علي هاني يوسف
New member
- إنضم
- 09/01/2008
- المشاركات
- 81
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 8
[h=1]1.المبحث الرابع: أقوال العلماء في مقصود السورة: [/h][h=1]يمكن تقسيم أقوال العلماء في مقصود سورة المائدة إلى خمسة أقسام: [/h][h=1]1)القسم الأول: قالوا: هي سورة العقود والمواثيق: [/h]فهي سورة دعوة المؤمنين إلى الوفاء بالعقود والمواثيق والعهود في شتى صورها:
وإليك نصوصهم:
"بأن محور السورة هو أمر الأمة الإسلامية بالالتزام بالعقود التي ألزمهم الله بها، والتي أجلُّها التزام عقيدة التوحيد، والتحذير من التهاون بهذه العقود أو إضاعتها كما حصل من اليهود والنصارى".[1]
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) }[البقرة:27،26].[21]
[h=1]3)القسم الثالث: قالوا:"الوفاء والتمام هو مقصود السورة، فمحور السورة يدور على أمرين:[/h][h=1] 1) الوفاءِ بالعقودِ ،2) وتمامِ التشريع ومكملاتِ الدين، فبها تم الدين"[22] .[/h]فقد تضمنت الوفاءَ بالعهود وما أخذ على الأمة، ومكملاتِ الدين : من أحكام الحلال والحرام ،كتحريم الصيد على المحرم الذي هو تمام الإحرام ، وتحريم الخمر الذي هو تمام حفظ العقل الدين ، وفيها عقوبة المعتدين من السُّرَّاقِ وقطاعِ الطرقِ والقتلةِ وهو من تمام حفظ الأموال والدماء ، وفيها إحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها الكمال والتمام أكثر من مرة ، وذكر فيها الكثير من إشارات الختم والتمام ، فالأحكام في هذه السورة مثل اللبنة الأخيرة في البناء ، مثل حرم عليكم كذا وكذا إلا ما اضطررتم إليه .
أ- رسم الخطوط العامة والأسس الفكرية والمفاهيمية والعقدية والتشريعية للإسلام التي يراد من خلالها تأسيسُ الأمةِ والمجتمعِ الإيماني الفاضلِ المستَمِدِّ قوانينَه وقواعدَه وعقودَه ومواثيقَه التي هي ضوابطُ لكلِّ الحياةِ وأساسٌ للإيمانِ والعدلِ وخطوطُ استقامةٍ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، للأفراد مع أنفسهم ومع الله ومع المجتمع ومع الأعداء، وللأمة كذلك، ـ من حكم الله تعالى وحده بدون تحريف، فلا يحتكم إلا إلى شرع الله تعالى وحده، فتصان فيه العقائد، والدماء، والعقول، والأموال، والنظام.
ب-وبيان الانحرافات عند أهل الكتاب والمشركين في عقيدة التوحيد، بتقرير وحدانية الله تعالى وبإبطال الشرك ومنه التثليث، وفي التحليل والتحريم والذبائح، وتخليص المجتمع المؤمن منها، وكشف هؤلاء الأعداء، وكيدهم، وبيان موقف المؤمنين تجاههم.
ت-ليعصمَهم من الانحرافاتِ السلوكية والعقدية والزلل فيها؛ ولتكون الأمة خليقة أن تستخلف وتحمل رسالة الله تعالى إلى كل البشرية، بعد أن تخلى عنها أهل الكتاب بنقضهم العقود والمواثيق فسلبوها.
وإليك عباراتهم:
[h=2]5)القسم الخامس:[/h]جاء في تفسير الكاشف: " سورة المائدة: انتقال العهد والولاية إلى المؤمنين".[37]
[h=1] [/h]
[h=1]5)المبحث الخامس: مناقشة الأقوال والترجيح بينها:[/h]إذا تأملنا الأقوال الخمسة السابقة نجدها قد وفقت لتحديد محورِ السورةِ أو جزءٍ من محورالسورة، والاختلاف بينهم في استيفاءِ ذكرِ المحور، أو الاقتصارِ على بعض هذا المحور، وإليك بيانَ ذلك:
فهذا القول هو أقرب الأقوال للصواب، ويدل على هذا القول أمور كثيرة:
ب) نكول بني إٍسرائيل عن قتال أهل القرية التي أمروا بدخولها لم يذكر إلا هنا [آية 33، 34].
" الإيفاء بالعقود التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ وأعظمها التوحيد" وهذا فيه أمران:
[h=1]2.وأما القسم الثاني الذين قالوا:" السورة فيها خطان: الخط الأول: الأشياء التي إذا أخلّ بها الإنسان استحقّ الضّلال من مثل نقض الميثاق، والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل. والخط الثاني: الأوامر التي لو أطاعها الإنسان ينال الهداية"، فهذا الذي قالوه: جزء من المقصود كما هو ظاهر ولا يفي بجميع مقصد السورة.[/h][h=1]3.وأما قول القول الثالث القائل: " مقصودها الوفاء والتمام، فمحور السورة يدور على أمرين:[/h]الوفاءِ بالعقودِ ،2) وتمامِ التشريع ومكملاتِ الدين، فبها تم الدين: من أحكام الحلال والحرام ،كتحريم الصيد على المحرم الذي هو تمام الإحرام ، وتحريم الخمر الذي هو تمام حفظ العقل الدين ، وفيها عقوبة المعتدين من السُّرَّاقِ وقطاعِ الطرقِ والقتلةِ وهو من تمام حفظ الأموال والدماء ، وفيها إحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها الكمال والتمام أكثر من مرة ، وذكر فيها الكثير من إشارات الختم والتمام ، فالأحكام في هذه السورة مثل اللبنة الأخيرة في البناء ، مثل حرم عليكم كذا وكذا إلا ما اضطررتم إليه" .
فقولهم:" تمام التشريع ومكملات الدين" داخل فيما ذكرناه بعبارة:" بيانُ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ" وهو الذي نص عليه أصحاب القسم الرابع، وهذا أفضل من أن يكون التمام محورًا للسورة بل هو وسيلة يراد من خلالها تأسيس المجتمع الإسلامي الفاضل وتتميم ما يحتاجه.
" بيانُ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ وبناء المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ وأعظمها التوحيد ، والترغيبُ البليغُ بخيَريِ الدنيا والآخرةِ للمؤمنين على الوفاءِ بهذه العقودِ ؛شكرًا لله على نِعَمه وإكمالِ دينه واستدفاعاً لنقمه ، والترهيبُ البليغُ من نقضِها وعدمِ الاعتناءِ بها بعقاب الدنيا والآخرة ؛ليعصمَهم من نقضِ العهودِ و الانحرافاتِ السلوكية والعقدية التي وقع فيها من سبقهم من اليهود والنصارى والمشركين، وكشفتها السورة وأبطلتها".
ويمكن اختصاره أكثر بأن يقال:" بيانُ العقودِ والمواثيقِ التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه، وأعظمها التوحيد، والترغيبُ البليغُ للمؤمنين على الوفاء بها، والترهيبُ البليغ من نقضها".
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
كتبه : الفقير لعفو ربه : علي هاني العقرباوي
عمان الأردن، 24/ شعبان / 1440هـ ـ 29/ 4/ 2019
يوتيوب وفيس: علي هاني العقرباوي
[h=1] [/h]
[1] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د عمر عرفات.72.
[2] الموسوعة القرآنية، خصائص السور/ جعفر شرف الدين (2/208).
[3] وقال قبل ذلك:" والعقود جمع عقد، وهو ما يلتزمه المرء لنفسه، أو لغيره، وأساسه قد يكون شيئًا فطريًا تدعو إليه الطبيعة، وقد يكون شيئًا تكليفيًا تدعو إليه العقيدة، وقد يكون شيئًا عرفيًا يدعو اليه الالتزام والتعاهد، والعقد العرفي، أي المتعارف عليه لدى عامة الناس، يكون بين الفرد والفرد، كما في البيع والزواج، والشركة، والوكالة، والكفالة، إلى آخر ما تعارفه الناس ويتعارفون عليه من وجوه الاتفاقات، والكلمة في الآية عامّة تأمر بالوفاء بالعقود، فتشمل العقود كلها على اختلاف أنواعها وأشكالها، وتدخل في العقود والمعاملات، والمعاهدات، بظاهر اللفظ، كما تدخل في إقامة الحدود، وتحريم المحرّمات، بوصفها داخلة في عقد الإسلام، بين الله ورسوله، والذين آمنوا بالله ورسوله". أهداف كلّ سورة ومقاصدها/عبد الله محمود شحاته (ص63).
[4] المرجع السابق(ص63).
[5] الخرائط الذهنية / صفية عبد الرحمن سحيباني (ص4).
[6] (أول مرة أتدبر القرآن / عادل محمد خليل (48).
[7] أرشيف ملتقى أهل التفسير (22390).
[8] لمسات بيانية (محاضرات مفرغة) حاوره فيها د.حسام النعيمي(ص11،5).
[9] الميزان في تفسير القرآن /محمد حسين الطباطبائي/ دار إحياء التراث العربي (5/134).
[10] المرجع السابق (6/210).
[11] وجاء فيه " في قوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[آية:3] هدف السورة بدأ يظهر الآن وقد تم الدين ، فالتزموا بالعهد مع الله تعالى وحافظوا عليه ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه ، إنها سورة الحلال والحرام في الإسلام .(خواطر قرآنية (نظرات في أهداف سور القرآن / عمرو خالد (ص80))،ومعظم ما ذكره مأخوذ من كلام السامرائي، وقد أخذ ما جاء في خواطر قرآنية موقع إذاعة القرآن الكريم (فلسطين، نابلس) مع بعض الترتيب وقد جاء فيه :" هدف السورة نداؤها: هدف السورة جاء في أول السورة "{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}وهي تشمل ما عقده الإنسان من المسؤولية عن الأرض واستخلاف الله تعالى للإنسان، إلى أمور الطاعات كالصلاة والحجاب، إلى ترك المحرمات كشرب الخمر وأكل الحرام" ...والقاعدة العامة في السورة : إذا وفى المرء بالعهود فإن الله تعالى يوسع عليه ، وإن نقضها فإنه يضيق عليه .. وعلاقة قصة ابني آدم ـ عليه السلام ـ بقصة بني إسرائيل ودخولهم الأرض المقدسة هو أنهما نموذجان لنقض العهود: بنو إسرائيل نقضوا عهد الله لجبنهم ، وأما ابن آدم فقد نقض العهد لتهورهم فهما نموذجان متعاكسان ، وكلاهما فيه نقض العهد ..والآية الأخيرة آية محورية :{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ{[آية:115]،..فارتبطت قصة المائدة بقصة قوم طلبوا آية من الله تعالى فأعطاهم ما طلبوا وأخذ عليهم ميثاقًا شديدًا عن نقضوه فسيعذبهم عذابًا شديدًا، أما بالنسبة لأمتنا فقد أعطاها الله تعالى في هذه السورة الآية المحورية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[آية:3]، هذه الآية منحة ربانية مشابهة للآية التي أعطيها الحواريون وهي المائدة ، وهم قد وفوا بعهدهم فهل سيُوَفي المسلمون بعهدهم ؟.
[12] نحو تفسير موضوعي/ محمد الغزالي (66).
[13] وعبارته:" 1 ـأهم العناصر المشتركة تتمثل في أربع عناصر أساسية: 1) نقض الميثاق. 2) عقائد منحرفة حول التوحيد. 3) الإلزام بأحكام الكتاب (توراة أو إنجيل). 4) ـ طبيعة العلاقة أو الموقف من المؤمنين.
في حين انفرد الحديث عن اليهود في السورة بموضوع المواقف المخزية لليهود تجاه موسى عليه السلام، تفرد الحديث عن النصارى بالتذكير بمعجزات عيسى وقصة المائدة وتبرئة المسيح من مزاعم النصارى، كما نلاحظ بروز موضوع نقض الميثاق ضمن الهيكل البنائي لخطي اليهود والنصارى في السورة إذ جاء مستهلًا في بداية الحديث عنهم، وإذا ما أخذنا بمبدأ براعة الاستهلال في هذا المقطع فإننا نفهم خلفيات تفاعل المواضيع الآتية سواء في خط مواضيع النصارى أو مواضيع اليهود ، وبخصوص النصارى يمكن اعتبار ـ انطلاقًا من هذا التصور ـ أن نقض الميثاق هو الخلفية السلوكية المؤسسة لباقي المواضيع، كما أن هذه المواضيع يمكن أن تشكل إضاءات على موضوع نقض الميثاق بالمقابل.
2 - الأطروحة المركزية: لا شك أن من يتدبر سورة المائدة آخذا كما قلنا بـ: براعة الاستهلال. ـ مجمل العقود الواردة في السورة.
يفهم أن الموضوع الأساسي الذي تدور عليه السورة يتعلق: بالوفاء العقود والمواثيق والعهود.) د. محمد الغرضوف، بحث منشور في رابطة علماء المغرب ، ونشره أرشيف ملتقى أهل التفسير (14628).
[14] ونقله عنه عصام العويد ووافقه وزاد:" وهو كما ذكر فأولها {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وآخرها { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }، واسمها مأخوذ من ميثاق المائدة العظيم الذي قال الله في ناقضيه { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}، والعهود فيها أربعة: مع الله أو رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو المؤمنين أو الكافرين، وكلها واجبة الوفاء، وهذه النداءات تلخص المواثيق بين الله وعباده المؤمنين الواردة في هذه السورة العظيمة، وهي مواثيق تتعلق بما يلي:
ميثاق الذبائح والأنكحة، ميثاق الدخول في النسك، الطهارة للصلاة، العدل، الثبات وعدم الارتداد، شكر النعمة، ميثاق الولاء والبراء، كفارة اليمين، عدم كتم الشهادة، تحريم الغلو، الصبر عند الابتلاء، السمع والطاعة. (أرشيف ملتقى أهل التفسير/ عصام العويد (21430).
[15] الدكتور محمد بن عبد الله الربيعة (أستاذ الدراسات القرآنية المساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم): أرشيف ملتقى أهل التفسير/ 21400.
[16] نظرة العجلان في أغراض القرآن/ محمد بن كمال أحمد الخطيب (ابن شهيد ميسلون) (ص24).
[17] عبارة أ. د. محمد عبد المنعم القيعي:" مقصود سورة المائدة: الوفاء بما هدى إليه الكتاب". (الأصلان في علوم القرآن/ أ. د. محمد عبد المنعم القيعي(238).
[18] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (2/384).
[19] تفسير القرآن الكريم/ الإمام الأكبر محمود شلتوت (ص207).
[20] دَلَائِل النظام/الفراهي 94، أدخلت قول الفراهي مع القسم الأول ؛ لأننا لو وضعنا مكان عهد كلمة عقد لرأينا أنه هو عين القسم الأول.
[21] وقد عبر الشيخ سعيد حوى عن هذا المقصود عدة مرات بعدة عبارات وهذه عباراته:
" فالآيتان اللتان هما محور سورة المائدة، تتكلمان في الفسوق الذي هو الطريق إلى الكفر والنفاق.. وسورة المائدة تكلمت في الطريق إلى الفسوق، فذلك في سياقهما الرئيسي، إن آيتي البقرة اللتين تشكلان محور سورة المائدة هما:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.}[البقرة:27،26]، فهذا هو الطريق إلى الكفر والنفاق: نقض للعهد، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وإفساد في الأرض، فهؤلاء هم الفاسقون، وهم الخاسرون، وهم الكافرون، وهم المنافقون بقسميهم، وتأتي سورة المائدة لتحرر المرء من هذه الأخلاق، وتفصّل فيها، وتدعو إلى ما يقابلها... فهي تبدأ بقوله تعالى:{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1]،لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ}.. ففي السورة نماذج لنقض العهد مع الله، وتذكير بالوفاء بالعهود والعقود ثم إن في السورة تذكيرًا بما أمر الله أن يوصل فتذكر الولاء لله والرسول والمؤمنين وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة:{ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} ... وقد رأينا فيما ذكرناه نماذج وردت في السورة على قضايا الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، ونلاحظ كذلك أنَّ كلمة الفاسقين ترد في السورة كثيرًا، وكذلك كلمة الخاسرين مما يؤكد ما ذكرناه من أنّ محور سورة المائدة هو تلكما الآيتان من سورة البقرة... إن سورة المائدة تفصّل فيما هو نقض للميثاق، وفيما هو قطع لما أمر الله به أن يوصل، وفيما هو إفساد في الأرض، فتدعونا لتركه وتطالبنا بما لو فعلناه لا نكون فاسقين ولا خاسرين، أي: لا منافقين ولا كافرين، فهي تكمّل سورة النّساء، فإذا كانت سورة النساء قد فصّلت فيما هو من التقوى، فسورة المائدة تفصّل فيما ليس من التقوى لتعمّق عندنا قضية التقوى وتحققنا بها بتخليصنا من أضدادها... فالسورة تبدأ بذكر ما يحرّرنا من نقض العهد الذي يستحق به صاحبه الإضلال،.. وعلى هذا فمحور سورة المائدة يتضمّن خطين: الخط الأول: الأوامر التي لو أطاعها الإنسان ينال الهداية. الخط الثاني: الأشياء التي إذا أخلّ بها الإنسان استحقّ الضّلال من مثل نقض الميثاق، والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ومن ثمّ كان فهم سورة المائدة والتخلق والتحقق بما طولبنا به فيها من الأهمية بالمكان العظيم.. إنّ سورة المائدة في محورها الرئيسي تبيّن الطريق الذي إن سلكه إنسان فإنه لا يستحق هداية الله، ويأتي في معرض ذلك ذكر الطريق الذي إذا سلكه إنسان يستحق هداية الله. (الأساس في التفسير/ سعيد حوّى (3/ 1295، 1296، 1297، 1345، 1450).
[22] قال ابن عاشور:" وقد احتوت هذه السورةُ على تشريعاتٍ كثيرةٍ تُنْبِئُ بأنها أُنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افْتُتِحَتْ بالوصايةِ بالوفاءِ بالعقودِ ـ ـ فكانت طالعتُها براعةَ استهلالٍ". (التحرير والتنوير/ ابن عاشور) (6/ 72).
[23] وتمام كلامه:" ..... ؛ لأن فيها تحريمَ الصيدِ على المحرم الذي هو تمام الإحرام ، وتحريمَ الخمر الذي هو تمام حفظ العقل الدين ، وفيها عقوبة المعتدين من السراق وقطاع الطرق والقتلة وهو من تمام حفظ الأموال والدماء ، وفيها إحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها الكمال والتمام أكثر من مرة ، وذكر فيها الكثير من إشارات الختم والتمام ، فالوفاء والتمام هو محور السورة، فالأحكام في هذه السورة مثل اللبنة الأخيرة في البناء ، مثل حرم عليكم كذا وكذا إلا ما اضطررتم إليه ، وما من شيء إلا أحله الله تعالى لمن اضطر إليه ، وفي الطهارة إن كنتم جنبًا فتيمموا.
المائدة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم ، نزل بعدها سورة التوبة والنصر ، نزلت منصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحديبية ؛ لذلك لا يوجد فيها منسوخ ، وفيها ثماني عشرة فريضة ، وخمسة عشر نداء للذين آمنوا [الصواب ستة عشر]، وأولها أوفوا بالعقود السابقة واللاحقة ، وبين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أن العهود ـ وهي كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ما أحل الله وما حرم ، وما فرض من تكاليف وأحكام"، ما علمتم حكمته وعلته كالخمر، وما لم تعلموا كالصيد في الإحرام ، والله سبحانه يحكم ما يريد ليرى مقدار الرق والعبودية عند المكلف؛ لذلك جاءت كلمة التقوى في كثير من الفواصل أو البدايات لكثير من الآيات، فالمهم تصديق الله تعالى في أوامره بغض النظر عن حكمتها.. فكونوا مثل الحواريين صدقوا عيسى ـ عليه السلام ـ و صدقهم هذا سينفعهم الله به يوم القيامة ، ولا تكونوا مثل بني إسرائيل في نقضهم العهود ، وما كان منهم عند دخولهم الأرض المقدسة فعاقبهم الله تعالى بالتيه أربعين سنة ، واتقوا الله تعالى ؛ لأن الله تعالى يتقبل من المتقين كما تقبل من قابيل قبل أن يقتله أخوه هابيل.(مقاصد قرآنية /الدكتور ذياب محمد شادرما/المكتبة الوطنية (ص188ـ 190) . ومعظم كلامه أخذه من " البرهان في علوم القرآن/ محمد بن بهادر الزركشي أبو عبد الله/ الناشر دار المعرفة (1/ 262).
[24] " وكل من السيوطي والزركشي نقله عن بعض العلماء وأيداه في هذا ، ولم يسميا العالم وتمام عبارته :" ...فهي سورة التكميل؛ لأن فيها تحريم الصيد على المُحْرم الذى هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السُّرَّاق والمحاربين الذى هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذى هو من تمام عبادة الله تعالى، ولهذا ذكر فيها ما يختص شريعة محمد ـ صلّى اللَّه عليه وسلم ـ كالوضوء والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإكمال والإتمام، وذكر فيها أن من ارتدّ عوض اللَّه بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملًا، ولهذا أورد أنها آخر ما نزل فيها من إشارات الختم والتمام. البرهان في علوم القرآن/ محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله/ الناشر دار المعرفة (1/ 262)، (أسرار ترتيب القرآن/ السيوطي (77)، ونقلته الموسوعة القرآنية/ إبراهيم بن إسماعيل الأبياري/ مؤسسة سجل العرب(2/ 287)، ومنه أخذ صاحب كتاب "مقاصد قرآنية" الذي سبق نقل كلامه.
[25] المختصر في تفسير القرآن الكريم /جماعة من علماء التفسير ص77.
[26] مقاصد السور وأثر ذلك في فهم التفسير/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (18).
[27] وهذا أدق مما قاله صاحب كتاب "مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور" في بيان مذهب سيد قطب في مقصود سورة المائدة حيث قال:" وشخصية سُورَة الْمَائِدَة هِيَ بَيَان وحدة هَذَا الدّين، الْقَائِمَة على وحدانية الله تَعَالَى" مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور/ عادل بن محمد أبو العلاء (86).
[28] وعبارة سيد قطب:" شأن آخر يتناوله سياق السورة غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح ، وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية وغير بيان معنى «الدين» وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من اللّه وحده في التحريم والتحليل ، والحكم بما أنزل اللّه وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل، ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة دورها الحقيقي في هذه الأرض وموقفها تجاه أعدائها وكشف هؤلاء الأعداء ، وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها .. إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة.. "(2/ 829)
وقال قبل ذلك: "ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة، وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد.. الأصل فيه إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك.. وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم.. إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين.. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها، إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها.. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح أو ألوانا من الأعمال والمسالك.. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى «الدين» كما أراده اللّه وكما فهمه المسلمون. أيام أن كانوا مسلمين. لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني إنما ينص عليه نصا ويؤكده تأكيدًا ويتكئ عليه اتكاءً شديدًا وهو ينص على أن هذا كله هو «الدين» وأن الإقرار به كله هو «الإيمان» وأن الحكم به كله «هو الإسلام» (2/ 825).
[29] موقع اسلاميات/سور القرآن دروس ومحاور (في الانترنت).
[30] "من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم/عيس وادي، محمود مهنا. ص68.
[31] إلا أن الصابوني لم يذكرالميثاق.
[32] صفوة التفاسير/ محمد علي الصابوني (1/298).
[33] محتويات سور القرآن الكريم / أحمد عبد الله الطويل /دار الوطن للنشر (65،64).
[34] ثم قال:" خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تعرضها السورة: 1) الوفاء بالعقود وبناء الشخصية الحضارية.2) القيام بالعدل وإقامة دولة القانون، والتعاون لنصرته وضمان حرية الناس في تنقلهم وحفظ كرامتهم وأموالهم. 3) الاعتراف بالآخر ولو اختلفنا معه في العقيدة. 4) حماية الحياة البشرية وصيانتها .5) حماية أموال الناس وصيانتها. 6) التميز الحضاري عن عادات الجاهلية في المطاعم والذبائح والمشارب. 7)إقامة مجتمع العفة والطهر والمحافظة على الأعراض والأنساب، وذلك بالتميز الحضاري عن عادات الجاهلية وتساهلها في العلاقات بين الرجال والنساء واستباحة المحرمات. 8) إقامة المجتمع الإسلامي على قيم العبادة والذكر والطهارة الجسدية والروحية. 9) ترسيخ وحدة الأمة بغرس قيم الولاء لله ورسوله وجماعة المؤمنين، وتطهيرها من الولاء للأجنبي، وإغلاق أبواب الفتنة والتجسس للأجنبي وحماية أمن المجتمع. 10) التذكير بدور العلماء في تحقيق هذه الوحدة .11) تعميق الوعي الإيماني بأصول العقيدة الإسلامية وبيان فساد عقائد أهل الكتاب وما أصابها من تحريف وتغيير... وهي أيضًا سورة الأخيار ، وكأنها عنوان للمجتمع القرآني ، مجتمع الأخيار الذين اجتباهم الله تعالى ليكونوا خير أمة أخرجت للناس بصدق إيمانهم ،ونصرة دينهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، إقامتهم لحدود الله تعالى ، والتزامهم بأحكامه، وتحليهم بأخلاقه، واستقامتهم على طريقه ، وقد وُجِدتْ في هذه السورة العظيمة كنوزٌ من القيم الإيمانية والتربوية والأخلاقية ، والأحكام التشريعية التي تكوِّن الشخصية الإسلامية الحضارية ، وتبرز معالم الأمة المسلمة وخصائصها الحضارية .(خصائص الأمة الإسلامية كما تبينها سورة المائدة/د.إبراهيم زيد الكيلاني / من منشورات جمعية المحافظة على القرآن الكريم (8،5،4).
[35] وهذا نص عبارته:" تهدف هذه السورة كغيرها من السور إلى تنمية الواقع الفكري والروحي والعملي للإنسان المسلم ، سواء في نطاقه الفردي أو الاجتماعي ، وذلك من خلال تصوّره للآفاق العقيدية الّتي يطوف فيها فكره ، وتتحرك معها تصوراته عن الله والكون والحياة . ، أو من خلال حركة المسؤولية في حياته في علاقاته بالنّاس والأشياء من حوله ، بكل ما تشتمل عليه من التزامات ومواثيق يفرضها الله عليه أو يُلزم بها نفسه ، أو من خلال الصراع الَّذي يخوضه المسلمون والآخرون من أهل الكتاب والمشركين ، حيث يثيرون المشاكل والشبهات والتحديات والمواقف السلبية ضد الإسلام والمسلمين ، مبيناً لهم كيف يجب عليهم أن يعيشوا هذه التحديات فكرياً وروحياً من خلال صفاء الفكر ووضوحه ، وقوة الحجة وثباتها الّتي يضفيها الإسلام على معتنقيه ، حيث يزوّدهم بصلابة الموقف ، وحيوية الروح ، وسماح الشعور .
وهكذا جاءت هذه السورة لتؤكد الخطوط الإسلامية التشريعية العامة لقواعد التعامل بين النّاس مع بعضهم البعض ومع الله ، إضافة إلى التشريعات الخاصة التي تثير قضايا الناس في ما يأكلونه ويعيشونه ويمارسونه من علاقات إنسانية خاصة ، ولم تترك أمر العبادة غامضاً مطلقاً ، بل عملت على التخطيط لبعض الملامح التشريعية لأعمال الطهارة والصلاة . . . وتحركت عبر خطوات العقيدة في الفكر والحياة لتناقش أهل الكتاب وغيرهم في كل القضايا التي كانت محلاً للنزاع والخلاف والتساؤل ، ولتناديهم والمؤمنين كي يستقيموا في خط التصور والعمل ، فتعنف معهم تارة وتلين أخرى ، لأنَّ القضية تتعلق بالجانب العميق من قاعدة الحياة ، لا بالقضايا الطارئة البسيطة التي تفرض نوعاً من المجاملة في الأسلوب .
وأطلقت بعد ذلك للمؤمنين النداءات التي تحدّد لهم خط الاستقامة في العقيدة والتشريع ، لتربطهم بحكم الله كأساس للإيمان والعدل والاعتدال ، ولتوحي إليهم بأنَّ الله قد أكمل لهم الدين ، فلا مجال بعد ذلك لزيادة أو نقصان ، لأنَّ الدين هو الحقيقة ، وهو الكلمة الإلهية الفاصلة ، وهو المنهج المعصوم الذي { لاَّ يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، فليس هناك فراغٌ ليملأه الآخرون ، وليس هناك خطأ ليصححه المتفلسفون ، { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ يونس : 32 ] .
وهكذا نجد في هذه السورة النموذج الإسلامي الحي للخطوط العامة التي يراد من خلالها بناء الفرد والمجتمع والحياة الإسلامية على الأسس الفكرية والمفاهيمية والعقيدية والتشريعية للإسلام ، لنلتقي في حركة الحياة بالإنسان الذي يؤمن بالله من خلال الفكر والعقل ، ويتحرك في حياته من خلال الوحي ، وينطلق في شجاعة الموقف الفكري والعملي ، ليدعو الناس إلى الحوار ، ويتحدى الأفكار كلها بالحجة والبرهان ، ويحمل مسؤولية الكون والحياة على أساس الإسلام الكامل الشامل ، الذي يخطط لكل حركة ، ويحتوي كل مشكلة ، ويفسح المجال أمامه لكل إبداع .(من وحي القرآن/محمد حسين فضل الله / دار الملاك (8/7).
[36] الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية (من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة المائدة) / عبيدة أسعد (ص190).
[37] تفسير الكاشف/ محمد باقر حجتي، عبد الكريم شيرازي (وهو تفسير بالفارسية لم يترجم)، نقل كلامهما ، كتاب:" المنهج الترابطي ونظرية التأويل"(دراسة في التفسير الكاشف/جواد علي كسار (92، 93).
[38] هناك علاقات كثيرة بين السورتين لكن اقتصرت على ما يتعلق بموضوع السورة.
- سواء التي بينهم وبين الله تعالى، مما أوجب: من إيمان به، واعتقادٍ، وتوحيدٍ، والتزامٍ للشرائعِ والحدودِ وحكمِ الله تعالى، وفي التحليل والتحريم في الذبائح والمآكل والمشارب والمناكح.
- والتي بينهم وبين الناس من الأقربين كالمجتمع والأمة، والأبعدين كأهل الكتاب والمشركين
- وفي عقوده مع نفسه.
وإليك نصوصهم:
- جاء في دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها: "سورة دعوة المؤمنين إلى الوفاء بالعقود التي بينهم وبين الله تعالى".
"بأن محور السورة هو أمر الأمة الإسلامية بالالتزام بالعقود التي ألزمهم الله بها، والتي أجلُّها التزام عقيدة التوحيد، والتحذير من التهاون بهذه العقود أو إضاعتها كما حصل من اليهود والنصارى".[1]
- قال د. عبد الله شحاته، ونقله جعفر شرف الدين في الموسوعة القرآنية[2]:" وعلى وجه العموم، فإننا نجد سياق السورة كله يدور حول العقود والمواثيق[3]، في شتى صورها، حتى حوار الله تعالى مع المسيح يوم القيامة، الوارد في نهاية السورة، نجده سؤالًا عمّا عهد به اليه، وعما إذا كان قد خالف عنه، كما زعم الزاعمون بعده".[4]
- قال الدكتور فاضل السامرائي، وتبعته صاحبة الخرائط الذهنية[5]، وصاحب كتاب "أول مرة أتدبر القرآن"[6]، ووافقهم د. محمد عبد العزيز الخضيري[7]، والدكتور سيد جمعة سلامة، والشيخ عطا حمام في مقاصد السور وأهدافها: " هدف السورة: الوفاء بالعهود.. وقد اشتملت السورة من أولها إلى خاتمتها على العقود وأهمية الوفاء بها".[8]
- قال الطباطبائي في بداية السورة: "الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها ومختتمها، وعامة الآيات الواقعة فيها، والأحكام والمواعظ والقصص التي تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها، وأن عادته تعالى جرت بالرحمة والتسهيل والتخفيف على من اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن، والتشديد على من بغى واعتدى وطغا بالخروج عن ربقة العهد بالطاعة، وتعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين.
ولذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود والقصاص، وعلى مثل قصة المائدة، وسؤال المسيح، وقصة ابني آدم، وعلى الإشارة إلى كثير من مظالم بني إسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم، وعلى كثير من الآيات التي يمتن الله تعالى فيها على الناس بأمور كإكمال الدين ، وإتمام النعمة ، وإحلال الطيبات ، وتشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج والعسر،
وهذا هو المناسب لزمان نزول السورة؛ إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في أواخر أيام حياته، وقد ورد في روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، والمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده وللتثبت فيها "[9]. - وقال الطباطبائي في نهاية السورة:" واختتمت السورة بهذه الآية الدالة على الملك المطلق، والمناسبة ظاهرة فإن غرض السورة هو حث العباد وترغيبهم على الوفاء بالعهود والمواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربهم، وهو الملك على الإطلاق فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه إلا السمع والطاعة، ولا فيما يأخذ منهم من العهود والمواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض" [10].
- جاء في خواطر قرآنية: "هدف السورة واضح من أول نداء جاء في السورة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [آية:1] أي أوفوا بعهودكم، ولا تنقضوا الميثاق، والعقود تشمل ما عقده الإنسان من المسؤولية عن الأرض واستخلاف الله للإنسان، إلى أمور الطاعات كالصلاة والحجاب، إلى ترك المحرمات كشرب الخمر وأكل الحرام".[11]
- قال الأستاذ محمد الغزالي:" سورة المائدة وتسمى كذلك سورة العقود، والتسمية الأخيرة أدل على موضوع السورة الواسع".[12]
- قال الدكتور محمد الغرضوف:" الموضوع الأساسي الذي تدور عليه السورة يتعلق بالوفاء العقود والمواثيق والعهود".[13]
- قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي:" السورة كلها في العقود والمواثيق".[14]
- قال الدكتور محمد بن عبد الله الربيعة:" مقصد سورة المائدة في العقود والمواثيق، ولذلك جاء فيها لفظ العقود والمواثيق عدة مرات".[15]
- جاء في "نظرة العجلان في أغراض القرآن": هذه السورة تدور حول موضوع العقد مع الله تعالى فيما أوجب من عقيدة، وما أحله وحرمه بمواثيقه وكتبه المنزلة مع تبيان بعض أحكام تدور حولها تسلسل معانيها في دائرة لها وحدة موضوع من حيث معنى العقد الذي استهل به السورة ".[16]
- وقريب منه ما قال البقاعي، ونقل عبارته أ. د. محمد عبد المنعم القيعي مؤيدًا [17] :
- قال الأستاذ الشيخ محمود شلتوت: "وهكذا تبنى السورة من أولها إلى أخرها على حرفين واضحين:
- أحدهما: حث المؤمنين على التزام المواثيق والعهود وتحذيرهم عاقبة إهمالها، أو الإخلال بشيء منها.
- والآخر: النعي على أهل الكتاب نقضهم مواثيق الله تعالى، وأن هذا كان شأن جميعهم، تلقاه خلقهم الحاضر عن سلفهم الغابر، وأن الحاضرين إذا كانوا نقضوا ما بينهم وبين الله تعالى من مواثيق وبدلوا كتبه وخانوا رسله، فإن فيما أصاب سلفهم من عقاب على نكث العهود عبرة لهذا الخلف إذا استمر على خطة السلف، ولا بد أن يصيبهم جزاء نقضهم للعهود ما أصاب آباءهم وأجدادهم من قبل، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، هذا إلى ما عرضت السورة من عقود جزئية".[19]
- قال الفراهي: "وَسورَة الْمَائِدَة تركِّز على بِنَاء الْإِسْلَام على الْعَهْد الإلهي، بِذكر أواسط الْعَهْد ونهايته".[20]
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) }[البقرة:27،26].[21]
[h=1]3)القسم الثالث: قالوا:"الوفاء والتمام هو مقصود السورة، فمحور السورة يدور على أمرين:[/h][h=1] 1) الوفاءِ بالعقودِ ،2) وتمامِ التشريع ومكملاتِ الدين، فبها تم الدين"[22] .[/h]فقد تضمنت الوفاءَ بالعهود وما أخذ على الأمة، ومكملاتِ الدين : من أحكام الحلال والحرام ،كتحريم الصيد على المحرم الذي هو تمام الإحرام ، وتحريم الخمر الذي هو تمام حفظ العقل الدين ، وفيها عقوبة المعتدين من السُّرَّاقِ وقطاعِ الطرقِ والقتلةِ وهو من تمام حفظ الأموال والدماء ، وفيها إحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها الكمال والتمام أكثر من مرة ، وذكر فيها الكثير من إشارات الختم والتمام ، فالأحكام في هذه السورة مثل اللبنة الأخيرة في البناء ، مثل حرم عليكم كذا وكذا إلا ما اضطررتم إليه .
- جاء في كتاب "مقاصد قرآنية:" اسمها سورة العقود والمنقذة والتكميل، وهي بحق سورة التكميل؛ لأنها تضمنت بيان تمام التشريع ومكملات الدين والوفاء بعهد الرسل فيها ثم الدين، فالوفاء والتمام هو محور السورة".[23]
- جاء في البرهان للزركشي، وأسرار ترتيب القرآن للسيوطي:" وأما المائدة فسورة العقود ، تضمنت بيان تمام الشرائع، ومكملات الدين، والوفاء بعهود الرسل، وما أخذ على الأمة، وبها تم الدين، فهي سورة التكميل".[24]
- جاء في المختصر في تفسير القرآن الكريم: "الوفاء بالعقود والتزام الشرائع والحدود ،وإكمال الدين[25]".
- قال صالح بن عبد العزيز آل الشيخ:" سورة المائدة في بيان أحكام الحلال والحرام ،والعقود".[26]
أ- رسم الخطوط العامة والأسس الفكرية والمفاهيمية والعقدية والتشريعية للإسلام التي يراد من خلالها تأسيسُ الأمةِ والمجتمعِ الإيماني الفاضلِ المستَمِدِّ قوانينَه وقواعدَه وعقودَه ومواثيقَه التي هي ضوابطُ لكلِّ الحياةِ وأساسٌ للإيمانِ والعدلِ وخطوطُ استقامةٍ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، للأفراد مع أنفسهم ومع الله ومع المجتمع ومع الأعداء، وللأمة كذلك، ـ من حكم الله تعالى وحده بدون تحريف، فلا يحتكم إلا إلى شرع الله تعالى وحده، فتصان فيه العقائد، والدماء، والعقول، والأموال، والنظام.
ب-وبيان الانحرافات عند أهل الكتاب والمشركين في عقيدة التوحيد، بتقرير وحدانية الله تعالى وبإبطال الشرك ومنه التثليث، وفي التحليل والتحريم والذبائح، وتخليص المجتمع المؤمن منها، وكشف هؤلاء الأعداء، وكيدهم، وبيان موقف المؤمنين تجاههم.
ت-ليعصمَهم من الانحرافاتِ السلوكية والعقدية والزلل فيها؛ ولتكون الأمة خليقة أن تستخلف وتحمل رسالة الله تعالى إلى كل البشرية، بعد أن تخلى عنها أهل الكتاب بنقضهم العقود والمواثيق فسلبوها.
وإليك عباراتهم:
- خلاصة كلام سيد قطب[27] أن مقصود السورة: " تأسيسُ وإنشاءُ أمةٍ، وإقامةُ دولةٍ، وتنظيمُ مجتمعٍ على أساسٍ وبناءٍ من التصور الاعتقادي والاجتماعي الخاص:
- ببيان معنى «الدين» بأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من اللّه وحده في التحريم والتحليل، والحكمِ بما أنزل اللّه وحده دون تعديلٍ أو تحريفٍ أو تبديلٍ، وتبصيرِ الجماعةِ المسلمةِ بحقيقةِ ذاتها وحقيقةِ دورها.
- وبيان الانحرافات والتحريفات عند أهل الكتاب، والوثنية عند أهل الجاهلية، وتخليص المجتمع منها، وكشف هؤلاء الأعداء، وكيدهم، وبيان موقف المؤمنين تجاههم.[28]
- خلاصة ما جاء في موقع اسلاميات (سور القرآن دروس ومحاور):
- باختصار:" محور السورة تأسيس المجتمع الإسلامي الفاضل الذي تصان فيه العقائد، والدماء، والأموال، والنظام، ووضع وضبط قوانينه وقواعده وعقوده ومواثيقه التي هي ضوابط لكل الحياة، فهي حقًا سورة العقود؛ لتكون الأمة خليقة أن تستخلف وتحمل رسالة الله تعالى إلى كل البشرية، بعد أن تخلى عنها أهل الكتاب بنقضهم العقود والمواثيق فسلبوها".
- محور السورة بتفصيل:" محور السورة تأسيس المجتمع الإسلامي الفاضل الذي تصان فيه العقائد والدماء والأموال والنظام ،ووضع وضبط قوانينه وقواعده وعقوده ومواثيقه التي هي ضوابط لكل الحياة ، فهي حقًا سورة العقود : في علاقته مع الله سبحانه بالإيمان به وتوحيده وتحكيم دينه ، وفي حياته مع نفسه ، وفي حياته مع غيره من الأقربين والأبعدين والمجتمع والأمة في الحياة، ومع المعتدين ، و في التحليل والتحريم في الذبائح والمآكل والمشارب والمناكح وغيرها ، وتحكيم شرعه ، ثم في تعامله مع أهل الكتاب والمشركين، والأمر بالوفاء بها ، لتكون الأمة خليقة أن تستخلف وتحمل رسالة الله تعالى إلى كل البشرية، بعد أن تخلى عنها أهل الكتاب بنقضهم العقود والمواثيق فسلبوها، فكشفت عوارهم لتحذر منهم وتحذر المسلمين أن يسيروا كسيرهم بنقض العهود فيسلبوا كرامة الله".[29]
- جاء في صفوة التفاسير[31]:" نزلت هذه السورة منصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ، وجماعها يتناول الأحكام الشرعية ؛ لأن الدولة الإسلامية كانت في بداية تكوينها ، وهي بحاجة إلى المنهج الرباني الذي يعصمها من الزلل ، ويرسم لها طريق البناء والاستقرار".[32]
- التشريع لإقامة المجتمع المسلم المستمد أمره من الله تعالى.
- توحيد الله تعالى ومحاربة الشرك في عقيدة التثليث عند النصارى.
- إبطال تحريم وتحليل وأمر ونهي الجاهلية ورد ذلك كله إلى الله تعالى.
- جاء في محتويات سور القرآن الكريم: " تقوم سورة المائدة على أصلين كبيرين:
- الأصل الأول: تقرير وحدانية الله تعالى، ونفي كل شرك عنه سبحانه.
- الأصل الثاني: [التحذير من] التعدي على خصائص الألوهية والعبودية، بما أن الله سبحانه واحد في ذاته وصفاته، فلا يجوز لشخص كائنًا من كان أن يتعدى على خصائص الألوهية والعبودية على الإطلاق، فالله سبحانه هو الخالق، وهو المالك، فهو الذي يشرع، وهو الذي يحلل ويحرم وهو وحده الذي يطاع فيما أمر ونهى، وهو وحده الذي يتوجه الناس إلى بالعبادة، ومنها الوفاء بالعقود والعهود والذبح لله تعالى والنذر له ".[33]
- قال د. إبراهيم زيد الكيلاني:" سورة المائدة من أعظم سور القرآن الكريم التي تجلي بوحدتها الموضوعية خصائص الأمة الإسلامية الحضارية التي أعدها الله تعالى لتكون معلمة للبشرية شاهدة عليها".[34]
- ومن هذا القسم محمد حسين فضل الله وخلاصة كلامه:
تهدف هذه السورة إلى رسم الخطوط العامة والأسس الفكرية والمفاهيمية والعقيدية والتشريعية للإسلام التي يراد من خلالها بناء الفرد والمجتمع والحياة الإسلامية، وتنمية الواقع الفكري والروحي والعملي للإنسان المسلم عليها، وذلك من خلال:
- تصوّره للآفاق العقيدية الّتي يطوف فيها فكره، وتتحرك معها تصوراته عن الله والكون والحياة.
- أو من خلال النداءات للمؤمنين التي تحدّد لهم خط الاستقامة في العقيدة والتشريع ، لتربطهم بحكم الله كأساس للإيمان والعدل والاعتدال ، ولتوحي إليهم بأنَّ الله قد أكمل لهم الدين ، فلا مجال بعد ذلك لزيادة أو نقصان، فوضحت المسؤولية في حياته في علاقاته مع الله تعالى كالتوحيد والطهارة والصلاة ، ومع النّاس فرسمت الخطوط الإسلامية التشريعية العامة لقواعد التعامل بين النّاس والأشياء من حوله ، بكل ما تشتمل عليه من التزامات ومواثيق يفرضها الله عليه أو يُلزم بها نفسه، ومن جملة ذلك ما يأكلونه ويعيشونه ويمارسونه.
- أو من خلال الصراع الَّذي يخوضه المسلمون والآخرون من أهل الكتاب.[35]
[h=2]5)القسم الخامس:[/h]جاء في تفسير الكاشف: " سورة المائدة: انتقال العهد والولاية إلى المؤمنين".[37]
[h=1] [/h]
[h=1]5)المبحث الخامس: مناقشة الأقوال والترجيح بينها:[/h]إذا تأملنا الأقوال الخمسة السابقة نجدها قد وفقت لتحديد محورِ السورةِ أو جزءٍ من محورالسورة، والاختلاف بينهم في استيفاءِ ذكرِ المحور، أو الاقتصارِ على بعض هذا المحور، وإليك بيانَ ذلك:
- أما القسم الأول الذين قالوا: " مقصودها دعوة المؤمنين إلى الوفاء بالعقود والمواثيق والعهود في شتى صورها:
- سواء التي بينهم وبين الله تعالى، مما أوجب: من إيمان به، واعتقادٍ، وتوحيدٍ، والتزامٍ للشرائعِ والحدودِ وحكمِ الله تعالى، وفي التحليل والتحريم في الذبائح والمآكل والمشارب والمناكح.
- والتي بينهم وبين الناس من الأقربين كالمجتمع والأمة، والأبعدين كأهل الكتاب والمشركين
- وفي عقوده مع نفسه.
فهذا القول هو أقرب الأقوال للصواب، ويدل على هذا القول أمور كثيرة:
- بداية السورة وافتتاحها بقوله تعالى {{يَاأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [آية:1] كما تقدم شرحه في المبحث الثالث في المطلب الأول.
- خاتمة السورة تدل على هذا المقصد كما تقدم شرحه في المبحث الثالث في المطلب الثاني.
- اسم السورة يدل عليه كما تقدم شرحه في المبحث الثالث في المطلب الثالث.
- الانفرادات اللفظية التي وردت في السورة تدل عليه كما تقدم شرحه ومن ذلك: {المنخنقة، الموقوذة النطيحة، ذكيتم}، {يتيهون}،{يبحث}،{يُنْفَوا}{منهاجًا}، ومنها أمور متعلقة ببيان نكول اليهود والنصارى عن العقود التي بينهم وبين الله تعالى منها:
ب) نكول بني إٍسرائيل عن قتال أهل القرية التي أمروا بدخولها لم يذكر إلا هنا [آية 33، 34].
- الكلمات التي كثر استعمالها في السورة تدل عليه:
- كالعقود والميثاق، فقد ورد في هذه السورة كلمة العقود والميثاق والحث على الوفاء بها والتحذير من نقضها ست مرات:
- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [آية:1].
- {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آية:7].
- {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ} [آية:12].
- {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آية:13].
- {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [آية:14].
- {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [آية:70].
- كذلك تكرر فيها مادة (ف،س،ق)، بل هي أكثر سورة وردت فيها هذه المادة، فقد وردت ثمان مرات، ثم تليها سورة التوبة سبع مرات، وهذا يتلاءم مع موضوع السورة، حيث حذرت من نقض العهود والعقود والخروج عن أوامر الله سبحانه وحدوده وحكمه ، وجزاء من فعل ذلك وإليك هذه المواضع:
- {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [آية:3].
- {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [آية:25].
- {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [آية:26].
- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آية:47].
- {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [آية:49].
- {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [آية:59].
- {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [آية:81].
- {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [آية:108].
- نداءات المؤمنين التي كانت في هذه السورة أكثر من غيرها من السور حيث وردت ست عشرة مرة، وهي تمثل عقودًا مأخوذةً على المؤمنين، وقد تقدم ذكرها.
- الارتباط الذي ذكر بين سورة المائدة وسورة النساء[38]، وقد تقدم، وملخصه : أنه لما ذكر كثيرًا من العهود في سورة النساء ، وأخبر تعالى في سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام، واستمر تعالى في هتك أستارهم إلى أن ختم بآية في الإرث ، وختم الآية بقوله سبحانه: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[النساء:176]، فذكر أنه يبين لهم لئلا يضلوا ـ بين في هذه السورة حال من ضل وحاد عن طريقه من اليهود والنصارى حيث نقضوا العهود ، وحذرهم من الاستمرار في الضلال ، وأوصى المؤمنين بالإيفاء بالعقود التي فيها استقامتهم ،وبين بعضها في سورة النساء وأكملها في المائدة.
- الجو الذي نزلت فيه السورة يدل على مقصودها، فجزء من السورة من أواخر ما نزل من القرآن نزل في حَجَّة الوداع وما يقرب منها، حيث اكتمل الدين ولم يبق إلا الحفاظ على ما آتاهم الله سبحانه من العقود، فأوصاهم في هذه السورة بالحفاظ عليها وحذرهم من نقضها ، وكمل لهم بقيتها .
- وجزء من السورة نزل في وقت كان اليهود والمنافقون في المدينة ينقضون عهودهم مع المؤمنين فناسبه الأمر للمؤمنين الصادقين ومن ينتسبون للمؤمنين ولو ظاهرًا ـ كما قال ابن عطية وأبو حيان ـ بالوفاء بالعقود وبعدم نقضها، ثم تذكير اليهود والنصارى ووعظهم ليرعووا عن نقضهم العهود، وتحذير المؤمنين أن يفعلوا كفعلهم.
- القصص التي وردت في السورة تدل على هذا المقصود، وهي قصة نكول بني إسرائيل عن الدخول للأرض المقدسة، وقصة ابني آدم، وقصة الحواريين وسؤال الله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام، وقصة بني إسرائيل والنصارى عندما تركوا منهج الله فسلط الله عليهم الأمم.
" الإيفاء بالعقود التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ وأعظمها التوحيد" وهذا فيه أمران:
- الأمر الأول: أن العقود التي ذكرها أصحاب القسم الأول لم يوضحوا هدفها، وهو تأسيس المجتمع الإسلامي الفاضل الذي تصان فيه العقائد والدماء والأموال والنظام، ووضع وضبط قوانينه وقواعده وعقوده ومواثيقه التي هي ضوابط لكل الحياة، وأساسٌ للإيمانِ والعدلِ والاستقامة لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، للأفراد مع أنفسهم ومع الله ومع المجتمع ومع الأعداء، وللأمة، وهذا المعنى يدل عليه عدة أمور:
- قد أشارت له أول كلمات السورة وهي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فهذا النداء الذي بدأت به السورة ثم بقي يتوالى إلى آخر السور، يعتبر كل نداء منها قانونًا ينظم ناحية من الحياة عند المؤمنين، فيما يختص بأنفسهم وفيما يختص بعلاقتهم بأهل الكتاب، ويربي المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم، وهو نداء للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنتظمها وحدة الإيمان:
- فالنداء الأول: يطلب الوفاء بالعقود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود} [المائدة: 1].
- والنداء الثاني: يطلب المحافظة على شعائر الله وعدم إحلالها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ} [المائدة: 2].
- والنداء الثالث: يطلب الطهارة حين إرادة الصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ، وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6].
- والنداء الرابع: يطلب القوامية لله والشهادة بالعدل ويحذر من الظلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آية:8].
- والنداء الخامس: يطلب تذكر نعمة الله على المؤمنين بكف أيدي الأعداء عنهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آية:11].
- والنداء السادس: يدعو إلى تقوى الله وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آية:35].
- والنداء السابع: يحذر من اتخاذ الأعداء أولياء من دون المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آية:51].
- والنداء الثامن: يلفت نظر المؤمنين إلى أن المسارعة في موالاة الأعداء ردة عن الدين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آية:54]، وهكذا إلى آخر النداءات التي تقدم ذكرها.
- ثم إذا تأملنا في السورة نجدها قد حوت مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة: 1) حفظ الدين. 2) حفظ النفس .3) حفظ العقل. 4) حفظ العرض. 5) حفظ المال.
- حفظ الدين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية [آية:54].
- حفظ النفس: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [آية: 32].
- حفظ العقل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آية:90].
- حفظ العرض: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [آية:5].
- حفظ المال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [آية:38]، وهذا فيه تنظيم للمجتمع أي تنظيم، وخذ قوله تعالى { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[التوبة: 33] يظهر هذا الأمر بجلاء.
- و مما انفردت به السورة كلمة {منهاجًا}، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [آية:48]، و" المنهاج: هو الطريق الواضح البين المستنير"، وهذه الكلمة تشير لما ذكر في مقصود السورة " أن هذه العقود فيها رسم الأسس الفكرية والعقدية والتشريعية للإسلام والإيمان والاستقامةِ لكلِّ الحياةِ فكرًا وعقيدةً وتشريعًا، والتي يراد من خلالها: تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه بدون تحريف، وليعصمَهم من الانحرافاتِ السلوكيةِ والعقديةِ".
- وإذا تأملنا السورة نجدها قد نظمت المجتمع الإسلامي في جميع جوانبه، وهو المناسب لوقت نزولها وهو من آخر ما نزل بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وامتد نزولها في السنوات الأربع الأخيرة من الهجرة إلى نزول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[المائدة: 3] ، والمناسب لمعنى هذه الآية الكريمة.
- وهذا المعنى يتناسب مع موضوع سورة النساء ، وقد لاحظ كثير من العلماء أن كل سورتين متجاورتين في القرآن يكملان بعضهما بعضًا، وبينهما علاقات في الموضوع والألفاظ، كالبقرة وآل عمران، والنساء والمائدة ، والأنفال والتوبة، وعم والنازعات، والفلق والناس ، وهكذا جميع سور القرآن ، وإذا تأملنا ما ذكر هنا في مقصود السورة وما ذكر في مقصود سورة النساء، نجد ترابطًا وتكميلًا عجيبًا، ومقصود سورة النساء هو : " الحثُّ على تقوى اللهِ تعالى وتوحيدِه، والإيمانِ بجميعِ الحق الذي أرسله، المنتجِ للقيام بالعدل في جميعِ المعاملاتِ والعلاقاتِ التي تربط بين الخلقِ، والرحمةِ بينهم أفرادًا وأسرًا وأرحامًا ومجتمعاتٍ، لا سيما مع الضعفاء خاصة النساء، وتهدم ظلم المجتمعات الجاهلية في ذلك، مع بناءِ شخصية المجتمع المسلم واستقرارِه وتحصينه وانتظامِه داخليًا وخارجيًا وَفْق تقوى الله تعالى ".
- وأما الأمر الثاني الذي أنقصه أصحاب القسم الأول تصريحًا: فهو أن ينصوا على أن السورة ركزت على " "أن المجتمع الإيمان لا يستمد تشريعَه إلا من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ" وهذا ما ذكره أصحاب القسم الرابع، وهو إفراد الله سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك، والحكم بما أنزل اللّه وحده دون تعديلٍ أو تحريفٍ أو تبديلٍ،، فلا يحتكم إلا إلى شرع الله تعالى وحده، فالله سبحانه هو الإلهُ الواحدُ الخالقُ المالكُ الحاكمُ له السلطانُ وحده ، وهذا قد أشارت له السورة بوضوح تام وعليه أدلة واضحة:
- خاتمة السورة وهي آخر آية فيها: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آية:120]، اختتمت السورة بهذه الآية الدالة على الملك المطلق فبينت أن الملك على الإطلاق له لا لغيره ،فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه إلا السمع والطاعة ، ولا فيما يأخذ منهم من العهود والمواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض ، وأن الحكم بيده سبحانه.
- قد شددت السورة على من لم يحكم شرع الله سبحانه فجاء فيها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [آية:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آية:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[آية:47]،{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[آية:50].
- أنها " أكثر سورة تكرر فيها مشتقات الجذر" حكم" على صيغة الفعل: ففعل الأمر "احكم" العائد إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر فيها أربع مرات، والفعل المضارع " يحكم" العائد إلى الأمر بتطبيق حكم الله تعالى ذكر سبع مرات.
- وإذا تتبعت السورة تجدها ركزت على هذا الأمر كثيرًا ولولا التطويل لأوردت جميع المواضع.
[h=1]2.وأما القسم الثاني الذين قالوا:" السورة فيها خطان: الخط الأول: الأشياء التي إذا أخلّ بها الإنسان استحقّ الضّلال من مثل نقض الميثاق، والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل. والخط الثاني: الأوامر التي لو أطاعها الإنسان ينال الهداية"، فهذا الذي قالوه: جزء من المقصود كما هو ظاهر ولا يفي بجميع مقصد السورة.[/h][h=1]3.وأما قول القول الثالث القائل: " مقصودها الوفاء والتمام، فمحور السورة يدور على أمرين:[/h]الوفاءِ بالعقودِ ،2) وتمامِ التشريع ومكملاتِ الدين، فبها تم الدين: من أحكام الحلال والحرام ،كتحريم الصيد على المحرم الذي هو تمام الإحرام ، وتحريم الخمر الذي هو تمام حفظ العقل الدين ، وفيها عقوبة المعتدين من السُّرَّاقِ وقطاعِ الطرقِ والقتلةِ وهو من تمام حفظ الأموال والدماء ، وفيها إحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها الكمال والتمام أكثر من مرة ، وذكر فيها الكثير من إشارات الختم والتمام ، فالأحكام في هذه السورة مثل اللبنة الأخيرة في البناء ، مثل حرم عليكم كذا وكذا إلا ما اضطررتم إليه" .
فقولهم:" تمام التشريع ومكملات الدين" داخل فيما ذكرناه بعبارة:" بيانُ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ" وهو الذي نص عليه أصحاب القسم الرابع، وهذا أفضل من أن يكون التمام محورًا للسورة بل هو وسيلة يراد من خلالها تأسيس المجتمع الإسلامي الفاضل وتتميم ما يحتاجه.
- وأما أصحاب القسم الرابع الذين قالوا:" مقصودها باختصار: رسم الأسس الفكرية والمفاهيمية والعقدية والتشريعية للإسلام التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من الله تعالى وحدَه، وبيانُ الانحرافاتِ عند أهل الكتاب والمشركين، وتخليص المجتمع المؤمن منها؛ ليعصمَهم من الانحرافاتِ السلوكية والعقدية، ولتكون الأمة خليقة أن تستخلف وتحمل رسالة الله تعالى". فينقصهم جزء مما ذكره أصحاب القسم الأول وهو أن مقصود السورة:" بيانُ العقودِ والمواثيق، والترغيبُ البليغُ بالوفاء بها " وإن كنا لو تأملنا كثيرًا من عبارات القول الرابع نجدهم قد ذكروا هذا ضمنا أو تصريحًا لكن لا نجدهم ركزوا عليه كما فعل أصحاب القسم الأول ، فمجموع قول القسم الأول والرابع هو الصواب في تحديد المحور.
- وأما أصحاب القسم الخامس الذين قالوا " سورة المائدة: انتقال العهد والولاية إلى المؤمنين" فهذا واضح جدًا في السورة لكنه جزء من مقصود السورة .
" بيانُ العقودِ والمواثيق التي يراد من خلالها تأسيسُ وبناء المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستخلَفِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه المالكِ للسماواتِ والأرضِ وأعظمها التوحيد ، والترغيبُ البليغُ بخيَريِ الدنيا والآخرةِ للمؤمنين على الوفاءِ بهذه العقودِ ؛شكرًا لله على نِعَمه وإكمالِ دينه واستدفاعاً لنقمه ، والترهيبُ البليغُ من نقضِها وعدمِ الاعتناءِ بها بعقاب الدنيا والآخرة ؛ليعصمَهم من نقضِ العهودِ و الانحرافاتِ السلوكية والعقدية التي وقع فيها من سبقهم من اليهود والنصارى والمشركين، وكشفتها السورة وأبطلتها".
ويمكن اختصاره أكثر بأن يقال:" بيانُ العقودِ والمواثيقِ التي يراد من خلالها تأسيسُ المجتمعِ الإسلاميِّ الفاضلِ المستَمِدِّ تشريعَه من اللهِ تعالى وحدَه، وأعظمها التوحيد، والترغيبُ البليغُ للمؤمنين على الوفاء بها، والترهيبُ البليغ من نقضها".
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
كتبه : الفقير لعفو ربه : علي هاني العقرباوي
عمان الأردن، 24/ شعبان / 1440هـ ـ 29/ 4/ 2019
يوتيوب وفيس: علي هاني العقرباوي
[h=1] [/h]
[1] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د عمر عرفات.72.
[2] الموسوعة القرآنية، خصائص السور/ جعفر شرف الدين (2/208).
[3] وقال قبل ذلك:" والعقود جمع عقد، وهو ما يلتزمه المرء لنفسه، أو لغيره، وأساسه قد يكون شيئًا فطريًا تدعو إليه الطبيعة، وقد يكون شيئًا تكليفيًا تدعو إليه العقيدة، وقد يكون شيئًا عرفيًا يدعو اليه الالتزام والتعاهد، والعقد العرفي، أي المتعارف عليه لدى عامة الناس، يكون بين الفرد والفرد، كما في البيع والزواج، والشركة، والوكالة، والكفالة، إلى آخر ما تعارفه الناس ويتعارفون عليه من وجوه الاتفاقات، والكلمة في الآية عامّة تأمر بالوفاء بالعقود، فتشمل العقود كلها على اختلاف أنواعها وأشكالها، وتدخل في العقود والمعاملات، والمعاهدات، بظاهر اللفظ، كما تدخل في إقامة الحدود، وتحريم المحرّمات، بوصفها داخلة في عقد الإسلام، بين الله ورسوله، والذين آمنوا بالله ورسوله". أهداف كلّ سورة ومقاصدها/عبد الله محمود شحاته (ص63).
[4] المرجع السابق(ص63).
[5] الخرائط الذهنية / صفية عبد الرحمن سحيباني (ص4).
[6] (أول مرة أتدبر القرآن / عادل محمد خليل (48).
[7] أرشيف ملتقى أهل التفسير (22390).
[8] لمسات بيانية (محاضرات مفرغة) حاوره فيها د.حسام النعيمي(ص11،5).
[9] الميزان في تفسير القرآن /محمد حسين الطباطبائي/ دار إحياء التراث العربي (5/134).
[10] المرجع السابق (6/210).
[11] وجاء فيه " في قوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[آية:3] هدف السورة بدأ يظهر الآن وقد تم الدين ، فالتزموا بالعهد مع الله تعالى وحافظوا عليه ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه ، إنها سورة الحلال والحرام في الإسلام .(خواطر قرآنية (نظرات في أهداف سور القرآن / عمرو خالد (ص80))،ومعظم ما ذكره مأخوذ من كلام السامرائي، وقد أخذ ما جاء في خواطر قرآنية موقع إذاعة القرآن الكريم (فلسطين، نابلس) مع بعض الترتيب وقد جاء فيه :" هدف السورة نداؤها: هدف السورة جاء في أول السورة "{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}وهي تشمل ما عقده الإنسان من المسؤولية عن الأرض واستخلاف الله تعالى للإنسان، إلى أمور الطاعات كالصلاة والحجاب، إلى ترك المحرمات كشرب الخمر وأكل الحرام" ...والقاعدة العامة في السورة : إذا وفى المرء بالعهود فإن الله تعالى يوسع عليه ، وإن نقضها فإنه يضيق عليه .. وعلاقة قصة ابني آدم ـ عليه السلام ـ بقصة بني إسرائيل ودخولهم الأرض المقدسة هو أنهما نموذجان لنقض العهود: بنو إسرائيل نقضوا عهد الله لجبنهم ، وأما ابن آدم فقد نقض العهد لتهورهم فهما نموذجان متعاكسان ، وكلاهما فيه نقض العهد ..والآية الأخيرة آية محورية :{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ{[آية:115]،..فارتبطت قصة المائدة بقصة قوم طلبوا آية من الله تعالى فأعطاهم ما طلبوا وأخذ عليهم ميثاقًا شديدًا عن نقضوه فسيعذبهم عذابًا شديدًا، أما بالنسبة لأمتنا فقد أعطاها الله تعالى في هذه السورة الآية المحورية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[آية:3]، هذه الآية منحة ربانية مشابهة للآية التي أعطيها الحواريون وهي المائدة ، وهم قد وفوا بعهدهم فهل سيُوَفي المسلمون بعهدهم ؟.
[12] نحو تفسير موضوعي/ محمد الغزالي (66).
[13] وعبارته:" 1 ـأهم العناصر المشتركة تتمثل في أربع عناصر أساسية: 1) نقض الميثاق. 2) عقائد منحرفة حول التوحيد. 3) الإلزام بأحكام الكتاب (توراة أو إنجيل). 4) ـ طبيعة العلاقة أو الموقف من المؤمنين.
في حين انفرد الحديث عن اليهود في السورة بموضوع المواقف المخزية لليهود تجاه موسى عليه السلام، تفرد الحديث عن النصارى بالتذكير بمعجزات عيسى وقصة المائدة وتبرئة المسيح من مزاعم النصارى، كما نلاحظ بروز موضوع نقض الميثاق ضمن الهيكل البنائي لخطي اليهود والنصارى في السورة إذ جاء مستهلًا في بداية الحديث عنهم، وإذا ما أخذنا بمبدأ براعة الاستهلال في هذا المقطع فإننا نفهم خلفيات تفاعل المواضيع الآتية سواء في خط مواضيع النصارى أو مواضيع اليهود ، وبخصوص النصارى يمكن اعتبار ـ انطلاقًا من هذا التصور ـ أن نقض الميثاق هو الخلفية السلوكية المؤسسة لباقي المواضيع، كما أن هذه المواضيع يمكن أن تشكل إضاءات على موضوع نقض الميثاق بالمقابل.
2 - الأطروحة المركزية: لا شك أن من يتدبر سورة المائدة آخذا كما قلنا بـ: براعة الاستهلال. ـ مجمل العقود الواردة في السورة.
يفهم أن الموضوع الأساسي الذي تدور عليه السورة يتعلق: بالوفاء العقود والمواثيق والعهود.) د. محمد الغرضوف، بحث منشور في رابطة علماء المغرب ، ونشره أرشيف ملتقى أهل التفسير (14628).
[14] ونقله عنه عصام العويد ووافقه وزاد:" وهو كما ذكر فأولها {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وآخرها { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }، واسمها مأخوذ من ميثاق المائدة العظيم الذي قال الله في ناقضيه { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}، والعهود فيها أربعة: مع الله أو رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو المؤمنين أو الكافرين، وكلها واجبة الوفاء، وهذه النداءات تلخص المواثيق بين الله وعباده المؤمنين الواردة في هذه السورة العظيمة، وهي مواثيق تتعلق بما يلي:
ميثاق الذبائح والأنكحة، ميثاق الدخول في النسك، الطهارة للصلاة، العدل، الثبات وعدم الارتداد، شكر النعمة، ميثاق الولاء والبراء، كفارة اليمين، عدم كتم الشهادة، تحريم الغلو، الصبر عند الابتلاء، السمع والطاعة. (أرشيف ملتقى أهل التفسير/ عصام العويد (21430).
[15] الدكتور محمد بن عبد الله الربيعة (أستاذ الدراسات القرآنية المساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم): أرشيف ملتقى أهل التفسير/ 21400.
[16] نظرة العجلان في أغراض القرآن/ محمد بن كمال أحمد الخطيب (ابن شهيد ميسلون) (ص24).
[17] عبارة أ. د. محمد عبد المنعم القيعي:" مقصود سورة المائدة: الوفاء بما هدى إليه الكتاب". (الأصلان في علوم القرآن/ أ. د. محمد عبد المنعم القيعي(238).
[18] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (2/384).
[19] تفسير القرآن الكريم/ الإمام الأكبر محمود شلتوت (ص207).
[20] دَلَائِل النظام/الفراهي 94، أدخلت قول الفراهي مع القسم الأول ؛ لأننا لو وضعنا مكان عهد كلمة عقد لرأينا أنه هو عين القسم الأول.
[21] وقد عبر الشيخ سعيد حوى عن هذا المقصود عدة مرات بعدة عبارات وهذه عباراته:
" فالآيتان اللتان هما محور سورة المائدة، تتكلمان في الفسوق الذي هو الطريق إلى الكفر والنفاق.. وسورة المائدة تكلمت في الطريق إلى الفسوق، فذلك في سياقهما الرئيسي، إن آيتي البقرة اللتين تشكلان محور سورة المائدة هما:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.}[البقرة:27،26]، فهذا هو الطريق إلى الكفر والنفاق: نقض للعهد، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وإفساد في الأرض، فهؤلاء هم الفاسقون، وهم الخاسرون، وهم الكافرون، وهم المنافقون بقسميهم، وتأتي سورة المائدة لتحرر المرء من هذه الأخلاق، وتفصّل فيها، وتدعو إلى ما يقابلها... فهي تبدأ بقوله تعالى:{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1]،لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ}.. ففي السورة نماذج لنقض العهد مع الله، وتذكير بالوفاء بالعهود والعقود ثم إن في السورة تذكيرًا بما أمر الله أن يوصل فتذكر الولاء لله والرسول والمؤمنين وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة:{ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} ... وقد رأينا فيما ذكرناه نماذج وردت في السورة على قضايا الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، ونلاحظ كذلك أنَّ كلمة الفاسقين ترد في السورة كثيرًا، وكذلك كلمة الخاسرين مما يؤكد ما ذكرناه من أنّ محور سورة المائدة هو تلكما الآيتان من سورة البقرة... إن سورة المائدة تفصّل فيما هو نقض للميثاق، وفيما هو قطع لما أمر الله به أن يوصل، وفيما هو إفساد في الأرض، فتدعونا لتركه وتطالبنا بما لو فعلناه لا نكون فاسقين ولا خاسرين، أي: لا منافقين ولا كافرين، فهي تكمّل سورة النّساء، فإذا كانت سورة النساء قد فصّلت فيما هو من التقوى، فسورة المائدة تفصّل فيما ليس من التقوى لتعمّق عندنا قضية التقوى وتحققنا بها بتخليصنا من أضدادها... فالسورة تبدأ بذكر ما يحرّرنا من نقض العهد الذي يستحق به صاحبه الإضلال،.. وعلى هذا فمحور سورة المائدة يتضمّن خطين: الخط الأول: الأوامر التي لو أطاعها الإنسان ينال الهداية. الخط الثاني: الأشياء التي إذا أخلّ بها الإنسان استحقّ الضّلال من مثل نقض الميثاق، والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ومن ثمّ كان فهم سورة المائدة والتخلق والتحقق بما طولبنا به فيها من الأهمية بالمكان العظيم.. إنّ سورة المائدة في محورها الرئيسي تبيّن الطريق الذي إن سلكه إنسان فإنه لا يستحق هداية الله، ويأتي في معرض ذلك ذكر الطريق الذي إذا سلكه إنسان يستحق هداية الله. (الأساس في التفسير/ سعيد حوّى (3/ 1295، 1296، 1297، 1345، 1450).
[22] قال ابن عاشور:" وقد احتوت هذه السورةُ على تشريعاتٍ كثيرةٍ تُنْبِئُ بأنها أُنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افْتُتِحَتْ بالوصايةِ بالوفاءِ بالعقودِ ـ ـ فكانت طالعتُها براعةَ استهلالٍ". (التحرير والتنوير/ ابن عاشور) (6/ 72).
[23] وتمام كلامه:" ..... ؛ لأن فيها تحريمَ الصيدِ على المحرم الذي هو تمام الإحرام ، وتحريمَ الخمر الذي هو تمام حفظ العقل الدين ، وفيها عقوبة المعتدين من السراق وقطاع الطرق والقتلة وهو من تمام حفظ الأموال والدماء ، وفيها إحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها الكمال والتمام أكثر من مرة ، وذكر فيها الكثير من إشارات الختم والتمام ، فالوفاء والتمام هو محور السورة، فالأحكام في هذه السورة مثل اللبنة الأخيرة في البناء ، مثل حرم عليكم كذا وكذا إلا ما اضطررتم إليه ، وما من شيء إلا أحله الله تعالى لمن اضطر إليه ، وفي الطهارة إن كنتم جنبًا فتيمموا.
المائدة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم ، نزل بعدها سورة التوبة والنصر ، نزلت منصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحديبية ؛ لذلك لا يوجد فيها منسوخ ، وفيها ثماني عشرة فريضة ، وخمسة عشر نداء للذين آمنوا [الصواب ستة عشر]، وأولها أوفوا بالعقود السابقة واللاحقة ، وبين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أن العهود ـ وهي كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ما أحل الله وما حرم ، وما فرض من تكاليف وأحكام"، ما علمتم حكمته وعلته كالخمر، وما لم تعلموا كالصيد في الإحرام ، والله سبحانه يحكم ما يريد ليرى مقدار الرق والعبودية عند المكلف؛ لذلك جاءت كلمة التقوى في كثير من الفواصل أو البدايات لكثير من الآيات، فالمهم تصديق الله تعالى في أوامره بغض النظر عن حكمتها.. فكونوا مثل الحواريين صدقوا عيسى ـ عليه السلام ـ و صدقهم هذا سينفعهم الله به يوم القيامة ، ولا تكونوا مثل بني إسرائيل في نقضهم العهود ، وما كان منهم عند دخولهم الأرض المقدسة فعاقبهم الله تعالى بالتيه أربعين سنة ، واتقوا الله تعالى ؛ لأن الله تعالى يتقبل من المتقين كما تقبل من قابيل قبل أن يقتله أخوه هابيل.(مقاصد قرآنية /الدكتور ذياب محمد شادرما/المكتبة الوطنية (ص188ـ 190) . ومعظم كلامه أخذه من " البرهان في علوم القرآن/ محمد بن بهادر الزركشي أبو عبد الله/ الناشر دار المعرفة (1/ 262).
[24] " وكل من السيوطي والزركشي نقله عن بعض العلماء وأيداه في هذا ، ولم يسميا العالم وتمام عبارته :" ...فهي سورة التكميل؛ لأن فيها تحريم الصيد على المُحْرم الذى هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السُّرَّاق والمحاربين الذى هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذى هو من تمام عبادة الله تعالى، ولهذا ذكر فيها ما يختص شريعة محمد ـ صلّى اللَّه عليه وسلم ـ كالوضوء والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإكمال والإتمام، وذكر فيها أن من ارتدّ عوض اللَّه بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملًا، ولهذا أورد أنها آخر ما نزل فيها من إشارات الختم والتمام. البرهان في علوم القرآن/ محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله/ الناشر دار المعرفة (1/ 262)، (أسرار ترتيب القرآن/ السيوطي (77)، ونقلته الموسوعة القرآنية/ إبراهيم بن إسماعيل الأبياري/ مؤسسة سجل العرب(2/ 287)، ومنه أخذ صاحب كتاب "مقاصد قرآنية" الذي سبق نقل كلامه.
[25] المختصر في تفسير القرآن الكريم /جماعة من علماء التفسير ص77.
[26] مقاصد السور وأثر ذلك في فهم التفسير/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (18).
[27] وهذا أدق مما قاله صاحب كتاب "مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور" في بيان مذهب سيد قطب في مقصود سورة المائدة حيث قال:" وشخصية سُورَة الْمَائِدَة هِيَ بَيَان وحدة هَذَا الدّين، الْقَائِمَة على وحدانية الله تَعَالَى" مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور/ عادل بن محمد أبو العلاء (86).
[28] وعبارة سيد قطب:" شأن آخر يتناوله سياق السورة غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح ، وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية وغير بيان معنى «الدين» وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من اللّه وحده في التحريم والتحليل ، والحكم بما أنزل اللّه وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل، ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة دورها الحقيقي في هذه الأرض وموقفها تجاه أعدائها وكشف هؤلاء الأعداء ، وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها .. إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة.. "(2/ 829)
وقال قبل ذلك: "ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة، وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد.. الأصل فيه إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك.. وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم.. إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين.. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها، إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها.. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح أو ألوانا من الأعمال والمسالك.. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى «الدين» كما أراده اللّه وكما فهمه المسلمون. أيام أن كانوا مسلمين. لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني إنما ينص عليه نصا ويؤكده تأكيدًا ويتكئ عليه اتكاءً شديدًا وهو ينص على أن هذا كله هو «الدين» وأن الإقرار به كله هو «الإيمان» وأن الحكم به كله «هو الإسلام» (2/ 825).
[29] موقع اسلاميات/سور القرآن دروس ومحاور (في الانترنت).
[30] "من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم/عيس وادي، محمود مهنا. ص68.
[31] إلا أن الصابوني لم يذكرالميثاق.
[32] صفوة التفاسير/ محمد علي الصابوني (1/298).
[33] محتويات سور القرآن الكريم / أحمد عبد الله الطويل /دار الوطن للنشر (65،64).
[34] ثم قال:" خصائص الأمة الإسلامية الحضارية كما تعرضها السورة: 1) الوفاء بالعقود وبناء الشخصية الحضارية.2) القيام بالعدل وإقامة دولة القانون، والتعاون لنصرته وضمان حرية الناس في تنقلهم وحفظ كرامتهم وأموالهم. 3) الاعتراف بالآخر ولو اختلفنا معه في العقيدة. 4) حماية الحياة البشرية وصيانتها .5) حماية أموال الناس وصيانتها. 6) التميز الحضاري عن عادات الجاهلية في المطاعم والذبائح والمشارب. 7)إقامة مجتمع العفة والطهر والمحافظة على الأعراض والأنساب، وذلك بالتميز الحضاري عن عادات الجاهلية وتساهلها في العلاقات بين الرجال والنساء واستباحة المحرمات. 8) إقامة المجتمع الإسلامي على قيم العبادة والذكر والطهارة الجسدية والروحية. 9) ترسيخ وحدة الأمة بغرس قيم الولاء لله ورسوله وجماعة المؤمنين، وتطهيرها من الولاء للأجنبي، وإغلاق أبواب الفتنة والتجسس للأجنبي وحماية أمن المجتمع. 10) التذكير بدور العلماء في تحقيق هذه الوحدة .11) تعميق الوعي الإيماني بأصول العقيدة الإسلامية وبيان فساد عقائد أهل الكتاب وما أصابها من تحريف وتغيير... وهي أيضًا سورة الأخيار ، وكأنها عنوان للمجتمع القرآني ، مجتمع الأخيار الذين اجتباهم الله تعالى ليكونوا خير أمة أخرجت للناس بصدق إيمانهم ،ونصرة دينهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، إقامتهم لحدود الله تعالى ، والتزامهم بأحكامه، وتحليهم بأخلاقه، واستقامتهم على طريقه ، وقد وُجِدتْ في هذه السورة العظيمة كنوزٌ من القيم الإيمانية والتربوية والأخلاقية ، والأحكام التشريعية التي تكوِّن الشخصية الإسلامية الحضارية ، وتبرز معالم الأمة المسلمة وخصائصها الحضارية .(خصائص الأمة الإسلامية كما تبينها سورة المائدة/د.إبراهيم زيد الكيلاني / من منشورات جمعية المحافظة على القرآن الكريم (8،5،4).
[35] وهذا نص عبارته:" تهدف هذه السورة كغيرها من السور إلى تنمية الواقع الفكري والروحي والعملي للإنسان المسلم ، سواء في نطاقه الفردي أو الاجتماعي ، وذلك من خلال تصوّره للآفاق العقيدية الّتي يطوف فيها فكره ، وتتحرك معها تصوراته عن الله والكون والحياة . ، أو من خلال حركة المسؤولية في حياته في علاقاته بالنّاس والأشياء من حوله ، بكل ما تشتمل عليه من التزامات ومواثيق يفرضها الله عليه أو يُلزم بها نفسه ، أو من خلال الصراع الَّذي يخوضه المسلمون والآخرون من أهل الكتاب والمشركين ، حيث يثيرون المشاكل والشبهات والتحديات والمواقف السلبية ضد الإسلام والمسلمين ، مبيناً لهم كيف يجب عليهم أن يعيشوا هذه التحديات فكرياً وروحياً من خلال صفاء الفكر ووضوحه ، وقوة الحجة وثباتها الّتي يضفيها الإسلام على معتنقيه ، حيث يزوّدهم بصلابة الموقف ، وحيوية الروح ، وسماح الشعور .
وهكذا جاءت هذه السورة لتؤكد الخطوط الإسلامية التشريعية العامة لقواعد التعامل بين النّاس مع بعضهم البعض ومع الله ، إضافة إلى التشريعات الخاصة التي تثير قضايا الناس في ما يأكلونه ويعيشونه ويمارسونه من علاقات إنسانية خاصة ، ولم تترك أمر العبادة غامضاً مطلقاً ، بل عملت على التخطيط لبعض الملامح التشريعية لأعمال الطهارة والصلاة . . . وتحركت عبر خطوات العقيدة في الفكر والحياة لتناقش أهل الكتاب وغيرهم في كل القضايا التي كانت محلاً للنزاع والخلاف والتساؤل ، ولتناديهم والمؤمنين كي يستقيموا في خط التصور والعمل ، فتعنف معهم تارة وتلين أخرى ، لأنَّ القضية تتعلق بالجانب العميق من قاعدة الحياة ، لا بالقضايا الطارئة البسيطة التي تفرض نوعاً من المجاملة في الأسلوب .
وأطلقت بعد ذلك للمؤمنين النداءات التي تحدّد لهم خط الاستقامة في العقيدة والتشريع ، لتربطهم بحكم الله كأساس للإيمان والعدل والاعتدال ، ولتوحي إليهم بأنَّ الله قد أكمل لهم الدين ، فلا مجال بعد ذلك لزيادة أو نقصان ، لأنَّ الدين هو الحقيقة ، وهو الكلمة الإلهية الفاصلة ، وهو المنهج المعصوم الذي { لاَّ يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، فليس هناك فراغٌ ليملأه الآخرون ، وليس هناك خطأ ليصححه المتفلسفون ، { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ يونس : 32 ] .
وهكذا نجد في هذه السورة النموذج الإسلامي الحي للخطوط العامة التي يراد من خلالها بناء الفرد والمجتمع والحياة الإسلامية على الأسس الفكرية والمفاهيمية والعقيدية والتشريعية للإسلام ، لنلتقي في حركة الحياة بالإنسان الذي يؤمن بالله من خلال الفكر والعقل ، ويتحرك في حياته من خلال الوحي ، وينطلق في شجاعة الموقف الفكري والعملي ، ليدعو الناس إلى الحوار ، ويتحدى الأفكار كلها بالحجة والبرهان ، ويحمل مسؤولية الكون والحياة على أساس الإسلام الكامل الشامل ، الذي يخطط لكل حركة ، ويحتوي كل مشكلة ، ويفسح المجال أمامه لكل إبداع .(من وحي القرآن/محمد حسين فضل الله / دار الملاك (8/7).
[36] الانفرادات اللفظية، دلالاتها وعلاقتها بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية (من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة المائدة) / عبيدة أسعد (ص190).
[37] تفسير الكاشف/ محمد باقر حجتي، عبد الكريم شيرازي (وهو تفسير بالفارسية لم يترجم)، نقل كلامهما ، كتاب:" المنهج الترابطي ونظرية التأويل"(دراسة في التفسير الكاشف/جواد علي كسار (92، 93).
[38] هناك علاقات كثيرة بين السورتين لكن اقتصرت على ما يتعلق بموضوع السورة.