, because it sanctions a limited polygamy. But you do not hear as a rule the criticism which I spoke out one day in a London Hall where I knew that the audience was entirely uninstructed, I pointed out to them that monogamy with a blended mass of prostitution was a hypocrisy and more degrading than a limited polygamy. Naturally a statement like that gives offence, but it has to be made, because it must be remembered that the law of Islam in relation to women was until lately, when parts of it have been imitated in England, the most just law, as far as women are concerned, to be found in the world. Dealing with property, dealing with rights of succession and so on, dealing with cases of divorce, it was far beyond the law of the West, in the respect which was paid to the rights of women. Those things are forgotten while people are hypnotised by the words Monogamy and Polygamy, and do not look at what lies behind it in the West — the frightful degradation of thousands of women who are thrown into the streets when their first protectors, weary of them, no longer give them any assistance".
وبالمثل تبدى المستشرقة الإيطالية لورا فيشيا فاجلييرى إعجابها بما أعطاه الإسلام للمرأة فى ذلك الوقت المبكر من حقوق كحقها فى الإرث، وحقها فى القبول أو الرفض لمن يتقدم طالبا يدها، وحقها فى احترام زوجها إياها، وحقها فى الحصول على مهر، وحقها فى إعالة قرينها لها حتى لو كانت غنية، وحقها فى التملك وفى إدارة ما تملكه إدارة مباشرة بنفسها لأنها كائن بشرى كامل الأهلية القانونية. أما بالنسبة إلى الحجاب فتنفى فاجلييرى أن يكون المقصود به تقييد حرية المرأة أو إهانتها، مؤكدة على العكس من ذلك أن الهدف من ورائه تجنيب الرجال فتنة الخلاعة، وحماية المرأة من شهوات الرجال، وهو ما جعل تجارة البغاء المنظمة مجهولة تماما في البلدان الإسلامية كما تقول، إلا حيثما كان للأجانب سلطان. ثم تُرْدِف قائلة إنه إذا كان أحد لا يستطيع أن ينكر قيمة هذه المكاسب فيتعين علينا أن نستنتج أن الحجاب كان مصدر فائدة لا تقدر بثمن للمجتمع الإسلامي (انظر كتابها: "دفاع عن الإسلام"/ ترجمة منير البعلبكى/ دار العلم للملايين/ 106)
وقد لاحظت أن فى البحث الذى نحن بصدده خبطا كثيرا يتبدى، ضمن ما يتبدى، فى اقتطاف عبارة من هنا أو ههنا ولَىّ رقبتها كى تنظر فى الاتجاه الذى يريده الباحث، مما لا صلة بينه وبين المنهج العلمى الصحيح رغم تكرار الحديث فيه عن وجوب اصطناع المناهج البحثية الحديثة فى سبيل الوصول إلى الحقيقة. وهو مثال صارخ على ما أقوله دائما من أن العبرة ليست فى الاستعانة بهذا المنهج أو ذاك، بل أولا وقبل كل شىء بإخلاص الباحث ونقاء غرضه وحرصه على أن يبذل كل ما لديه من جهد لبلوغ الحقيقة، إذ إن المنهج، أى منهج، لا يتحدث من تلقاء نفسه، بل نحن الذين ننطقه: فإن كنا نريد الحق فإننا سوف نجتهد غاية الاجتهاد فى درك هذا الحق دون أن نتدخل فى فرض رؤيتنا على الواقع. أما إن كان الأمر بخلاف هذا فلن نألو جهدا فى سبيل تقويل النصوص ما لم تقله ولا يمكن أن تقوله، فضلا عن أنه سوف يتم التركيز قبل ذلك على نصوص بعينها وإهمال نصوص أخرى من شأنها، لو أوردناها، أن تفضح تحيزنا وتعصبنا لما لدينا من أفكار مسبقة دخلنا بها بحثنا، وفى نيتنا أن نُفْهِم القراء أنها النتائج التى أدانا إليها البحث العلمى المجرد.
ومما ذهب فيه الزميل العزيز بعيدا عن القصد ظَنُّه أن قول ابن منظور التالى فى مادة "أنث" فى لسان العرب إنما يعنى أن العرب كانت تسوى بين المرأة والجمادات. يقول ابن منظور: "وفي التنزيل العزيز: إِن يَدْعُون من دونه إِلا إِناثًا؛ وقرئ: إِلا أُنُثًا، جمع إِناث، مثل تِمارٍ وتُمُر. ومَن قرأَ إِلا إِناثًا، قيل: أَراد إِلا مَواتًا مثل الحَجَر والخَشَب والشجر والمَوات. كلُّها يخبر عنها كما يُخْبر عن المُؤَنث. ويقال للمَوات الذي هو خلاف الحَيوان: الإِناثُ". فهذا الكلام يعنى لدى الزميل العزيز أن العرب كانت تسوى بين المرأة والجماد. وهذا كلام غريب لم أسمع به من قبل، وقد استفزنى إلى مراجعة المعجم المذكور فوجدت ابن منظور يقصد أن كلمة "إناثا" فى الآية السابقة التى تتحدث عن توجه المشركين للأصنام بالدعاء لا تعنى أن تلك الأصنام مؤنثة الجنس، إذ هى فى الحقيقة جماد فلا تُذَكَّر من ثَمَّ ولا تؤنَّث، اللهم إلا اعتبارا لا حقيقة، فشَرَح الآية بما يفيد أن المشركين يعبدون من دون الله جمادات لا روح فيها ولا حياة، وهو ما يوضح أنهم فى عبادتهم للأصنام عديمو العقل فاقدو المنطق. أى أن ابن منظور قد لفت القارئ فى شرحه للآية إلى معنى من معانى "إناث" غير شائع، مثلما لفت الزبيدى فى "تاج العروس" الأنظار إلى معنى آخر لكلمة "أنثى" مجهول لدى الناس كلهم تقريبا، ألا وهو "المنجنيق".
قال الزبيدى، وهو ما قاله ابن منظور تقريبا، لكن على نحو أزيد وأوضح وأكثر تفصيلا: "وفي التنزيل العَزيز "إِنْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثًا". وقُرِىءَ "إِلاّ أُنُثًا": جمع إِنَاثٍ، مثْل نِمَارٍ ونُمُرٍ، وقرأَ ابنُ عبّاس: إِنْ يَدْعُونَ من دُونِهِ إِلا أُثُنًا. قال الفرّاءُ: هو جَمْع الوَثَنِ كـ"الأَنَاثَى" كعَذَارَى. جاءَ ذلك في الشِّعْر. من قرأَ: إِلاّ إِنَاثًا، أَرادَ "المَوَات" الذي هو خِلافُ الحَيَوَان كالشَّجَرِ والحَجَرِ والخَشَب، عن اللِّحْيَانِيّ... (و)يقال: هذه "امْرَأَةٌ أُنْثَى" إِذا مُدِحَتْ بأَنَّهَا "كامِلَةٌ" من النّساءِ، كما يُقَال: رجُلٌ ذَكَرٌ، إِذا وُصِفَ بالكَمَال، وهو مجاز".
ولعل القارئ قد تنبه أيضا إلى أن المرأة حين توصف فى لغة الضاد بأنها "أنثى" فمعناه أنها حازت صفة الكمال بين بنات جنسها، وهو ما لم يلتفت إليه الزميل العزيز لأنه كان مشغولا بما يخدم فكرته التى أعدها سَلَفًا وأقبل بها على موضوعه جاهزة فيما أرجح. وشىء آخر لا ينبغى أن يفوتنى هنا، وهو أن "الرجولة" تشمل الرجال والنساء جميعا، فالرَّجُل رَجُلٌ، والمرأة رَجُلَةٌ. كما أن كلمة "رَجُل"، التى شاع استعمالها للذكور من البشر دون الإناث إنما تعنى فى أصل استعمالها "الراجل"، أى الذى يسير على رجليه، فلا فضيلة لأصل هذا الاسم على اسم "المرأة" أو "الأنثى" كما ترى. ومن هنا قال العرب: "جاءنا فلانٌ حافيًا رَجُلاً"، أى راجلاً، طبقا لما يقوله الزبيدى فى ذات المادة. كذلك يمكن، بطريقة الزميل العزيز، أن نقول إن كلمة "الذَّكَر" التى تطلق على جنس الرجال هى فى الواقع إهانة لهم، وأى إهانة! إذ هى تطلق على عضو الرجل. ومعنى هذا أن اللغة قد اختزلت الرجل فى عضوه الجنسى لا أكثر، فلا عقل ولا عاطفة ولا ضمير، بل عضو تناسلى فقط. لكننا لا نذهب هذا المذهب فى الشرح والتأويل. كما أن لكلمة "رُجْلَة" (التى تعنى عادةً "الرجولة") معنى آخر هو أن يشتكى الواحد منا رجله. أى يصاب فيها فيتألم ويشكو. وهو، على النحو الذى يتناول به الأمورَ زميلُنا العزيز، معنى يسىء إلى الرجولة. لكننا هنا أيضا لا نقول بهذا، إذ اللغة أكثر تعقيدا من أن نستنطقها المعانى بهذا الأسلوب فى كل الأحوال.
ويلاحظ على الزميل العزيز أنه يقتطع عبارة من هنا، وعبارة من هناك، ثم يركّب تلك العبارات بطريقته الخاصة فإذا بها تنطق بأن العرب كانوا يرون المرأة جمادا يفتقر إلى الحياة. ومن ثم فافتقارها إلى النطق والبيان والبلاغة هو أمر عادى تماما (ص9- 10 مثلا). وهو يستشهد بتفسير بعض المفسرين لقوله تعالى حكاية عن الكفار فى وصف النساء: "مَنْ يُنَشَّأُ فى الحِلْيَةِ"، إذ يشرح الزمخشرى ذلك بأن جنس المرأة إنما "يتربى في الزينة والنعمة. وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان يحجُّ به من يخاصمه، وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهنّ عن فطرة الرجال. يقال: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها"، ناسيا أن الكلام فى الآية ليس هو كلام الله عز شأنه ولا حتى كلام المسلمين، بل كلام المشركين، الذين كانوا يبغضون خِلْفة الإناث ويرونها عارا وشنارا، بل كان بعضهم يئد ابنته التى رزقه الله بها فيدسّها فى التراب. وقد قال المشركون هذا الكلام عن النساء على سبل الإنكار والسخرية.
وللأسف فإن بعض المفسرين ينسى هذه الحقيقة ويذهب فيشرح الآية بطريقة من يتصور أنها كلام الله وحكمه سبحانه على جنس المرأة. فمن ذلك قول الطوفى فى تفسير الآية طبقا لما أورده الزميل العزيز عنه: "كَنَّى عن النساء بملازمتهن التَّحَلِّىَ وبالعِىِّ وعدم الإبانة فى الخصام لضعف قوتهن العقلية". أى أن الله هو الذى كَنَّى فى الآية عن النساء بما كنى به عنهن تعبيرا عن عيهن وعجزهن عن الإبانة، وكأنه سبحانه قد خلقهن خُرْسًا. فهل يعقل هذا؟ ألم يقل القرآن عن الإنسان جميعه: ذكوره وإناثه، رجاله ونسائه: "الرحمن* خلق الإنسان* عَلَّمه البيان"؟ فكيف يقول فى موضع إنه قد علم المرأة البيان مثلما علم الرجل، ثم يقول فى موضع آخر إنها بطبيعتها غير مبينة، وضعيفة القوة العقلية؟ حاشا لله أن يفعل هذا، وإلا فلم قال الرسول عن النساء إنهن شقائق الرجال، أى الشق الآخر لهم المقطوع من ذات القماشة؟ ولم جعل القرآن الكريم الرجال والنساء بعضهم من بعض كما جاء فى الآية 195 من سورة "آل عمران"، مثلا؟ ثم لو كان الأمر على ما توهمه أولئك المفسرون فلم دافع الإسلام عن المرأة وسفّه أحلام المشركين، الذين كانوا يبغضون ولادتها، وحث على تكريمها وأخذ بناصرها وسوى بينها وبين الرجل، بل خصها بمزيد من الاهتمام لم يحظ به الرجل؟ ثم إذا كانت المرأة ضعيفة القوة العقلية فكيف تحاسَب إذن ما دام وُسْعُها العقلى من الضعف إلى هذا المدى؟ ألم يقل سبحانه وتعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"؟
كذلك يقول الزميل العزيز إن الزمخشرى ينزّل المرأة منزلة غير العاقل، فقد فسر سر استعمال الاسم الموصول: "ما" عِوَضًا عن "مَنْ" فى قوله عز شأنه فى الآية السادسة من سورة "المؤمنون": "إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم" بأنه لما كان المقصود هنا هو الإناث استخدم لهن الاسم الموصول لغير العاقل: "فإن قلت: هلا قيل: مَنْ مَلَكَتْ أيمانُهم؟ قلت: لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء، وهم الإناث". ولا شك أن الزمخشرى قد أخطأ التعليل، وإلا لوجدنا القرآن ينحو هذا المنحى فى التعامل مع المفردات التى تدل على النساء، إلا أنه لم يفعل هذا قط.
كما أن عندنا قوله تعالى فى الآيات التالية: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا" (النساء/ 36)، "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" (النحل/ 71)، "ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الروم/ 28)، حيث قُصِد بـ"ما ملكت أيمانكم" العبيد عموما رجالا ونساء لا النساء فقط، بما يدل على أن "ما" ليست خاصة بالنساء وحدهن. ومن ثم فلا معنى لما قاله الزمخشرى عن دلالة هذا الاستعمال على إلحاق العرب جنس النساء بغير العاقل.
أما فى الآيتين التاليتين فـالمقصود بملك اليمين هم الرجال وحدهم. ومن هنا نجد "وما ملكت أيمانهن" بإضافة "ملك اليمين" هذه المرة للجنس اللطيف لأن المقصود هم العبيد الرجال الذين تملكهم النساء: "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (النور/ 31)، "لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا" (الأحزاب/ 55). وهو ما يضرب تفسير الزمخشرى لهذا الاستعمال القرآنى فى مقتل.
ليس ذلك فقط، بل إن القرآن فى قوله تعالى من سورة "الليل": "وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى" قد استخدم الاسم الموصول: "ما" للدلالة على الله سبحانه. فما قول عالمنا الجليل فى هذا؟ لقد ذكر النحويون أن "ما" قد تستخدم للعاقل مثلما تستخدم لغيره. وهو نفسه يقول ذلك، إذ كتب فى تفسير هذه الآية ما يلى: "وَمَا خَلَقَ: والقادرِ العظيم القدرة الذي قَدَر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد... وقرأ ابن مسعود: والذي خلق الذكر والأنثى..."، وهو ما يدل على تسرع الزمخشرى فيما قال عن إلحاق المرأة بغير العاقل بسبب استعمال القرآن "ما" لها.
قد يقال إن الزميل العزيز إنما عرض ما يقوله البلاغيون القدماء عن المرأة، فهو ناقل لكلامهم ليس إلا. لكن فات من يقول هذا أن القدماء لم يقولوا كلهم هذا ولا أن من قال هذا منهم كان يقصد المعنى الذى فسره به الزميل العزيز، أو لم يقل سواه، بل هناك كلام طيب كثير عن المرأة فى تراثنا، وكان ينبغى أن يورد الزميل العزيز كلا الكلامين. أما أن نورد جانبا واحدا من الكلام ونهمل الجانب الآخر فهذا معناه أن الصورة التى نقدمها لموقف القدماء من المرأة صورة مضللة. ولسوف نأتى مما أُثِر عن القدماء بما يجرى عكس هذا المجرى تماما، فضلا عما قاله القرآن والحديث. ولا يعقل أن المسلمين جميعا قد أهملوا وصايا قرآنهم وأحاديث رسولهم وعَمُوا وصَمُّوا تماما عنها وانطلقوا فى وادٍ يعاكس الوادى الذى تسير فيه تلك النصوص الكريمة. إن معنى هذا أنهم على بَكْرَة أبيهم كانوا يتوخَّوْن مناقضة الإسلام أو كانوا كلهم فى أحسن الأحوال لا يفهمونه. وذلك أمر لا يسوغ فى العقل بحال.
فهذا هو الزمخشرى يقول مثلا عن المرأة فى تفسير الآية 195 من سورة "آل عمران" إن قوله عز شأنه "مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ" هو "بيان لعامل "بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ"، أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر، أي من أصله، أو كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم". وحتى لو أخذنا بما يقوله بعض المفسرين القدماء، ومنهم هو نفسه، من أن حواء قد خُلِقَتْ من ضلع آدم كما هو الحال فى النص التالى الذى يتناول فيه رحمه الله تفسير الآية الأولى من سورة "النساء": "يا أيُّها ٱلنَّاسُ: يا بني آدم. خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ: فرّعكم من أصل واحد، وهو نفس آدم أبيكم... والمعنى: شَعَبَكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب، وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها"، فهذا معناه أن حواء قد خُلِقَتْ على شاكلة زوجها: فى الخطوط العامة، مع الاختلاف طبعا فى عدد من التفاصيل التى لا يمكن نكرانها مما نعرفه جميعا: فهى مثلا تحمل، والرجل لا يحمل، إذ لها رحم، وليس له. وهو أقوى منها عضليا وأكثر تحملا لمشاق الحياة وأطول بالا. وهى بارزة الصدر والأرداف، وهو لا. وهى طويلة الشعر، وهو قصيره. وعضوها التناسلى يختلف عن عضوه، فعضوه إلى الخارج، وعضوها إلى الداخل. وهى بوجه عام سريعة الانفعال، وهو أكثر أناة. وهى تحتاج حمايته، وهو عادة لا يحتاج هذا منها. أما العقول والعواطف والمشاعر فهى مشاعة بين الاثنين، وإن كان لها لدن كل منهما نكهتها التى تميزها عن نظيرتها لدى الآخر، وإلا فلم خلق الله البشر نوعين اثنين ولم يجعلهما خلقا وحيد النوع يتولد ذاتيا دون حاجة كل نوع بل لهفته الجارفة إلى الالتحام بالآخر؟
أما أنا فأفهم الآية على أساس أن الله تعالى قد خلق آدم وحواء كليهما من نفس واحدة هى النفس البشرية التى تتحقق فيها خصائص النوعين جميعا، ثم لما شعبها نوعين ذهب كل نوع بخصائصه التى تميزه عن النوع الآخر، مع السمات العامة المشتركة بين الذكر والأنثى. وأحسب أن تفسير الآية على هذا النحو أكثر استقامة وأدنى إلى التوافق مع تركيب الكلام فيها. وأما تفسير من فسرها من العلماء على أنها مخلوقة من ضلع آدم فأغلب الظن أنهم يرددون ما ورد فى ثانى إصحاحات سفر "التكوين" من العهد القديم، إذ نقرأ فيه: "21فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. 22وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. 23فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ»".
وربما اعتمد بعض العلماء على الحديث الشريف الذى يقول: "استوصُوا بالنساء، فإن المرأة خُلِقَتْ من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه. فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج. فاستوصوا بالنساء"، فيفسرون الضلع بأنه ضلع آدم رغم أن الحديث يخلو تماما من أى ذكر أو إشارة إلى آدم. وحتى لو كان المقصود أنها فعلا خلقت من ضلع من أضلاع آدم، فما علاقة هذا بكونها معوجة؟ الحق أننا لو جرينا على هذا الفهم لقلنا إن أخلاق الإنسان وتفكيره ومشاعره ينبغى أن تكون كلها طينا فى طين، ولا يمكن أن تنظف أبدا، ما دام هو مخلوقا من الطين. وهل يقول بهذا عاقل؟ ولنفترض أنها فعلا قد خُلِقَتْ من ضلع آدم، ومن ثم لا بد أن تكون معوجة، أفلا ينبغى أن يكون الاعوجاج بالأحرى فى قَوَامها مثلا بدلا من طبعها ومزاجها ما دام الضلع شيئا ماديا يناسبه القوام، الذى هو شىء مادى، ولا يناسبه المزاج لأنه نفسى عقلى؟ ثم لماذا لا نقول أيضا على أساس من هذا التوجيه إن المرأة إنما خُلِقَتْ من ضلع آدم لتصد عنه الغوائل كما تفعل الأضلاع مع الشخص، إذ تحمى جنبيه من الصدمات والوخزات العنيفة؟
أما أنا فأفهم الحديث على أنه تصوير مجازى لغلبة عواطف المرأة عليها، فهى تنفعل وتتحكم فيها عواطفها أكثر مما هو حال الرجل. أما قول الإمام النووى، فى شرحه لحديث مسلم: "لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر"، إن حواء هى المسؤولة عن السقوط من الجنة، إذ زين لها إبليس الأكل من الشجرة وأغواها فأخبرت آدم بها فأكل منها، فلا أدرى كيف واتته نفسه به، وقد حسم القرآن الأمر بأن إبليس قد غرر بآدم وزوجه معا لا بحوّاء وحدها ثم أكملت هى الأمر بإغراء زوجها. بل إن القرآن ليركز الضوء على آدم فقط عند حديثه عن العصيان والغَوَاية: "فعصى آدمُ ربَّه فغَوَى". يؤسفنى أن أقول إن هذا أثر من آثار الإسرائيليات، إذ هو موجود فى العهد القديم، وإن كان سفر "التكوين" يجعل الحية لا إبليس هى التى توسوس لحواء على ما هو معروف.
وعودا إلى ما كنا بسبيل الحديث عنه نسوق ما ساقه الزمخشرى مثلا فى "أساس البلاغة" من تعبيرات مجازيّة قالها العرب فى حق المرأة تدل على أنهم كانوا يقدرونها، فكنت أحب للزميل العزيز أن يتنبه إليها وإلى ما تدل عليه. قال الزمخشرى: "ومن المجـاز‏:‏ مـَنْ أُمّ مثـواك؟ وبلغـت الشَّجَّةُ أُمَّ الدمـاغ، وهـي الجلـدة التـي تجمعـه... وما أشبه مجلسك بأُمّ النجـوم، وهـي المجـرة لكثـرة كواكبهـا. وهـو مـن أمهـات الخير‏:‏ من أصوله ومعادنه"، "ويقال للصدفة: أُمّ تُومَة"، "وفلان يتوسد أذرع بنات الليل، وهـي الـمُنَـى". ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضا: "أمهات الكتب"، و"لم ينبس ببنت شفة"‏، و"هذا من بنات أفكارى"... إلخ. وفى "أساس البلاغة" أيضا: "هذه امرأة أنثى: للكاملة من النساء"، ويقول العربى: "حلبتُ بعيرى"، وهو يريد الناقة، مما يدل على أن البعير والناقة (أى ذكر الجمل وأنثاه) عند العربى سيان فى مثل هذا الأمر الذى يختص بالأنثى، ولا مدخل للذكر فيه بأى حال. وفى "أساس البلاغة": "قال بدوي لآخر‏:‏ هل لك بيت؟ أي امرأة‏"، فجعل المرأة هى البيت كله، أى البناء وما يحويه من أثاث وناس.‏
وإذا كان الزميل العزيز يأخذ على العرب القدماء تشبيههم المرأة أحيانا بالحيوان أو النبات أو الجماد ظنًّا منه أن هذا خاصّ بها وحدها وأنه دليل على تحقيرهم لها وإخراجهم إياها من عالم الإنسانية إلى عالم الحيوانات والنباتات والجمادات، فما رأيه فى المجازات التالية: "فلانٌ جُحَيْـش وَحْـِده، وعُبَيْر وَحْدِه: في ذم المستبد برأيه والمستأثر بكسبه‏... وقـد يستعـار للمُهْر والغزال ويُشْتَقّ منه للصبي‏.‏ قال المعترض الظفري‏:‏
قتلنـا مَخْلَـدًا وابْنَيْ حرَاقٍ * وآخَـَر جَحْوَشًـا فوق الفَطِيمِ"؟
كذلك فكثيرا ما يشبَّه سيد القوم وقائدهم بـ"الكبش" كما فى قول عمرو بن معديكرب يذكر منازلته لخصمه فى الحرب:
نازلتُ كبشهمو، ولم * أر من نزال الكبش بُدًّا
وكقول لبيد بن ربيعة فى الحرب أيضا:
بِكَتائِبٍ تَرْدِي تَعَوَّدَ كَبْشُها * نَطْحَ الكِباشِ كَأَنَّهُنَّ نُجومُ
أقول هذا لأن الزميل العزيز قد ظن أن تكنية العرب عن المرأة بالنعجة معناه أنهم يرونها لا تستقل بنفسها ولا بأمرها، بل تحتاج إلى من يرعاها ويضبطها ويقوم بأمرها وينتفع بها كما هو حال النعجة (ص36). فهل يجد القارئ يا ترى فرقا بين النعجة والكبش من هذه الناحية؟ أم إن الكبش هو الذى كان يقوم قديما بأمر صاحبه العربى ويرعى شؤونه ويسعى لاكتساب الرزق ثم يقسمه بعد هذا بينه وبين صاحبه؟
وإذا كان الزميل العزيز يأخذ على البلاغة العربية، كما يقول، أنها تصف المرأة بأنها "حيّة" فإن تلك البلاغة ذاتها قد وصفت الرجل بأنه "حيّةٌ ذَكَرٌ" و"حيّة الوادى" و"صِلُّ أَصْلال"؟ لكن الزميل العزيز للأسف يسارع فيقول إنها فى حالة المرأة تشير إلى الغدر، على حين تشير فى حالة الرجل إلى الشجاعة، متجاهلا بيتا كالبيت التالى للنابغة الذُّبْيَانى:
ماذا رُزِئْنا به من حيةٍ ذَكَرٍ * نضّاضةٍ بالرزايا صِلِّ أَصْلاَلِ؟
فهو يجلب الرزايا على من يُبْتَلَوْن، بل يُرْزَأُون، به. فهل فى هذا أى افتخار أو مدح؟ إن الزميل العزيز إنما ينتقى ما يرى أنه يثبّت فكرته التى يعمل على نشرها بين القراء من أن العرب والمسلمين كانوا يحتقرون المرأة ويسيئون إليها ويصيرونها حيوانا وجمادا ونباتا. ولهذا السبب نراه يلوى وجه الألفاظ والعبارات كى تنطق بما يريدها أن تنطق به.
كذلك كان العرب يقولون عن الرجل السيد: "ثور القوم"، وبه كانوا يكنون عَمْرَ بن معديكرب. بل كان بعضهم يسمَّى: "ثورا" و"جحشا" و"بَكْرا" و"عثمان" (وهو فرخ الثعبان) و"ثعلبا" و"قُرَادا" و"خروفا": كالشاعر حُمَيْد بن ثور، وجحش زوج عمة الرسول وحَمِيه، وبكر بن وائل، وعثمان بن عفان، وثعلب اللغوى المشهور، وقراد بن حنش، وابن خروف مثلا. وكثيرا ما يكنون الرجل: فَحْلا، والفَحْلُ جملٌ، أى حيوان. ولم يقل أحد إنهم يهينونه بهذه التسمية. وإذا كان الزميل العزيز يستنكر كنايتهم عن مجامعة الرجل للمرأة بطريقة خاصة بقولهم: "رَكِبَها" واتخذها مطيَّة (ص37 وما بعدها)، فإنهم يقولون أيضا: ركب فلان فلانا بالسخرية أو بالإساءة، وركبه الهم، وركبه الدَّيْن، وركب فلانٌ ذَنْبا، وركب رأسه، أى سار معتسفًا أمره لا يطيع مرشدا. فكما ترى فالركوب واقع على الرجل والمرأة وغيرهما على السواء. كما أننا كثيرا ما نقول عمن تسيطر عليه امرأته إن امرأته تركبه، مع ملاحظة أنها هنا فى الزراية على الرجل، بخلافها فى الكناية عن الجماع، إذ تخلو من معنى الزراية، وتدل على اللذة. ويقول العرب: "أجررتُ فلانا رَسَنه‏:‏ تركته وشأنه"، والرَّسَن هو اللجام، فكأنه دابة لها لجام. ومن ذلك أيضا: "خلع فلان رَسَنه وعِذَاره فعَدَا على الناس بِشَرٍّ". وهناك "ذؤبان العرب"، أى صعاليكهم. و"فلان فُرَيْخُ قومه"، أى مكرَّمهم. والفُرَيْخ هو الفرخ الصغير. كذلك نراهم يقولون: "المرأة راعية البيت" بما فيه الرجل طبعا، أو على الأقل: أولاده وماله وسائر أموره. والزميل الكريم نفسه قد أورد قول امرأة لعائشة رضى الله عنها تشير إلى زوجها وكراهيتها أن يفكر فى سواها: "أأقيّد جملى؟" (ص43)، ومع هذا لم يجد فى ذلك الاستعمال شيئا يسىء إلى الرجل مع أنه لا فرق فى الاستعمال بينه وبين التكنية عن المرأة بالناقة. إلا أنه يرفض هذا، ولا يجد غضاضة فى ذلك. ومن أسماء الرجال الشائعة عند العرب: "جندب"، أى صرصور الحقل، و"حُنَيْش"، و"حُبَاب"، وهو الحيّة، و"أسد"، و"العبّاس" من أسماء الأسد، و"أسامة" من أسماء الأسد أيضا، و"عنترة"، أى الذبابة الزرقاء، و"طاووس"، و"عكاشة"، وهو العنكبوت، و"كلب"، و"كُلَيْب".
ومن مجازاتهم التى تشبّه الرجل أو تكنِّى عنه بالنبات والجماد قولهم: "زرَعَ الله ولدك للخير"، و"أستـزرع اللـهَ ولـدي للبـر"، و"فلان دعامة قومه" لسيدهم وسندهم. قال الأعشى:
كلا أبوينا كان فرع دعامةٍ * ولكنهم زادوا، وأصبحتُ ناقصا
والرجل لِبَاس المرأة مثلما هى لباسه، أى تبلغ به مخالطته إياها أن يصير كأنه ملابسها التى تباشر جسدها كما جاء فى الآية 187 من القرآن المجيد: "هُنّ لباسٌ لكم، وأنتم لباسٌ لهنّ". وكان الزميل العزيز قد أخذ على البلاغة العربية أنها تشبّه المرأة بـ"اللباس"، مستشهدا على ذلك بهذه الآية الكريمة (ص34، 46)، فها هى ذى البلاغة العربية تشبه الرجل أيضا باللباس، فما قوله فى هذا؟ ودعنا من أن انتقاده ذاك إنما يمس القرآن قبل أى شىء آخر. ويقول العرب كذلك: "خلعت فلانة زوجها"، وكأنه خاتم تخلعه من إصبعها وتلقيه بعيدا عنها. و"فلان رَحَى قومه"، أى سيدهم الذى يعصبون به أمرهم ويعتمدون عليه فى حل معضلاتهم. و"هو كَهْف قومه"، أى ملجؤهم. ولُقِّب خالد بن الوليد بـ"سيف الله المسلول". ومن أسماء الرجال عند العرب: "حنظلة" و"سَمُرَة" و"طلحة" و"سَلَمَة"، وهذه أسماء نباتات وأشجار، و"الفرزدق"، وهو الرغيف، و"جَبَل"، و"حزام"، و"كعب"، و"جَرِير"، والجزير هو الحبل. ومن تعبيراتهم: "رجلٌ شِسْعُ مالٍ"، أى بارع فى استثماره (والشسع هو ما نسميه الآن: رباط الحذاء)، و"صخر"، و"جندل"، و"درهم"، و"الكُمَيْت"، وهى الخمر، و"مِجَنّ"، وهذه أسماءجمادات.
أما قولُ الزميل العزيز إن العرب كانت تكنى عن المرأة بالحرث واتخاذُه ذلك عيبا يعيبهم به مستشهدا فى هذا السياق بقوله عز شأنه: "نساؤكم حرثٌ لكم، فأْتوا حرثكم أَنَّى شئتم" (البقرة/ 223)، فهو كلام غريب، إذ ماذا يريد أن يقول من خلال الزجّ بالقرآن فى هذا الموضع؟ ليس هذا فحسب، بل يزيد فيعلق على تفسير بعضهم للأرض التى لم يطأها المسلمون فى قوله تعالى فى سورة "الأحزاب" مشيرا إلى يهود بنى قريظة: "وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها" بنساء اليهود بأن فى ذلك بقايا من أساطير ما بين النهرين، تلك التى كانت تؤنّث الأرضَ وتذكّر السماءَ، على عكس الأساطير المصرية القديمة التى كانت تؤنّث السماء وتذكّر الأرض. الله أكبر! لقد وصلت الأمور هنا إذن إلى الأساطير! مع أن المسألة لا تعدو التشبيه المباشر، إذ شُبِّه الرَّحِم بالأرض المستزرَعة، وماءُ الرجل بالبذور، فما المشكلة فى هذا؟ وأين دخل السماء هنا؟ وهذا إن كانت الأرض فى الآية معناها النساء، وهو ما لا يمكن أن يكون، إذ إن نساء بنى قريظة جمع، فهن لسن أرضا واحدة، بل أرضين كثيرة، فضلا عن أن عبارة "لم تطأوها" لا معنى لها: لأنه إذا كان المقصود أن المسلمين لم يطأوا نساء يهود بعد سبيهم لهن فما وجه الامتنان فى ذلك؟ وإذا كان المقصود أنهم لم يكونوا قد وطئوهن قبل الغزو فهذا أمر طبيعى، إذ المسلمون لم يكونوا أمة من الزناة حتى يمكن أن يجول فى خاطر أى أحد أنهم وطئوا نساء بنى النضير من قبل. ومن ثم فلا معنى للنص على ذلك فى الآية الكريمة. ولقد رجعت إلى تفاسير الطبرى والقرطبى والبغوى وابن كثير والبيضاوى والنسفى والجلالين والشوكانى فلم أجد شيئا من ذلك، بل كان تفسير الأرض التى لم يطأها المسلمون هى البلاد المفتوحة، وليس النساء.
كذلك لا أدرى، ولست إخال أدرى، وجه العيب فى تشبيه المرأة فى آية "البقرة" بالحرث. ترى هل الحرث شىء مهين؟ إن القرآن هنا إنما يوضح للمسلمين أن أى وضع يتخذه الرجل فى معاشرة امرأته جائز ما دام يأتيها فى قُبُلها. وهذا معنى الحرث، أى الأرض التى تُسْتَزْرَع فتنبت. أما إتيان المرأة فى دبرها فوضع للبذرة فى غير حرث لأن ذلك لا يؤدى إلى تلقيح أو حمل. ولا على المسلمين بعد ذلك أن يأتوها من الأمام أو من الخلف أو من الجنب ما داموا يأتونها فى قُبُلها. المهم أن يكون الإتيان من خلال السبيل الشرعى الطاهر لا على سنة الشواذّ الأنجاس.
وأما قول الزميل العزيز إن العرب كانوا يكنون عن المرأة بـ"النعل" (ص48- 49) فهل كانت هذه التكنية منتشرة بين العرب؟ أم هل استخدمها مرةً أحد الضائقين بزوجته فى بيت شعر فظُنَّ أن العرب جميعا كانوا يستعملونها فى هذا المعنى؟ ذلك أننى بحثت، عن طريق الباحث الألكترونى، فى نحو ستمائة كتاب من كتب التراث فلم أعثر عليها إلا عند الثعالبى فى كتابه: "نَثْر النَّظْم وحَلّ العقْد" منسوبة إلى عمر رضى الله عنه. وعمر بَشَرٌ من البَشَر، إذا كان قد قال ذلك فعلا فهو رأى خاص به لا يلزم غيره، وليس قرآنا كريما. وعلى أية حال فلسنا نقول إن كل شىء كان طيبا بالنسبة إلى المرأة فى الحضارة العربية، ولا أن المرأة فى علاقتها بالرجل كانت دائما وأبدا ملاكا طاهرا، إذ لا يمكن أن يخلو مجتمع من المجتمعات من عيوب ومآخذ. لكن المشكلة تكمن فى الدعوى العريضة الطويلة التى ادعاها الزميل العزيز على العرب جميعا طوال تاريخهم كله زاعما أن وضع المرأة لديهم كان فى غاية السوء والحقارة، وأنه لم يكن هناك فيما يخصها بصيص من ضوء.
بل إنه لينكر على اللغة تسميتها الزوج: "بَعْلاً"، إذ هو لا يقبل أن يكون الزوج رئيسا وقوّاما على البيت، وهو المعنى الملحوظ فى كلمة "البعل" (ص49- 50). وليت شعرى ماذا فى لفظ "البعل" حتى يستنكره الزميل العزيز؟ أليست الأسرة شركة؟ أليست كل شركة ينبغى أن يكون لها قَيِّمٌ ورئيسٌ؟ ألم يقل القرآن المجيد: "الرجال قوّامون على النساء"؟ ألم يقل: "وللرجال عليهن درجة"؟ ولنفترض أن ذلك ليس قرآنا، فما وجه العيب فيه؟ ولماذا يراد للأسرة وحدها دون سائر الشركات أن تبقى دون رئيس؟ أم هو تمرد والسلام لوجه التمرد؟ إن القول برئاسة الرجل للبيت ليس دعوة إلى استبداده بالمرأة، بل هو تنظيم إدارى إن صح القول. وماذا فى تنظيم كهذا؟ أم ينبغى أن يترك الأمر فوضى لا ضابط له ولا رابط؟ إن الرجل أقوى من المرأة وأقدر على تسيير أمور الأسرة، وإن لم يعن هذا أنْ تُجَرَّد المرأة من كل سلطان، إذ لها سلطانها متمثلا فى إدارة أمور المعيشة والسهر على راحة أفراد أسرتها مثلا. ولا ينبغى أن يقال هنا إنها ليست خادمة، وإلا فسوف يقال هذا عن الرجل، إذ هو أيضا يخدم أفراد أسرته فى نواح أخرى. وبعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خَدَمٌ كما قال الشاعر.
وقد أنكر الزميل العزيز على لغة العرب أن تكنى عن المرأة بــ"الرَّحْل" فى مثل "حوَّلتُ رَحْلِى الليلة" بمعنى تغيير وضع الجماع (ص40- 41). فماذا هو قائل إذا عرف أنهم كانوا يستخدمون الرَّحْل فى التكنية عن الرجل، وعن الأمر من الأمور كذلك، أيضا؟ جاء فى كلامهم: "رَحَلْتُ الرَّجُل رَحْلاً وارتحلته ارتحالاً‏:‏ ركبته‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم حيـن ركبـه الحسيـن فأبطـأ فـي سجـوده: ‏"‏إن ابنـي ارتحلنـي‏"‏. ولأَرْحَلَنَّـك بسيفـي، ورَحَلَه بسيفه‏:‏ إذا علاه به‏.‏ ورَحَل الأمرَ وارتحله‏:‏ ركبه‏.‏ وارتحل فلان أمرا ما يطيقه".
ولقد وقف الزميل العزيز إزاء تشبيه المرأة فى بعض نصوص التراث العربى بالقيد والغُلّ، وانطلق فى فاصل من الإنكار والاستنكار على العرب القدامى متهما إياهم بأن بلاغتهم "تتصور علاقة الرجل بالمرأة وكأن تحرير الرجل لا يتحقق إلا بخلاصه من المرأة وتحرره من قيدها" (ص47- 48). مرحى مرحى! إذن فالمظلوم، يا زميلى العزيز، هو الرجل لا المرأة! والذى كان بحاجة إلى التحرر إنما هو الرجل لا المرأة! ألست أنت الذى تقول ذلك؟ ألا ترى أنك بهذه العبارة قد نسفت كل بحثك الذى أدرته على أن المرأة كانت محتقرة مهانة ذليلة مستضعفة مظلومة؟ الواقع أننى كدت أبكى بل أنهنه عطفا على المرأة العربية بسبب ما كتبه زميلى العزيز عن وضعها اليائس البائس. منهم لله الرجال. أشوف فيهم يا رب يوما! لكن الزميل العزيز يرتد فجأة فيقلب الأمر كله رأسا على عقب. إذن فلنقلب نحن الأسطوانة أيضا ونقول: منهن لله النساء. أشوف فيهن يا رب يوما!
والطريف أننى كنت أناقش زميلى العزيز منذ أيام، وكان فى زيارة شرفنى بها فى مكتبى، وجاءت سيرة النساء، فبوغتُّ بأن رأيه فيهن هو الرأى الذى يأخذه صدقا أو باطلا على العرب القدماء، فعلقت ضاحكا: ألا ترى يا زميلى العزيز المفارقة العجيبة؟ إن رأيك فى النساء لسيئ شديد السوء، بعكس رأيى أنا الرجعى المتخلف، فإنى لا أقول فيها معشار ما تقوله الآن. وضحكت، وضحك هو أيضا. وكنا قد تناقشنا فى هذا البحث قبل عدة أسابيع، فكان رأيى أنه قد ظلم التراث والتاريخ والمجتمع العربى، إذ صوره وهو يعامل المرأة معاملة غير إنسانية طبقا لبعض النصوص التى امتلخها من هنا ومن ههنا والتى لا تعبر مع ذلك عن الحقيقة حتى فى نطاق قائليها، بل هى إلى الرواسم أقرب منها إلى الواقع الفعلى. ومن هذه الرواسم، ولكن على الضفة الأخرى، قولهم: "وضع فلان كتابا"، أى ألّفه. ولا يمكن أن يخطر فى بال عاقل أنهم يؤنثون الرجل ويجعلون منه امرأة تحبل وتضع. ولو كانت "الموضة" التى أتتنا هذه الأيام من الغرب هى موضة "الرِّجَاليّة" لا "النسوية" لكان زميلى العزيز قد سارع إلى هذا التعبير وأمثاله واتخذه برهانا لا يصد ولا يرد على أن العربية لغة أنثوية، وجعله من ثم قضيةً ولا أبا حسنٍ لها!
وقلت له يومها أيضا إن المرأة إما أن تكون أما أو زوجة أوبنتا أو حبيبة: فأما الأم فقد كان المسلم يبرها غاية البر ويحترمها، فكيف يقال إن المرأة كانت محتقرة مهانة مهمشة مقصية... إلى آخر هذا الكلام الكبير الذى ورد إلينا فى الأعوام الأخيرة من أوروبا فصار البعض يردده كما ورد فى عُلْبَته؟ وأما الزوجة فقد كان المسلم ينظر إليها على أنها عِرْضه وشرفه وكرامته، فكيف يقال إنه كان يحتقرها ويراها غير آدمية؟ ألم يكن يجرى لاهثا وراء لقمة العيش ثم يضع ما يكسبه فى يديها تتصرف به فى تسيير أمور البيت على النحو الذى تراه، وهى معززة مكرمة؟ وأما البنت فقد كان المسلم يعطف عليها ويعمل على إحسان تربيتها وتزويجها والقيام بما تحتاجه مثل الولد سواء بسواء، فكيف يُتَّهَم الآباء بأنهم كانوا قساة غلاظا أجلافا مع بناتهم؟ وأما الحبيبة فهذه حكاية وحدها، إذ كان الرجل يترامى على قدميها ويتمنى رضاها ويقدم روحه فداء لها وثمنا رخيصا لنظرة من عينيها تحييه أو تقتله قتلا. بل كان النقاد يوجبون عليه إذا نَسَبَ بها أن يبدى ضروب الذلة والخضوع حتى يكون نسيبه مقبولا، فالحب كما يقولون يخضع له الكبير والصغير والشريف والوضيع والملوك والسوقة، ليس عنه مَعْدًى. فكيف يزعم زاعم أن الرجل كان يقلل من شأنها وينزل بها إلى الحضيض الأسفل؟ فكان جواب الزميل العزيز أن المرأة التى يكتب هو عنها ويثبت وقوع الظلم عليها ليست هى الأم ولا الزوجة ولا البنت ولا الحبيبة... فقلت له: فما الذى يبقى من المرأة بعد ذلك؟ الحق أنه لا يبقى فى هذه الحالة يا زميلى العزيز إلا المرأة المجردة. وأين بالله عليك يمكن أن نجد تلك المرأة المجردة؟ إنها لا وجود لها إلا فى الوهم والخيال. ذلك أن الواقع لا يعرف إلا المرأة المتجسدة فى صورة أم أو زوجة أو بنت أو حبيبة. وهؤلاء لم يحتقرهن الرجل كما قلنا.
والعجيب أن الزميل العزيز يقول هو أيضا هذا الذى أقوله، إلا أنه للأسف لا يمضى معه إلى آخر الشوط. قال (ص52): "ويبدو أن البلاغة فرّقت بين المرأة من حيث هى جنس عام يمثل المرأة فى كل عصر ومكان، وبين أنواع خاصة من النساء، فصوّرت المرأةَ بوصفها جنسا صورة سلبية، ولكن هناك صورة أخرى تتبدى حين يكنِّى بعض الكتّاب كابن العميد (ت360هـ) والصابى (ت384هـ) والصاحب بن عباد (ت385هـ) وغيرهم عن البنت بالكريمة، وعن الصغيرة بالريحانة، وعن الأم بالحرة والبرة، وعن الأخت بالشقيقة، وعن الزوجة بكبيرة البيت، وعن الحرمة بمن وراء الستر. فليس من شك فى أن هؤلاء وأمثالهم سيتحولون بالكناية عن المرأة وجهة أخرى تخالف ما هو مستقر فى المخيلة العربية حين يتصل الأمر بذوى قرابتهم أو المتصلين بهم (يقصد: بذوات قرابتهم أو المتصلات بهم) من بنات أو أمهات أو أخوات أو زوجات يصونهن عن الابتذال على الألسنة".
وإنى لأتساءل: وهل يقول أى أحد آخر فى ذوات قرابته شيئا غير الذى قاله هؤلاء فى قريباتهم؟ أليس كل إنسان يرى أمه وأخته وبنته وزوجته بنفس العين التى كان هؤلاء يرون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم وزوجاتهم بها؟ فإذا كان الأمر كذلك فهل يبقى حينئذ أحد من النساء موصوفا بالحقارة والهوان؟ وايم الحق لا. لكن الزميل العزيز لا يريد أن يبصر الحق الأبلج. والسبب؟ السبب هو أنه، كما سبق القول، قد أقبل على بحثه، وقد عقد العزم على أن ينتهى إلى تلك النتيجة. وهذا واضح لا يحتمل مراء.
وحتى يتيقن القارئ مما قلت عن موقف الزميل العزيز ألفت انتباهه إلى أنه يقول فى الفقرة السابقة على هذه مباشرة إن من دلائل احتقار العرب للمرأة قولهم: "المرأة ريحانة لا قهرمانة"، مع أننا قد رأيناه قبل قليل يعد وصفهم للصغيرة بالريحانة تبدُّلا فى الكناية وتحولا بها من الاحتقار إلى التكريم. فبالله هل وَصْفُ المرأة بأنها ريحانة تكريم أو تحقير؟ لا بد من الرسوّ على بَرٍّ، أما ترك الأمور متأرجحة على هذا النحو فمزعج. ومع ذلك فهل كان هذا هو كلام العرب جميعا؟ فلأورد هنا للقارئ الكريم السياق الذى قيلت فيه تلك العبارة.
جاء فى كتاب "الأذكياء" لابن الجوزى فى القِسْم الذى خصصه لذكاء النساء ما يلى: "قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك فصلى عنده ركعتين، وركب الوليد، فمشى الحجاج بين يديه، فقال له الوليد: اركب يا أبا محمد. فقال: يا أمير المؤمنين، دعني أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عن الجهاد زمنا طويلا. فعزم عليه الوليد أن يركب، ودخل فركب مع الوليد. فبينا هو يتحدث ويقول: "ما فعلتَ بأهل العراق وفعلتَ؟" أقبلتْ جارية فنادت الوليد ثم انصرفت، فقال الوليد: يا أبا محمد، أتدري ما قالت الجارية؟ قال: لا. قال: قالت: أرسلتني إليك أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أن مجالستك هذا الأعرابي وهو في سلاحه، وأنت في غلالةٍ، غَرَرٌ. فأرسلتُ إليها أنه الحجاج بن يوسف. فراعها ذلك وقالت: والله لأن يخلو بك ملك الموت أحبّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج، وقد قتل أحباءَ الله وأهلَ طاعته ظلما وعدوانا. فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، إنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة. لا تطلعهن على سرك، ولا تستعملهن بأكثر من زينتهن يا أمير المؤمنين. ولا تكن للنساء برَؤُوم، ولا لمجالستهن بلَزُوم، فإن مجالستهن صَغَارٌ ولؤم. ثم نهض فخرج ودخل الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالته، فقالت: إني أحب أن تأمره بالتسليم عليّ، فسيبلغك بالذي يكون بيني وبينه. فغدا الحجاجُ على الوليد، فقال الوليد: ائت أم البنين. فقال : أعفني يا أمير المؤمنين. قال: فلْتَفْعَلَنّ. فأتاها فحجبته طويلا، ثم أذنت له ثم قالت له: يا حجاج، أنت تفتخر على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك أهون خلقه عليه ما ابتلاك بقتل ابن ذات النطاقين ابن حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الأشعث. فلَعَمْرِي لقد استعلى عليك حتى عجعجتَ، ووالى عليك الهرار حتى عَوَيْتَ. فلولا أن أمير المؤمنين نادى في أهل اليمن، وأنت في أضيق من القرن فأظلتك رماحهم وعلاك كفاحهم، لكنتَ مأسورا قد أُخِذ الذي فيه عيناك. وعلى هذا فإن نساء أمير المؤمنين قد نفضن العطر عن غدائرهن وبعنه في أعطية أوليائه. وأما ما أشرت على أمير المؤمنين من قطع لذاته وبلوغ أوطاره من نسائه فإن يكنَّ إنما ينفرجن عن مثل أمير المؤمنين فغير مجيبك إلى ذلك، وإن كن ينفرجن عن مثل ما انفرجت به أمك البظراء عنك من ضعف الغريزية وقبح المنظر في الـخَلْق والـخُلُق يا لُكَع فما أحقه أن يقتدي بقولك. قاتل الله الذي يقول:
أسدٌ عليَّ، وفي الحروب نعامةٌ * فتخاءُ تنفر من صفير الصافرِ
هلا برزت إلى غزالةَ في الوَغَى * بل كان قلبك في جناحَيْ طائرِ
ثم أمرت جاريةً لها فأخرجتْه. فلما دخل على الوليد قال: ما كنتَ فيه يا أبا محمد؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتتْ حتى كان بطن الأرض أحبَّ إلى من ظهرها. قال: إنها بنت عبد العزيز".
إن المرأة هنا، متمثلةً فى أم البنين، إنما تبدى رأيا وتتخذ موقفا يختلف تماما عن موقف الدولة التى يحكمها زوجها، وفى موضوع هو من أشد الموضوعات خطرا كما رأينا. ليس ذلك فحسب، بل إن زوجها نفسه هو صاحب فكرة إدخالها فى الأمر. وكان يعرف مسبقا أنها سوف تنتصر على رجل دولته الكبير. ثم إنه قد افتخر بها أيما افتخار. ونأتى الآن إلى العبارة التى نحن بصددها، وهى عبارة الحجاج، ولم يكن من الممكن أن يقول غير هذا، إذ كان يدافع بها عن نفسه ويبعد خطر المؤاخذة التى حسب أنه بسبيل التعرض لها عند الخليفة. فهل كنا نتوقع منه فى ذلك الموقف سوى هذا؟ وأيا ما يكن الحال هل وافقه الخليفة على ما قال؟ بالطبع لا. لكل هذا نرى أن الزميل العزيز قد أعطى العبارة حجما أضخم كثيرا جدا من حجمها وهوّل فى النتائج التى رتبها عليها أيما تهويل.
ولنلاحظ قبل ذلك كله أن ابن الجوزى يخصص فى كتابه الحالىّ قِسْمًا لذكاء النساء ولا يقصره على الجنس الخشن وحده. بل لقد جعل المرأة فى حكايتنا هذه تنتصر على الرجل. وأى رجل؟ إنه الحجاج بشحمه ولحمه وليس أى رجل، وهو ما يدل على خطإ ما يدعيه الزميل العزيز. وعلى كُلٍّ فلقد كانت المرأة ولا تزال قهرمانة فى بيتها، فهى التى تدير شؤونه وتشرف على تربية الأولاد وتصرّف أمور المعيشة على النحو الذى تراه... وهكذا. وما ضَرَّها أن يكون الرجل هو القهرمان فى الأمور التى تقع خارج البيت فى مجتمع يقسم المسؤوليات بين الجنسين على هذا النحو؟ أم هى مكايدة للرجل حبا فى المكايدة، والسلام؟
وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد ساق الزميل العزيز (ص13) حكاية أخرى تصور عزوف رملة بنت الزبير بن العوّام عن الدخول فى الخلاف السياسى بين أخيها عبد الله بن الزبير وزوجها خالد بن يزيد بن معاوية حين عاب خالدٌ أخاها بالبخل، فلاذت بالصمت، فسألها: "لم لا تتكلمين؟ أَرِضًا بما قلتُه أم تنزُّهًا عن جوابى؟"، فكان جوابها: "ولكن المرأة لم تُخْلَق للدخول بين الرجال. إنما نحن رياحين للشَّمّ والضَّمّ، فما لنا وللدخول بينكم؟"، فأعجبه قولها وقبّل ما بين عينيها. وكان رأي الزميل العزير أن الثقافة العربية قد ربَّت المرأة على الصمت عند اختصام الرجال وتَجَادُلهم حتى لو كان موضوع الجدال متصلا بها اتصالا حميما. يريد أن يقول إنها ثقافة "ذكورية قمعية" بالأسلوب الرطانى الجديد. والحق إن موقف رملة لموقف عبقرى. وإن ثقافةً تدفعها إلى انتهاج مثل تلك السبل لهى ثقافة راقية عظيمة شاهقة السموق. ويؤسفنى أنْ قد فات ذلك زملَينا العزيز، وإلا فماذا كان يريدها أن تفعل؟ أتردّ على زوجها مسفِّهَةً رأيه فينهدمَ البيت وتُوَلِّىَ سعادة الطرفين أم توافقه على ما قاله فى حق أخيها فتكشف عن خسة ونذالة؟ لقد خرجت تلك السيدة الحكيمة بالصمت عن لا ونعم. فلله دَرُّها! وهى بهذا إنما تبرهن أنها من العبقرية بمكان مكين وركن ركين لا كما يصفها زميلنا العزيز الذى يبدو وكأنه مغرم بإشعال الحرائق بين الرجال والنساء، إذ غاظه منها تلك الحكمة الألمعية. كفانا الله شر الحرائق والنيران فى الدنيا والآخرة جميعا!
كذلك تناسى الزميل العزيز أن هناك كتبا فى تراثنا وفى أدبنا الحديث تتحدث عن النساء وحدهن، ومؤلفوها من الرجال، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أن المرأة لم تكن فى ثقافتنا هينة الشأن كما يريد أن يلقى فى رُوع القراء. ومنها الكتب التى تتناول أخبار النساء وما إليها لابن الجوزى والسيوطى وأضرابهما من علماء الدين وغيرهم، وفيها يتناول مؤلفوها المرأة بالحديث عما يميزها عن الرجل وعما يُسْتَحْسَن أو لا يستحسن من صفاتها وطباعها وأخلاقها وعما تسببه للرجال من العشق والوله الذى قد يبلغ حد الجنون. ومنها أيضا "تزيين الأسواق فى أخبار العشاق" لداود الأنطاكى، و"طوق الحمامة" لابن حزم، و"مصارع العشاق" للسراج القارى، و"الكُنَّس الجوارى فى الحسان من الجوارى" للشهاب الحجازى. وهناك من خصص للنساء المبدعات جانبا من بعض كتبه، كما صنع أبو الفرج الأصفهانى فى كتابه: "الأغانى"، ولسان الدين بن الخطيب فى كتابه: "الإحاطة فى أخبار غرناطة"، والدكتور مصطفى الشكعة فى كتابه: "الأدب الأندلسى" على سبيل المثال. وهناك من كَسَرَ كتابه كله على أدبهن، كما صنع المرزبانى فى "أشعار النساء"، والأصفهانى فى "الإماء الشواعر"، وابن طيفور فى "بلاغات النساء"، والمفجَّع البصرى فى "أشعار الجوارى"، والسيوطى فى "نزهة الجلساء فى أشعار النساء"، وعمر رضا كحالة فى "معجم أعلام النساء في عالمي العرب و الاسلام"، وبشير يموت فى "شاعرات العرب فى الجاهلية والإسلام"، وعبد البديع صقر فى "شاعرات العرب" ... وهكذا. وهو ما ينبغى أن يلفتنا إلى تلك الحقيقة الساطعة المتمثلة فى أن النساء، قبل ذلك كله، لم يكن يجدن عائقا أمامهن إن أردن أن يخطبن أو ينظمن شعرا أو يضربن مثلا.
ونأخذ بعض الأمثلة: ففى "الإماء الشواعر" للأصفهانى نقرأ فى أول ترجمة فى الكتاب، وهى لعنان الناطفىّ، ما يلى: "وكانت أول من اشتهر بقول الشعر في الدولة العباسية، وأفضل من عُرِف من طبقتها. ولم يزل فحول الشعراء في عصرها يَلْقَوْنها في منزل مولاها فيقارضونها الشعر، وتنتصف منهم. وعُتِقَتْ بعد وفاة مولاها: إما بعتق كان منه لها أو بأنها وَلَدَتْ منه. فحدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني أحمد بن معاوية، قال: سمعت أبا حنش يقول: قال لي النطافيُّ يومًا: لو جئتَ إلى عنان فطارحتها. فعزمتُ على الغُدُوّ إليها، وبِتُّ ليلتي أجول ببيتين، ثم غَدَوْتُ عليها فقلت: أَجِيزِي هذين البيتين! وأنشد يقول:
أَحَبَّ الملاحَ البيضَ قلبي، وإنـمـا * أحبّ الملاح الصفر من ولد الحَبَشْ
بكيتُ على صفراءَ منـهـن مـرةً * بكاءً أصاب العين مني بالعَـَمـَشْ
فقالت:
بكيت عليها. إن قلبي أحبـهـا * وإن فؤادي كالجناحين ذو رَعَشْ
تُعَنِّتنا بالشعر لـمـا أتـيتَـنـا * فدونك خُذْه محكمًا يا أبا حَنَـْش
أخبرني عمر بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال حدثني: أحمد بن معاوية، قال: سمعت مروان بن أبي حفصة يقول: لقيني الناطفيّ فدعاني إلى عنان، فانطلقت معه، فدخل إليها قبلي فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس: مروان بن أبي حفصة! وكانت عليلة، فقالت: إني عن مروان لفي شغل!، فأهوى لها بسوطه فضربها به، وقال لي: ادخل! فدخلتُ وهي تبكي، فرأيت الدموع تتحدر من عينيها فقلت:
بكت عنان فجرى دمعها * كالدُّرّ إذ يسبق من خيطه
فقالت مسرعة:
فليت من يضربها ظالمًا * تيبس يمناه على سوطه
فقلت للنطافي: أَعَتَقَ مروانُ ما يملك إن كان في الجن والأنس أشعر منها!
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال حدثنا عمر بن شبة عن أحمد بن معاوية، قال: قال لي رجل، تصفحتُ كتبًا فوجدت فيها بيتًا جهدت جهدي أن أجد من يجيزه، فلم أجده، فقال لي صديق لي: عليك بعنان جارية الناطفي، فأتيتها فأنشدتها:
وما زال يشكو الحب حتى حسبته * تنفس من أحشائه أو تكـلـمـا
فلم تلبث أن قالت:
ويبكي فأبكي رحمة لـبـكـائه * إذا ما بكى دمعًا بكيت له دمـا
إلى أن رثى لِيَ كلُّ من كان مُوجَعًا * وأعرض خِلْوُ القلب عني تبرما"
فانظر إلى كل هذا الاحتفاء بالشاعرة وشعرها وتسليط الضوء على ذكائها وإبداعها وحسن بديهتها وحرص الجميع على تفضيلها على غيرها من الشعراء. لكن الزميل العزيز يضرب صفحا عن هذا كله وغير هذا كله، وهو كثير لا يمكن تجاهله ونكرانه، ليقول إن الشعر عند العرب فن هين القدر على عكس الكتابة النثرية، ولهذا استطاعت النساء أن يكنّ شاعرات. وهو يحيل هنا إلى كتاب ابن الأثير: "الجامع الكبير".
ثم إنه يردّ نبوغ عنان وأمثالها من الشاعرات إلى أنهن كن إماء، فساعدهن وضعهن هذا على التمرد على الثقافة السائدة. يقصد ثقافة تهميش المرأة وإقصائها عن ميدان الأدب. بل إن كتاب ابن طيفور، الذى اعتمد عليه فى الإشارة إلى اهتمام الكتاب العرب القدامى بإبراز الإبداع النسائى، إنما هو، فى نظره واصطلاحه، لون من "الكتابة الضد"، أى الكتابة التى تجرى على عكس ما هو شائع من التهوين من شأن المرأة والزعم بأنها لا وشيجة بينها وبين البلاغة، التى هى فى نظر أصحابها العرب ذكورية لا مدخل للإناث فيها بأى حال (ص19- 20). وهو كلام يشى بأن الزميل العزيز، كما سبق أن أشرت، قد دخل موضوعه وقد عزم على أن يبحث عما يساند موقفه الجاهز مقدَّما، فإن هبت الريح بما لا يشتهى وظهر أن العرب لم يهملوا بلاغات النساء وأنهم لم يكونوا يرون أنه لا شأن لهن بالإبداع الأدبى عَمِلَ على أن يُنْطِق المرجع بما ليس فيه وأعطاه دلالة هى أبعد ما تكون عنه.
وإلى القارئ البيان: فمن المعروف أن العرب كانت تغالى بالشعر مغالاة شديدة حتى لكانوا يَعْزُون عبقرية الشعراء إلى وَحْى الجن، بما يفيد أنهم كانوا يرون الشعر هِبَةً غير عادية لا يسهل على البشر أن يحوزوها دون عون من عالم الشياطين، الذين هم مضرب المثل فى الإنجازات المعجزة. بل لقد قيل إن العرب إذا نبغ فى قبيلة من قبائلهم شاعر احتفلوا أيما احتفال وفاخروا به وتبادلوا التهانى وأقاموا الأفراح وعزفت النساء الموسيقى. ذكر ذلك ابن رشيق فى "باب احتماء القبائل بشعرائها" من كتابه: "العمدة فى محاسن الشعر وآدابه"، إذ قال: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائلُ فهنأتها، وصُنِعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، وتَبَاشَر الرجال والولدان لأنه حمايةٌ لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحسابهم، وتخليدٌ لمآثرهم، وإشادةٌ بذكرهم. وكانوا لا يهنِّئون إلا بغلامٍ يولَد أو شاعرٍ ينبغ فيهم أو فرس تُنْتَج".
وسواء أخذنا هذا النص على حرفيته أو على سبيل المجاز فالمعنى فى الحالتين واضح، وهو أن العرب كانوا يعتزون بالشعر اعتزازا بالغا، ولا يساوون به فى مجال القول شيئا. ثم كيف نصدّق ابن الأثير فى زعمه أن العرب كانت تقلل من شأن الشعر بالقياس إلى الكتابة النثرية وتراه شيئا هينا فى متناول كل أحد حتى الإماء، فى الوقت الذى لم يكن عندهم كتابة تقريبا حتى يمكن القول بأنهم كانوا يضعون الكتابة النثرية فوق الشعر؟ علاوة على أن المرأة العربية فى الجاهلية والإسلام كانت تمارس الخطابة كالرجال، والخطابة نثر من النثر. قد يقال إن ابن الأثير، حين فضل النثر على الشعر، إنما كان يعبر عن رأيه هو. لكن كان ينبغى ألا نتخذ من رأيه الفردى مقياسا نحاكم به الثقافة العربية كلها ونتهمها من ثم مثل تلك الاتهامات الظالمة.
ثم إن ابن الأثير، الذى استشهد به زميلنا العزيز على أفضلية النثر على الشعر بغية التهوين من إبداع النساء الشعرى ونسبة ذلك التهوين إلى العرب القدماء، كان يرى أن الشعر عند العرب أصعب منالا وأعصى إبداعا من النثر. ففى كتابه: "المثل السائر"، وفى معرض موازنته بين الشعر والنثر ورَصْد الفروق بينهما يؤكد أنه مما لا يحسن فى الذوق العربى أن يطوّل الشاعر قصائده ويشقق المعانى ويستوفى الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، قائلا إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معانٍ مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتى بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مَرْضِيّ. والكاتب لا يُؤْتَى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه". أى أن ابن الأثير ليس فقط هو الوحيد الذى قال فى تفضيل النثر على الشعر ما قال، بل هو نفسه يقول بصعوبة نظم الشعر إزاء سهولة الكتابة النثرية. ومع هذا فإن الزميل الكريم يعتمد على نص وحيد مثل هذا متخذا إياه حَكَمًا فى قضية غاية فى الحساسية والخطورة.
وفوق هذا كان الشعر عند القدماء هو ديوان العرب، إذ يشتمل على لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وأديانهم وتاريخهم وحروبهم وقبائلهم وجغرافية بلادهم وأوضاع حياتهم كلها. كما أنه الملجأ الذى يعتصم به من كان يريد من العلماء تفسير القرآن. ولسنا نعلم للنثر شيئا من هذا. فكيف يحاول الزميل العزيز التهوين من شأن الشعر لحساب النثر كى يصل إلى تلك النتيجة الضعيفة البينة الضعف رغم أن معظم الحقائق تسير عكس اتجاه ريحه؟ يقول السيوطى فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن": "قال أبو بكر الأنباري: قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرًا الاحتجاجُ على غريب القرآن ومُشْكِله بالشعر، وأنكر جماعة لا علم لهم على النحويين ذلك، وقالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن. قالوا: وكيف يجوز أن يُحْتَجّ بالشعر على القرآن، وهو مذموم في القرآن والحديث؟ قال: وليس الأمر كما زعموه من أنا جعلنا الشعر أصلاً للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: "إنا جعلناه قرآنا عربيا"، وقال: "بلسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ". وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب، فإذا خَفِيَ علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. ثم أخرج من طريق عِكْرِمَة عن ابن عباس، قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمِسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب. وقال أبو عبيد في فضائله: حدثنا هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عتبة عن ابن عباس أنه كان يُسْأَل عن القرآن فينشد فيه الشعر. قال أبو عبيد: يعني كان يستشهد به على التفسير. قلت: قد روينا عن ابن عباس كثيرا من ذلك، وأَوْعَبُ ما رويناه عن مسائل نافع بن الأزرق".
كذلك هل يصح القول بأن الإماء، بإبداعاتهن الشعرية، إنما كن يتمردن على الثقافة السائدة؟ بأية أمارة يا ترى كان ذلك؟ وأى حزب كان ينفخ فى أنوفهن ويوسوس لهن فى آذانهن كى يتخذن هذا الطريق الوعر؟ وكيف لم تهبّ الثقافة العربية فتقمع هذا التمرد؟ وما الذى كانت تمثله الإماء فى ذلك المجتمع حتى يقال إنهن كن يتمردن على ثقافته بكل تلك الجسارة العجيبة التى لم تستطعها الحرائر، فيسكت الرجال بل يخرسون تمام الخرس؟ أليست الإماء إنما هُيِّئْنَ لتسلية الرجال وإدخال السرور والبهجة على قلوبهم؟ أليس الرجال هم الذين كانوا يهيئونهن لتأدية تلك المهمة؟ فأين التمرد إذن فى هذا الأمر؟ وأنَّى لهن به؟ وكيف تسرب إليهن يا ترى؟ وهذا لو لم يكن النساء العربيات ينظمن الشعر منذ أقدم العصور. وبين أيدينا الشعر الجاهلى، ولسوف نجد فيه عددا كبيرا من النسوة الشواعر اللائى لم يكنّ إماء، بل حُرّات بنات حُرّات. وهناك عدد من كتب الأدب التراثية تؤرخ للإبداع النسائى الحر. فما القول فى هذا؟
يقول السيوطى فى "نزهة الجلساء في أشعار النساء"، والسيوطى كما نعرف من الكتاب المتأخرين أيام كانت الحضارة العربية قد بدأت تَأْسَن وتبتعد عن القيم الإسلامية، كما أن موضوع كتابه هو الشاعرات المتأخرات، أى القريبات من زمنه، يقول ذلك العالم الجليل مثلا عن ثواب بنت عبد الله الحنظلية الهمذانية: "قال ابن الطراح: شاعرة ماجنة ظريفة. ثم روى عن بعض الشيوخ قال: كانت ثواب بنت عبد الله من أشعر النساء وأظرفهن، وكانت من ساكني همدان. فنظرت يوما إلى فتى من أولاد التجار له رواء ومنظر، وَرَدَ همدانَ في تجارة له، فأعجبها ووقع بقلبها، فتزوجته. فلما دخل بها لم يقع منها بحيث تريد، ففَرِكَتْه، وأبغضها هو، ولم يستمر بينهما وِفَاقٌ، فقالت تهجوه:
إني تزوجت من أهل العراق فتى * مرزا ما له عرقٌ ولا باهُ
ما غرني منه إلا حسن طُرّته * ومنطقٌ لنساء الحي هيّاهُ
يقول لما خلا بي: أنت ... * وذاك من خجل مني تغشّاهُ
فقلت لما أعاد القول ثانية: * أنت الفداء لمن قد كان ..."
فهل يجوز الزعم بأن الإماء وحدهن هن اللاتى كن ينظمن الشعر ويمارسن صناعة الأدب؟ وهل يجوز الزعم بأن مجتمعا يتسع صدره لهذا المجون النسائى كان يمارس مع المرأة القمع والتهميش؟ أليس مما له مغزاه أن تتسع النفوس لكتابة مثل ذلك الكلام ولسماعه والتلذذ به والإبقاء عليه؟ ولا ننس أن السيوطى كان، فى المقام الأول، عالما من علماء الدين كما هو معروف. وأنا، وإن كنت لا أرحّب كثيرا بهذا اللون من الشعر، فإن مغزاه فيما نحن بصدده واضح لا يحتمل أخذا ولا ردا. والنساء اللاتى ترجم لهن السيوطى فى كتابه هذا كثيرات العدد.
لقد سبقك، يا زميلى العزيز، د. عبد الله الغذامى إلى القول بأن الإماء هن وحدهن اللاتى كن يمارسن الأدب دون الحرائر، إذ زعم فى كتابه: "المرأة واللغة" (ط3/ المركز الثقافة العربى/ الدار البيضاء/ 2006م/ 99- 100) أن الجهل فى تلك العصور كان زينة للحرة، بينما كانت الثقافة زينة الجارية. وهذا نص ما قال: "لقد كان مجتمع الحكاية يسمح أو يفرض صورة الجارية المثقفة. وكانت الثقافة النسائية نوعا من الرق، وتمثل قيمة شرائية إضافية تزيد من سعر الجارية وتغرى بتسويقها. ولذا كانت الثقافة النسوية معادلا مضادا للحرية والسيادة، والمرأة الحرة لا تمارس الثقافة، سوى استثناءات يسيرة لا تشكل نسبة ذات اعتبار. وكثيرا ما يحدث التكتم على اسم المرأة الحرة إذا ما صارت على قدر من الثقافة المحتكَرة (الصواب: "المقصورة") على الجوارى، مثل حال علية المهدى. فالجوارى وحدهن المثقفات، وهن وحدهن من يحتجن إلى الثقافة. ولذا فالثقافة لهن بضاعة وتجارة مثلما أن جسد الجارية بضاعة وتجارة. ومن شأن هذا النوع من الثقافة أن يكون مادة معروضة للفحص والامتحان والتقييم. إنها إذن ثقافة كشف وعرض. ومن مسلمات ذلك العصر أن جهل الحرة لا يضر، وربما كان مطلوبا ومفضلا، أما ثقافة الجارية فهى مطلب تجارى مُلِحّ. الجهل للحرة، والثقافة للجارية. هذا هو ظرف الحكاية وظرفها الاجتماعى". لكن ألم تقرأ، يا زميلى العزيز، أنت والغذامى ما كتبه أبو الفرج عن ثقافة سُكَيْنة وعائشة بنت طلحة مثلا أو ما ذكرته المراجع الأندلسية عن ولاّدة ونزهون وحميدة وغيرهن من الحرائر اللاتى من ظهر أحرار وحرائر؟ ولم يكن هؤلاء مع ذلك استثناء من القاعدة، وكل ما هنالك أن المسلم، فيما يبدو، لم يكن يحب الكلام عن نساء بيته على الملإ.
يا زميلى العزيز، أَوَلَوْ كانت المرأة العربية بالهوان الذى تصوره فى بحثك أكان عمرو بن كلثوم يطيّر رقبة ملك المناذرة عمرو بن هند لمجرد أن أمه طلبت من أم الشاعر فى أحد المآدب الملكية أن تناولها طبقا بإيعاز من ابنها الملك، فعَزَّ على شاعرنا أن تبدو أمه وكأنها تخدم أم الملك، فما كان منه إلا أن سل سيفا كان فى المجلس الملكى وطير بها رقبته غسلا للعار الذى حسب أنه لصق بأمه. يقول صاحب "الأغانى" فى ترجمته لعمرو بن كلثوم: "قال أبو عمرو حدثني أسد بن عمرو الحنفي وكرد بن السمعي وغيرهما، وقال ابن الكلبي حدثني أبي وشرقي بن القطامي، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ فقالوا: نعم! أم عمرو بن كلثوم. قال: ولم؟ قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو، وهو سيد قومه. فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يُزِير أُمَّه أُمَّه. فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه فضُرِب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب. فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق. وكانت هند عمة امرئ القيس بن حجر الشاعر، وكانت أم ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة، التي هي أم امرئ القيس، وبينهما هذا النسب. وقد كان عمرو بن هند أَمَر أمَّه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطُّرَف وتستخدم ليلى. فدعا عمرو بمائدةٍ ثم دعا بالطُّرَف. فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق. فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فأعادت عليها وألحت، فصاحت ليلى: واذُلاّه! يا لتغلب! فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه، ونظر إلى عمرو بن هند فعرف الشر في وجهه، فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيفٍ لعمرو بن هند معلقٍ بالرواق ليس هناك سيف غيره، فضرب به رأس عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، فانتهبوا ما في الرواق وساقوا نجائبه، وساروا نحو الجزيرة. ففي ذلك يقول عمرو بن كلثوم: ألا هُبِّي بصَحْنِك فاصْبِحينا".
وفى "الروض الأنف" نطالع أخبار غزوة الحديبية فنرى ما كان لأم سَلَمة زوجة رسول الله عليه الصلاة والسلام من موقف عبقرى فات شرفُ اتخاذه الرجال فى ذلك اليوم. ولم يمنع كتّابَ السيرة كونُها امرأة من الإشادة بهذا الموقف العظيم الذى كان له فعل السحر فى نفوس الصحابة بعدما كانوا متصلبين لا يريدون أن ينزلوا على شروط المعاهدة التى تمت بين الرسول عليه السلام ومشركى قريش، إذ رأوا فى تلك الشروط إجحافا وظلما، فمكثوا حزانى مغتاظين لا يريدون أن يتحركوا من موضعهم فيحلقوا رؤوسهم كما طلب منهم رسول الله. يقول السهيلى: "وفي غير رواية ابن إسحق من الصحيح أنه عليه السلام دخل على أم سلمة، وشكا إليها ما لقي من الناس حين أمرهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا لما بهم من الغيظ، فقالت: يا رسول الله اخرج إليهم، فلا تكلمهم حتى تحلق وتنحر. فإنهم إذا رأوك قد فعلت ذلك لم يخالفوك. ففعل صلى الله عليه وسلم، وفعل الناس".
ومن "أخبار النساء" لابن الجوزى نقتطف الحكاية التالية، وفيها يورد ابن الجوزى، رغم ذكوريته، ما يدل على رباطة جأش المرأة وحضور بديهتها وقدرتها على إفحام الرجل، وأى رجل؟ إنه الخليفة ذاته لا أقل. وأى خليفة؟ إنه معاوية بن أبى سفيان داهية العرب: "وفدتْ عَزّة وبثينة على عبد الملك بن مروان فلمّا دخلتا عليه انحرف إلى عزّة، وقال لها: أنت عَزّةُ كُثَيِّر؟ قالت: لستُ لكثيرٍ بعزّة، ولكنّي أمّ بكرٍ الضّمريّة. قال أتروين قول كثيرٍ فيك:
لقد زعمت أني تغيّرت بعدهـا * ومن ذا الذي يا عَزّ لا يتغـيّرُ؟
تغيّر جسمي والخليقة كالـتـي * عهدتَ، ولم يخبر بسرّك مخبرُ؟
قالت: لست أروي هذا، ولكنّي أروي غيره حيث يقول:
كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضـتْ * من الصّمّ لو يمشي بها العُصْم زَلّتِ
صفوحًا فما تلـقـاك إلاّ بـخـيلةً * فمن ملّ منها ذلك الوصفَ مَلّـتِ
ثمّ عطف على بثينة فقال لها: ما رَأَى جميل حين لهج بذكرك بين النّساء كلّهن؟ قالت: الذي رأى فيك النّاس حين جعلوك خليفة من بين رجال العالمين. فضحك حتّى بدت سنٌّ له سوداء كان يخفيها، وأجزل جائزتهما وقضى حوائجهما".
ثم هذه الحكاية التالية: "دخلت ليلى بنتُ عبد الله الأَخْيَلِيّة على الـحَجّاج، وعنده وجوه النّاس وأشرافهم، فاستأذنتْه في الإنشاد، فأذن لها، فأنشدته قصيدةً مدحته بها. فلمّا فرغتْ من إنشاده قال الحجّاج لجلسائه: أتدرون مَنْ هذه الجارية؟ قالوا: لا نعلم، أصلح الله الأمير. ولكنّا لم نر امرأةً أكمل منها كمالاً، ولا أجمل منها جمالاً، ولا أطلق لسانًا، ولا أبين بيانًا، فمن هي؟ قال: هذه هي ليلى الأخيلية صاحبة تَوْبَة بن الـحُمَيِّر، الذي يقول فيها:
نَأَتْكَ بليلى دارُها لا تزورها * وشَطّ نواها واستمرّ مَرِيرُها
ثمّ قال لها: يا ليلى، ما الذي رابه من سفورك حيث يقول:
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلى تبرقعتْ * فقد رابني منها الغداةَ سُفُورُها
قالت: أصلح الله الأمير. لم يرني قط إلا متبرقعةً. وكان أرسل إليّ رسولاً أنّه يُلِمّ بنا، ففطن الحيّ لرسوله، فأعدّوا له وكمنوا. وفطنت لذلك، فلم يلبث أن جاء، فألقيتُ برقعي وسَفَرْتُ له. فلمّا رأى ذلك أنكره وعرف الشّرّ، فلم يزد أن سلّم عليّ وسأل عن حالي وانصرف راجعًا. فقال الحجّاج لها: لله دَرُّكِ! فهل كانت بينكما رِيبة؟ قالت: لا والذي أسأله أن يصلحك. إلى أن قال مرةً قولاً ظننت أنّه خضع لبعض الأمر، فقلت له مسرعةً هذا الشعر. وأنشأت وهي تقول:
وذي حاجةٍ قلنا له: لا تبح بها * فليس إليها ما حَيِيتَ سبـيلُ
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه * وأنتَ لأخرى صاحبٌ وخليلُ
فلا والذي أسأله صلاحك ما كلّمني بشيءٍ بعدها استربتُه حتّى فرّق الدّهر بيني وبينه".
ثم هذه الحكاية أيضا، وهى ترينا كيف أن المرأة، وكانت مجرد جارية، لم تكن عند صاحبها مجرد واحدة من النساء يغنى عنها غيرها، والسلام، بل هى امرأة بعينها لا يغنى غناءها امرأة أخرى، وتظل تحير قلبه بعدما باعها وتلذّعه تلذيعا حتى ليستعين على ذلك بابتهاله إلى الله وكتابة اسمها على راحة يده ورفعه نحو السماء فى كل صلاة لعل الله يستجيب له فيعيدها إليه كرة أخرى، وهو ماكان. ولنقرأ: "قال محمّد بن عبيد الزّاهد: كانت عندي جاريةٌ فبعتُها، فتبعتْها نفسي، فسِرْتُ إلى مولاها مع جماعة إخوانه، فسألوه أن يُقِيلني ويَرْبَح عليّ ما شاء، فأبى. فانصرفت من عنده مهمومًا مغمومًا، فبتّ ساهرًا لا أدري ما أصنع. فلمّا رأيت ما بي من الجهد كتبت اسمها في راحتي واستقبلت القبلة. فكلّما طرقني طارق من ذكرها رفعت يدي إلى السّماء وقلت: يا سيّدي، هذه قصّتي. حتّى إذا كان في السَّحَر من اليوم الثّاني إذ أنا برجلٍ يدقّ الباب، فقلت: من هذا؟ قال: أنا مولى الجّارية. ففتحت، وإذا بها، فقال: خذها بارك الله لك فيها! فقلت: خذ مالك والرّبح. فقال: ما كنت لآخذ دينارًا ولا درهمًا. قلت: فلم ذلك؟ قال: أتاني الليلةَ في منامي آتٍ فقال: رُدّ الجّارية على ابن عبيد الله، ولك الجنّة". أولو كانت مكانة النساء عند الرجال بذلك الهوان وتلك الحقارة التى يؤكدها الزميل العزيز أكانت الأمور تجرى فى القصة على هذا النحو الذى يُبْكِى العيون ويزلزل القلوب؟
وفى "أخبار النساء" كذلك: "قيل لميّة بعد موت قابوس (ومَيَّة هى محبوبة ذى الرُّمَّة الشاعر الأموى الشهير، التى تزوجت غيره فظل مشغولا بها سائر حياته إلى أن مات وهو مفتون بحبها لا يستطيع أن يسلاها): ما كان ضَرَّكِ لو أمتعتِه بوجهك قبل موته؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار، وشماتة الجار. ولقد كان بقلبي منه أكثر ممّا كان بقلبه، غير أنّي وجدت ستره أبقَى لما في الصّدر من المودّة، وأحمدَ للعافية".
وخذ يا زميلى العزيز هذه أيضا كى تدرك أن ما كتبتَه عن وضع المرأة العربية فى بحثك هو كلام لا رأس له ولا ذيل: فـ"مِنْ ذلك ما حكى جميلٌ بن معمر العذري: أنّه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا جميل، حدِّثْني ببعض أحاديث بني عُذْرَة، فإنّه بلغني أنّهم أصحاب أدبٍ وغزلٍ. قال: نعم يا أمير المؤمنين أُعْلِمك أنّ آل بثينة انتجعوا عن حيّهم فوجدوا النُّجْعَة بموضعٍ نازحٍ فظعنوا، فخرجت أريدهم. فبينما أنا أسير إذ غلطتُ الطّريقَ وأجنّني الليل، فلاحت لي نارٌ، فقصدتها حتّى وردتُ على راعٍ في أصل جبل قد انحنى عنه إلى كهفٍ فيه، فسلّمتُ، فردّ عليّ السّلام وقال: أظنّك قد غلطتَ الطّريق؟ فقلت: أجل. فقال: انزل وبِتِ الليلة. فإذا أصبحتَ وقفتَ على القصد. فنزلتُ، فرحَّب بي وأكرمني وذبح شاة وأجّج ناره، وجعل يشوي ويلقي بين يديَّ ويحدّثني في خلال ذلك. ثمّ قام بإزارٍ كان معه فقطع به جانب الخباء ومهّد لي محلاًّ خاليًا، فنمت. فلمّا كان في الليل سمعته يبكي إلى شخصٍ كان معه، فأَرِقْتُ له ليلتي. فلمّا أصبحتُ طلبتُ الإذن فأبى، وقال: الضّيافة ثلاث. فجلست وسألته عن اسمه ونسبه وحاله، فانتسب، فإذا هو من بني عذرة من أشرافهم. فقلت: وما الذي جاء بك إلى هنا؟ فأخبرني أنّه كان يَهْوَى ابنة عمٍّ له وأنّه خطبها من أبيها فأبى أن يزوّجها إيّاها لقلّة ذات يده، وأنّه تزوّجها رجلٌ من بني كلاب وخرج بها عن الحي وأسكنها في موضعه، وأنّه رضي أن يكون لزوجها راعيًا حتّى تأتيه ابنة عمّه فيراها. وأقبل يشكو قديم عشقه لها وصبابته بها حتّى أتى المساء وحان وقت مجيئها. فجعل يتقلقل ويقوم ويقعد، ثمّ وثب قائمًا على قدميه وأنشأ يقول:
ما بال ميّةَ لا تأتي كعادتها؟ * أعاجها طربٌ أم صدّها شُغُلُ؟
لكنّ قلبيَ عنكم ليس يشغله * حتّى الممات وما لي غيركم أملُ
لو تعلمين الذي بي من فراقكمو * لما اعتذرتِ ولا طابت لك العِلَلُ
نفسي فداؤك، قد أحللتِ بي سَقَمًا * تكاد من حَرّه الأعضاءُ تنفصلُ
لو أنّ ما بيَ من سقمٍ على جبلٍ * لزال وانهدّ من أركانه الجبلُ
ثمّ قال لي: اجلس يا أخا بني عذرة حتّى أكشف خبر ابنة عمّي. ثمّ مضى فغاب عن بصري، فلم ألبث أن أقبل وعلى يديه محمول، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخي، هذه ابنة عمّي أرادت زيارتي فاعترضها الأسد فأكلها. ثمّ وضعها بين يديّ وقال: على رِسْلك حتّى أعود إليك. فغاب عن نظري فأبطأ حتّى أيست من رجوعه. فلم ألبث أن أقبل، ورأس الأسد على يديه، فوضعه ثمّ قال: يا أخي، إنّك ستراني ميّتًا. فاعمد إليّ وإلى ابنة عمّي فأَدْرِجْنا في كفنٍ واحدٍ، وادفنّا في قبرٍٍ واحدٍ، واكتب على قبرنا هذين البيتين:
كنّا على ظهرها، والعيش في مهلٍ * والشّمل يجمعنا والدّار والوطنُ
ففرّق الدّهر بالتّصريف ألفتنا * فصار يجمعنا في بطنها الكفنُ
ورُدّ الغنم إلى صاحبها وأَعْلِمْه بقصّتها. ثمّ عمد إلى خناقٍ وطرحه في عنقه، فناشدته الله: لا تفعل. فأبى وخنق نفسه حتى مات. فلمّا أصبحتُ كفّنتهما ودفنتهما وكتبت الشّعر كما أمر، ورددت الغنم إلى صاحبها وأعلمته بقصتهما، فحزن حزنًا خفت عليه الهلاك أسفًا على ما فرّط من عدم اجتماعهما".
ثم خذ هذه كذلك من نفس الكتاب، وهى تدل على ما كان العرب يَرَوْنَه من أن المرأة قد تكون أذكى من الرجل وأبرع وأدهى. ولو كنتَ أنتَ يا زميلى العزيز بطل القصة لقلتُ لك: تعيش وتأخذ غيرها: "كانت لرجلٍ في الأهواز ضيعةٌ بالبصرة، وكان يتعاهدها في حين الانتفاع بالثّمار، فتزوّج بها امرأةً. وانتهى الخبر إلى امرأته الأهوازيّة، فاستخرقت كتابا على لسان بعض إخوانه بالبصرة يعزيه في البصريّة ويقول: الْحَقِ المالَ الذي خلّفْتَ ولا تتأخّر. وأعطت الكتاب لبعض الملاحين وجعلت له جُعْلا. فلمّا وصل الكتاب إلى زوجها وَجِد لموتها وَجْدًا عظيمًا، وقال للأهوازيّة: أصلحي لي سفرتي، فإنّي راكبٌ إلى البصرة. ففعلت. فلمّا أصبح الغد ركب فرسه، وأعطته السّفرة، ثمّ قبضت على عِنَان فرسه وقالت له: ما تُكْثِر اختلافك إلى البصرة إلاّ ولك بها امرأةً تزوّجتها! فقال لها: "والله مالي بالبصرة امرأةٌ"، للذي وقف عليه من الكتاب. فقالت له: لست أدري ما تقول. وإنّما تحلف وتقول: أيّ امرأةٍ لي غيرك طالقٌ ثلاثًا بقول جميع المسلمين. فللذي وقف عليه الرّجل من موت البصريّة قال في نفسه: تلك ماتت، فلِمَ أغيّر صدر هذه؟ فقال لها: كلّ امرأةٍ لي غيرك في جميع الأقاليم فهي طالقٌ ثلاثًا بقول جميع المسلمين. فقالت له: لا تَتْعَبَنّ، فقد طَلَّقْتَ الحبيبة. فندم الرّجل وأُسْقِطَ في يديه".
أما النص التالى فيرينا كيف كان المهدىّ الخليفة العباسى يعامل بناته. يقول عبد الله عفيفى فى كتابه: "المرأة فى الجاهلية والإسلام": "هذه ابنته البانوقة أعز الناس عليه وأحبهم إليه وأوحد أهل دهرها أنقًا وجمالا، فهل يجول في خيالٍ أو يخطر ببالٍ أن يُلْبِسها أبوها ثياب الجند ويقدّمها بين يدي موكبه في طريقه إلى الحج، وهي في نضرة العمر وربيع الشباب، أو كما يقول الطبري "كان المهدي في موكبه يسير وابنته البانوقة تسير بين يديه في هيأة الفتيان عليها قَبَاء أسود ومِنْطَقة وشاشيّة متقلدةً السيف، وقد رفع ثدياها القباء لنهودهما"؟ فهل رأيت كيف أبرز المهدي ربيبة الخلافة وسليلة العباس وعقيلة بني هاشم ونَصَبَها للعيون في زي يجتذب الأبصار ويستقيد النظار؟ ولم تطل حياة البانوقة، بل هصرها الموت في مقتَبل الشباب، فأخلت الطريق لأختيها عُليَّة والعباسة: فأما علية فكانت شاعرة مغنية جميلة متجملة روت لها كتب الأدب كثيرا من الشعر الغنائي، وفي كثير ما رووا تشبيبها بفتيين من مماليك الرشيد يُدْعَى أحدهما طَلاًّ والآخر رَشًا. وربما زجرها الرشيد فصحّفت اسميهما: وجعلت أولهما ظِلاًّ، والثاني زينب، وهما تصحيف طل ورشا. ومن قولها في طل:
أيا سَرْوَة البستان، طال تشوُّقي * فهل لي إلى "ظل" إليك سبيلُ؟
متى يلتقي من ليس يُقْضَى خروجه * وليس لمن يَهْوَى إليه دخولُ
عسى الله أن نرتاح من كربة لنا * فيلقى اغتباطًا خلةٌ وخليلُ
ومن قولها فيه كذلك:
سلم على ذاك الغزالِ * الأهيف الحلو الدلالِ
سلم عليه وقل له: * يا غُلَّ ألباب الرجالِ
خليتَ جسمي ضاحكا * وسكنت في "ظل" الحجالِ
وبلغتَ منَّي غايةً * لم أدر فيها ما احتيالي
ومن قولها في رشا:
وجد الفؤاد "بزينبا" * وَجْدًا شديدًا متعبا
أصبحتُ من كلفي بها * أُدْعَى سقيما مُنْصَبا
ولقد كَنَيْتُ عن اسمها * عمدا لكيلا تغضبا
وجعلت زينب سترةً * وكتمت أمرا معجبا
قالت وقد عز الوصا ل ولم أجده مذهبا:
والله لا نلتَ المودّ ة أو تنالَ الكوكبا
ومن قولها فيه، وقد حلف ألا يشرب النبيذ:
قد ثبت الخاتم في خنصري * إذ جاءني منك تجنيكِ
حرّمتُ شرب الراح إذ عِفْتَها * فلستُ في شيء أعاصيكِ
فلو تطوعتَ لعوَّضْتَني * منه رضاب الريق من فيكِ
فيالها عنديَ من نعمة * لستُ بها ما عشت أجزيكِ
يا زينبا قد أرَّقَتْ مقلتي * أمتعني الله بُحبِّيكِ
وكان الرشيد يستمع غناءها غير متحرج. وذكر صاحب الأغاني أنها تغنت، وأخوها يُزمّر لها، بقولها:
تحبَّبْ، فإنّ الحب داعية الحبِّ * وكم من بعيد الدار مستوجب القربِ
تَبصَّر، فإن حُدَّثْتَ أن أخا هوًى * نجا سالما فارْجُ النجاة من الحبِّ
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا*فأين حلاوات الرسائل والكُتْب؟".
وها هو ذا العباس بن الأحنف يتذلل غاية التذلل لحبيبته فوز ويراها ملكا متوجا على عرش قلبه لايستطيع أن يخالف لها أمرا، وحوراء من حُور الجنان ليس لها فى الفتنة والجمال نظير. وهو يستبطئ المنية كلما تأخرت رسائلها إليه. بل إنه لعلى أتم استعدادٍ لإفناء نفسه إرضاء لها، فلتفعل به وبقلبه ما تشاء ما دام هذا يسعدها. فكيف يقال إن المرأة العربية كانت محتقرة من الرجل لا يراها إلا نعلا ولا تمثل له إلا وعاء يفرغ فيه شهوته دون أية عاطفة؟ لنقرإ الأبيات التالية:
أَتاني كِتابٌ مِن مَليكٍ بِخَطِّهِ * فَما أَعظَمَ النُعمى، وَما أَضعَفَ الشُكْرا!
فَظَلَّت تُناجيني بِما في ضَميرِها * أَنامِلُ قد خَطَّت بِأَقلامِها سِحْرا
وَإِني لأَستَبطي المَنِيَّةَ كُلَّما * ذَكَرتُ التي لا أَستَطيعُ لَها ذِكْرا
فَلمّا تَفَهَّمْتُ الكِتابَ رَدَدتُهُ * إِلَيها، وَلَم أَبعَث بِرَدٍ لَهُ سَطرا
* * *
وَحَوراءَ مِن حُورِ الجِنانِ مَصُونَةٍ * يَرى وَجهَهُ في وَجهِها كُلُّ ناظِرِ
وَقَفتُ بِها لا أَستَطيعُ إِشارَةً * وَلا نَظَرًا، وَالطَّرْفُ لَيْسَ بِصابِرِ
فَما طَرَفَتْ عَينايَ لَمّا تَعَرَّضَت * لِشَيءٍ سِوى إيمائِها بِالمَحاجِرِ
تَواقَفَ مَعشوقانِ ثُمَّ تَناظَرا * فَما مَلَكا فَيْضَ الدُموعِ البَوادِرِ
* * *
أَمَتّيني، فَهَل لَكِ أَن تَرُدّي * حَياتي مِن مَقالِكِ بِالغُرورِ؟
فَقَد أَحيا بِقَولِكِ لي جَوابًا: * نَعَم أَو لا، فَمُنّي بِاليَسيرِ
أَرى حُبّيكِ يَنْمي كُلَّ يَومٍ * وَجَورُكِ في الهَوى عَدلٌ، فَجوري
وَإِن أَرضاكِ هَجري فَاهْجُريني * فَما أَرضاكِ يُنْمِي لي سُروري
واقرأ، يا زميلى العزيز، هذه أيضا لبهاء الدين زهير، وفيها يبتهل إلى حبيبته علها ترضى، ويناديها بـ"يا مولاى"، ويجعل من حبه لها جهادا، ومن فوزه منها بنظرةٍ فتحا مبينا:
أُحَدِّثُهُ إِذا غَفَلَ الرَقيبُ * وَأَسأَلُهُ الجَوابَ فَلا يُجيبُ
وَأَطمَعُ حينَ أَعطِفُهُ عَساهُ * يَلينُ لأَنَّهُ غُصنٌ رَطيبُ
أَذوبُ إِذا سَمِعتُ لَهُ حَديثًا * تَكادُ حَلاوَةٌ فيهِ تَذوبُ
وَيَخفِقُ حينَ يُبصِرُهُ فُؤادي * وَلا عَجَبٌ إِذا رَقَصَ الطَّرُوبُ
لَقَد أَضحى مِنَ الدُنيا نَصيبي * وَما لِيَ مِنهُ في الدُنيا نَصيبُ
فَيا مَولايَ، قُل لي: أَيّ ذَنبٍ * جَنَيتُ؟ لَعَلَّني مِنهُ أَتوبُ
أَراكَ عَلَيَّ أَقسى الناسِ قَلْبًا * وَلي حالٌ تَرِقُّ لَهُ القُلوبُ
حَبيبٌ أَنتَ، قُل لي، أَم عَدُوٌّ؟ * فَفِعلُكَ لَيسَ يَفعَلُهُ حَبيبُ
حَبيبي فيكَ أَعدائي ضُروبٌ * حَسودٌ عاذِلٌ واشٍ رَقيبُ
وَها أَنذا وَحَقِّكَ في جِهادٍ * عَسَى مِن وَصْلِكَ الفَتحُ القَريبُ
سَأُظهِرُ في هَواكَ إِلَيكَ سِرّي * وَما أَدري أَأُخطِئُ أَم أُصيبُ
أَرى هَذا الجَمالَ دَليلَ خَيرٍ * يُبَشِّرُني بِأَنّي لا أَخيبُ
وما العباس بن الأحنف وبهاء الدين زهير إلا مثالان اثنان من مئات الأمثلة من المحبين المدلهين فى هوى محبوباتهم، بل آلافها. وكلهم مستعدون لبذل أرواحهم فداء للمحبوبة فى سبيل نظرة أو كلمة، بَلْهَ رسالة. وكنت منذ مدة غير بعيدة أراجع قصة قيس وليلى فى كتاب "الأغانى" والآلام الجهنمية التى قاساها قيس جراء حرمانه من حبيبة فؤاده وهيمانه فى البوادى يعيش مع الوحش وقد فقد عقله أو كاد، ومحاولات أبيه أن يعيد لابنه رشده، وهو يتأبى ويبتهل إلى الله أن يزيده عذابا فوق العذاب الذى يقاسيه رفضا منه أن ينسى ليلى رغم كل شىء، فكدت والله أبكى شفقة عليه. وما سبب ذلك كله؟ إنها المرأة، التى يقول الزميل العزيز إنها كانت عند العرب مجرد نعل لا تزيد عن ذلك، أو وعاء لإفراغ الشهوة ليس إلا. واقرأ، أيها القارئ، حكاية ابن زيدون مع ولادة، والنونية العبقرية التى يندر أن يكون لها فى الأدب، عربية وعجميه، مثيل، والتى ألهمه إياها ما تجرعه من الصد والهجر على يد الحبيبة القاسية التى وضعها الشاعر فوق مستوى البشر. ثم يزعم الزميل العزيز، سامحه الله، أن العرب كانوا يحتقرون المرأة ولا يرونها شيئا له قيمة على الإطلاق.
هذا، وقد مر بنا قول زميلنا إن المرأة العربية لم تكن فى نظر الرجال بقادرة على الجدال والرد. فها نحن الآن أمام امرأة عربية، وهى مجرد مثال لكثيرات سواها، تخاصم معاوية وتَخْصِمه وتُفْحِمه هو ومن معه فى المجلس رغم أنها كانت وحيدة. وحتى لو قلنا إن الخبر مصنوع، فإن دلالته تبقى شاهدة بأن الرجال لم يكونوا يَرَوْن النساء عاجزات عن مجاوبة الرجال فى المجالس الغاصّة وإفحامهم. ففى "بلاغات النساء" لابن طيفور: "قال أبو موسى عيسى بن مهران: حدثني محمد بن عبيد الله الخزاعي يذكره عن الشعبي، ورواه العباس بن بكار عن محمد بن عبيد الله، قال: استأذنتْ سودة بنت عمارة بن الأسكّ الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها. فلما دخلت عليه قالت: هيه يا بنت الأسكّ! ألستِ القائلة يوم صفين:
شمِّرْ كفعل أبيك يا ابن عمارةٍ * يوم الطعان وملتقى الأقرانِ
وانصر عليًّا والحسين ورهطه * واقصد لهندٍ وابنِها بهوانِ
إن الإمام أخو النبي محمد * عَلَم الهدى ومنارة الإيمانِ
فَقِهِ الحتوفَ وسِرْ أمام لوائه * واقدم بأبيضَ صارمٍ وسنانِ
قالت: أي والله ما مِثْلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب. قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حُبّ علي عليه السلام واتباع الحق. قال: فوالله ما أرى عليك من أثر علي شيئا. قالت: أَنْشُدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى وتذكار ما قد نُسِيَ. قال: هيهات. ما مِثْلُ مقام أخيكِ يُنْسَى، وما لقيتُ من أحد ما لقيتُ من قومك وأخيك. قالت: صدق قولك. لم يكن أخي ذميم المقام ولا خفيّ المكان. كان والله كقول الخنساء:
وإنّ صخرًا لتأتمّ الهداة به * كأنه عَلَمٌ في رأسه نارُ
قال: صدقتِ. لقد كان كذلك. فقالت: مات الرأس، وبتر الذنب، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيتُ منه. قال: قد فعلتُ، فما حاجتك؟ قالت: إنك أصبحت للناس سيدا، ولأمرهم متقلدا. واللهُ سائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا. ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزك ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة. هذا بُسْر بن أرطاة قدم علينا من قِبَلك، فقتل رجالي وأخذ مالي. يقول لي: فوهى بما أستعصم الله منه وألجأ إليه فيه. ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة. فإما عزلتَه عنا فشكرناك، وإما لا فعرَفْناك. فقال معاوية: أتهددينني بقومك؟ لقد هممتُ أن أحملكِ على قتب أشرس فأردك إليه يُنْفِذ فيك حكمه. فأطرقت تبكي، ثم أنشأت تقول:
صلى الإله على جسم تضمَّنه * قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقَّ لا يبغي به بدلا * فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال لها: ومن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب عليه السلام. قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟ قالت: قَدِمْتُ عليه في رجل ولاه صَدَقتنا قَدِم علينا من قِبَله، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت عليًّا عليه السلام لأشكو إليه ما صنع بنا، فوجدته قائما يصلي. فلما نظر إليّ انفتل من صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم إنك أنت الشاهد عليّ وعليهم أني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك. ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجواب فكتب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. قد جاءتكم بيّنة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تَعْثَوْا في الأرض مفسدين. بقية الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين. وما أنا عليكم بحفيظ. إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام". فأخذتُه منه، والله ما ختمه بطِينٍ ولا خَزَمه بِخِزَام، فقرأته. فقال لها معاوية: لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئًا ما تفطمون. ثم قال: اكتبوا لها بِرَدّ مالها والعدل عليها. قالت: إليّ خاصٌّ أم لقومي عامٌّ؟ قال: ما أنت وقومك؟ قالت: هي والله إذن الفحشاء واللوم. إن لم يكن عدل شامل، وإلاّ فأنا كسائر قومي. قال: اكتبوا لها ولقومها".
ولا ينبغى أن ننسى شهرزاد، التى احتفى بها الرجال مؤلفو "ألف ليلة وليلة" وجعلوها تنتصر على واحد من أبناء جنسهم. ولم يكن هذا الذى انتصرت عليه شهرزاد رجلا عاديا، بل ملكا من الملوك. وخلاصة الأمر أن كتاب "الف ليلة وليلة" إنما يقوم على أنه كان هناك ملك يدخل كل ليلة بفتاة عذراء جميلة يقضى معها ليلته، ثم يقتلها فى الصباح انتقاما فى جنس النساء كله من زوجته الخائنة. وكان لذلك الملك وزير له ابنة جميلة عاقلة قرأت الكتب وسير الملوك وأخبار الأمم، وجمعت ألف كتاب من كتب التواريخ والشعر فيما يُرْوَى عنها، فقالت لأبيها: زَوِّجْنى من هذا الملك الذى يقتل فتاة كل يوم: فإما استطعت إنقاذ بنات جنسى ووضع حد لتلك الوحشية المفرطة، وإما قتلنى الملك مع من قتلهن قبلى. ولما دخل بها شرعت تقص عليه حكاية مسلية غاية التسلية والتشويق. وحين بلغت الحكاية ذروة تشويقها مع مطلع الفجر توقفت شهرزاد، ووعدته أن تكملها له الليلة القادمة. ولما كانت الليلة القادمة صنعت ما صنعته فى أول ليلة... وهكذا دواليك، إلى أن حبلت من الملك وأنجبت. وهنا كان قد وقع فى حبها فلم تسمح نفسه بقتلها، فضلا عن رغبته فى الإبقاء على أم ابنه. وبهذه الطريقة نجحت شهرزاد فى الانتصار على المك شهريار، التى تحولت شخصيته بفضل تلك الحكايات من شخصية شريرة إلى شخصية خيرة. أفلو كان الثقافة العربية تحقر من شأن المرأة أكانت تتركها تنتصر على الرجل؟ وأى رجل؟ إنه الملك ذاته! وفى أى ميدان؟ فى ميدان الحكمة والخير وحسن التدبير!
وكان الزميل العزيز قد أورد عن عمر بن الخطاب كلمة فى تحقير شأن المرأة وتشبيهها بالنعل قلتُ فيها: إن كان عمر قالها حقا إنها لرأيه هو لا يلزم أحدا سواه. لكنى فى الواقع لست مطمئنا إلى أنه قالها. أما إذا كان قد قالها رغم هذا، وهو ما أستبعده تمام الاستبعاد، فلا أحسبها فى أحسن الأحوال إلا كلمة طائرة لا تعبر عن رأيه الحقيقى فى هذا الموضوع. ذلك أن شخصية عمر ووقائع حياته لا يتفق معها هذا الرأى، فقد كان واسع الأفق نافذ النظر عميق الفهم للدين رحيما بالإنسان على شدةٍ ظاهريةٍ كانت فيه تخفى وراءها عطفا ومسامحة. ولقد جمعتُ بعض ما قاله فى النساء فوجدته لا يستقيم مع تلك العبارة الغريبة: فمثلا فى تقسيمه لأنواع النساء نجده يقول: "النساء ثلاث: هينة لينة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش عليهم. وأخرى وعاء للولد. وأخرى غُلٌّ قَمِلٌ يضعه الله فى عنق من يشاء، ويفكّه عمن يشاء" (على الطنطاوى وناجى الطنطاوى/ أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر/ ط8/ المكتب الإسلامى/ بيروت/ 1403هـ- 1983م/ 270). فانظر كيف يجعل النساء ثلاثة أنواع لا نوعا واحدا كما فى الكلمة الآنفة، فضلا عن أنه لم يقل إن أمر المرأة الشكسة هو فى يد زوجها: يبقيها أو يخلعها كما يحب، وفى الوقت الذى يحب، بل جعله فى مشيئة الله: إن شاء خلَّصه من شرها، وإن شاء تركه يَصْلَى نارها. وهذا وذاك مما يناقض ما تقوله الكلمة المذكورة.
وسمع، رضى الله عنه، امرأة فى الطواف تقول:
فمنهن من تُسْقَى بماءٍ مبرَّدٍ * نُقَاخٍ، فَتِلْكُمْ عند ذلك قَرَّتِ
ومنهن من تُسْقَى بأخضرَ آجِنٍ * أُجَاجٍ، ولولا خشية الله فَرَّتِ
ففهم شكواها فبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقها، فاختار الدراهم وطلقها (المرجع السابق/ 271). أفلو كان رَأْىُ عمر حقا هو أن المرأة نعل فى قدم الرجل يلبسها وقتما يشاء، ويلقيها عن قدمه وقتما يشاء، أكان يهتم لما قالته تلك المرأة عن زوجها؟ بل أكان يحضر زوجها ويخيره ذلك التخيير الذى إنما يدل على إيمانه بحق المرأة فى أن تسعد بحياتها الزوجية وتنال حقها كاملا حتى فى أدق التفاصيل؟ وعلى الناحية الأخرى هناك الرواية التى أوردها الجاحظ فى "البيان والتبيين" من أن رجلا أراد تطليق زوجته لأنه لم يعد يحبها، فكان جواب عمر عليه: أَوَكُلّ البيوت تُبْنَى على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟ يذكّره بحق العِشْرة التى كانت بينهما، وبحق المرأة فى إكرام زوجها لها ورعايته إياها. أفهذا رَدُّ مَنْ يرى أن المرأة ليست سوى نعل فى قدم زوجها يفعل بها ما يريد دون تعقيب أو تثريب؟
كذلك جاء رجل ذات مرة إلى عمر يشكو إليه خُلُق زوجته، فوقف بالباب ينتظره حتى يخرج، فسمع من الداخل صوت امرأته تستطيل عليه بلسانها، وهو ساكت لا يرد عليها، فانصرف الرجل قائلا لنفسه: إذا كان هذا هو حال الخليفة، فكيف حالى أنا؟ فعندئذ خرج عمر فرآه منصرفا، فناداه: ما حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، جئت أشكو إليك خلق زوجتى واستطالتها علىّ، فسمعت زوجتك كذلك، فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين فكيف حالى؟ فقال له عمر: تحملتُها لحقوق لها علىّ (على الطنطاوى/ أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر/ 298). أفهذا كلام رجل يرى المرأة نعلا؟
وتدلَّى رجل بحبل ليشتار عسلا فقعدت امرأته على الحبل وهددته بأنه إذا لم يطلقها فسوف تقطع الحبل، فطلقها. ثم رفع الأمر إلى عمر فأبانها منه، أى أمضى الطلاق الذى حصلت عليه من زوجها بالإكراه (السابق/ 198). فما معنى ذلك؟ معناه أنه أمضى رغبة المرأة رغم أن الطلاق وقع إكراها ولم يكن بإرادة الزوج. إلا أنه رضى الله عنه لم يشأ أن يجبر الزوجة على البقاء مع رجل لا تحبه. ومرة أخرى نسأل: أهذا صنيع رجل لا يرى فى المرأة إلا أنها نعل يلبسه الزوج متى أراد، ويخلعه متى أراد؟
ومثلها الحكاية التالية: خرج، رضى الله عنه، ذات ليلة يعسّ بالمدينة وهو خليفة، إذ سمع من داخل بيت صوت امرأة تقول شعرا تشتكى فيه غياب زوجها عنها فى ميدان الجهاد وتعبر عن شدة شوقها إليه وتقول إنه لولا مخافتها من الله لفرّطت فى عرضها. فما كان من عمر إلا أن أحضر ابنته حفصة وسألها عن المدة التى يمكن أن تصبرها المرأة على غياب زوجها، فقالت: شهرا واثنين وثلاثة، وفى الرابع يَنْفَد الصبر. فجعل رضى الله عنه ذلك أَجَل غياب الجند المسلم فى ميادين الجهاد عن زوجاتهم (السابق/ 252- 354). أفلو كان عمر يرى حقا أن المرأة ما هى إلا حذاء فى قدم زوجها أكان يضع مشاعر تلك المرأة ورغبتها الجسدية فى اعتباره فيحضر ابنته ويستشيرها فى ذلك الأمر، ثم يُتْبِع الشورى بالعمل ويصدر أمرا بألا يغيب الجنود المبعوثون للجهاد عن زوجاتهم أطول من أربعة أشهر؟
وفى "شرح نهج البلاغة" لابن أبى الحديد (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم/ دار احياء الكتب العربية/ 12/ 67- 68): "جاء رجل إلى عمر فقال: إن بنتا لى واريتُها في الجاهلية، فاستخرجناها قبل أن تموت، فأدركتْ معنا الاسلام فأسلمت. ثم قارفتْ حدا من حدود الله، فأخذتِ الشفرةَ لتذبح نفسها، فأدركناها وقد قطعتْ بعض أوداجها، فداويناها حتى برئت وتابت توبة حسنة. وقد خطبها قوم، أفأخبرهم بالذى كان من شأنها؟ فقال عمر: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرتَ بشأنها أحدا لأجعلنك نكالا لأهل الامصار! أَنْكِحْها نكاح العفيفة السليمة". ولا أحسب هذه الحكاية التى كادت أن تدمى قلبى تحتاج من جانبى إلى أى تعقيب، فمغزاها فيما أريد منها واضح تمام الوضوح. لكن اللاهثين خلف مقولات الحداثة اللعينة التى لا تستريح ولا يهدأ لها بال إلا إذا أَرَّثَتْ نار العداوة والبغضاء بين الرجال والنساء يتجاهلون هذا كله، ويعضون بالنواجذ على عبارة طائرة لا راحت ولا جاءت جاعلين من حبتها قبة، إن كانت حبّةً أصلا.
ولقد سبق أن أشرت إلى أن الإسلام، حين أعطى المرأة حقوقها وكرمها وعطف عليها ورفع شأنها ودعا الرجل إلى الرقة معها واللطف بها، لم يكن خاضعا لحزب نسائى، بل فعل كل هذا ابتداءً من تلقاء نفسه. وفى العصر الحديث حين قامت حركة ترقية وضع المرأة كان القائمون بها كلهم من الرجال، مثل رفاعة رافع الطهطاوى وأحمد فارس الشدياق وبطرس البستانى وقاسم أمين ومعروف الرصافى ومحمد مهدى الجواهرى والطاهر الحداد ومحمد سعيد الزاهري، علاوة على أن السلطات الحكومية فى البلاد العربية بوجه عام كانت مع المرأة وتعليمها وإسناد الوظائف العامة إليها ومساواتها بالرجل فيما تتقاضاه من أجر... إلخ. أفليس لهذا كله دلالته؟
وأخيرا فإن نظرة سريعة إلى اللغة الإنجليزية، وهى مجرد مثال على اللغات الأوربية، كفيلة بأن ترينا أن ما أخذه الزميل العزيز على البلاغة العربية موجود فى تلك اللغة أيضا. ولو أنه تريث فيما كتب لكان له رأى آخر. ونكتفى من لغة جون بُلْ ببعض الأشياء فنقول مثلا إن كلمة "woman" تعنى، فيما تعنيه: "الخادمة والخليلة والمحظية والمومس". ومن ناحية أخرى تستخدم الإنجليزية للمرأة كلمات مثل: "bitch, chick, bird, babe, skirt, doll, distaff, rib, weaker vessel"، ومعناها على الترتيب: "كلبة، كتكوت، طائر، طفل رضيع، فستان، دمية، عصا المغزل، ضلع، الوعاء الضعيف". ومن استخدامات اللغة الإنجليزية أيضا استعمالها كلمة "fury" للمرأة الحقود، ومعناها الأصلى: "الضراوة والغضب الشديد والعنف البالغ"، فتأمَّلْ. كذلك كثيرا ما يشيرون إلى الزوجة فى لغة جُون بُلْ بقولهم: "the little woman, ball and chain, old lady, old woman, rib". ومن التعبيرات التى تتعلق بالمرأة قولهم: "Woman's work, Hell knows no fury like a woman scorned". ويستخدم المتحدثون بالإنجليزية أيضا كلمتى "to ride" و"to mount" (ومعناهما الأصلى: "يَرْكَب، يمتطى") للدلالة على إتيان الرجل للمرأة كما فى لغة الضاد بالضبط. كما أن كلمة "pussy"، التى كثيرا ما يستعملونها فى الإنجليزية للفَرْج، تعنى أيضا عندهم "قطة، جملا، أرنبًا بَرِّيًّا". بل إنها تطلق كذلك على نوع النساء كله بالمعنى الجنسى، وعلى المرأة بوصفها طرفا فى الجماع، ثم على الجماع ذاته. وفى الإنجليزية نراهم يستعملون كلمة "bull" (الثور، الفحل) بمعنى "قوى، ضخم، كبير الحجم، سمين". وبالمثل نراهم يستعملون "dog" بمعنى "رجل أو إنسان" كما فى قولهم: "you lucky dog"، مثلما تعنى "bell cow" "قائدا أو مرشدا" مثلا. ويشرح "Concise Oxford English Dictionary" الصفة "manly" (أى "رجولى") بأنها تعنى الشخص الحائز على الصفات الطيبة المرتبطة فى الذهن بجنس الرجال، مثل الشجاعة والقوة. وهذه عبارة المعجم المذكور: "manly: having or denoting those good qualities traditionally associated with men, such as courage and strength". وعلى العكس من ذلك يشرح قاموس "WordNet 2.0" لكلمة "womanly"، إذ جاء فيه أنها الشىء الذى يتصف بالخصائص الأنثوية كالرقة والشفقة: "womanly: befitting or characteristic of a woman especially a mature woman; "womanly virtues of gentleness and compassion"". ليس ذلك فقط، بل هناك فلاسفة ومفكرون أوربيون يؤكدون أن المرأة أقل ذكاء من الرجل: منهم على سبيل المثال أرسطو الفيلسوف الإغريقى، وبولس مؤسس المسيحية التثليثية، وماتيو دى بولونى الشاعر الفرنسى، وسيباستيان- روش نيكولا دى شامفور السياسى الفرنسى، وهربرت سبنسر الفيلسوف البريطانى، وسيزار لومبروزو العالم الإيطالى، وأوسكار وايلد الكاتب المسرحى البريطانى. وقد أشار قاسم أمين إلى بعضهم فى كتابه: "Les Egyptiens"، الذى وضعه بالفرنسة ردًّا على افتراءات دوق داركور على المصريين المسلمين فى كتابه: "L'Egypte et les Egyptiens". ويمكن القارئ أن يجد كلام أمين فى هذا الموضوع فى "الأعمال الكاملة لقاسم أمين" (انظر ص249 من "الأعمال الكاملة لقاسم أمين/ تحقيق د. محمد عمارة/ دار الشروق/ 1989م).
ولعله يكون من المستحسن والمفيد أن أنقل شيئا مما كتبه قاسم أمين فى الفصل الخاص بـ"النساء" من كتابه الذى نحن بصدده. قال: "لقد سبق أن قلت إن للنساء (يقصد النساء المصريات المسلمات) حرية السلوك المطلقة. فإذا نظرنا من وجهة نظر أخرى لرأينا أن الوضع الذى أعطاه الإسلام للمرأة هو أكثر تميزا مما تتمناه. فهى كزوجة تتمتع بجميع حقوقها المدنية، فلها الأهلية القانونية لممارسة أى عمل من أعمال الإدارة أو نقل الملكية دون حاجة للحصول على إذن زوجها أو تصريح من المحكمة. إنها تستمد أهليتها من شخصيتها ذاتها، وليست للقِوَامة الزوجية هنا إلا دور معنوى خالص. فليس عليها حين تريد الشراء أو البيع أو الهبة أو تَلَقِّىَ منحة أو التقاضى إلا مشاورة نفسها هى، بينما لا تستطيع أختها الفرنسية ممارسة أى عمل من ذلك إلا إذا راق لسيدها وزوجها أن يأذن لها بذلك. والمرأة الفرنسية حين تتزوج تصبح كائنا ناقصا وترتدّ إلى الطفولة ثانيا. والقانون يعدها ناقصة الأهلية ويضعها تحت وصايته. إنها باختصار محرومة من ممارسة إدارة ثروتها الخاصة. وهذه أشياء لا يمكن لمسلم أن يفهمها، حتى إن جميع الحجج التى ساقها لى أستاذى القدير لمادة القانون الدولى بجامعة مونبليه فى تبرير إنقاص أهلية المرأة لم تنجح فى إقناعى، ولا أعتقد أنها تقنع غير الأزواج المستفيدين من هذا الوضع! وإذا كانت هناك نساء فى أوروبا يدّعين أن الرجال وضعوا القانون لصالحهم فإنهن محقّات فى ذلك. ولست فى حاجة للقول بأننا نتمنى النجاح لهؤلاء السيدات الجسورات اللاتى يكافحن فى بطولةٍ لتغيير هذا الوضع الذى ينطوى على ازدراء بجنسهن ولتحقيق أهليتهن فى ممارسة حقوقهن المدنية" (المرجع السابق/ 250). فما رأى الزميل العزيز؟
والآن، ونحن نضع القلم ونغلق الموضوع، لا مانع من الكلام قليلا عن بعض الأمور الشخصية المتصلة بقضيتنا، فقد جاءنا أنا وزوجتى أول مولود لنا فى أوكسفورد سنة 1977م، وكانت بنتا، وشعرنا بالسعادة لمجىء البنت. وذات عصرية كنا جالسَيْن فى حديقة المسكن الجامعى للمتزوجين حيث كنا نقيم فى شمال المدينة، وكانت تسكن فى الشقة المجاورة لشقتنا سيدة أمريكية ترافق زوجها الذى يدرس مثلى فى الجامعة، فأتت وجلست معنا، وأخذَنا الحديث إلى الكلام عن خلفة الذكور والإناث، فسألتنى بصفتى رجلا عن شعورى تجاه مولودتنا الأولى، فأعربت لها عما أشعر به، ثم أردفت فى ذات الوقت أن بعض الناس يؤثرون الولد، فعقبت قائلة إنهم فى أمريكا يفضلون الأولاد على البنات، وإن حماتها تفخر بها لأنها أنجبت جفرى. وقد دهشت لهذا الكلام لأنى كنت أظن أنهم فى أمريكا لا يبالون بمثل هذا الأمر. وأزيد القارئ من الشعر بيتا فأقول إن المولود الثالث لنا بنت أيضا. أى أننا بدأنا ببنت، وختمنا ببنت، وبينهما ولد. وأذكر أننى، ولا أدرى لماذا، كنت أتوقع أن يكون ذلك المولود الثالث ولدا. فلما وضعت زوجتى الطفل ذهبت إليها فى مستشفى الطائف للولادة، وكانت مرهقة ولا تزال تحت تأثير المخدر، فوجدت البنت الصغيرة بجوارها فى الحاضنة الزجاجية التى يرقد فيها الأطفال الرُّضَّع هناك. فما إن أمسكت بها وتأكدت أنها بنت لا ولد حتى جاشت نفسى وكادت الدموع تطفر من عينى، إذ أحسست بعطف وحنوّ عجيبين على تلك المخلوقة الجميلة الرقيقة الضعيفة العاجزة التى وهبنيها الله سبحانه وتعالى رغم حبوب منع الحمل فكسرت الحواجز وأتت رغم أنفنا لتكون سعادة لنا وبهجة لحياتنا. ومن يومها وأنا أحبها حبا خاصا، وإن لم يمنع هذا من معاقبتها عند اللزوم. إلا أنها بكل تأكيد قد ملأت حياتنا حبورا ونورا. ومن ناحية أخرى فلست أذكر أبدا أننى آثرت ابنى الوحيد فى شىء على أختيه ولا دللته أكثر من أى منهما. وأنا عادة معتدل فى مثل تلك الأمور، فلا تدليل ولا قسوة، وإن كنت لا أخلو من الميل إلى التدليل مرة أو الشدة أخرى حسب الظروف.
ولا أذكر أيضا أننى حقرت من النساء أبدا رغم ضيقى الشديد أحيانا ببعض تصرفات زوجتى أو بطريقة تفكيرها كما يقع بين كل الأزواج، بل أعزو اختلاف الطريقة التى يفكر بها كل منا عن الآخر فى بعض الأحيان إلى أننا جنسان مختلفان رغم اتفاقنا فى البشرية والخطوط العامة التى تربط البشر بعضهم ببعض ذكرانا وإناثا، وأن هذه حكمة الله لا دخل للنساء فيها ولا للرجال، فما بأيدينا خُلِقْنا مختلفين، بل هذه سنة الحياة. وعادة ما أستشير زوجتى، وكثيرا ما أخذت برأيها، وكثيرا ما أهملته. ولكنها قد وقفت معى مواقف يعز على أغلب الرجال أن يتخذوها، وهو ما يجعلنى أتغاضى عما أعتقده عيوبا فيها، وإن كنت لا أدّعى لنفسى دوام التحلى بسعة الصدر والتفاهم أو خلوّى من العيوب، والعيوب الشنيعة، وعلى رأسها افتقارى عادةً إلى طول البال. وأرانى أعطف على البنات والنساء وأقول إنه إذا كان بعض النساء قد خدعن الرجال فما أكثر الرجال الذين دوّخوا النساء السَّبْع دَوْخات وأكلوا حقوقهن ومصمصوا عظامهن ورَمَوْهُنّ فى نهاية المطاف رمية الكلاب. إلا أننى رغم هذا أقف ضد قوانين الأحوال الشخصية التى تضارّ الرجل وتُنْكِيه ظلما وعدوانا لمصلحة المرأة كما يزعمون، على حين أن السبب الحقيقى هو مغازلة الغرب والعمل على إرضائه والبرهنة له على أننا نِسْوِيّون بما فيه الكفاية.
وأنا، بعد، أرجع إلى أصل ريفى، وقد تعلمت فى الكُتّاب والأزهر حتى نهاية المرحلة الإعدادية، ثم حولت أوراقى إلى وزارة التربية والتعليم. أى أن نشأتى نشأة تقليدية، إلا أننى كنت وما زلت أنطلق فى رؤيتى للأشياء من قيم الإسلام، ولا أرى للأمر وجها آخر. وساعدنى على هذا أننى بدأت القراءة منذ وقت مبكر، وكانت قراءتى لمؤلفات كبار الكتاب منذ اللحظة الأولى، فوسع هذا كله أفقى رغم أنى ريفىٌّ قُحٌّ كما رأيتم، وإن لم يكن باستطاعتى الزعم بأننى فى كل ما أعمل وأدع قد نجحت فى ترجمة ما أومن به إلى واقع. فدائما ما تكون هناك مسافة بين النظر والعمل، وهو ما عبر عنه الرسول العبقرى عليه الصلاة والسلام بقوله: "سَدِّدوا وقَارِبوا"، وقوله: "كلكم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون"، وقوله: "لو لم تُذْنِبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذْنِبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". وكل ما أرجوه ألا تكون هذه المسافة من الاتساع على نحوٍ مُخْزٍ.
 
شكر الله لك دكتور إبراهيم عوض على هذا المقال الماتع.
تقول:
"أما أنا فأفهم الآية على أساس أن الله تعالى قد خلق آدم وحواء كليهما من نفس واحدة هى النفس البشرية التى تتحقق فيها خصائص النوعين جميعا، ثم لما شعبها نوعين ذهب كل نوع بخصائصه التى تميزه عن النوع الآخر، مع السمات العامة المشتركة بين الذكر والأنثى. وأحسب أن تفسير الآية على هذا النحو أكثر استقامة وأدنى إلى التوافق مع تركيب الكلام فيها."
وسؤالي على أي شيء استندت في فهمك أعلاه هل هو على اللغة أم على نص معين أو فهم من مجموعة نصوص؟

وإذا كان آدم وحواء خلقا من نفس واحدة هي النفس البشرية فما هي مواصفات تلك النفس البشرية ؟
ثم إذا كنا نحن المخاطبين بالقرآن "بني آدم"خلقنا من آدم وحواء فمن هو زوج تلك النفس التي خلق منها؟

ثم تقول عن النووي رحمه الله:
فى شرحه لحديث مسلم: "لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر"، إن حواء هى المسؤولة عن السقوط من الجنة، إذ زين لها إبليس الأكل من الشجرة وأغواها فأخبرت آدم بها فأكل منها، فلا أدرى كيف واتته نفسه به، وقد حسم القرآن الأمر بأن إبليس قد غرر بآدم وزوجه معا لا بحوّاء وحدها ثم أكملت هى الأمر بإغراء زوجها. بل إن القرآن ليركز الضوء على آدم فقط عند حديثه عن العصيان والغَوَاية: "فعصى آدمُ ربَّه فغَوَى". يؤسفنى أن أقول إن هذا أثر من آثار الإسرائيليات،

إذا ترى أن تفسير النووي متأثر بالإسرائيليات ، فما هو تفسيرك للحديث ؟
 
عودة
أعلى