الجزء الثاني في تحقيق الفرق بين قبل ومن قبل

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
[h=1]حذف (من): [/h][h=1]الحالة الأولى: [/h][h=1]ما أفاد معنيين معا : [/h][h=1]المعنى الأول: بيان أن شيئا قبل شيء فيفيد أولا أن التركيز فيه على أن شيئا قبل شيء بدون نظر لابتداء ولا تأكيد ولا تنصيص على عموم أو استيعاب[1] .[/h].قال الإسكافي في درة التنزيل (1/898)[2]: أما دخول "مِن " وحذفها فهو أن القائل إذا قال: (كم أهلكنا قبلهم) فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال: (من قبلهم) فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله إلى أخره ظرف للإهلاك، لا يختص به بعضه دون بعض.
[h=1]المعنى الثاني: [/h] إفادة عموم القبل أي العموم في جميع الأزمنة الماضية ، فـ( قبل) فالمراد جميع المدة السابقة أي جميع الزمن المتقدم على زمانهم بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان و استغراق جميعه، الذي يوجد قبل المضاف ، لكن بدون نظر لابتداء ولا قرب ولا استغراق من أول لحظاته ولا تأكيد ، لأن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد أو لأن السياق لا يتطلب التوكيد ، فذكر (من) في (من قبلك) أبلغ من ( قبل) بدون (من).
ذكر إفادة حذف (من) للاستيعاب من غير تأكيد ولا تعيين ابتداء وانتهاء: ابن جماعة[3] و الإسكافي[4] ، وأبو جعفر بن الزبير [5]، والبقاعي [6] وصالح الشتري[7] وغيرهم.
وقبل ذكر الأمثلة نقرر أن القرآن الكريم أدق من ميزان الذهب في كل شيء ومن ذلك مقدار احتياج السياق للتأكيد وعدمه فأكد القرآن الكريم بـ(من) (من قبل) في السورة التي تحتاج إلى توكيد ولم يؤكد في السور التي لا تحتاج إلى توكيد وهذا يتطلب منا بعض التأمل لإدراك هذا : فذكر (من) جاء مع التكذيب في السور الآتية : الأنعام التي فيها نقاش طويل شديد مع المشركين ، وكذلك سورة يونس التي مبناها كالأنعام في الرد على شبهات المشركين ، وسورة سبأ التي فيها الرد على شبهات المشركين وإبطال شركهم بقوة وتهديدهم ، وكذلك سورة فاطر ، وسورة الزمر ، وسورة الملك .
وجاء ترك (من) عند الكلام على إهلاك الأقوام السابقين : في سورة مريم ، وطه ، وق ، وهذه السور لم تتكلم على الإهلاك إلا في آيات قليلة وليس مبناها على هذا ، وهذا نستطيع أن ندركه بالتأمل[8] ، و بين درجة التوكيد في كل من هذه المواضع أبو جعفر بن الزبير [9]، والإسكافي [10].
وعلينا أن نتنبه إلى أن (من) قد تحذف ـ مع ما سبق ـ لأمر لفظي كأن يتقدمها حذف من فتحذف.
[h=1]أمثلة الحالة الأولى: [/h][h=1] الآية الأولى: [/h]{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}( 10 /91).
قبل تفيد معنيين:
[h=3]المعنى الأول: [/h]بيان أن عصيانه كان قبل الغرق ونزول العذاب بدون نظر لابتداء ولا تأكيد ولا تنصيص على عموم أو استيعاب .
[h=3]المعنى الثاني:[/h] إفادة عموم القبل مدة عمرك كلها في الفساد وقد أمهل فلم يتب فلا تنفعه التوبة ، فـ( قبل) فالمراد جميع المدة السابقة بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان واستغراق جميعه، ، لكن بدون نظر لابتداء ولا قرب ولا استغراق التعميم من أول لحظاته ولا تأكيد ، ، لأن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد لأن كونه مفسدا واضح فلا يحتاج للتأكيد ولا سيما وهو الآن في فترة النزاع فمن تحقيره وتعذيبه أن لا يؤكد له .
والمعنى : أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك
قال البقاعي : وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام : { آلآن } أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه { وقد } أي والحال أنك قد { عصيت } أي بالكفر { قبل } أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت ، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت ، فكيف وهي بالكفر ! { وكنت } أي كوناً جبلياً { من المفسدين* } أي العريقين في الفساد والإفساد
*******************
[h=1]الآية الثانية : [/h]( قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [11: 62]
تفيد أن الرجاء كان قبل دعوته أما بعد ما جاءهم بهذه الدعوة فلا يرجونه ، وأن هذا الرجاء كان في جميع مدة القبل أما الآن فلا رجاء، ولم يؤكدوا لأن هذا الأمر وهو رجاؤنا كان واضحا جدا لك ولغيرك فلا يحتاج للتأكيد، ومعنى الآية : كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لنتفع بك وتكون مشاورا في الأمور ومسترشدا في التدابير فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك .
قال البقاعي : { مرجواً } أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح ، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا : { قبل هذا } أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد [11].
*******************
[h=1]الآية الثالثة : [/h]{ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [51: 16]
حذف من يفيد أولا أنهم كانوا قبل دخولهم الجنة وقبل هذا النعيم محسنين محسنين بالطاعة والعمل الصالح فما نالوه من النعيم نالوه بإحسانهم ، وتفيد أيضا الاستيعاب في جميع مدة القبل في الدنيا في دار العمل ، بدون حاجة إلى التأكيد ، فالسياق لا يحتاج لا تأكيد.
قال البقاعي { إنهم كانوا } أي كوناً هو كالجبلة . ولما كان الإنسان إما أن يكون مطيعاً في مجموع عمره أو في بعضه . . . على الطاعة ، وكانت الطاعة تجبُّ ما قبلها ، وتكون سبباً في تبديل السيئات حسنات فضلاً منه سبحانه ، فكان كل من القسمين مطيعاً في جميع زمانه ، نزع الجارّ فقال : { قبل ذلك } أي في دار العمل ،
قال ابن عاشور: وفائدة الظرف في قوله : { قبلَ ذلك } أن يؤتى بالإشارة إلى ما ذكر من الجنات والعيون وما آتاهم ربهم مما لا عين رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيحصل بسبب تلك الإشارة تعظيم شأن المشار إليه ، ثم يفاد بقوله { قبل ذلك } ، أي قبل التنعم به أنهم كانوا محسنين ، أي عاملين الحسنات كما فسره قوله : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } الآية . فالمعنى : أنهم كانوا في الدنيا مطيعين لله تعالى واثقين بوعده ولم يروه .
[h=1]******************[/h][h=1]الآية الرابعة: [/h][h=1]{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [19: 74][/h]تفيد فائدتين : أن الإهلاك للأمم المكذبة ولو كانت في غاية الإنعام حصلت قبلهم وحذف( من) يدل على الاستيعاب فهي سنة مطردة لكن من غير تأكيد ، وعدم التأكيد، لأن السياق إلى السياق [12] ، وأيضا ليدل على كون كثيرا من الأمم أهلكت وكانت أكثر أثاثا ورئيا لا يحتاج إلى دليل لوضوحه وكثرة شواهده ولأن السياق لا يحتاج لتأكيد ، ففي سورة مريم ليس هناك توكيد للوعيد وزيادة في التشديد بحيث يحتاج لزيادة من لا سيما أن سورة مريم ذكر فيها الرحمة كثيرا بل هي أكثر سورة ذكر فيها اسم الرحمن.
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل:
ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف ـ ـ ـ وإذا تأملت قوله تعالى في الآية الأولى من سورة مريم "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " لم تجدها في نفسها أو فيما انتظم معها متقدما أو متأخرا توازن في التهديد واحدة من تلك الآي الثلاث ألا ترى فيما نوظر بين المعنيين بهذه الآية والمهلكين قبلهم من القرون السالفة وأن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال وكثرة المال حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلكين قبل هؤلاء أنهم كانوا أحسن أثاثا ورئيا فهذه الآية كقولهم "نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى "إنما نملى لهم ليزداوا إثما " ومع ما أعقبت هذه الآية من المنتظم معها من قوله "فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا " فليست في التغليظ كتلك الآي إذا حقق ما قبلها.
قال البقاعي: ولما كان المراد استغراق الزمان ، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال : { قبلهم من قرن } أي شاهدوا ديارهم ، ورأوا آثارهم ؛ ثم وصف كم بقوله: { هم } أي أهل تلك القرون { أحسن } من هؤلاء { أثاثاً } أي أمتعة { ورئياً * } أي منظراً
أبو السعود { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } أي كثيراً من القرون التي كانت أفضلَ منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم من الأمم العاتيةِ قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب ، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا ، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفي ، كأنه قيل : فلينتظِرْ هؤلاءِ أيضاً مثلَ ذلك ( فكم ) مفعولُ أهلكنا و ( من قرن ) بيانٌ لإبهامها .
[h=1]******************[/h][h=1]الآية الخامسة: [/h]{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [19: 98]
مثل الآية السابقة وهي أيضا في سورة مريم

قال البقاعي: ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول { ينذر } : فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم ، عطف عليه قوله : { وكم أهلكنا } [SUP]39[/SUP] بما لنا من العظمة ، ولما كان المراد التعميم ، أثبت الظرف عرياً عن الجار ، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال : { قبلهم من قرن } كانوا أشد منهم شدة ، وأكثر عدة ، وأوثق عدة ، فلم يبق إلا سماع أخبارهم ، ومشاهدة آثارهم[13].
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل:
ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف ـ ـ ـ وإذا تأملت قوله تعالى في الآية الأولى من سورة مريم "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " لم تجدها في نفسها أو فيما انتظم معها متقدما أو متأخرا توازن في التهديد واحدة من تلك الآي الثلاث ألا ترى فيما نوظر بين المعنيين بهذه الآية والمهلكين قبلهم من القرون السالفة وأن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال وكثرة المال حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلكين قبل هؤلاء أنهم كانوا أحسن أثاثا ورئيا فهذه الآية كقولهم "نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى "إنما نملى لهم ليزداوا إثما " ومع ما أعقبت هذه الآية من المنتظم معها من قوله "فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا " فليست في التغليظ كتلك الآي إذا حقق ما قبلها.
[h=1]******************[/h][h=1]الآية السادسة: [/h]{ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}.(36/ 31) سورة يس.
تفيد أن إهلاك القرون حصل قبلهم فلهم أن يعتبروا به وأنه استوعب جميع مدة القبل فهي سنة ، ولم يؤكد لأن السياق في سورة يس ليس لتفصيل أحوال الأمم السابقة بل لاستعراض آيات الله وأحوال يوم القيامة والرد على شبه الكفار وانظر إلى السياق [14]، وأيضا لظهور الأمر كأنه يقول هذا أمر واضح جدا لا يحتاج إلى تأكيد ، وأدنى نظرة إلى القرون السابقة تظهر أن الأمم التي أهلكت لم يرجع منهم أحد، ولما كان السياق في سورة السجدة أشد مما ها هنا زاد من .
قال البقاعي -ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله : { ألم يروا } أي :يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار : { كم أهلكنا } على ما لنا من العظمة ، ودل قوله : { قبلهم } - بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار - على أن المراد :جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم ، وإدخال الجار على المهلكين يدل على أن المراد بعضهم ، فرجع حاصل ذلك إلى أن المراد : انظروا جميع ما مضى من الزمان هل عذب فيه قوم عذاب الاستئصال إلا بسبب عصيان الرسل فقال : { من القرون } أي :الكثيرة الشديدة الضخمة ، والقرن [15]
وللسامرائي رأي آخر يوافق ما ذكرنا من جهة ويخالفه من جهة أخرى:
[36: 31]قال السامرائي في كتاب على طريق التفسير البياني: وأما قوله تعالى {قبلهم}{ من قبلهم} فإن( من) تفيد ابتداء الغاية فتفيد الزمن الذي قبل المعنيّين بالضمير مباشرة فما قبله وأما قبلهم فيفيد الزمن القريب والبعيد كما هو معلوم فقوله { كم أهلكنا من قبلهم} فيه تهديد وتوعد أكبر من قوله تعالى { قبلهم} بدون من وذلك لأن إهلاك القريب أدعى إلى الموعظة والعبرة من إهلاك البعيد وهو أشد تأثيرا في النفوس فكلما كان الهالك أقرب زمنا من الشخص كان أدعى إلى الموعظة من ذوي الأزمان السحيقة ولذلك يستعمل من قبلهم في مواطن التهديد والتوعد الشديد ففي السجدة السياق أشد { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) ففي السجدة يمشون في مساكنهم وهذا أدل على التوعد وفي السجدة { إن في ذلك لآيات} وفهيا { أفلا يبصرون} { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى ــ} فالمقام في السجدة أدل على التهديد والوعيد من سورة يس فجاء مع من في سورة يس إضافة إلى ما ذكرناه وهو أنه قال في ختام الآية { أنهم إليهم لا يرجعون} وذلك ليدل على أن الأمم لا ترجع إضافة إلى ما ذكرناه وهو أنه قال في ختام الآية { أنهم إليهم لا يرجعون} وذلك ليدل على أن الأمم لا ترجع إلى الدنيا وإن تطاول عهدها بالفناء وابتعد زمانها وأن الأمم الهالكة جميعها لا تعود إلى الدنيا وليس ذلك مختصا بما زمنه قريب منهم فإنه لم ترجع أمة أبيدت وأهلكت منذ أول الدنيا إلى الآن ولن ترجع إليها في المستقبل وإنما سيجمعها ربها ويرجعها إليه وهذا أدعى إلى حذف من ليشمل جميع الأمم ابتداء من أول الدنيا .
[h=1]******************[/h][h=1]الآية السابعة : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [56: 45].[/h]حذف من يفيد فائدتين أن قبل هذا العذاب الفظيع الذي وصلوا إليه ، كان هناك ترف استعمل في الكفر والمعصية تسبب في هذا ، وتفيد التعميم في جميع فترة الدنيا لكن بدون تأكيد لأن السياق لا يحتاج إلى تأكيد لأنه حكاية لجرائمهم [16] ، من الله تعالى لعباده لا سيما المؤمنون فلا يحتاج إلى تأكيد .
قال البقاعي وعبر بالكون دلالة على العراقة في ذلك ولو بتهيئهم له جبلة وطبعاً فقال : { كانوا } أي في الدنيا . ولما كان ذلك ملازماً للاستغراق في الزمان بميل الطباع ، نزع الجار فقال : { قبل ذلك } أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه { مترفين * } أي في سعة من العيش منهمكين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين فيها لترامي طباعهم إليها فأعقبهم ما في جبلاتهم من الإخلاد إلى الترف عدم الاعتبار والاتعاظ في الدنيا والتكبر على الدعاة إلى الله ، وفي الآخرة شدة الألم لرقة أجسامهم المهيأة للترف بتعودها بالراحة بإخلادها إليها وتعويلها عليها
قال ابن عاشور : والإِشارة في قوله : { قبل ذلك } إلى { سموم وحميم وظل من يحموم } [ الواقعة : 42 ، 43 ] بتأويلها بالمذكور ، أي كانوا قبل اليوم وهو ما كانوا عليه في الحياة الدنيا .
ولننظر في السياق: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50).
******************
[h=1]الآية الثامنة : [/h] { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [20: 128].سورة طه
تفيد أمرين : أن هذا الإهلاك كان قبلهم فهم في مقدورهم أن يعتبروا وينظروا وأن الإهلاك استوعب مدة القبل فهي سنة مطردة ، وسورة طه ليس السياق بمقتض للتأكيد ألا ترى ما قوله تعالى "أفلم يهد لهم " وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله "لأولى النهى " من عظيم الحلم وعلى الرفق وكذا ما بعد فإن هذا من منتظم تلك الآي الثلاث ، فسياق سورة طه لذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون ثم أحوال الآخرة وليس فيها تفصيل لأحوال الأمم السالفة [17] قال د صالح الشتري: فسورة السجدة تتميز بالشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد فانظر إلى قوله تعالى{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} وكان ختم السورة بقوله { وانتظر إنهم منتظرون} وقد وقعت الآية بين هذين الوعيدين والتهديدين فناسب ذكر من وأما آية طه فلم يرد فيها من التغليظ في الوعيد وتوالي التهديد ما في سورة السجدة وهذا في الحقيقة استقراء واستخلاص جيد من أبي جعفر بن الزبير وأيضا لما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين ، وأحاديث المكذبين ، بسبب العصيان على الرسل ، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان ، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم.
******************
[h=1]الآية التاسعة:[/h] { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ) [22: 42].الحج
لم تؤكد لأن الكلام على إهلاك الأقوام السابقين لم يأخذ كثيرا من السياق فلم يأخذ إلا آيات معدودة [18] ، ولأن السياق في تفصيل الحج وأحوال الآخرة
الفخر الرازي : اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأذن في مقاتلتهم وضمن للرسول والمؤمنين النصرة وبين أن لله عاقبة الأمور ، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره ، فقال : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم ، وذكر الله سبعة منهم .
قال أبو حيان: { وإن يكذبوك } الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم ، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة[19] .
[h=1]******************[/h][h=1]الآية العاشرة:[/h]{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} [38: 12] سورة ص.
يقول علي هاني: لم يؤكد هنا لأنه أكد في بداية السورة وأيضا زيادة في تحقيرهم المناسب لقوله تعالى قبل هذه الآية { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} انظر إلى الآيات الكريمات:
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) قال البقاعي: ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية ، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم ، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة ، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال : { كذبت } ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر ، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل : { قبلهم } أي مثل تكذيبهم . ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم ، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال : { قوم نوح } واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا .
قال السامرائي مبينا سر التأكيد في أول سورة ص : ومثل هذا الفرق بين ق وص : قال سبحانه في ص { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} وقال تعالى في ق{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
ففي ص من قبلهم وفي ق قبلهم ومن النظر في السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين يتضح أن التوعد والتهديد في ص أشد مما في ق فإنه قال في ق لم يزد على أن قال بعد هذه الآية { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } ثم انتقل إلى أمر آخر ثم إلى الحشر في الآخرة وأما في ص فإن السياق يختلف فقد ذكر من موجبات توعدهم ما لم يذكره في ق فقد قال بعد هذه الآية { وعجبو ا أن جاءهم ــ ــ ـ بل لما يذوقوا عذاب} فقد ذكرأنهم قالوا هذا ساحر كذاب وتعاهد الملأ على نصرة الآلهة وتواصوا بذلك وقالوا إن ما أتى به الرسول إنما هو اختلاق وكذب وعجبوا كيف ينزل عليه الذكر من بينهم في حين لم يزد في ق على أن قال { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} واستبعدوا البعث بقولهم { أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} وعلاوة على ذلك فقد توعدهم بالعذاب بقوله { بل لما يذوقوا عذاب } أي لم يذوقوه بعد وسيذوقونه ثم تهددهم مرة أخرى بقوله { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق
فالفرق بين المقامين واضح فإن موقف الكفار من الرسول في ص أشد وكان تهديده وتوعده لهم أشد فقال في ص من قبلهم وقال في ق قبلهم فاتضح الفرق بين قوله { وكم أهلكنا قبلهم } { ومن قبلهم} وهناك أمر آخر حسن قولهم { قبلهم}
******************
الآية الحادية عشرة :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ 12 وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14سورة ق
يقول علي هاني : ليس في سورة ق إطالة في ذكر الأمم المهلكة فهي تركز على الآيات الكونية وأحوال يوم القيامة وليس فيها تأكيدات تستدعي ذكر من لذلك حذفت في الموضعين ولننظر إلى السياق [20]:
قال ملاك التأويل: وأما آية يس وآية ق فأوضح فيما ذكرنا وتأمل مفهومها وما انتظم معهما وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار وتذكير بالالاء والنعم وتأمل قوله في المنتظم بآية يس والمعقبة به من قوله " أفلا يشكرون " وعلى ما يترتب الشكر إذ لا يمكن إلا مرتبا على حصول الإيمان والتصديق وقوله عقب آية ق " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " فقد وضح ما بين الضربين وورود كل منهما على ما يناسب
قال البقاعي: ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه ، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته ، فصار من باب لزوم الغلط ، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين ، كان كأنه قيل : إن إنكار هؤلاء أعجب ، فهل وقع هذا لأحد قط ، فقال تعالى مسلياً لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت ، مبيناً لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقاً للإنذار وتحذيراً به لا للنصيحة : { كذبت } وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها ، أسقط الجارّ فقال : { قبلهم } .
ابن عاشور استئناف ابتدائي ناشىء عن قوله : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم } [ ق : 5 ] فعُقّب بأنهم ليسوا ببدع في الضلال فقد كذبت قبلهم أمم . وذكر منهم أشهرهم في العالم وأشهرهم بين العرب ، فقوم نُوح أول قوم كذبوا رسولهم وفرعون كذب موسى وقوم لوط كذبوه وهؤلاء معروفون عند أهل الكتاب ، وأما أصحاب الرسّ وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع فهم من العرب .
قال السامرائي : ومثل هذا الفرق بين ق وص
قال سبحانه في ص { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} وقال تعالى في ق{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
ففي ص من قبلهم وفي ق قبلهم ومن النظر في السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين يتضح أن التوعد والتهديد في ص أشد مما في ق فإنه قال في ق لم يزد على أن قال بعد هذه الآية { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } ثم انتقل إلى أمر آخر ثم إلى الحشر في الآخرة وأما في ص فإن السياق يختلف فقد ذكر من موجبات توعدهم ما لم يذكره في ق فقد قال بعد هذه الآية { وعجبو ا أن جاءهم ــ ــ ـ بل لما يذوقوا عذاب} فقد ذكر أنهم قالوا هذا ساحر كذاب وتعاهد الملأ على نصرة الآلهة وتواصوا بذلك وقالوا إن ما أتى به الرسول إنما هو اختلاق وكذب وعجبوا كيف ينزل عليه الذكر من بينهم في حين لم يزد في ق على أن قال { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} واستبعدوا البعث بقولهم { أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} وعلاوة على ذلك فقد توعدهم بالعذاب بقوله { بل لما يذوقوا عذاب } أي لم يذوقوه بعد وسيذوقونه ثم تهددهم مرة أخرى بقوله { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق
فالفرق بين المقامين واضح فإن موقف الكفار من الرسول في ص أشد وكان تهديده وتوعده لهم أشد فقال في ص من قبلهم وقال في ق قبلهم فاتضح الفرق بين قوله { وكم أهلكنا قبلهم } { ومن قبلهم} وهناك أمر آخر حسن قولهم { قبلهم}
******************
الآية الثانية عشرة : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) [50: 36] هذه الآية في سورة ق أيضا .
قال ملاك التأويل:
فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة "من " في قوله تعالى: "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض " وفي سورة السجدة: "ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " وفي ص: "كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ... ".
وردت هذه الآي الثلاث بزيادة "من "فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآي لم ترد فيها "من "كقوله تعالى في سورة مريم: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " وفي آخرها: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد " وفي طه: "أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم "، وفي يس: "ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون "وفي سورة ق: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا " فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها "من " فيسأل عن وجه زيادتها في الآي الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن "من " إنما تزاد في هذه الآي حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ماوأما آية يس وآية ق فأوضح فيما ذكرنا وتأمل مفهومها وما انتظم معهما وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار وتذكير بالالاء والنعم وتأمل قوله في المنتظم بآية يس والمعقبة به من قوله " أفلا يشكرون " وعلى ما يترتب الشكر إذ لا يمكن إلا مرتبا على حصول الإيمان والتصديق وقوله عقب آية ق " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " فقد وضح ما بين الضربين وورود كل منهما على ما يناسب ويجب والله أعلم. البقاعي -ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم ، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال : { قبلهم } وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله : { من قرن } أي جيل هم في غاية القوة ، وزاد في بيان القوة فقال : { هم }
******************
[h=1]الآية الثالثة عشرة : [/h]( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) [55: 56]
عدم التأكيد واضح فهي في ذكر أوصاف الجنة وفي إخبار المؤمنين بهذه الأمر والتركيز فيها على أنه قبلهم مطلقا .
{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ } يعني : لم يمسسهن إنس ، { قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } يعني : لا إنساً ، ولا جنياً . . قال الفراء : الطمث : هو الوطء بالتدمية ، وهو الافتضاض . أي لم يمسسني والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن { إنس قبلهم } أي قبل أزواجهن من أهل الجنة ، ، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث ، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم البقاعي ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال : { قبلهم } أي المتكئين { ابن عاشور
وقوله : { إنس قبلهم } أي لم يطمثهن أحد قبل ، وقوله : { ولا جان } تتميم واحتراس وهو إطناب دعا إليه أن الجنة دار ثواب لصالحي الإِنس والجن فلما ذكر { إنس } نشأ توهم أن يمَسهن جن فدفع ذلك التوهم بهذا الاحتراس .
******************
[h=1]الآية الرابعة عشرة : [/h]( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) [55: 74]
قبل أصحاب الجنتين ، دل عليهم ذكر الجنتين .البقاعي وعم الزمان بحذف الجار فقال : { قبلهم } أي انتفي الطمث المذكور في جميع الزمان الكائن قبل طمث أصحاب هذه الجنان لهن ، فلو وجد في لحظة من لحظات القبل لما صدق النفي { ولا جان * } فهن في غاية الاختصاص كل بما عنده
******************
الآية الخامسة عشرة : ( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) [69 : 9].
يقول علي هاني: أن الذين قبله جاءوا بمثل ما جاء به من الخاطئة وتفيد التعميم مع عدم التأكيد لأمرين لأن السياق لا يتطلب التأكيد ولأمر لفظي لئلا تتكرر من .
، ومن قَبْلَه من الأمم السالفة التي كذبت الرسل كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط بالخطيئة
قال الفخر الرازي أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو ، ومن لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين
قال البقاعي وهو معنى قراءة الباقين بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة على أنه ظرف يقابل " بعد " بزيادة .
قال ابن عاشور -وشمل قوله : { ومَن قبله } أمَماً كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم .
قال سيد طنطاوي: والمراد بمن قبله : الأقوام الذين سبقوه في الكفر ، كقوم نوح وإبراهيم - عليهما السلام - .
******************
[h=1]الحالة الثانية : [/h][h=1]تفيد معنين معا : المعنى الأول: بيان أن شيئا قبل شيء المعنى الثاني: أنه قبل مدة طويلة أي : إذا لم يكن الزمن قريبا بل بعيدا.[/h]قال البقاعي (18/19) عند تفسير قوله تعالى: { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [44: 17] ، { ولقد فتنا } أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال . ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش ، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكنة ، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال : { قبلهم } أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظة.
وقال البقاعي: { كذبت } ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم ، جعل مستغرقاً بجميع الزمان ، فقال من غير خافض : { قبلهم }
[h=1]أمثلة هذا القسم: [/h]
[h=1]الآية الأولى : [/h][h=1] ( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)[/h][h=1] [19: 23].[/h]تفيد فائدتين : أنها تمنت أن الموت حصل قبل هذا المخاض خافت من الناس أن يظنوا بها سوءاً واستحياء وهي تعرف أنه لن يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية والفائدة الثانية: أن هذا الموت حصل قبل فترة طويلة مديدة . وحملها البقاعي على الاستغراق وما ذكرته أحسن [21] .

[h=1]الآية الثانية : [/h][h=1]( قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [12: 37].[/h]تفيد أن هذا قبل هذا بيان أن شيئا قبل شيء وأنه ينبئهم قبل وقت طويل من إتيان الطعام ، ، ولم يؤكد؛ لأن هذا الأمر كان واضحا جدا فلا يحتاج للتأكيد، لأنه واثق مما يقول يبين لهما بكل ثقة لا تقبل الشك فلا يحتاج أن يؤكد فأظهره في صورة الواضح ، ولأن الأهم في الإنباء أن يكون في فترة القبل وقد تطول وقد تقصر [22].
*******************
[h=1]الآية الثالثة: [/h]{( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [12 : 76].
الآية تركز أن هذا قبل هذا أن البدء بأوعية أخيه قبل البدء بوعائه ، بدون تأكيد ولا تنصيص على عموم ، لأنه لا يحتاج إلى تأكيد لأن هذا الذي فعله هو الشيء الذي ينبغي أن يفعل ، وتدل على أنه أخر تفتيش وعائه و تأنى في التفتيش في أوعيتهم ليوري عليهم ؛ لذلك حذف الخافض، وليس المعنى أنه بدأ بأوعيتهم من قبل وعائه مباشرة وليس المراد الاستيعاب فحذف من .
قال البقاعي : ولما لم يكن - بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه - فاصل يعد فاصلاً ، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان ، لم يأت بجار ، فقال { قبل وعاء أخيه } أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه ، إبعاداً عن التهمة
قال الماوردي: { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاءِ أخيه } لتزول الريبة من قلوبهم لو بدئ بوعاء أخيه .
قال الطبري يقول تعالى ذكره : ففتّش يوسف أوعيتهم ورحالهم طالبا بذلك صُواع الملك ، فبدأ في تفتيشه بأوعية إخوته من أبيه ، فجعل يفتشها وعاء وعاء قبل وعاء أخيه من أبيه وأمه ، فإنّه أخّر تفتيشه ، ثم فتش آخرها وعاء أخيه ، فاستخرج الصواع من وعاء أخيه .
[h=1]*******************[/h][h=1]الآية الرابعة: مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة ، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة[/h]( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [13 : 6]
قبل الأولى النظر فيها أن شيئا قبل شيء ، وفيه إشارة أنهم يستعجلون بالسيئة قبل فترة طويلة قبل الحسنة والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها واختيارها وترجيحها قبلها كأَنه قيل ، بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة وقدموا في اختيارهم العذاب ، وتركوا الإِبقاءَ بدونه ، وهو الإمهال فكأنها المختارة السابق اختيارها عندهم ليدل على غاية عتوهم ، { قَبْلَ الْحَسَنَةِ } : متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له ، أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار يطلبون منك ما يسوؤهم ان يعجل لهم وهو النقمة والعذاب والعقوبة ، كما قالوا " امطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب أليم " [SUP]1[/SUP] قبل ان يسألوا الاحسان بالانظار لهم ، وقد حكم الله تعالى ان يمهلهم التوبة وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا وتزجر عن مثل ما وقعت لأجله ، وجعلناهم } الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته .
والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها والقبيلة اختياره كأَنه قبل قدموا في اختيارهم العذاب ، وتركوا الإِبقاءَ بدونه ، وهو الإمهال فإن وقبْليّة السيئة قبلية اعتبارية ، أي مختارين السيئة دون الحسنة قبل الحسنة الحسنة ههنا الإمهال والتأخير وإنما سموا العذاب سيئة لأنه يسوءهم ويؤذيهم .
قال الطبري: يقول تعالى ذكره : ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، فيقولون : اللّهُمّ إنْ كانَ هذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ وهم يعلمون ما حلّ بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذّبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه
*******************
[h=1]الآية الخامسة: [/h]( قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [27: 46].
مثل الآية السابقة.
البقاعي : {لم تستعجلون } أي تطلبون العجلة بالإتيان { بالسيئة } أي الحالة التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر { قبل } الحالة { الحسنة } من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم ، والاستعجال : طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب له . واستعجالهم لذلك للإصرار على سببه وقولهم استهزاء
ابن عاشور فالقبلية في قوله : { قبل الحسنة } مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة ، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة .

*******************
[h=1]الآية السادسة: [/h]{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)} (38/16).
تفيد أمرين أنهم يريدون العذاب قبل يوم الحساب وأنهم يستعجلونه استعجالا كثيرا فهم يريدونه قبل يوم القيامة بوقت طويل وهذا فيه غاية الاستعجال بخلاف ما لو قال من قبل يوم الحساب فهي تحتمل المبادرة والإسراع وأن القيامة على وشك الحصول نحو { من قبل أن يأتي يوم } وليس مرادا أو تحتمل القرب من يوم الحساب .
فالاستعجال طلب التعجيل ، وهو الاتيان به قبل وقته الذي ينبغي أن يفعل فيه. وكان هؤلاء الجهال إذا خوفوا بالعقاب قالوا ، على جهة الانكار لصحته متي هو ؟ وهلا يأتينا به ؟والقط في كلام العرب : الصحيفة المكتوبة .
فإنما سألوا تعجيل حظهم من العذاب طلبوا حظهم من العذاب تهزءا بخبر الله وشكا فيه والقط النصيب وأصله القطع من قولك قطه يقطه قطا مثل قده يقده قدا ، ومنه قولهم : ما رأيته قط أي قطع الدهر الذي مضى " قبل يوم الحساب " أي قبل اليوم الذي يحاسب فيه الخلق ويجازون فيه على أعمالهم على ما يقولونه .
الزمخشري القط : القسط من الشيء ؛ لأنه قطعة منه ، من قطه إذا قطعه . ويقال : لصحيفة الجائزة : قط ، لأنها قطعة من القرطاس ، وقد فسر بهما قوله تعالى : { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ العذاب } [ الحج : 47 ] البقاعي ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان التي بينهم وبين القيامة ، أسقطوا حرف الجر وقالوا : { قبل يوم الحساب * } فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفاً لذلك ، وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم دلالة على الإعراق في الاستهزاء ،
ابن عاشور :
وعلى تسليم اختصاص القطّ بصكّ العطاء لا يكون ذلك مانعاً من قصدهم تعجيل العقاب بأن يكونوا سموا الحظ من العقاب قِطًّا على طريق التهكم ، كما قال عمرو بن كلثوم إذ جعل القتال قِرى :
قريناكم فعجلنا قِراكم *** قُبيل الصبح مِرْدَاة طحونا
فيكونون قد أدمجوا تهكماً في تهكم إغراقاً في التهكم .
وتسميتهم { يَومِ الحسابِ } أيضاً من التهكم لأنهم لا يؤمنون بالحساب .
*******************
[h=1]الآية السابعة : [/h]( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [18: 109].
تفيد فائدتين : أن نفاد البحر حاصل قبل نفاد كلمات الله والمراد أن كلمات الله لا تنفد لكن البحر ينفد قبلها
والفائدة الثانية : أن البحر ينفد بسرعة سابقة جدا لكلمات الله وكلمات الله مستمرة ففيه بيان أن النفاد سابق في مدة مديدة ولا تنفد كلمات الله .
قال الزمخشري: المداد : اسم ما تمدّ به الدواة من الحبر وما يمدّ به السراج من السليط . ويقال : السماد مداد الأرض . والمعنى : لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها ، والمراد بالبحر الجنس { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ } الكلمات { وَلَوْ جِئْنَا } بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً . والكلمات غير نافدة ".انتهى
أي لو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مددا لنفد ولم تنفد كلمات الله معلومات الله عز وجل ، وأنها غير متناهية ،و تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهي والمتناهي ينفذ قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا يضبطها عقول البشر ، والمراد منه لنفد البحر وهي باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة ، وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل ، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو { قَبْلَ } إمكان نفاد كلمات الله ؛ ولكن لما بُني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه ( لو ) كان المعنى لو كان البحر مداداً لكلمات ربي وكانت كلمات ربي مما ينفد لنفد البحر قبل أن تنف فلا دِلالةَ للكلام على نفادها بعد نفادِ البحرِ د كلمات ربّي ، وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها [23].
*******************
[h=1]الآية الثامنة : [/h]( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [20: 130]
تفيد فائدتين : الفائدة الأولى : أن التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فشيء قبل شيء والفائدة الثانية: أن التسبيح لا بد أن يكون بوقت طويل قبل طلوع الشمس وقبل الغروب مستغرقا ما بينهما ، والسياق لا يحتاج إلى التأكيد ، بخلاف آناء الليل بعضه تيسيرا على الناس فقال { ومن آناء الليل} ، وأما إذا حملنا قبل طلوع الشمس على صلاة الصبح وقبل غروبها على العصر فعدم إدخال من فلأن طلوع الشمس غير متصل بصلاة الفجر بل بينهما مدة وكذلك صلاة العصر[24] .
وإذا نظرنا لهذه الآية الكريمة ـ كما قال الإمام البقاعي ـ رأينا أنه لم يدخل (من) في شيء من الظروف إلا آناء الليل ، فـ( قبل طلوع الشمس) و(قبل غروبها) كأنه يقول استوعب الوقت وكذلك أطراف النهار، أما الليل فاعتنى به عناية خاصة وأدخلت الفاء على { فسبح } لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان ، فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم « ففيهما فجاهد » ، أي الأبوين ، وقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } ، ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه ، ولكنه سبحانه خفف على هذه الأمة فقال ومن آناء ولم يقل آناء تخفيفا ، ففي الآية اهتمام وفي الوقت نفسه فيها تخفيف،
قال البقاعي : وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض ، لأن الليل محل الراحة ، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر ، لأن النهار موضع النشاط واليقظة ـ ـ ـ ـ ـ ــ ــ لأن النهار له أربعة أطراف : أوله ، وآخره وآخر نصفه الأول ، وأول نصفه الثاني ، والكل مستغرق بالتسبيح ، ولذلك نزع الجار ، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر ، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها ، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين : التقديم والتكرير ، وإلى ذلك الإشارة بالحديث.
***************
( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [50: 39]
إن حملنا التسبيح على الصلاة على ما عليه جمهور المفسرين[25] فالمراد قبل طلوع الشمس الفجر وبقبل الغروب العصر وهما غير ملاصقتين للوقتين وهذا سر حذف من ، وإن قلنا المراد مطلق التسبيح فحذف إشارة لطول فترة التسبيح فالتسبيح يبدأ من وقت طويل قبل هذين وليس فقط في الوقت الملاصق .
قال البقاعي: فقال : { وسبح } أي أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص متلبساً { بحمد ربك } أي بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها تفضيلاً لك على جميع الخلق في جميع ما { قبل طلوع الشمس } بصلاة الصبح ، وما يليق به من التسبيح غيرها.
أبو السعود { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } أيْ نَزِّهَهُ تعالَى عنِ العجزِ عَمَّا يمكُن وَعَنْ وقوعِ الخُلفِ في أخبارِهِ التي مِنْ جُمْلتها الإخبارُ بوقوعِ البعثِ وعنْ وصفهِ تعالَى بما يوجبُ التشبيَه حَامداً له تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليكَ من إصابةِ الحقِّ وغيرِهَا { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } هُمَا وقتُ الفجرِ والعصرِ وفضيلتُهما مشهورةٌ .
ابن عثيمين سبح تسبيحاً مقروناً بالحمد في هذين الوقتين : قبل طلوع الشمس ، وقبل الغروب ، قال أغلب المفسرين : المراد بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر ، وهما أفضل الصلوات الخمس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من صلى البردين دخل الجنة » والبردان هما الفجر وفيه برودة الليل ، والعصر وفيه برودة النهار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها » فالصلاة التي قبل طلوع الشمس هي الفجر ، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر ، وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم ، وأفضلهاالعصر ، لأن الله تعالى خصها بالذكر حين أمر بالمحافظة على الصلوات فقال : { حفظوا على الصلوت والصلاة الوسطى } وهي العصر ، كما فسرها بذلك أعلم الخلق بكتاب الله وهو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
***************
[h=1]الآية التاسعة: [/h]{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [44: 17]
تفيد فائدتين أن هذا أمر قديم عريق فامتحان الناس قديم ، فلما كان فرعون ليس قريبا ولم يستغرق الزمان حذفت من ، وفيه مزيد تسلية وبيان خطأ الكفار
قال البقاعي { ولقد فتنا } أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر [SUP]22[/SUP] الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال [SUP]23[/SUP] .
ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش ، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكنة ، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال : { قبلهم } أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظةابن عاشور
وأشعر قولَه { قبلَهم } أن أهل مكة سيُفتنون كما فُتِن قوم فرعون ، فكان هذا الظرف مؤذناً بجملة محذوفة على طريقة الإيجاز ، والتقدير : إنا منتقمون ففاتنوهم فقد فتنا قبلهم قوم فرعون ، ومؤذناً بأن المذكور كالدليل على توقع ذلك وإمكانه وهو إيجاز آخر .انتهى
قال العلماء عن هذه الآية الكريمة امتحنا واختبرناولقد اختبرنا وابتلينا يا محمد قبل مشركي قومك مثال هؤلاء قوم فرعون من القبطوالمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم فكذبوا فأهلكوا ، فهكذا أفعل بأعدائك يا محمد إن لم يؤمنواهذا كالمثال لقريش ، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام ، فكذبوه ، فأهلكهم الله .
ابن عاشور جعل الله قصة قوم فرعون مع موسى عليه السلام وبني إسرائيل مثلاً لحال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، وجعل ما حلّ بهم إنذاراً بما سيحلّ بالمشركين من القحط والبطشة مع تقريب حصول ذلك وإمكانه ويُسره وإن كانوا في حالة قوة فإن الله قادر عليهم ، كما قال تعالى : { فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً } [ الزخرف : 8 ] فذكرها هنا تأييد للنبيء ووَعدٌ له بالنصر وحسنِ العاقبة ، وتهديدٌ للمشركين .
وهذا المثل وإن كان تشبيهاً لمجْمُوعِ الحالة بالحالة فهو قابل للتوزيع بأن يشبَّه أبو جهل بفرعون ، ويشبه أتباعه بملإِ فرعون وقومِه أو يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ، ويشبه المسلمون ببني إسرائيل . وقبولُ المثل لتوزيع التشبيه من محاسنه
***************
[h=1]الآية العاشرة:[/h]. { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [40: 5].
هذا مثال مهم اجتمع فيه ذكر من وحذفها ، فالأولى قبلهم لأنه ليس المراد أنه في قرب قريب ولم يرد الاستيعاب بل المراد هو بعيد فهي تفيد فائدتين أنه قديم فهي عادة قديمة جدا وهي شنشنة أهل الباطل وكونها قبلهم يمكن الاعتبار بها ، ولما أراد الاستيعاب قال {من بعدهم}
وقال البقاعي: { كذبت } ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم ، جعل مستغرقاً بجميع الزمان ، فقال من غير خافض : { قبلهم } ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع ، وحدهم فقال : { قوم نوح } أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء . ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان ، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال : { والأحزاب } أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً ، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله : { من بعدهم } .
قال أبو السعود: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ } أي الذينَ تحزبُوا على الرسلِ وناصبوهم بعدَ قومِ نوحٍ مثلُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم.
*************

[h=1]الحادية عشرة : [/h]( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [54: 9] القمر .
مثل ما قيل في السابق
ابن عاشور وفائدة ذكر الظرف { قبلهم } تقرير تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } [ فاطر : 4 ] ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله : { من قبلك } نظير ما هنا مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرِضون .
يقال فيه مثل ما قبله
البقاعي ولما كان ما كان من تصميمهم عليه وعزمهم على عدم الانفكاك عنه لكونه جبلة مستغرقاً لجميع ما بعدهم من الزمان ، وكانوا قد سنوا سنة التكذيب فكان عليهم مع وزرهم وزر من أتى بعدهم ، وكان ما قبلهم من الزمان يسيراً في جنب ما بعده عدماً ، فلذلك ذكر الظرف من غير حرف جر لأنه مع أنه الحق أعظم في التسلية فقال : { قبلهم } أي في جميع ما سلف من الزمان ومضى بعضه بالفعل وبعضه بالقوة لقوة العزم : { قوم نوح
*******************
[h=1]الآية الثانية عشرة : [/h]( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [7 : 123].
( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) [20 : 71]
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (26/49 )
تفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: أن إيمانهم وقع قبل الإذن وهذا أمر مستنكر عند فرعون والفائدة الثانية: أن هذا الإيمان تقدم جدا على الإذن ، فهو شيء مستنكر سابق سبقا كبيرا على الإذن إشارة إلى أن هذا الإذن صعب الحصول وهذا قد وقع قبله بزمن والمراد أنه حصل شيء مستنكر جدا قد تجاوز حدوده وقع بدون إذن .
والضمير في به: لله تعالى ، وفي ( له) : لموسى عليه السلام .
فعلتم هذا الفعل الشنيع وبّخهم بذلك وقرعهم قبل أن أذن لكم بالإيمان به أي : كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك ، فإن أذنت لكم فعلتم ، وإن منعتكم امتنعتم ، فإني أنا الحاكم المطاع
أصدقتم موسى من غير إذني استغرب ذلك منهم ، لأدبهم معه ، وذلهم ، وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم ، وجعل هذا من ذاك . ومعنى { قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُم } قبل أن أسوّغ لكم أن تؤمنوا به . يقال : أذِن له ، إذ أباح له شيئاً .
قال أبو السعود: أي بغير أن آذنَ لكم كما في قوله تعالى : { لوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ } لا أن الإذنَ منه ممكنٌ في ذلك هذه مكابرة أيضا ، فإن الحق إذا اتضح لا يحتاج إلى الإذن في اعتقاده وتصويبه ، ولا سيما في مقام أعد لقطع الحجج
قال ابن عاشور: وقوله : { قَبْلَ أنْ آذنَ لكُم } ترق في موجب التوبيخ ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان ، وَفصْلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ . آمنتم برب موسى وهارون قبل أن آمركم أنا بذلك ؟
وأبو السعود: أي من غير أن آذنَ لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى : { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات ربّي } لا أن إذنَه لهم في ذلك واقعٌ بعده أو متوقَّع كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن ؟ . أبو حيان موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل .
***************
( قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [27: 38].
حذف (من) تفيد فائدتين: الفائدة الأول : أنه عليه السلام يريد العرش قبل إتيانهم مسلمين والفائدة الثانية : أنه يريد وجوده قبل وقت من وصلهم وليس قبل وصولهم مباشرة لذلك حذف من ، ولم يحتج إلى تأكيد لأنه الآمر المطاع ، وفعل ذلك ليجعل ذلك دليلا على صدق نبوته ، لأنها خلفته في دارها واحتاطت عليه ، فوجدته قد تقدمها، وليريها القدرة التي هي من عند الله وليغرب عليها .
[h=1]******************[/h]{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39 (27/39).
أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله ، وبعده قبل أن تقوم من مجلسك لذى جلسته للقضاء بين الناس، ولابد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت ، قيل مجلس قضائك ، والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد ، وقد يكون دون ذلك أو أكثر ،. فاستطول سيدنا سليمان عليه السلام هذه الفترة واستبطأها ، قال البقاعي: ولما علم أن غرضه الإسراع قال : { قبل أن تقوم من مقامك } أي مجلسك هذا.
[h=1]******************[/h][h=1]( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [27: 40].[/h]، فأشهر الأقاويل : أنه آصف ابن برخيا بن سمعيا ، وكان رجلا صدّيقا في بني إسرائيل ، وكان يعلم اسم الله الأعظم .
الزمخشري ومعنى قوله : { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ أي ] أنك ترسل طرفك إلى شيء ، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك ابن عاشور - والظاهر أن قوله : { قبل أن تقوم من مقامك } وقوله : { قبل أن يرتد إليك طرفك } مثلان في السرعة والأسرعية.
[h=1]الحالة الثالثة : [/h][h=1]: تفيد معنين معا : المعنى الأول: بيان أن شيئا قبل شيء المعنى الثاني: في أي وقت من أوقات القبل .[/h] ذكر جماعة من العلماء من معاني حذف من ترك الكلام محتملا للقريب والبعيد ولم أجد له شاهدا لكن وجدت شاهدا لما يشمل جميع المدة في أي زمان من أزمنة القبل وهو قوله تعالى { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } كما سيأتي
قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى : {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (53/26).لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية ،
قال السامرائي [26]: في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7} ) وهي تحتمل البعيد والقريب [1]
وقال السامرائي[27] في كتاب على طريق التفسير البياني: وأما قوله تعالى {قبلهم}{ من قبلهم} فإن من تفيد ابتداء الغاية فتفيد الزمن الذي قبل المعنيّين بالضمير مباشرة فما قبله وأما قبلهم فيفيد الزمن القريب والبعيد كما هو معلوم ــ ـ ثم قال عن سر حذف من في { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} وهناك أمر آخر حسن (قبلهم) في سورة يس وهو أنه قال في ختام الآية { أنهم إليهم لا يرجعون} وذلك ليدل على أن الأمم لا ترجع إلى الدنيا وليس ذلك مختصا بما بما زمنه قريب منهم فإنه لم ترجع أمة أبيدت وأهلكت منذ أول الدنيا إلى الآن ولن ترجع إليها في المستقبل وإنما سيجمعها ربها ويرجعها إليه ، وهذا أدعى إلى حذف من ليشمل جميع الأمم ابتداء من أول الدنيا .

( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) [17: 58].
قبل حذف من يفيد فائدتين :
الفائدة الأولى : أن هذا الإهلاك واقع قبل يوم القيامة أي شيء قبل شيء وفيه مزيد تهديد أن هذا غير الإهلاك الذي سيكون يوم القيامة ،
الفائدة الثانية : أن الإهلاك عام فيفيد الاستيعاب لزمان القبل: القريب والبعيد في أي وقت منه لكن الإهلاك سيقع في أوقات مختلفة على حسب اختلاف الأقوام فلذلك لم يحد الظرف بل تركه محتملا للقريب والبعيد فحذف ( من) من غير تعين ابتداء وانتهاء.
قال ابن عاشور : والتقييد بكونه قبل { يوم القيامة } زيادة في الإنذار والوعيد ، كقوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه : 127 ] .
و ( من ] مزيدة بعد ( إنْ ) النافية لتأكيد استغراق مدخولها باعتبار الصفة المقدرة ، أي جميع القرى الكافرة كيلا يحسب أهلُ مكة عدم شمولهم . البقاعي : ذاته إلا العدم ، وذلك مستغرق لزمان القبل ، حذف الجار فقال تعالى : { قبل يوم القيامة }.


****************
[h=1]المتشابهات: [/h][h=1]الموضع الأول: [/h]{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} يوسف (12/109) لم يذكر في البحث السابق.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44} النحل (16/43).
{ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) } الأنبياء (21/7).
(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)
في الآيات الكريمة عدة أقوال:
[h=1]القول الأول: وهو الراجح [/h][h=2]ذكر من يفيد التوكيد والتنصيص على العموم من أول لحظاته وكأنه ضبط طرفي الزمان.[/h]نص عليه الإسكافي في درة التنزيل[28] ، وابن عاشور[29] والفيروزآبادي في البصائر[30]، وابن عرفة [31]، والكرماني [32] ، والنيسابوري الحسن بن محمد [33] ، والرازي[34] ، والسامرائي [35]
[h=1]القول الثاني: [/h]قال السامرائي في الأسئلة والأجوبة في البرنامج التلفزيوني :
ما دلالة ذكر وحذف (من) في قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً) وقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً) ؟ قال تعالى في سورة يوسف (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {109} ) وذكر (من) تفيد الابتداء أي ابتداء الغاية وهو امتداد من الزمن الذي قبلك مباشرة أي من زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى زمن آدم. وليس هناك فاصل كما جاء في قوله تعالى (يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم. وكذلك قوله تعالى (والملائكة حافّين من حول العرش) أي ليس بينهم وبين العرش فراغ. أما في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7} ) وهي تحتمل البعيد والقريب وكذلك في قوله (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ {48} ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ {49} الدخان) وهذا العذاب أخف من الأول (من فوق رؤوسهم) .وهذا الذكر أو الحذف يعتمد على سياق الآيات فإذا كان السياق ممتد يأتي بـ (من) وإذا كان السياق لفترة محددة لا يأتي بها. في سورة النحل قال تعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ {26} ) كل الآيات فيها (من) لأن الحديث كله عن سلسلة الأنبياء (مستمرة) أما في سورة الأنبياء (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ {6} ) فهي قائمة على التبليغ فناسب حذف (من) .
وإليك الآيات { بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}
فلم يذكر (من) لعدم إرادة الابتداء وإنما هو إخبار أن الذين قبلهم لم يؤمنوا ثم قال { ) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} فاتضح الفرق بين السياقين
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
[h=1]القول الثالث: حذف من لسبب لفظي فقط [/h][h=3]قال الكرماني:[/h] سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (من قبلك) بزيادة "من"، وقال في الأنبياء: (قبلك) بحذفه.
الجواب: قبل: اسم للزمان الذي تقدم أضيف إليه قبل، وأفاد دخول من استيعاب الظرفين، لأن قبل قد يقع على بعض ما تقدم، وما في هذه السورة للاستيعاب، وأما في الأنبياء فوافق ما قبله وهو قوله: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) ، لأنه هو بعينه.
زكريا الأنصاري: قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم . . . } [ الأنبياء : 7 ] .
قاله هنا : بحذف " مِنْ " تبعا لحذفها من قوله قبل { ما آمنت قبلهم من قرية } [ الأنبياء : 6 ] وقاله بعدُ بذكرها ، جريا على الأصل .
[h=2]القول الرابع: قال ذكر من للتبعيض.[/h]قال البقاعي: ولما أوضح إبطال ما تعنتوا به من قولهم " لو أنزل عليه كنز " أتبعه ما يوضح تعنتهم في قولهم { أو جاء معه ملك } بذكر المرسلين ، وأهل السبيل المستقيم ، الداعين إلى الله 17 على بصيرة ، فقال : { وما أرسلنا } أي بما لنا من العظمة . ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد ، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله { أو جاء معه ملك } كالذي في النحل ، لا لإنكار رسالة البشر ، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال : { من قبلك } أي إلى المكلفين
وقال البقاعي - ولما أخبر تعالى أنه بعث الرسل ، وكان عاقبة من كذبهم الهلاك ، بدلالة آثارهم ، وكانوا قد قدحوا في الرسالة بكون الرسول بشراً ثم بكونه ليس معه ملك يؤيده ، رد ذلك بقوله - مخاطباً لأشرف خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكونه أفهمهم عنه مع أنه أجل من توكل وصبر ، عائداً إلى مظهر الجلال بياناً لأنه يظهر من يشاء على من يشاء - : { وما أرسلنا } أي بما لنا من العظمة . ولما كان الإرسال بالفعل إنما كان في بعض الأزمنة ، دل عليه بالجار فقال : { من قبلك } إلى الأمم من طوائف البشر { إلا رجالاً } لا ملائكة بل آدميين ، هم في غاية الاقتدار على التوكل والصبر الذي هو محط الرجلة { نوحي إليهم } بواسطة الملائكة ، وما أحسن تعقيب ذلك للصابرين ، لأن الرسل أصبر الناس .
وقال البقاعي:
: { وما أرسلنا } . ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً ، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة 1 ، إما برسول قائم ، وإما بتناقل أخباره ، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر : { قبلك } أي في جميع الزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر

ومثل الآيات السابقة قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (25/20) الفرقان.
قال البقاعي: ولما كان المراد العموم ، أعراه من الجار فقال : { قبلك } أي يا محمد أحداً { من المرسلين إلا } وحالهم { إنهم ليأكلون الطعام.
[h=3]الراجح يقول علي هاني :هو القول الأول فحذف من يفيد العموم لكن من غير تأكيد ولاتنصيص على العموم ولا ابتداء لأن السياق يتطلب عدم التأكيد ، وذكر من يفيد ابتداء الغاية والبدء من أول لحظات القبلية فما بعدها فهي تفيد الاستيعاب مع التأكيد كأنه يقول من قبل مباشرة فصاعدا ، وذلك لأن السياق يتطلب التأكيد.[/h]وإذا نظرنا للسياق في المواضع الثلاثة نرى أن سياق سورة يوسف والنحل يتطلب التوكيد بخلاف سياق سورة الأنبياء والفرقان، وانظر السياق في سورة يوسف يحتاج إلى التأكيد { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} وكذلك يقال في سورة النحل{ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
أما سورة الأنبياء فعدم ذكر من لسببين السبب الأول: أن قبلها موجود قبل بدون من مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وثانيا لأن السياق لا يحتاج للتأكيد لأن الكلام في عدم الاعتداد بهم واستبعاد إيمانهم { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} ثم الالتفات إلى التأكيد لهم لشناعة ما صدر عنهم من الأقوال القبيحة { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} ، وقد عبر أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل عن هذا ، بأحسن مما ذكرت حيث قال:
[h=3]قال أبو جعفر بن الزبير : [/h]والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41) يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان.
أما قوله تعالى في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7) فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء: 3)، واقتراحهم الآيات في قوله: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (الأنبياء: 5)، فلما انطوى هذا الكلام على قضيتين: من اقتراحهم الآيات، وإنكارهم كون الرسل من البشر، وقد بين لهم حال المقترحين في قوله تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) (الأنبياء: 6)، فلما تقدم هذا اتبع ببيان الطرف (الآخر) وهو التعريف بأن من تقدم من الرسل إنما كانوا رجالاً من البشر، مختصين بتخصيصه سبحانه، ولم يكونوا ملائكة، فقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)، فقيل هنا: (قبلك) كما قيل في نظيرتها: (ما ءامنت قبلهم)، فلم تدخل هنا ((من)) كما لم تدخل في النظير (الآخر) لإحراز التناسب، والتئام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم من الاقتراح وإنكار كون الرسل من البشر، وكذلك الوارد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، وإنما ورد جواباً لقولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 7)، ولا داعي في هذا للقسم إذ هو جواب لقولهم، فلا داعي لورود ((من))، فورد هذا كله على أبدع نظام وأعلى تناسب، وإذا اعتبر الناظر استوضح أن كلاً من هذه الآي لا يمكن إتيانه في موضوع غيره والله أعلم.
[h=3]قال السامرائي في معاني النحو :[/h] فلم يذكر من في الأنبياء وذكرها في النحل وسر ذلك أن من تفيد الابتداء كما ذكرنا أي أن الأمر كذلك ابتداء من قبلك إلى القديم بخلاف آية الأنبياء فهي ليست لهذا المعنى والذي يدل على ذلك سياق الآيتين جاء في النحل { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)وقال { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36} فهذا يدل على أن شأن القرى مع رسلهم منذ القديم ثم قال تعالى { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)أي هاجروا من بعد الظلم فلم يكن فاصل بين الظلم والهجرة ولو قال تعالى (بعد ما ظلموا ) لاحتمل ان ثم مدة ليس فيها ظلم لأنه بعد الظلم قد يحتمل الطول والقصر بخلاف قوله (من بعد ما ظلموا)
ثم قال (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) أي هذا هو الشأن منذ القدم ابتداء من قبلك إلى الأقدم ثم قال ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) وهو فعل مشابه لفعل الذين من قبلهم (قد مكر الذين من قبلهم) فهو خط واحد من الأول إلى الآخر
وأما سورة الأنبياء فليس فيها مثل هذا المعنى ولا القصد أن هذا شأنهم من القديم { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم }.
قال د صالح الشتري: أكد أبو جعفر بين الزبير أن قوة السياق تتحكم في الآيات فآية يوسف تقدما { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وقوله { سبحان الله وما أنا من المشركين } وقولة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه فناسب ذلك زيادة من المقتضية الاستغراق وكذلك قوله تعالى في سورة النحل { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة } يؤكد ذلك المعنى فناسبه زيادة من لاستغراق ما تقدم من الزمان أما آية الأنبياء فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر { هل هذا إلا بشر مثلكم } واقتراحهم الآيات { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} فلما تقدم هذا أتبع ببيان الطرف الآخر وهو التعريف بأن الرسل إنما كانوا رجالا فقيل هنا قبلك كما قيل في نظيرتها { ما أمنت قبلهم} وذلك لإحراز التناسب والتحام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم وقد ذكر ابن عاشور ما يتوافق مع كلام أبي جعفر بن الزبير

*********************
[h=1]الموضع الثاني:[/h]{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 43 وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44} (34/ 44) سورة سبأ .
{ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} (43/ 23}الزخرف
يقول علي هاني: الآية الثانية آية الزخرف التي ذكر فيها من السياق فيه تأكيد أكثر وتنصيص على كل لحظة من لحظات القبل كما في { لمسجد أسس على التقوى من أول يومن} فمن أول لحظات القبلية فما بعدها إلى جميع القبلية الماضية لم يأتي نذير إلا قال مترفوها ويشهد للتأكيد الحصر بـ(ما) و(إلا) وهذا التأكيد مناسب لسياق التسلية فقد ضرب تعالى المثل لنبيه محمد عليه السلام وجعل له الأسوة ، فيمن مضى من النذر والرسل ، وذلك أن المترفين من قومهم وهم أهل التنعم والمال قد قابلوهم بمثل هذه المقالة .
وأما الآية الأولى آية سبأ التي فيها حذف (من) لأن المراد العموم في جميع الأزمنة الماضية بدون تأكيد ، لأن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد ،فهم يتكلمون في رد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عن هوى فليس لهم كتاب يقيسون به الكتب ويعرفون به الوحي فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتابا وليس وحيا، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون،فلم يكونوا أهل علم كما كان شأن كثير غيرهم من الأمم، ولم يأتهم رسول من عند الله قبل هذا الرسول.. فهم- والأمر كذلك- في فقر عقلي وروحي.ويدل على ذلك أنه في الآية التالية أكد بمن حيث قال سبحانه { وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
وأيضا إذا نظرنا في سورة سبأ فكل موضع احتاج إلى تأكيد وهناك مجال لإنكاره يؤكده بخلاف هذا الأمر فقد ورد في سورة سبأ {و قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)} { ) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)} بخلاف هذا الأمر الواضح جدا .
قال ابن عاشور : الواو للحال ، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله : { قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم } [ سبأ : 43 ] الآية ، تحميقاً لجهالتهم وتعجيباً من حالهم في أمرين :
« أحدهما » : أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب ، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم ، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه ، فيكون معنى الآية : فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدرُ بهم الاغتباط بذلك . وهذا المعنى هو المناسب لقوله : { يدرسونها } أي لم يكونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق .
« وثانيهما » : أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرَّطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدقِ الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر : فيكون المعنى : التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم ، فليس معنى جملة { وما آتيناهم من كتب } الخ على العطف ولا على الإِخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإِخبار به ، ولكن على الحال لإِفادة التعجيب والتحميق ، وعلى هذا المعنى جرى المفسرون .
قال سيد قطب: وقد كشف القرآن أمرهم، وهو يقرر أنهم أميون لم يؤتوا من قبل كتابا يقيسون به الكتب ويعرفون به الوحي فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتابا وليس وحيا، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون.
يقول علي هاني : ما ذكره ابن عاشور وسيد قطب ومن وافق هذا القول هو الأحسن في تفسير الآية ، وهناك رأي آخر رجح كثيرون معناه { وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ ، وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفي ،فاستعمل هنا في التهكم .
قال البقاعي في سبأ : وما أرسلنا } في جميع الزمان الذي { قبلك } أي من قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة ليخرج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما كانا في بعض الزمان الماضي ، أو أن المراد في الفترة بعد عيسى عليه السلام.
وقال البقاعي في الزخرف : .فقال تعالى: {من قبلك} أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً، فإن التسلية بالأقرب أعظم، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة وأسقط هذه القبلية في «سبأ» لأن المراد فيها التعميم لأنه لم يتقدم لقريش ذكر حتى يخص من قبلهم.يقول علي هاني: هذه عادة البقاعي في ذكر من أنه يحملها إما على التبعيض وهو الغالب عنده أو القريب وفي كلامه نظر والصواب ما قدمناه ونقلناه عن جمهور العلماء .

**********************
[h=1]الموضع الثالث: [/h]{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}.
{قبل }أي في دار العمل في الدنيا ونحن بين أهلنا منغمسين بينهم خائفون من ربنا مشفقون من عذابه وعقابه قبل هذا الحال، حذف حرف الجر لإفادة الاستيعاب لكن من غير تأكيد ، لأنه غير مناسب أن يؤكدوا لأن فيه زيادة تزكية للنفس ولأنه لمحض فعلهم ، وأما ذكر من فهي لابتداء الغاية لبيان الاستيعاب والتأكيد فالدعاء الشامل للعبادة والتضرع لله تعالى كان في جميع فترة القبل فاستجاب لنا ونجانا سريعا هذا ، وناسب التأكيد هنا لأنها بذكر العبادة وهي فخر المؤمن ولأن القصد مدح الله سبحانه بسرعة استجابة الدعاء والإثابة على العبادة فليس لمحض فعلهم.
قال السعدي :
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر الأوقات.
قال البقاعي: مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام، بخلاف الرجاء الحامل على الطاعات، فإنه يكفي فيه ما تيسر كما تأتي الإشارة إليه بإثبات الجار: {إنا كنا قبل} أي في دار العمل {في أهلنا} على ما لهم من العدد والعدد والنعمة والسعة، ولنا بهم من جوالب اللذة والدواعي إلى اللعب {مشفقين *} أي عريقين {إنا كنا} أي بما طبعنا عليه وهيئنا له. ولما كان الدعاء بمعنى فعل العبادة، وكانت تقع في بعض الزمان، أثبت الجار إشارة إلى ذلك مع إسقاطه قبل هذا في الدعاء بالقوة إشارة إلى أن التحلي بالفضائل يرضى منه باليسر، والتخلي عن الرذائل لا بد فيه من البراءة عن كل قليل وكثير فقيل: {من قبل} أي في الدنيا {ندعوه}.
يقول علي هاني :كان عليه أن يقول : ذكر من للاستيعاب ، وأيضا لما ذكروا فعلهم المحض لم يؤكدوا { قبل في أهلنا } ، ولما ذكروا سرعة استجابة الله سبحانه لهم قالوا كنا في القبل القريب ندعوه فنقلنا مباشرة ففي من التأكيد والسرعة فهي لابتداء الغاية القريبة . ومثل الفرق في { قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) (إنا كنا من قبل ندعوه} لتدل على القرب أي : كنا في القبل القريب كنا ندعوه[36] كأن الزمان مر سريعا فإذا بنا في الجنة
مِنْ قَبْلُ: من قبل يومنا هذا من لقاء الله تعالى والمصير إليه ودخول الجنة ، يعنون في الدنيا في دار التكليف.
قال ابن عثيمين: {إنا كنا من قبل} أي: قبل أن نصل إلى هذا المقر، وذلك في الدنيا {ندعوه} أي: نعبده ونسأله، لأن الدعاء يطلق على معنيين: على العبادة، وعلى السؤال، فمن إطلاقه على العبادة قول الله تبارك وتعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} . وأما الدعاء بمعنى السؤال ففي قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} .
فقولهم: {إنا كنا من قبل ندعوه} يشمل دعاء العبادة كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، وبر الوالدين وصلة الأرحام، كل هذا دعاء، وإن كان هو عبادة، فلو سألت الداعي لماذا تعبد الله، ولو سألت العابد لماذا تعبد الله؟ لقال: أرجو رحمته وأخاف عذابه، فتكون هذه العبادة بمعنى الدعاء، كذلك ندعوه دعاء مسألة، لا يسألون غير الله ولا يلجئون إلا إلى الله، لأنهم يعلمون أنهم مفتقرون إليه، وأنه هو القادر على كل شيء {إنه هو البر الرحيم} (البر) بمعنى الواسع الإحسان والرحمة، ومن ذلك البرية، للمكان الخالي من الأبنية، فالمعنى أنه جل وعلا واسع الإحسان والعطاء والجود

وفي المراد بالدعاء هنا أقوال :
[h=1]القول الأول: حقيقة الدعاء نتضرع إليه أ ي كنا من قبل على سبيل الدوام ندعوه ونتضرع إليه نطرق باب الله ، دون أن نمل من الدعاء والتضرع والابتهال أن يقينا عذاب السموم ، ويوصلنا إلى النعيم ويغفر ما فرط منا فاستجاب الله لنا وأعطانا سؤلنا .[/h]مقاتل والطوسي والهواري والسمرقندي والقرطبي وابن كثير والميرغني .
[h=1]القول الثاني: المراد بالدعاء العبادة أي كنا من قبل نعبده مخلصين له الدين ونوحده وسمى العبادة دعاء لأن الدعاء هو مخ العبادة .[/h]الطبري ومكي والسمعاني والثعلبي والبغوي والطبرسي وابن الجوزي والخازن والجلال والمنتخب وضعفه القرطبي
قال الطبري: نعبده مخلصين له الدين ، لا نُشرك به شيئا بعض العلماء : أنهم كانوا على الدوام ، إذ كانوا واثقين بأن " الدعاء هو مخ العبادة
[h=1]القول الثالث : الجمع بين القولين نعبده تعالى ونسأله الوقاية من العذاب .[/h]الزمخشري والنسفي وأبو حيان والمظهري والبقاعي والآلوسي والمراغي والسعدي وسيد طنطاوي والصابوني وابن القيم .
الزمخشري : { نَدْعُوهُ } نعبده ونسأله الوقاية قال السعدي: وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي : لم نزل نتقرب إليه بأنواع القرباتوندعوه في سائر الأوقات
[h=1]القول الرابع : إجازة الوجهين[/h]البيضاوي وابن جزي وأبو السعود وابن عجيبة
البيضاوي : من قبل ذلك في الدنيا { ندعوه } نعبده أو نسأله الوقاية
الراجح عندي :الجمع بين القولين ويدخل دخولا أوليا الدعاء ولذلك سميت العبادة دعاء لأن أهم ما فيها ومقصودها الأعظم الدعاء : أي كنا نعبده و نتضرع إليه أ ي كنا من قبل على سبيل الدوام ندعوه ونتضرع إليه نطرق باب الله ، دون أن نمل من الدعاء والتضرع والابتهال أن يقينا عذاب السموم ، ويوصلنا إلى النعيم ويغفر ما فرط منا فاستجاب الله لنا وأعطانا سؤلنا ، وهذا الدعاء على سبيل الخضوع لله سبحانه وتخصيصه بالسؤال والافتقار فيستلزم العبادة له وحده والاستلام له وحده . ابن عاشور: وجملة { إنا كنا من قبل ندعوه } تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم ، أي كنا من قبل اليوم ندعوه ، أي في الدنيا
قال الآلوسي: والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية
معنى البر
فيه تعريض بأن بعض أهلهم لم يكونوا على صفتهم ولذا صاروا محرومين {البر} الواسع الجود ا {الرحيم *} المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته، وَالْبَرُّ: الْمُحْسِنُ فِي رِفْقٍ.
وَالرَّحِيمُ: الشَّدِيدُ الرَّحْمَةِ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. لأن لطفه وإحسانه عم العوالم كلها.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات (1) وندعوه في سائر الأوقات المحسن المخصوص المنحصر على الإحسان والانعام {إنا كنا من قبل} أي: قبل أن نصل إلى هذا المقر، وذلك في الدنيا {ندعوه} أي: نعبده ونسأله، لأن الدعاء يطلق على معنيين: على العبادة، وعلى السؤال، فمن إطلاقه على العبادة قول الله تبارك وتعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} . وأما الدعاء بمعنى السؤال ففي قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} .
فقولهم: {إنا كنا من قبل ندعوه} يشمل دعاء العبادة كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، وبر الوالدين وصلة الأرحام، كل هذا دعاء، وإن كان هو عبادة، فلو سألت الداعي لماذا تعبد الله، ولو سألت العابد لماذا تعبد الله؟ لقال: أرجو رحمته وأخاف عذابه، فتكون هذه العبادة بمعنى الدعاء، كذلك ندعوه دعاء مسألة، لا يسألون غير الله ولا يلجئون إلا إلى الله، لأنهم يعلمون أنهم مفتقرون إليه، وأنه هو القادر على كل شيء {إنه هو البر الرحيم} (البر) بمعنى الواسع الإحسان والرحمة، ومن ذلك البرية، للمكان الخالي من الأبنية، فالمعنى أنه جل وعلا واسع الإحسان والعطاء والجود قال الزمخشري: الرَّحِيمُ العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. وقرئ: أنه بالفتح، بمعنى: لأنه.
******************
تنبيه : هناك أقوال غير مرضية لم اذكرها اختصارا [37]
********************
[h=1]اجتماع قبل ومن قبل يدرك سرها مما تقدم: [/h]( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد : 6]
قبل الأولى النظر فيها أن شيئا قبل شيء وأما الثانية فالنظر فيها للتعميم
********************
{وإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) }لاحظ في موضعي التأكيد أدخل من وفي
********************
وتتميما للفائدة : انقل المبحث الذي كنت قد ذكرته في بحث الفرق بين بعد ومن بعد وهو مبحث مذاهب النحاة في من الداخلة على الظروف :
[h=1]للنحاة في (من) الداخلة على الظروف كقبل وبعد وأخواتهما ثلاثة أقوال: [/h][h=2]القول الأول : [/h]قالوا هي : لابتداء الغاية الزمانية ، نحو :{ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}، وقوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] ، وهو كثير في القرآن وغيره ، فمن ذلك : نمت من أول الليل، وصمت من أول الشهر الى آخره : « مطرنا من الجمعة إلى الجمعة »
وقول الشاعر:
تُخُيِّرْن مِنْ أزمانِ يومِ حَليمةٍ ... إلى اليوم قد جُرِّبْن كلَّ التجاربِ[38]
وقوله :* أقوين من حِجَج ومن دهره[39] *
وقول الشاعر من الطويل:
- مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمسُ لا ترى ... من القوم إلا خارجيّاً مُسَوَّما
وهذا أثبته الكوفيون ، و اختاره المحققون كأبي حيان والسمين والآلوسي والزمخشري وغيرهم .
وزعم أكثر البصريين أنها لا تجئ لابتداء الزمان وأولوا ما ظاهره أنها لابتداء الزمان على حذف مضاف:
بأن قدروا في الآية : من تأسس أول يوم ،
وأجابوا عن الحديث بأن الأصل من صلاة الجمعة ،
وقدروا في ( تخيرن من الزمان) ومن مجيء أزمان يوم.
وقدروا في (قوين من حجج ومن دهره ) : من مر حجج ومن مر دهر ،
وقدروا في(مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ): ومن طلوع الصبح.
ويرد عليهم بأن الأصل عدم الحذف ، ، ولا دليل على ذلك الحذف .
قال السمين الحلبي : والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ، ولأبي علي فيها كلام طويل.[40]
[h=2]القول الثاني: زائدة على قول من يجيز زيادة (من) في الموجب[41] ، ومعناها التأكيد.[/h]اختاره ابن مالك وهو ظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل ، وضعفه أبو حيان [42].
[h=2]القول الثالث: بمعنى في.[/h][h=2]اختاره الرضي والتفتزاني .[/h] قال الرضي: " ومن الداخلة على الظروف غير المتصرفة أكثرها بمعنى في نحو جئت من قبلك ومن بعدك {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] ، وأما جئت من عندك ، وهب لي من لدنك فلابتداء الغاية ".
وقال الرضي في موضع آخر: لا أرى في الآية ـ يعني آية هب لي من لدنك ـ ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود منه أن يكون الفعل شيئا ممتدا كالسير والمشي ومجرور- من- منه الابتداء نحو سرت من البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتدا وليس التأسيس ممتدا ولا أصلا لممتد[43] بل هما حدثان واقعان فيما بعد مِنْ وهذا معنى في، ومِنْ في الظروف كثيرا ما تقع بمعنى في انتهى. و قال الآلوسي :" وفي كون التأسيس (أي في لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ليس أصلا لممتد منع ظاهر. نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني[التفتزاني] وله وجه، وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين.
وقال العلامة التفتزاني[44]: "قولهم جلس بين يديه وخلفه على معنى في لأنه ظرف ومن بين يديه ومن خلفه للتبعيض لأنّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل أي في بعض الليل"، ورد السامرائي هذا المذهب [45].
[h=1]الراجح: [/h]قال السامرائي: قال ابن هشام في المغني: وَاخْتلف فِي (من) الدَّاخِلَة على قبل وَبعد فَقَالَ الْجُمْهُور لابتداء الْغَايَة ، ورد بِأَنَّهَا لَا تدخل عِنْدهم على الزَّمَان كَمَا مر وَأجِيب بِأَنَّهُمَا غير متأصلين فِي الظَّرْفِيَّة وَإِنَّمَا هما فِي الأَصْل صفتان للزمان إِذْ معنى جِئْت قبلك جِئْت زَمنا قبل زمن مجيئك فَلهَذَا سهل ذَلِك فيهمَا، وَزعم ابْن مَالك أَنَّهَا زَائِدَة وَذَلِكَ مَبْنِيّ على قَول الْأَخْفَش فِي عدم الِاشْتِرَاط لزيادتها وجاء في تاج العروس ولسان العرب: وَفِي الصِّحاحِ: وَقد تَدْخلُ مِنْ تَوْكِيداً لَغْواً؛ قالَ الأَخْفَشُ: وَمِنْه قَوْلُه تَعَالَى: {وتَرَى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ} ، وقالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لرجُلٍ مِنْ قَلْبَيْن فِي جوْفِه} ، ثم نقل السامرائي كلام الرضي ثم قال: بهذا يتبين ثلاثة آراء في من الداخلة على بعض من الظروف غير المتصرفة :
1) أنها لابتداء الغاية 2) زائدة 3) أنها بمعنى في.
قال السامرائي : والذي يبدو لي أن الأول هو الراجح وليست بمعنى في لأن الأصل عدم النيابة ، وليست بزائدة لأن الأصل عدم الزيادة وإذا أمكن عدم إخراجها من معناها الذي وضعت له فهو الأولى ولا تصرف عن معناها الأساسي إلا إذا تعذر إبقاؤها عليه " اهـ.
يقول علي هاني: بعد النظر في كلام المفسرين وكلام الكتب التي تذكر في الآيات المتشابهة ، وتأمل الآيات القرآنية يتضح أن الراجح :
أنها لابتداء الغاية ، وينشأ من ابتداء الغاية معان فرعية : فمن ذلك التأكيد في سياقات كثيرة ، وكذلك تفيد القرب في سياقات أخرى؛ لأنها تكون لابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية ، وتفيد استيعاب الزمان كله من أول لحظاته في سياقات أخرى كما تقدم بيانه في البحث .
وبتأمل البحث وتأمل كلام النحاة ندرك أن كلا منهم اقتصر على بعض معاني (من) وفي هذا البحث الذي من الله علي به الصورة الكاملة إن شاء الله ، لكن عمل الإنسان لا يخلو من تقصير لذلك أقول ما قاله الشاطبي رحمه الله :
أخي أيّها المجتاز نظمي ببابه ... ينادي عليه كاسد السّوق أجملا
وظُنَّ به خيراً وسامح نسيجه ... بالاغضاء والحسنى وإن كان هلهلا
- وسلم لأحدى الحسنيين إصابة ... والاخرى اجتهاد رام صوبا فأمحلا
- وإن كان خرق فادَّركه بفضلة ... من الحلم وليصلحه من جاد مِقْوَلا



تم بحمد الله وتوفيقه ومنه وكرمه




[1] قال السامرئي { ما أرسلنا من قبلك} القصد فيها للاستيعاب هذا هو الشأن منذ القديم ابتداء من قبلك إلى الأقدم وأما { ما أرسلنا قبلك } في الأنبياء فلم يذكر من لعدم إرادة الابتداء وإنما هو إخبار أن الذين قبلهم لم يؤمنوا فمن لابتداء الغاية قال الكرماني (1/150) حمود بن حمزة بن نصر، أبو القاسم برهان الدين الكرماني، ويعرف بتاج القراء، أسرار التكرار في القرآن المسمى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان: قَوْله {وَمَا أرسلنَا من قبلك} وَفِي الْأَنْبِيَاء {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِغَيْر {من} لِأَن {قبل} اسْم للزمان السَّابِق على مَا أضيف إِلَيْهِ و {من} تفِيد اسْتِيعَاب الطَّرفَيْنِ وَمَا فِي هَذِه السُّورَة للاستيعاب وَقد يَقع {قبل} على بعض مَا تقدم كَمَا فِي الْأَنْبِيَاء فِي قَوْله {مَا آمَنت قبلهم من قَرْيَة} ثمَّ وَقع عقيبها {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِحَذْف {من} لِأَنَّهُ بِعَيْنِه {قَوْله} {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض.


[2] درة التنزيل وغرة التأويل ، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي (المتوفى: 420هـ)، الناشر: جامعة أم القرى،، الطبعة: الأولى.

[3] قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثان أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي الشافعي (1/230) / الناشر: دار الوفاء ـ المنصورة/ الطبعة: الأولى، 141: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء فحذف من يفيد الاستيعاب لكن من غير تأكيد فحيث يكون السياق لا يتطلب التأكيد والمراد مع ذلك العموم تحذف (من).

[4] قال الخطيب الإسكافي في درة التنزيل (2/800): " وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا. وقد نص البقاعي على العموم في آيات كثيرة. و قال الإسكافي أيضا (1/898): أما دخول "مِن " وحذفها فهو أن القائل إذا قال: (كم أهلكنا قبلهم) فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال: (من قبلهم) فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله إلى أخره ظرف للإهلاك، لا يختص به بعضه دون بعض.

[5] قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل (1/141): فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة "من " في قوله تعالى: "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض " وفي سورة السجدة: "ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " وفي ص: "كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ... ".وردت هذه الآي الثلاث بزيادة "من "فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآي لم ترد فيها "من "كقوله تعالى في سورة مريم: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " وفي آخرها: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد " وفي طه: "أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم "، وفي يس: "ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون "وفي سورة ق: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا " فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها "من " فيسأل عن وجه زيادتها في الآي الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟ والجواب والله أعلم: أن "من " إنما تزاد في هذه الآي حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف .

[6] قال البقاعي (9/319) : { مرجواً } أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح ، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا : { قبل هذا } أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد .
وقال البقاعي(18/455): { إنهم كانوا } أي كوناً هو كالجبلة . ولما كان الإنسان إما أن يكون مطيعاً في مجموع عمره أو في بعضه . . . على الطاعة ، وكانت الطاعة تجبُّ ما قبلها ، وتكون سبباً في تبديل السيئات حسنات فضلاً منه سبحانه ، فكان كل من القسمين مطيعاً في جميع زمانه ، نزع الجارّ فقال : { قبل ذلك } أي في دار العمل .قال البقاعي(12/238): ولما كان المراد استغراق الزمان ، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال : { قبلهم من قرن } أي شاهدوا ديارهم ، ورأوا آثارهم ؛ ثم وصف كم بقوله: { هم } أي أهل تلك القرون { أحسن } من هؤلاء { أثاثاً } أي أمتعة { ورئياً * } أي منظراً ، وقال البقاعي(12/253): ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول { ينذر } : فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم ، عطف عليه قوله : { وكم أهلكنا } 39 بما لنا من العظمة ، ولما كان المراد التعميم ، أثبت الظرف عرياً عن الجار ، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال : { قبلهم من قرن } كانوا أشد منهم شدة ، وأكثر عدة ، وأوثق عدة ، فلم يبق إلا سماع أخبارهم ، ومشاهدة آثارهم.، وقال البقاعي: (16/118): -ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله : { ألم يروا } أي :يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار : { كم أهلكنا } على ما لنا من العظمة ، ودل قوله : { قبلهم } - بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار - على أن المراد :جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم } قال البقاعي (18/414): { كذبت } وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها ، أسقط الجارّ فقال : { قبلهم }.وقال البقاعي (19/184): ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال : { قبلهم } أي المتكئين . و قال البقاعي (19/213): وعبر بالكون دلالة على العراقة في ذلك ولو بتهيئهم له جبلة وطبعاً فقال : { كانوا } أي في الدنيا . ولما كان ذلك ملازماً للاستغراق في الزمان بميل الطباع ، نزع الجار فقال : { قبل ذلك }.

[7] لخص د صالح الشتري في كتاب المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية / طباعة مجمع الملك فهد ص 328:: ما قال أبو جعفر بن الزبير فقال: أجاد أبو جعفر حيث تأمل الآيات وخرج بنتيجة مفادها أنه إذا ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم تفصيل علللى ما ذكرناه أو تكون آي التهديد لا تبلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر .

[8] يقول علي هاني وإليك خمسة مواضع فيها (من قبل) بذكر ( من) يتضح فيها قوة السياق:1) { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (1512) 2) الموضع الثاني: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) الموضع الثالث: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) الموضع الرابع : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ



[9] قال في ملاك التأويل: فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة "من " فى قوله تعالى: "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض " وفى سورة السجدة: "ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم " وفى ص: "كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ... ".
وردت هذه الآى الثلاث بزيادة "من "فيها وسائر ما ورد فى القرآن من مثل هذه الآى لم ترد فيها "من "كقوله تعالى فى سورة مريم: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " وفى آخرها: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد " وفى طه: "أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم "، وفى يس: "ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون "وفى سورة ق: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا " فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها "من " فيسأل عن وجه زيادتها فى الآى الثلاث الأول وسقوطها فى هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن "من " إنما تزاد فى هذه الآى حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف وقد لخص د صالح الشتري: ما قال أبو جعفر بن الزبير فقال: أجاد أبو جعفر حيث تأمل الآيات وخرج بنتيجة مفادها أنه إذا ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم تفصيل علللى ما ذكرناه أو تكون آي التهديد لا تبلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر

[10] . قال في درة التنزيل: (2/799) الآية الثانية :للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} { وما أرسلنا قبلك} - فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها. والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا ، فأكثر ما في القرآن: (وما أرسلنا من قبلك) ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا وهو { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }الأنبياء (21/7) ، والآخر: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)فأما الأول الذي في الأنبياء فإنه حذفت منه (من) بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع، فأما قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الفرقان: 21 فإن قال: فقد جيء بـ( من) في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك بـ( من) قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسول ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفي عنهما إلا ما أثبته لهما بعد. . قال في درة التنزيل: (2/799) الآية الثانية :للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} { وما أرسلنا قبلك} - فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها. والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا ، فأكثر ما في القرآن: (وما أرسلنا من قبلك) ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا وهو { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }الأنبياء (21/7) ، والآخر: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)فأما الأول الذي في الأنبياء فإنه حذفت منه (من) بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع، فأما قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الفرقان: 21 فإن قال: فقد جيء بـ( من) في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك بـ( من) قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسول ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفي عنهما إلا ما أثبته لهما بعد.

[11] قال الزمخشري -{ فِينَا } فيما بيننا { مَرْجُوّا } كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك . قال قال ابن عطية : قوله : { مرجواً } معناه : مسوداً ؛ نؤمل فيك أن تكون سيداً سادّاً مسدّ الأكابر قال سيد قطب -( قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) ابن عاشور : والإشارة في { قبل هذا } إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم .


[12] رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)

[13] قال الطبري : يقول تعالى ذكره : وكثيرا أهلكنا يا محمد قبل قومك من مشركي قريش ، من قرن ، يعني من جماعة من الناس ، إذا سلكوا في خلافي وركوب معاصيّ مسلكهم ، هل تحس منهم من أحد : يقول : فهل تحسّ أنت منهم أحدا يا محمد ، فتراه وتعاينه أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا يقول : أو تسمع لهم صوتا ، بل بادوا وهلكوا ، وخَلَت منهم دورهم ، وأوحشت منهم منازلهم ، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلا صالح من عمل قدّموه ، فكذلك قومك هؤلاء ، صائرون إلى ما صار إليه أولئك ، إن لم يُعاجلوا التوبة قبل الهلاكهذا تخويف لكفار مكة
قال الفخر الرازي: ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب

[14] { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}

[15] قال سيد قطب: ولقد كان في هلاك الأولين الذاهبين لا يرجعون ، على مدار السنين وتطاول القرون . . لقد كان في هذا عظة لمن يتدبر . ولكن العباد البائسين لا يتدبرون . وهم صائرون إلى ذات المصير . فأية حالة تدعو إلى الحسرة كهذا الحال الأسيف ? !قال ابن عاشور : و { قَبْلَهُم } ظرف ل { أهْلَكْنَا } ومعنى { قَبْلَهُم : } قبل وجودهم .


[16] ابن عاشور : فأمّا إصرارهم على الحنث وإنكارهم البعث فلا يخفي تسببه في العذاب لأن الله توعدهم عليه فلم يقلعوا عنه ، وإنما يبقى النظر في قوله : { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } فإن الترف في العيش ليس جريمة في ذاته وكم من مؤمن عاش في ترف ، وليس كل كافر مُترفاً في عيشه ، فلا يكون الترف سبباً مستقلاً في تسبب الجزاء الذي عوملوا به . فتأويل هذا التعليل : إما بأن يكون الإتراف سبباً باعتبار ضميمة ما ذُكر بعده إليه بأن كان إصرارهم على الحنث وتكذيبهم بالبعث جريمتين عظمتين لأنهما محفوفتان بكفر نعمة الترف التي خولهم الله إياها على نحو قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] فيكون الإِتراف جُزءَ سبب وليس سبباً مستقلاً ، وفي هذا من معنى قوله تعالى : { وذَرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً } [ المزمل : 11 ] . وإما بأن يراد أن الترف في العيش عَلّق قلوبهم بالدنيا واطمأنوا بها فكان ذلك مُملياً على خواطرهم إنكار الحياة الآخرة ، فيكون المراد الترف الذي هذا الإِنكار عارض له وشديد الملازمة له ، فوزانه وزان قوله تعالى : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [ محمد : 12 ] .

[17] هَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

[18] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

[19] قال ملاك التأويل: فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة "من " في قوله تعالى: "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض " وفي سورة السجدة: "ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " وفي ص: "كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ... ".
وردت هذه الآي الثلاث بزيادة "من "فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآي لم ترد فيها "من "كقوله تعالى ـ ـ في طه: "أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم "، ـ ـ فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها "من " فيسأل عن وجه زيادتها في الآي الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن "من " إنما تزاد في هذه الآي حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرفوأما آية طه فأوضح في إيحاء الرجاء في نفسها وما نتظمت به ألا ترى ما قوله تعالى "أفلم يهد لهم " وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله "لأولى النهى " من عظيم الحلم وعلى الرفق وكذا ما بعد فإن هذا من منتظم تلك الآي الثلاث
لخص د صالح الشتري: ما قال أبو جعفر بن الزبير فقال: أجاد أبو جعفر حيث تأمل الآيات وخرج بنتيجة مفادها أنه إذا ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم تفصيل علللى ما ذكرناه أو تكون آي التهديد لا تبلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر
قال د صالح الشتري: فسورة السجدة تتميز بالشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد فانظر إلى قوله تعالى{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} وكان ختم السورة بقوله { وانتظر إنهم منتظرون} وقد وقعت الآية بين هذين الوعيدين والتهديدين فناسب ذكر من وأما آية طه فلم يرد فيها من التغليظ في الوعيد وتوالي التهديد ما في سورة السجدة وهذا في الحقيقة استقراء واستخلاص جيد من أبي جعفر بن الزبير قال أبو جعفر بن الزبير في موضع آخر :
وأما زيادة ((من)) في قوله في آية السجدة: (مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنها مقصود فيها استغراق عموم لمناسبة ما تقدم هذه الآية من حصر التقسيم في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18) وأعقب: (به) ما يفهمه قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) (السجدة: 26)، إذ ليس هنا الوارد كالوارد في سورة طه من قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (طه: 128)، فهذا يشعر بخصوص يناسبه سقوط (من) الاستغراقية، وما في آية السجدة يشعر بعموم واستغراق تناسبه (من) في قوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ)، فجاء كل على ما يناسب ويجب، والله أعلم.يقول علي هاني : كلامه الثاني هنا مؤيد لكلام السامرائي قال الخطيب الإسكافي في درة التنزيل: أما دخول "مِن " وحذفها فقد بيّنّاه في قوله: (.. ولئن اتبعت أهوائَهم منقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) .وقال في سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) .للسائل أن يسأل في هذه الآية عن موضعين: ـ ـ ـ والثاني: أنه قال في السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ) فأدخل ((من)) على (قبلهم) هنا ولم يدخلها هناك مع تساوى المكانين والمعنيين. وأما دخول "مِن " وحذفها فقد بيّنّاه في قوله: (.. ولئن اتبعت أهوائَهم من
بعد ماجاءك من العلم..) ، وفي موضع.. بعدما جاءك..) ، وهو أن القائل إذا قال: (كم أهلكنا قبلهم) فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال: (من قبلهم) فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله إلى أخره ظرف للإهلاك، لا يختص به بعضه دون بعض.قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويلفي موضع آخر:
الآية السابعة من سورة طه قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) (طه: 128)، وفي سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) وأما زيادة ((من)) في قوله في آية السجدة: (مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنها مقصود فيها استغراق عموم لمناسبة ما تقدم هذه الآية من حصر التقسيم في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18) وأعقب: (به) ما يفهمه قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) (السجدة: 26)، إذ ليس هنا الوارد كالوارد في سورة طه من قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (طه: 128)، فهذا يشعر بخصوص يناسبه سقوط (من) الاستغراقية، وما في آية السجدة يشعر بعموم واستغراق تناسبه (من) في قوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ)، فجاء كل على ما يناسب ويجب، والله أعلم.قال السامرائي: ومن الاختلاف في هاتين الآيتين في غير العطف قوله تعالى في السجدة: (من قبلهم من القرون) وفي طه: (قبلهم من القرون) بدون (من) وذلك أنه ذكر في سورة السجدة هلاك ووفاة من هم في زمانه فقال: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 10-11] .فبدأ بهلاك من هو أقرب إليه فجاء بـ (من) الدالة على ابتداء الغاية، ولم يرد مثل ذلك في (طه) فإنه ذكر قوم موسى وأحوالهم، وهم قبل الرسول بمدة طويلة وليسوا من قبله.ثم انظر كيف ختم آية السجدة بقوله: (أفلا يسمعون) وذلك لأنهم يسمعون بماحصل للأقرب إليهم، فإنّ خاتمة الأقرب مما يؤخذ عن طريق السماع بخلاف الأقدمين.. وهذه إشارات تهديك إلى خاتمة آية (طه) لتنظر جلالة هذا الكلام وارتفاعه.ومن ذلك قوله تعالى: قال البقاعي : ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين ، وأحاديث المكذبين ، بسبب العصيان على الرسل ، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان ، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى : { أفلم يهد } أي يبين { لهم كم أهلكنا قبلهم } أي كثرة إهلاكنا لمن تقدمهم { من القرون } بتكذيبهم لرسلنا ، حال كونهم { يمشون في مساكنهم } ويعرفون خبرهم بالتوارث خلفاً عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعداءنا ونفعل ما شئنا ! والأحسن أن لا يقدر مفعول ، ويكون المعنى : أو لم يقع لهم البيان الهادي ، ويكون ما بعده استئنافاً عيناً كما وقع البيان بقوله استئنافاً : { إن في ذلك } أي الإهلاك.


[20] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

[21] قال البقاعي: ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً ، كان كأنه قيل : يا ليت شعري ! ما كان حالها ؟ فقيل : { قالت } لما حصل عندها من خوف العار : { ياليتني مت } و لما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار: { قبل هذا } أي الأمر العظيم { وكنت نسياً } أي شيئاً من شأنه أن ينسى { منسياً * } أي متروكاً الفعل لا يخطر على بال ، فولدته ،

[22] الزمخشري : لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ، ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما ، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ، ويقبح إليهما الشرك بالله ، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة ، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك الآلوسي وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت . وإطلاق التأويل على ذلك - مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل ، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالتأويل بالنسبة إلى ما ، وحملها البقاعي على العموم والأحسن ما قدمت قال البقاعي ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله ، نزع الخافض فقال : { قبل أن يأتيكما } أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا ، فيكون سبباً لكذا ، فإن المسبب الناشىء عن السبب هو المال .
الزمخشري : لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ، ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما ، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ، ويقبح إليهما الشرك بالله ، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة ، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك الآلوسي وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت . وإطلاق التأويل على ذلك - مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل ، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالتأويل بالنسبة إلى ما


[23] قال سيد قطب: وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود ؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير ، ( قل : لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا ) ، والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر . والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون ؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير ! ، فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه ؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد . ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله ، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد ! وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود ، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع . قال البقاعي: ولما كانت المخلوقات - لكونها ممكنة - ليس لها من ذاتها إلا العدم ، وكانت الكلمات من صفات الله ، وصفات الله واجبة الوجود ، فكان نفادها محالاً ، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقاً للأزمنة كلها ، جرد الظرف من حرف الجر فقال : { قبل أن تنفد } أي تفنى وتفرغ { كلمات ربي } لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى ، وكل منها له شرح طويل ، وخطب جليل .

· [24] من الذين حملوا الآية على حقيقة التسبيح أبو مسلم والرازي و سيد قطب وسيد طنطاوي ودروزة وجمع القولين البقاعي ، قال الفخر الرازي : قال أبو مسلم : لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال ، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات ، وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره ، وذلك لأنه تعالى صبره أولا على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر ، والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائما مظهرا لذلك وداعيا إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات . قال سيد قطب : وسبح بحمده فترات من الليل والنهار . . كن موصولا بالله على مدار اليوم . . ( لعلك ترضى ) . . قال سيد طنطاوي : أي : وعليك - أيها الرسول الكريم - أن تكثر من تسبيح ربك وتحميده وتنزيهه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، وفي ساعات الليل وفي " أطراف النهار " أي: في الوقت الذى يجمع الطرفين ، وهو وقت الزوال ، إذ هو نهاية النصف الأول من النهار ، وبداية النصف الثاني منه ، إذا في هذا التسبيح والتحميد والتنزيه لله - تعالى - والثناء عليه بما هو أهله ، جلاء للصدور ، وتفريج للكروب وأنس للنفوس ، واطمئنان للقلوب . ويرى كثير من المفسرين ، أن المراد بالتسبيح هنا ، إقامة الصلاة والمداومة عليها .قال دروزة : و ما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات وإليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة وغيره . انتهى ثم إن ذهبنا إلى أن آية سورة طه في الصلوات الخمس كما ذهب إليه كثير من العلماء فالتبعيض واضح لأن صلاة الفرض لا تستغرق كثيرا من الوقت بخلاف قيام الليل في الآيتين الأخريين من الذين حملوها على الصلوات الخمس جمهور المفسرين قال أبو السعود - { وَمِنْ آنَاء الليل } أي من ساعاته جمع إِنّى بالكسر والقصر ، وآناء بالفتح والمد { فَسَبّحْ } أي فصلِّ والمرادُ به المغربُ والعشاءُ إيذاناً باختصاصهما بمزيد الفضلِ فإن القلبَ فيهما أجمعُ والنفسَ إلى الاستراحة أميلُ فتكون العبادةُ فيهما أشقَّ ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }.


[25] ففي « صحيح مسلم » عن جرير بن عبد الله : " كُنَّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر فقال : إنكم سَتَرَوْنَ ربَّكم كما ترون هذا القمر لا تُضامُون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تُغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " يعني بذلك العصر والفجر . ثم قرأ جرير { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } كذا

[26] في المحاضرات المفرغة التي سميت في الموسوعة الشاملة لمسات بيانية وهي تختلف عن المطبوع ، وقد أبدى السامرائي في معاني النحو سببا آخر .

[27] الدكتور فاضل صالح السامرائي / على طريق التفسير البياني / دار الفكر (2/130)

[28] قال الخطيب الإسكافي : للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} { وما أرسلنا قبلك} - فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها.والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه.وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا.فأكثر ما في القرآن: (وما أرسلنا من قبلك) ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا وهو { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }الأنبياء (21/7) ، والآخر: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)
فأما الأول الذي في الأنبياء فإنه حذفت منه (من) بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع.فأما قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الفرقان: 21
فإن قال: فقد جيء بـ( من) في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك بـ( من) قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسول ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفي عنهما إلا ما أثبته لهما بعد.


[h=3][29] قال ابن عاشور: و { من قبلك } يتعلق ب { أرسلنا } ف { من } لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة ، أي من أول أزمنة الإرسال . ولولا وجود { من } لكان { قبلك } في معنى الصفة للمرسَلين المدلول عليهم بفعل الإرسال .[/h]
[h=3][30] قال في بصائر ذوي التمييز : قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} وفي الأَنبياءِ {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} بغير (مِن) لأَن (قبل) اسم للزَّمان السّابق على ما أُضيف إِليه، و (مِن) يفيد استيعاب الطَّرفين، وما في هذه السّورة للاستيعاب. وقد يقع (قبل) على بعض ما تقدم؛ كما في الأَنبياءِ، وهو قوله: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} ثم وقع عقِبه {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} فحذف (مِن) لأَنَّه هو بعينه.[/h]
[h=3][31] وقال ابن عرفة : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك.[/h]
[h=3][32] قال الكرماني : قَوْله {وَمَا أرسلنَا من قبلك} وَفِي الْأَنْبِيَاء {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِغَيْر {من} لِأَن {قبل} اسْم للزمان السَّابِق على مَا أضيف إِلَيْهِ و {من} تفِيد اسْتِيعَاب الطَّرفَيْنِ وَمَا فِي هَذِه السُّورَة للاستيعاب وَقد يَقع {قبل} على بعض مَا تقدم كَمَا فِي الْأَنْبِيَاء فِي قَوْله {مَا آمَنت قبلهم من قَرْيَة} ثمَّ وَقع عقيبها {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِحَذْف {من} لِأَنَّهُ بِعَيْنِه {قَوْله} {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض[/h]

[33] قال النيسابوري- الحسن بن محمد : قال : { وما أرسلنا من قبلك } وفي " الأنبياء " { قبلك } [ الأنبياء : 7 ] بغير " من " لأن قبلاً اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و " من " تفيد استيعاب الطرفين ، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب

[h=3][34] قال الفخر الرازي: فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم } والمعنى : أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولا إلا من البشر ، فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى ، وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضا طعن قديم فلا يلتفت إليه .[/h]

[h=3][35] قال السامرائي: [/h]في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7} ) وهي تحتمل البعيد والقريب ، وذكر (من) تفيد الابتداء أي ابتداء الغاية وهو امتداد من الزمن الذي قبلك مباشرة أي من زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى زمن آدم. وليس هناك فاصل.


[36] قال البقاعي:{ مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام، بخلاف الرجاء الحامل على الطاعات، فإنه يكفي فيه ما تيسر كما تأتي الإشارة إليه بإثبات الجار: {إنا كنا قبل} أي في دار العمل {في أهلنا} على ما لهم من العدد والعدد والنعمة والسعة، ولنا بهم من جوالب اللذة والدواعي إلى اللعب {مشفقين *} أي عريقين {إنا كنا} أي بما طبعنا عليه وهيئنا له.

[37] ك قال السامرائي إن حذف من يدل على مدة محدودة: .حيث قال السامرائي : وهذا الذكر أو الحذف يعتمد على سياق الآيات فإذا كان السياق ممتد [ أي من أول المدة إلى آخرها كقبلنا إلى آدم ]يأتي بـ (من) ، وإذا كان السياق لفترة محددة لا يأتي بها قال السامرائي في الأسئلة والأجوبة في البرنامج التلفزيوني :ما دلالة ذكر وحذف (من) في قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً) وقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً) ؟ قال تعالى في سورة يوسف (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {109} ) وذكر (من) تفيد الابتداء أي ابتداء الغاية وهو امتداد من الزمن الذي قبلك مباشرة أي من زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى زمن آدم. وليس هناك فاصل كما جاء في قوله تعالى (يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم. وكذلك قوله تعالى (والملائكة حافّين من حول العرش) أي ليس بينهم وبين العرش فراغ. أما في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7} ) وهي تحتمل البعيد والقريب وكذلك في قوله (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ {48} ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ {49} الدخان) وهذا العذاب أخف من الأول (من فوق رؤوسهم) .وهذا الذكر أو الحذف يعتمد على سياق الآيات فإذا كان السياق ممتد يأتي بـ (من) وإذا كان السياق لفترة محددة لا يأتي بها. في سورة النحل قال تعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ {26} ) كل الآيات فيها (من) لأن الحديث كله عن سلسلة الأنبياء (مستمرة) أما في سورة الأنبياء (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ {6} ) فهي قائمة على التبليغ فناسب حذف (من) . قال السامرائي: فلم يذكر من في الأنبياء وذكرها في النحل وسر ذلك أن من تفيد الابتداء كما ذكرنا أي أن الأمر كذلك ابتداء من قبلك إلى القديم بخلاف آية الأنبياء فهي ليست لهذا المعنى


[38] [38] هذا من كلام النابغة الذبياني والضمير يعود للسيوف في البيت الذي قبله ، وهو : ولا عيب فيهم غير أنّ سيُوفَهم ... بهنَّ فُلول من قِراع الكتائب ، يوم حليمة: من أيام العرب المشهورة في العصر الجاهلي، فيه انتصر الغساسنة على اللخميين، وبه ضرب المثل "ما يوم حليمة بسر" يقول إن سيوف الغساسنة صقيلة اختارها أصحابها من زمن يوم حليمة، وحافظوا عليها إلى اليوم، وقد أظهرت التجارب جودتها وحسن بلائها في رقاب الأعداء. وحليمة بنت الحرث بن أبي شمر ملك غسان، وجه أبوها جيشًا إلى المنذر بن ماء السماء، فأخرجت لهم طيبًا وطيبتهم فلما قدموا على المنذر، قالوا له: أتيناك من عند صاحبنا، وهو يدين لك، ويعطيك حاجتك فتباشر هو وأصحابه، وغفلوا بعض الغفلة، فحمل ذلك الجيش على المنذر وقتلوه. ويقال: إنه ارتفع في ذلك اليوم من العجاج ما غطى عين الشمس.

[39] قبله لِمَنِ الدِيارُ بقُنةِ الحِجرِ القنة: أعلى الشيء. الحجر: منازل ثمود عند وادي القرى. أقوين: خلون. مذ حجج: منذ سنوات ، المعنى: يتساءل الشاعر عن ديار قنة الحجر التي خلت منذ سنوات عديدة.

[40] قال السيوطي في همع الهوامع : ( من) لابتداء الْغَايَة مُطلقًا أَي مَكَانا وزمانا وَغَيرهمَا نَحْو {من الْمَسْجِد الْحَرَام} [الْإِسْرَاء: 1] {أسس على التَّقْوَى من أول يَوْم} [التَّوْبَة: 108] (مُطِرْنَا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة) {خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة} [الْحَج: 5] الْآيَة: (من مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى هِرقل) وخصها البصرية إِلَّا الْأَخْفَش والمبرد وَابْن درسْتوَيْه بِالْمَكَانِ وأنكروا وُرُودهَا للزمان، قَالَ ابْن مَالك وَغير مَذْهَبهم هُوَ الصَّحِيح لصِحَّة السماع بذلك ، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَيَّان لِكَثْرَة ذَلِك فِي كَلَام الْعَرَب نظما ونثرا وَتَأْويل مَا كثر وجوده لَيْسَ بجيد ، وَقَالَ الرضي الْمَقْصُود من معنى الِابْتِدَاء فِي (من) أَن يكون الْفِعْل المعدي بهَا شَيْئا ممتدا كالسير وَالْمَشْي وَيكون الْمَجْرُور بِمن الشَّيْء الَّذِي مِنْهُ ابْتَدَأَ ذَلِك الْفِعْل نَحْو سرت من الْبَصْرَة أَو يكون الْفِعْل أصلا للشَّيْء الممتد نَحْو تبرأت من فلَان وَخرجت من الدَّار لِأَن الْخُرُوج لَيْسَ ممتدا لحصوله ب الِانْفِصَال وَلَو بِأَقَلّ خطْوَة وَلَيْسَ (التأسيس) فِي الْآيَة حَدثا ممتدا وَلَا أصلا لَهُ بل هُوَ حدث وَاقع فِيمَا بعد (من) فَهِيَ بِمَعْنى (فِي) ثمَّ قَالَ وَالظَّاهِر مَذْهَب الْكُوفِيّين إِذْ لَا منع من قَوْلك نمت من أول اللَّيْل إِلَى آخِره وَهُوَ كثير الِاسْتِعْمَال قَالَ وضابطها أَن يحسن فِي مقابلتها (إِلَى) أَو مَا يُفِيد فائدتها نَحْو أعوذ بِاللَّه مِنْك إِذْ الْمَعْنى ألتجئ إِلَيْهِ فالباء أفادت معنى الِانْتِهَاء
قال الآلوسي :" والحق أن كثيرا من الآيات، وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه"، وقد حملها على الابتداء كثير من العلماء.قال أبو حيان في { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ }: "و(من) لابتداء الغاية ، وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون زائدة انتهى، وهو ضعيف" ، قال حقي البروسي : عند قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)} : مِنْ قَبْلِكَ رسلا كائنة من زمان قبل زمانك ، فـ(من) لابتداء الغاية في الزمان على مذهب الكوفية مثل نمت من أول الليل، وصمت من أول الشهر الى آخره ، وقال المحشى سنان چلبى: (من) زائدة على قول من جوز زيادتها في الموجب، وأما عند غيره فهي بمعنى في كما في قوله تعالى"{ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}.قال ابن عرفة : قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... } أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف. قال أبو حيان : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ } وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم ، قال أبو حيان : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} فقوله من قبلك من فيه لابتداء الغاية قال الشهاب : الجمهور على أنها لابتداء الغاية، قال هميان الزاد : { مِنْ أوَّل يَومٍ } من أيام وجوده ، أو وضع أساسه ، وفيه دليل على أن (من) تجئ للابتداء في الزمان كالمكان وهو الصحيح عندي ، وزعم أكثر البصريين أنها لا تجئ لابتداء الزمان ، وقدروا هنا من تأسس أول يوم ، والأصل عدم الحذف ، وقيل : أول بمعنى البداءة ، والبداءة ليست زمانا ، ومن الابتداء في الزمان حديث : « مطرنا من الجمعة إلى الجمعة » .* تخيرين من الزمان يوم حليمة * ... وقوله :* قوين من حجج ومن دهره * ... وأجيب بأن الأصل من صلاة الجمعة ، ومن استمرار الزمان ، ومن مر حجج ومن مر دهر ، والأصل عدم الحذف ، ولا دليل على ذلك الحذف .

[41] قال الأشموني: المعنى الرابع لـ(من) التنصيص على العموم أو تأكيد التنصيص عليه، وهي الزائدة: ولها شرطان: أن يسبقها نفي أو شبهه وهو النهي والاستفهام، وأن يكون مجرورها نكرة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "وزيد في نفي وشبهه فجر نكرة" نحو: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور} 1 والتي لتنصيص العموم هي التي مع نكرة لا تختص بالنفي، والتي لتأكيده هي التي مع نكرة تختص به كأحد وديار2. وذهب الكوفيون إلى عدم اشتراط النفي وشبهه، وجعلوها زائدة في نحو قولهم: "قد كان من مطر". وذهب الأخفش إلى عدم اشتراط الشرطين معًا؛ فأجاز زيادتها في الإيجاب جارة لمعرفة، وجعل من ذلك قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُم} .قال الصبان : ووافق الأخفش في عدم اشتراط الطرين الكسائي وهشام منهم، من الكوفيين واختاره في التسهيل كقال الصبان: فإن قلت: إذا أفادت التنصيص فكيف تكون زائدة؟ قلت: المراد بزيادتها وقوعها في موضع يطلبه العامل بدونها، فتكون مقحمة بين طالب ومطلوب، وإن كان سقوطها مخلًا بالمقصود قاله المصرح

[42] قال السمين : «مِنْ بعد» متعلقٌ ب «يَنْقْضُون» ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وقيل: زائدةٌ وليس بشيء. قال أبو حيان : { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } ومن لابتداء الغاية ، وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون زائدة انتهى، وهو ضعيف.
قال ابن عرفة : قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... } أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف.

[43] قال السامرائي: " وفي هذا الكلام نظر فنحن نخالفه في أن المقصود من معنى الابتداء في (من) أن يكون الفعل شيئا ممتدا أو يكون أصلا للممتد فإن ذلك في ابتداء الغاية وليس في عموم الابتداء كما ذكرنا ، فقوله { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } من فيه للابتداء فبدء التأسيس على التقوى أول يوم فهي لابتداء وقوع الحدث "وقال السامرائي في أول المبحث الأحسن أن يقال (من) للابتداء لا لابتداء الغاية لأن ابتداء الغاية معناه أن الحدث ممتد إلى غاية معينة كقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } ونحو (جئت من داري ) فإن الإسراء امتد من المسجد الحرام وانتهى بالمسجد الأقصى ، فالمسجد الأقصى هو الغاية قال السامرائي وأما ما ذهب إليه الرضي من أن (من) الداخلة على الظروف بمعنى (في) فالأصح خلافه وهي أنها للابتداء .نحو { ومن بيننا وبينك حجاب} ليست بمعنى (في) وإنما هي للابتداء جاء في الكشاف . جاء في الكشاف للزمخشري : ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) ، فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فائدة ؟ قلت : نعم ، لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب : لكان المعنى : أن حجاباً حاصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة ( من ) فالمعنى : أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها .


[44] قال الشهاب عند قوله تعالى {وادعوا شهداءكم من دون الله}: " قال الفاضل المحقق في شرحه هنا [ يعني التفتزاني]: كلمة (من) الداخلة على دون إنما هي بمعنى كما (في) سائر الظروف غير المتصرّفة وهي التي لا تكون إلا منصوبة على الظرفية أو مجرورة بمن خاصة وقد يقال إنها إذا تعلقت بادعوا تكون لابتداء الغاية لأنّ الدعاء ابتداء من دون الله وإذا تعلقت بالشهداء على معنى يشهدون بين يدي الله فللتبعيض كما سيجيئ في تفسير قوله تعالى: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [سورة الأعراف، الآية: 17] أنّ قولهم جلس بين يديه وخلفه على معنى في لأنه ظرف ومن بين يديه ومن خلفه للتبعيض لأنّ الفعل يقع في بعض! الجهتين كما تقول جئته من الليل أي في بعض الليل، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل أنها زائدة وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها لابتداء الغاية ولم ينقل عن النحاة التبعيض والظرفية ففيما ذكره نظر".

[45] وقال السامرائي في موضع آخر: وأما ما ذهب إليه الرضي من أن (من) الداخلة على الظروف بمعنى (في) فالأصح خلافه وهي أنها للابتداء .نحو { ومن بيننا وبينك حجاب} ليست بمعنى (في) وإنما هي للابتداء جاء في الكشاف للزمخشري : ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) ، فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فائدة ؟ قلت : نعم ، لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب : لكان المعنى : أن حجاباً حاصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة ( من ) فالمعنى : أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها .

 
عودة
أعلى