الجسر الذي يسد الهوة بين المفسرين و المستشرقين

إنضم
18/12/2011
المشاركات
1,302
مستوى التفاعل
1
النقاط
38
الإقامة
أنتويرب
بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة والسلام على رسل الله أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته

قرأت لأحد المستشرقين الغربيين وهو أيضا باحث أكاديمي في التراث اليوناني والروماني القديم كلاما عن الاسلام أراد به أن يثبت أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يستحق لقب (دين الكتاب) بالمعنى الدقيق فهذا الدين هو الدين الوحيد الذي إستطاع بناء حضارة النص والانفتاح على ثقافات وحضارات الآخرين بالنص ويبني فلسفة خاصة به موضوعة في مناهج العلوم الاسلامية بالنص و يبنى عقلا بالنص و منطقا لغويا بالنص و إمبراطورية بالنص و فنا خاصا به بالنص أيضا و غير ذلك من الأشياء كلها بالنص أو على أساس النص الذي يلعب إما الدور الوحيد أو الدور الأهم، وفي نظره هذه الحقيقة التاريخية والواقعية هي التي دفعت بالمستشرقين وطلاب العلوم الاسلامية من غير المسلمين إلى تغيير النظرة الى الاسلام وبالتالي تبعا لذلك المنهجية في التعامل معه.

هذا التغيير عبارة عن نقلة من دراسة تاريخ ما قبل القرآن للبحث عن جذوره المحتملة التي تأثر بها في الأديان السابقة إلى دراسة القرآن بعد "ظهوره" ثم دراسته كنص وهي نقلة تطورية أحدثت تقليصا للهوة بين العلماء أي المفسرين والمستشرقين أي الدارسين الغربيين للاسلام من غير المسلمين، إلى جانب هذه النقلة من "قبل القرآن" إلى "بعد القرآن" و "نص القرآن" يعتبر رموزا معينة مشكلة للجسر في هذا التقارب ذكر منهم أبو زيد ناصر، الجابري و حسن حنفي.

يرى الباحث ان النهج القديم الذي امتد منذ مطلع القرن التاسع عشر الى وقت قريب والذي تأسس على محاولات لاكتشاف عناصر التشابه، وهو مبحث ضمن فقه اللغة المقارن، بين القرآن و النصوص الأخرى يهودية، مانوية، نصرانية وغيرها هو نهج يبدو اليوم من خلال الدراسات الادبية و النصية شيئا غريبا. بالنسبة للنصوص الإلياذة، الأناجيل، وغيرها من النصوص: ليس هناك اليوم شعور لدينا بأن حل اشكالية تأليفها يعني أيضا حلا للاشكالية الحقيقية المتمثلة في تفهم كامل لمعاني تلك النصوص. وبالنسبة للقرآن الأمر مختلف: "لا يزال هناك ايمان بأن تاريخ تشكيل النص القرآني يعد مفتاحا للوصول الى المعنى النهائي له." (Stefan Wild 1996).

يمكن القول بأن التجديد في الرؤية و النهج بدأ في العقد الأخير من القرن العشرين بعد إن اتضحت معالم التحول في الاهتمامات المتعلقة بالدراسات القرآنية والتي كشف الستار عنها مؤتمر بون 1993 الذي اجتمع فيه باحثون متخصصون من المسلمين و غير المسلمين، وهو تحول حمل ويلد على طرح النموذج الفكري الجديد الذي يتخلى عن دراسة ماذا أثر في القرآن و اشكالية مصدريته ليركز على الاهتمام الجديد الذي يعتبر القرآن وثيقة نصية لأن النص هو الذي يشكل وشكل قناعات المسلمين وهو الذي شكل ويشكل اطار الثقافات الاسلامية وعليه وجب الانتقال من (التأليف) و (المؤثرات) إلى (الوثيقة) و (القراءة) لدراسة النص كما هو في إيحاء عام يفرضه أيضا طبيعة النص القرآني نفسه إذ ليس هناك نصا مقدسا مماثلا يشير بكثره الى طبيعته كنص ويتدبر بتدخل مستمر مصدريته الالهية (Stefan Wild 1996).

في نظرك، ما حقيقة عكس هذه الطفرة المنهجية لسد الفجوة بين العلماء والمستشرقين؟

السؤال التالي حول حقيقة أهمية أبو زيد ناصر، الجابري و حسن حنفي في تكوين الجسرية سأطرحه بعد عرض موجز للاشارات التي أقحمها هذا الباحث في تحليلاته.
 
التعديل الأخير:
قبل تتمة الحديث عن كلام الاستاذ فان لي وتحليلاته .. جلست للتفكير في هذا التحول في الدراسات الاستشراقية التي تتمحور حول النموذج الجديد المطروح للتعامل مع الدراسات الاسلامية عامة و القرآن خاصة لأحاول استيعاب أبعاد ومقتضيات هذا التحول وهل يحمل في ذاته نظرة مركزية لها تبعات معينة أم لا. التفكير في هذا التطور الجديد يعني طرح بعض الاسئلة الاستكشافية والاستشكالية. لماذا عقل المستشرقون الجدد أهمية الانتقال في دراسة ومدارسة القرآن من العقيدة (مصدرية القرآن) إلى الوثيقة (النص)؟ هل هذا التعقل يعني إبتعادهم عن ما قد يمس ويخدش العقيدة؟ هل تأثروا هم أيضا أخيرا بالمناهج الوضعوية Positivism الأقل تعصبا وفهموا أن العقيدة (القرآن كلام الله جمع بين دفتي المصحف من الفاتحة إلى الناس) قضية وراء أو فوق النقاش؟ هل يعبر هذا التحول عن الرضا بالواقع والاستسلام للوجود الاسلامي داخل وخارج الغرب؟ هل هو تحول فرضه التخبط و الانغلاق و اللاتماسك الذي صاحب الاستشراق في العصر القديم والوسيط؟ أم مجرد دراسة من الدراسات تحاول فهم الآخر قصد التواصل والانفتاح والعمل المشترك؟

الإجابة على مثل هذه الأسئلة عملية تفتقر إلى دراسة كل عمل إستشراقي على حِدَةٍ سواء على المستوى الأكاديمي أم على المستوى الفكري الفردي. حجة التواصل واللقاء والانفتاح والعمل المشترك حجة ضعيفة جدا لأن هذا الانفتاح على الاسلام كان دائما حاضرا ولولاه لما انفتح الغرب على الركائز الثلاثة في الحضارة الاسلامية التي انتشرت في الغرب: 1 غياب الواسطة بين كتاب الله والاجتهاد البشري في فهم الكتاب (لا رهبانية ولا كنيسة)، 2 العقلية المنهجية في التحصيل العلمي المعنوي والمادي، و3 المشاريع الفكرية التي عكست حركات توفيقية أساسها أرضية إسلامية وإطارها تراث الحضارات الشرقية الأخرى منها الحضارة الهيلينية. إن إدعاء الانفتاح والتواصل لا يتعارض مع العقلية الهيمنية والنظرة الاستعلائية. وحجة فهم الآخر التي لا تقوم إلا بدراسة موضوعية أضعف لأن الدراسة الموضوعية لا تفترض أي تحول في النموذج بل تقتضي دراسة هذا الآخر كما هو بدون عملية تجزئة.

ولكن هل هذه التجزئة ضرورية لتحصيل مستوى موضوعي معين لأن دراسة العقيدة المرتبطة بالقرآن غير ممكنة دون الاستناد إلى الخلفية العقائدية؟ هذا منطقي إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل هذا هو السبب الحقيقي وراء النموذج الفكري الجديد؟ ثم ألا يلزم من هذا التبرير استبطان عقيدة وضعوية (العقيدة لا تقبل النقاش) من جهة و من جهة ثانية عدم الفصل والتمييز بين العقيدة المرتبطة بتصور القرآن و الطرق الاستدلالية الممنهجة في إثبات هذه العقيدة؟

هذه بعض الاسئلة قد تتشعب وتبعد فيها كلما وسّع الانسان في الرؤية التي تحاول فهم كيف ولماذا نشأ وتشكل النموذج الجديد. الاستاذ فان لي يريد أن يبرر ذلك باستشعار مدى اتساع الهوة بين الاستعرابيين والعلماء المسلمين ومن حين لآخر يقتبس ناصر ابو زيد وحنفي ليبرر عدم جدوى الدراسة النقدية في العقيدة ليبرر الوثائقية النصية في الدراسات الجديدة. أنا أرى أن الأمر هذا يتعلق بالتصور وأعنى تصور القرآن وأستطيع أن أدعى إن هذه التجزئة فرع عن التصور وطبعا ليس من السهل بمكان خلق تصور كامل -يجمع المفهوم و المنهج والخلاصة و الوصف- لموضوع مثل القرآن لأن أبعاد القرآن متعددة فإلى جانب كونه نصا نتعامل معه أو نعالجه بأدوات وأساليب الفهم هو أيضا قرآن نتعامل معه بالقراءة وهذه الأخيرة لها أبعاد روحية دينية تتعلق بها قضية العبادة، كما أنه مرجع رئيسي في تصور مصدر ومكانة و مصير الانسان والحياة والوجود، ثم إنه موضوع عقيدة نتدبره بأساليب علمية أدبية وتاريخية، اضافة الى ذلك كونه يتكون من محتوى نتعامل معه بأساليب التذوق الجمالية و الفنية (الرسم، التصوير الفني، الليثوغرافيا و الكاليغرافيا).

إذا صح أن التجزئة فرع عن التصور فما هي مقتضياته العملية؟ يدعي أغلبهم أنهم أكاديميون، وقد يضيف البعض أنهم موضوعيون، لا شأن لهم بالأمور السياسية، وأنا لا أنكر كما لا أثبت ذلك، إلا أن الحقيقة المرة والواضحة أن التجزئة هذه تعني التركيز والتركيز هذا له صلة ضرورية بالسياسة و يقحم ولابد ميدان الإعتقاد بشكل غير مباشر لأن تركيز الاهتمام المعرفي يؤدي إلى المركزية الإنشغالية. كيف؟؟
 
نعم، كيف؟ ألاحظ شخصيا أن هذا التطور في النموجية الفكرية عند المستشرقين الجدد طرح مفاهيم جديدة بعضها ليست جديدة لكن مغلفة بملخصات جديدة أو ليست جديدة لكنها تحولت من الصيغة الاصطلاحية (علمية ومنهجية) إلى الصيغة المفهومية (فلسفية وفكرية) كالأرخنة و التاريخية والوثيقة النصية واللاقرينية التي ينبني عليها إعادة التصييغ السياقي إلى آخره مما أدى إلى أطروحات جديدة في ((((تصور معنى القرآن)))) وقد رأينا من يطرح الكتاب والقرآن (شحرور في كتاب له بهذا العنوان) وآخر يطرح القرآن والكتاب والوحي وكلام الله (ناصر ابو زيد في محاضرة بجامعة هولندية) وغير ذلك. ممكن أن المستشرقين الجدد محقون في إدعاءاتهم أنهم يطرحون أفكارا للبحث بشكل منعزل عن السياسة وعن الخلفية القناعية الذاتية لكن هذا لا يعني أن التوظيف التحليلي عندهم وبالأخص عند المتأثرين بهم من العقول الإسلامية المهاجرة في أوطانهم لا يؤدي إلى إقتحام ميدان الميول السياسي ولا يتأثر بأي حال من الأحوال في الإيمان الإسلامي.

قد يكون هناك فرقا بين الاستشراق في العصر القديم والوسيط من جهة والاستشراق (الأكاديمي) الجديد من ناحية تركيز الأهمية، المنهج و طبيعة النقد لكن هذا لا يعني أنه لا قاسم مشترك بينهم كما لا يعني أن الإستشراق القديم قد إنتهى بشكل نهائي بل مازال حاضرا بنفس العدائية والعقلية الهيمنية والاستعلائية والاقترافية والتحريفية عند السياسيين المتطرفين كاليمين المتطرف الغربي واليسار المتطرف الشرقي و القومية الهندوسية في الهند، وعند المتطرفين من الديانات الأخرى الذين يعانون كما يعاني السياسيون المتطرفون من الاسلاموفوبيا حيث أنهم لا يستطيعون تحمل فكرة وجود نظام اجتماعي مؤسس على المفاهيم والقيم الاسلامية في هذا العالم، كما أن من بعض المستشرقين الجدد من يتخلى عن إستشراقه الأكاديمي في المؤسسات الرسمية ليتحول خارج تلك المؤسسات إلى إستشراقي إنفرادي على طريقة المتطرفين الدينيين اللاإسلاميين و المتطرفين السياسيين اليمينيين واليساريين على حد سواء مثل المستشرق البلجيكي Urbain Vermeulen الذي وصل به الحال إلى تلبيس الصراعات القومية في شبه القارة الهندية لباسا إسلاميا ليؤكد على عنفية ولا تسامحية الإسلام، ومثله في ذالك الاستعرابي الهولندي Hans Jansen الذي لا هم له إلا إثبات لاتسامحية وعنفيه الاسلام ونبي الاسلام غالبا من خليفته الكاثوليكية المتطرفة ليصل إلى مبتغاه أن الله لا يصطفي من خلقه بشرا يعمل بالعنف. (!!)

نعم لابد من التمييز بين الاستشراق المؤسساتي القديم والاستشراق الأكاديمي الجديد ولكن أعتقد أن هذه الاستشراقيات كلها تشترك في السلبية من حيث التوصيف. سلبية الاستشراق الجديد كامنة في تركيز الاهتمام المعرفي الذي يؤدي كما قلت إلى المركزية الانشغالية وكلنا يعلم من طبيعة الحال ما هي النتائج التي تستلزمها هذه المركزية كالتطرفية والتقزيمية التجزيئية والانغلاقية وهذا يحدث عندنا أيضا كما نرى أن الذي تربى على القناعات الحركية، داخل الصحوة الاسلامية، لا يرى في الاسلام إلا حركية ولا يرى في الشريعية إلا نظام (بمعناه الاجتماعي السياسي والاقتصادي) ولا يرى في التوحيد إلا الحاكمية وإذا سألته في مسائل ربوبية وصفاتية وطبيعة النقاش العقائدي هل الايمان بالله نظري ام فطري رأيت جهلا أو رأيت تقليداً، أما إذا أردت أن تنظر إلى هذا "الحركي" نظرة روحانياتية رأيت برميلا يتدحرج ويتحرك ويحرك لكن لا ماء ولا زيت ولا نفط فيه.

إن الوثائقية النصية والأرخنية السياقية تؤدي مع المركزية الإنشغالية إلى كارثتين في فكر المثقف (هذا للتمييز بين المثقف و العامي لأن القاعدة التي يستهدفها المستشرقون أيضا متمايزة إذ هناك من تؤثر عليه بـ "الشبهة" و هناك من تؤثر عليه بـ "المركزية الانشغالية")، كارثة لها علاقة ضرورية بالسياسة وأخرى مرتبطة بالعقيدة:
- تحليلات يدعي صاحبها الوصول بها إلى ما يحول دون توظيف الدين في السياسة وينفتح على فصل المؤسسات السياسية عن الدين لا فصل الدين عن السياسة الادارية (هكذا يميز ناصر ابو زيد بين الفصلين لكي لا يتعارض مع التوجه الشعبي) وهذا يقوم بتجزئة وأرخنية ليكون النص الوحيد القابل للتناول "العلمي" هو النص المتعلق بالاجتماعيات.
- توجيه تركيز المثقف المسلم إلى هذه الارتباطات الاجتماعية وهكذا سيبقى على عقيده جامدة وموروثية ثقافية تتعلق بالقرآن ككل ولن يصل إلى استيعاب وفهم القرآن وإعجازه بشكل يريحه، يقتنع به و يرضى به.

أو هكذا أظن ..
 
عودة
أعلى