الجزء الثاني: في تحقيق الفرق بين بعد ومن بعد

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
[h=1]هذا هو الجزء الثاني من بحث الفرق بين بعد ومن بعد
المبحث الرابع: التفريق بين الآيات المتشابهات التي يذكر من في بعضها ويحذف في بعضها:
[/h][h=1]آيات متشابهة فيها مقارنة لتوضيح الفرق الدقيق :[/h][h=1]الموضع الأول : [/h]{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} (2/ 120)
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} (2/ 145)
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} (13/ 37)
حاصل كلام العلماء في الآية :

القول الأول: ذكر من يفيد السرعة والمبادرة ببداية العمل والتأكيد .
قال محمد الأمين الخضري في التفريق بين الآيات الثلاث: فالآية التي وردت من فيها سياقها مختلف عن الآيتين الأخريين فالتي فيها من جاءت في سياق تشريع خاص بتحويل القبلة اتخذه أهل الكتاب وسيلة للتشكيك والتسلل إلى قلوب ضعاف الإيمان وهو يقتضى حسما في تحديد بداية الزمن الذي يعمل فيه بهذا التشريع والضرب صفحا عن محاولات أهل الكتاب إثناء المؤمنين من الانصياع لشرع الله ومن ثم جاءت من في قوله تعالى { من بعد ما جاءك من العلم } لتدل على المبادرة ببداية العمل بالتشريع فور نزوله والإعراض عن أراجيف أهل الكتاب والسياق كل أطرافه وحواشيه حسم وتأكيد بالغ على تباين المواقف { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ـ ـمن الظالمين } شديد كل الشدة حيث الوصف بالظلم في اتباعهم بخلاف تذييل الآيتين أخريين فهو إعلان عن التخلي عن نصرته
أما الآيتان الأخريان فهما سياق يكاد يكون واحدا هو التحذير من أتباع أهل بعدما أنزل على رسوله من العلم لأنهم سيعملون على الانحراف بدين الإسلام عن الحق ويميلون به إلى ما يرضي أهواءهم ويقرب من زيغ في عقائدهم وذلك دأبهم في كل أحوالهم وأزمانهم وليس في تشريع خاص يتطلب تحديد بداية العمل به ومن ثم كان سقوط من هو الأليق بهذا السياق
[h=1]القول الثاني: لابتداء الغاية لأنها في آية القبلة وهي أمر مؤقت معين بخلاف غيرها ، وفيها التوكيد أكثر.[/h]قال ابن جماعة: ودخلت (من) في آية القبلة: لأنه في أمر مؤقت معين وهو: الصلاة التي نزلت الآية فيها أي: من بعد نسخ القبلة لأن (من) لابتداء الغاية، قال الكرماني: وزِيدَ معه "مِن"، التي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي حال العلم فيه بالقبلة، لأن القبلة الأولى نسخت بهذه الآيات، وليس الأول مؤقتا بوقت، وختم الآية الأولى بغليظ في
قال الكرماني: وزيدت مَعَه {من} الَّتِي لابتداء الْغَايَة لِأَن تَقْدِيره من الْوَقْت الَّذِي جَاءَك فِيهِ الْعلم بالقبلة لِأَن الْقبْلَة الأولى نسخت بِهَذِهِ الْآيَة وَلَيْسَت الأولى مُؤَقَّتَة بِوَقْت.
وَقَالَ فِي سُورَة الرَّعْد: {بعد مَا جَاءَك} فَعبر بِلَفْظ {مَا} وَلم يزدْ {من} لِأَن الْعلم هُنَا هُوَ الحكم الْعَرَبِيّ أَي الْقُرْآن فَكَانَ بَعْضًا من الأول وَلم يزدْ فِيهِ {من} لِأَنَّهُ غير مُؤَقّت وَقَرِيب من معنى الْقبْلَة مَا فِي آل عمرَان {من بعد مَا جَاءَك من الْعلم} فَهَذَا جَاءَ بِلَفْظ {مَا} وزيدت فِيهِ {من}
قال في بصائر ذوي التمييز:
وزيدت معه (من) الَّتي لابتداءِ الْغاية؛ لأَن تقديره: من الوقت الذى جاءَك فيه الْعلم بالْقبلة؛ لأَن الْقبلة الأُولى نُسِخت بهذه الآية، وليس الأَوّل موقَّتاً بوقت. وقال فى سورة الرّعد: {بَعْدَ مَا جَاءَكَ} فعَبَّر بلفظ (ما) ولم يزد (من) لأَن الْعلم هاهنا هو الْحكم الْعربي أَي الْقرآن، وكان بعضاً من الأَوّل، ولم يزد فيه (من) لأَنه غير موقَّت. وقريب من معنى الْقبلة ما فى آل عمران {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} فلهذا جاءَ بلفظ (ما) وزيد فيه (من)
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل: ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآي بعد وجاء قوله بعد: "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ "من " التي للغاية أو لابتدائها والمقصود أوفى وأمعن، وجيء بـ "ما " عوضا من الذي لأنها هنا بسياقها بعد (من) كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية تعطي الاستيفاء وتقتضيه فروعي هنا معناها وروعي فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: "إنك إذا لمن الظالمين " يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولي والواقي والنصير ألا ترى قوله تعالى: "والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير ".
فقد انتفى هنا الولي والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: "وما أنت بتابع قبلتهم "، فقد وضح افتراق المقاصد في إفراد هذه الآي على الانحاء الثلاثة.
قال الإسكافي في درة التنزيل:
فإن قال قائل: فكيف خص ما في القبلة بلفظة من فقال: (.. من بعد ما جاءك من العلم..) البقرة: 145 ولم يكن ذلك في قوله: (.. بعد الذي جاءك من العلم..) وهل لاختصاص هذا المكان بـ( من) فائدة تخصه دون المكانين الآخرين؟ قلت: هنا فائدة تقتضي من وليست في الآيتين الأخيرتين، وهي: أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة وأوقات مخصوصة لها في اليوم وفي الليلة مؤقتة، فخص بمن التي هي لابتداء الغاية، والقبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: (.. ولئن اتبعت أهواءهم..) من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها، وأمرت بالتوجه نحوها صوت من الظالمين.
فلما تخصص بوقت مضيق محدود لم يكن بد في المعنى من العلم بالوقت الذي نقل فيه عن القبلة الأولى إلى غيرها، وليس كذلك ما بعد قوله: (..قل إن هدى الله هو الهدى..) لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها، ولم يكن مما يجوز أن ينسخ لأنه علم بالإيمان، وصحة الإسلام، وبطلان الشرك والكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة من التي هي للحد وابتداء الغاية.
وكذلك الآية في سورة الرعد، لما كان العلم المانع من اتباع أهواءهم علما بأن جميع ما أنزل الله تعالى حق، وأن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل، كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الفرض فيها بوقت يجب حده بزمان بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول من في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. ومما يبين لك الأغراض التي أشرت إليها في الآي الثلاث، وأنها تجوز أن تكون مقصودة والله أعلم: ما اقترن من الوعيد بكل واحدة منها، فالموضع الذي منعه بعلمه من اتباع أهوائهم في قوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) البقرة: 120، هو منع من الأعظم الذي هو الكفر، فكان الوعيد عليه أغلظ، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا نصير) البقرة: 120.
والآية الأخيرة أيضا، لما كان العلم بها مانعا من العمل بشطر من الدين، وترك شطر منه، كان مثل الأول في استحقاق الوعيد، وكان مثله في الغلظة، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا واق) الرعد: 37.وأما اتباع أهوائهم في أمر القبلة، فلأنه مما يجوز نسخه، فكان الوعيد عليه أخف من الوعيد على ما هو الدين كله أو بعضه مما لا يجوز تبديله وتغييره، فصار الوعيد المقارن له دون الوعيد المقرون في الموضعين الآخرين، وهو قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إن إذا لمن الظالمين) البقرة: 145 أي إن فعلت ذلك وضعت الشيء غير موضعه ونقصت الدين حقه فهذا الكلام في الفرق بين المواضع الثلاثة.
قال السمين الحلبي : وجاء في هذا المكان { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ } وقال قبلَ هذا : { بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ } [ البقرة : 120 ] وفي الرعدَ : { بَعْدَ مَا جَآءَكَ } [ الرعد : 37 ] فلم يأتِ ب " من " الجارةِ إلاَّ هنا ، واختصَّ موضعاً ب " الذي " ، وموضِعَيْنِ ب " ما " ، فما الحكمةُ في ذلك ؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم ـ ـ قال " وأما دخولُ " مِنْ " ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم ، والذي يقال في هذا : إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة .
قال البقاعي: قال الحرالي : ـ ـ وجاءت فيه " من " التي هي لابتداء من أولية لخفاء مبدأ أمر ما جاء من العلم هنا وظهور ذلك الأول ، لأن ذلك كان في أمر الملة التي مأخذها العقل ، وهذه في أمر التوجيه الذي مأخذه الدين والغيب ، قال الحرالي : قال تعالى : { إنك إذاً لمن الظالمين }
القول الثالث: لأن هذا جزئي من عموم العلم
قال ابن عاشور : وإنما أدخلت ( مِنْ ) في هذه الآية الثانية على ( بْعد ) بقوله : { من بعد ما جاءك من العلم } لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأول في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فَصْلٍ فكان العلم الذي جاءه فيها مِن قوله : { ما تبعوا قبلتك } هو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم ، فكان جديراً بأن يُشار إلى كونه جزئياً له بإيراد ( مِن ) الابتدائية .
قال الشيخ زكريا الأنصاري : ولقلّة النوع في الثانية ، بالنسبة إليه في الثالثة ، زيد قبل " ما " في الثانية " من " الدالة على التّبْعيض
[h=1]الراجح:[/h]الراجح أن (من) تفيد ابتداء الغاية والتأكيد والتعقيب المجازي .
فـ(من) تفيد ابتداء الغاية والتأكيد ، فذكر من أفاد فيها معنى الابتداء أي اتباع الأهواء ناشئ ومبتدئ من بعدية مجيئ العلم ، وهذا لا يقبل إن وقع وتشنيع لهذا الفعل ، ، وفيه التأكيد والتشديد في الوعيد ، أي أنه صلى الله عليه وسلم ـ لو أطاعهم في البقاء على قبلتهم واتبع أهواءهم في ذلك من بعد ما جاءه العلم ببطلانها وحقية ما هو عليه ـ وحاشاه ـ لكان الانطلاق والبدء باتباع أهوائهم من بعد مجيء العلم و تحققه ـ إلى اتباع أهوائهم ـ ففيها قوة الوعظ والإنذار و تهديد شديد مؤكد وبيان فظاعة الفعل بعدها كما يدل عليه (من) وفيها تصوير أن هذا الفعل يعقب مجيء العلم فهو لا يقبل ، وهذا التشديد والتأكيد بذكر من يتضمن الوعيد المناسب لأهمية الموضوع وهو قضية تحويل القبلة الذي أرجف فيه اليهود وشككوا الناس في دينهم فاحتاجت إلى الحسم ، ويدل على التشديد أنه ختم الآية الأولى بغليظ وهو قوله سبحانه: "إنك إذا لمن الظالمين " [1]، في ذكر (من) أيضا دلالة على وجوب مخالفته صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب من أولِ الوقتِ الذي جاءه العلم فيه بتحويل القبلة ، هذه الشرطيةُ الفرَضية واردةٌ على منهاج التهييج والإلهابِ للثبات على الحق وفيه لطفٌ للسامعين وتحذيرٌ لهم عن متابعة الهوى فإن مَنْ ليس من شأنه ذلك إذا نُهيَ عنه ورُتِّبَ على فرض وقوعِه ما رُتِّبَ من الانتظام في سِلكِ الراسخين في الظلم فما ظنُّ من ليس كذلك ؟ أي : لئن اتبعت - يا محمد - قبلتهم - على سبيل الفرض ، والتقدير من بعد وضوح البرهان وإعلامي إياك بإقامتهم على الباطل.
قال ملاك التأويل:
ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآي بعد وجاء قوله بعد: "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ "من " التي للغاية أو لابتدائها والمقصود أوفى وأمعن، وجيء بـ "ما " عوضا من الذي لأنها هنا بسياقها بعد من كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية تعطى الاستيفاء وتقتضيه فروعي هنا معناها وروعي فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: "إنك إذا لمن الظالمين " يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولي والواقي والنصير ألا ترى قوله تعالى: "والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير ".
فقد انتفى هنا الولي والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: "وما أنت بتابع قبلتهم "، فقد وضح افتراق المقاصد في إفراد هذه الآي على الانحاء الثلاثة.
حذف (من) فلأن السياق لا يحتاج إلى تأكيد، ولا سرعة ولا ابتداء شيء من شيء ، فهي تفيد أن اتباع أهوائهم غريب بعد نزول العلم والدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة واليقين ؛ بالوحي الإلهي المبين .وتقرره مااقتضى سكون النفس . والعمل به مدة طويلة ، والسياق لم يحتج للتأكيد فلم توضع من وأيضا فيه النهي العام عن الاتباع في أي وقت [2].
قال ابن كثير: وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام
وسر اختيار من في آية القبلة أن السياق يحتاج إلى تشديد الإنكار والحسم فيه ، وسر اختيار حذف من في الآيتين أن الكلام فيها على جميع الدين وقد تقرر وثبت واستقر وعمل به مدة فالاتباع لأهوائهم بعده مستنكر .
[h=1]************************[/h][h=1]الموضع الثاني من الآيات المتشابهات : [/h][h=1]ورد في موضع واحد { فأحيا به الأرض من بعد موتها } بذكر (من) وذلك في سورة العنكبوت وأما في باقي المواضع الثمانية فقد ذكرها بدون (من) ( بعد موتها) : [/h]{ ) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} } 29/ 63)
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} (2/ 164)
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} 2/ 259)
{ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)} (16/ 65)
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) (30/ 19)
{ 23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} (30/ 24)
{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} (30/ 50).
{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} (35/ 9)
{ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} (45/5)
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} (57/ 17)
في توجيه هذا الاختلاف عدة أقوال :
[h=2]أولا : الأقوال في توجيه حذف (من) : [/h][h=2]القول الأول : أن حذف من يدل على أمرين : الأمر الأول أن الإحياء كان بعد الموت وهي حالة منافية للحياة ، والأمر الثاني: تدل على طول مدة موتها واستيلاء اليبوسة [3]عليها ففيها بيان قدرة الله تعالى في إحياء الأرض الميتة وإن طال موتها ويبسها واستولى عليها الجفاف ، وأما ذكر (من) فهو يدل على قدرة الله تعالى تحويل الأرض من الموت إلى الإحياء وهي حالة منافية لها ، تحويلها مباشرة ففيها بيان القدرة أن يحولها إلى الحياة مبتدئا سبحانه من الحالة المنافية لها وهي الموت يحولها مباشرة وفيها التأكيد وقوة قدرته سبحانه في هذا التحويل [/h]قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني:
مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ) ؟ .جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة ، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته. قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثان: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء ، لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة.
قال أبو السعود { قَالَ } أي تلهفاً عليها وتشوقاً إلى عِمارتها مع استشعار اليأس عنها { أنَّى يُحيِي هذه الله } وهي على ما يُرى من الحالة العجيبةِ المباينة للحياة ، ـ ـ ـ وأياً ما كان فالمرادُ استبعادُ عمارتها بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيديَ سَبَاْ ومن غيرِهم ، وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هم علَمٌ في البعد عن الوقوع عادةً تهويلاً للخطب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل : { بَعْدَ مَوْتِهَا } وحيث كان هذا التعبيرُ معرِباً عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغ وجهٍ وآكَدِه أراه الله عز وجل آثِرَ ذي أثيرٍ أبعدَ الأمرين في نفسه ثم في غيره ثم أراه ما استبعده صريحاً مبالغةً في إزاحة ما عسى يختلِجُ في خلَده ،وقال أبو السعود : { بَعْدَ مَوْتِهَا } باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء.
وقريب منه ما قاله الخطيب الإسكافي قال في درة التنزيل: الآية السابعة منها
والجواب أن يقال: إن التقرير يؤثَر فيه من تحقيق الكلام ما لا يوُثَر في غيره، والظروف إذا حدّت حقّقت، تقول سرت اليومَ، فإن قلت من أوله إلى آخره كان الجد تحقيقا لأنه قد يطلق لفظ اليوم وإن ذهبت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من آخره، فإذا وقع الحدّ زال هذا الوهم. وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) تحقيق، لأنه محدود بـ "من " وخصّ به التقرير، لأنه من أماكنه، وقوله تعالى في الآيتين الأخريين: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ليس فيه تقرير كما كانت الأولى، وإن كان يؤدّي معنى المحدود، إلا أنه ليس له لفظه، فاختلف الموضعان لما ذكرت.ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها
قال ابن عرفة : أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَاقال ابن عرفة: وعطفه) قوله تعالى: {بَعْدَ مَوْتِهَا ... }.ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها قيل لابن عرفة: ثم للمهلة ولا مهلة بين المائة عام وبين البعثة؟
[h=2]القول الثاني :[/h][h=2]قريب من الأول لكن قال في حذف (من) إنه يحتمل طول المدة وقصر المدة وذكر من يدل على السرعة واختاره السامرائي [/h]قال السامرائي: جميع الآيات التي وردت بدون ( من) إلا موضع واحد ورد مع من في العنكبوت { ولئن سألتهم ـ ـ من بعد موتها } فأنت ترى أنه لم يذكر من في ثمانية مواطن وذكرها في موطن واحد والسبب واضح وهو أن الآية في سورة العنكبوت تدول حول المشركين الذين يشركون بالله ويعبدون معه آلهة أخرى وهي تعجيب من عقولهم وإظهار لقدار تفكيرهم وباطلهم فهم يعبدون آلهة من الحجر أو من غيره في حين لو سألتهم { من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض ليقولن الله فهذا السياق يختلف عن كل ما سبق وهو نظير ما مر في منكري البعث فأدخل (من) في هذا الموطن للدلالة على مقدار قدرة الله وعظمها وذلك أن قوله (أحيا الأرض بعد موتها ) يعني في لزمن الذي هو بعد الموت وهو يحتمل الزمن القريب والبعيد أي يحصل الإحياء بعد إنزال الماء وقد يطول الزمن بعده أو يقصر كما ذكرنا في (بعد علم) ولكن (أحيا به الأرض من بعد موتها ) معناه يكون الإحياء بعد الموت بلا مهلة ولا فاصل ومعنى ذلك أن الله قادر على أن يحيي الميت فورا بلا مهلة فهو لا يحتاج إلى زمن لإحيائه وهو أدل على قدرة الله وإن كان كلاهما من قدرة الله وحده وقد جاء بمن في هذا المقام للدلالة على أنهم يشاهدون ذلك ويقرون أن الله يحيي الأرض من الموت بلا مهلة ومع ذلك يعبدون غيره وهو نظير ما سبق فهي ليست زائدة للتوكيد ولكن لمعنى الابتداء ولو قال قائل إنها أدخلت توكيدا لأن المقام مقام توكيد لكان في قوله مندوحة ولكن الأولى إبقاؤها على معناه الذي أوضحناه
قال السامرائي في موضع آخر : ما الفرق بين قوله تعالى (من بعد موتها) في سورة العنكبوت مع أنه ورد في القرآن كله (بعد موتها) ؟استعمال (بعد موتها) فقط يحتمل البعدية القريبة والبعيدة، أما (من بعد موتها) فهي تدلّ على أنها بعد الموت مباشرة أي تحتمل البعدية القريبة فقط دون البعيدة. وإذا استعرضنا الآيات في سورة العنكبوت قبل الآية نجد أن الإحياء كله مباشرة بعد موتها وبدون مهلة ومجرّد العقل كان سيهديهم إلى أن الله تعالى هو القادر على إحياء الأرض من بعد موتها
قال الآلوسي -{ والله أَنزَلَ مِنَ السماء ماء } تقدم الكلام في مثله ، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيداً لمضمونه وتوحيداً لما يعقبه من أدلة التوحيد { فَأَحْيَا بِهِ الأرض } ، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة ، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد
قال نايف الشحوذ في جمعه لأبحاث الإعجاز ناقلا عن غيره : السؤال السابع
ولا بد لنا من معرفة الفرق بين التعبيرين لنصل إلى سبب اختلافه في الموقفين
(بعد موتها) تعبير احتمالي، يحتمل البعدية القريبة والبعدية البعيدة، فقد يكون إحياء الأرض بعد ساعة أو بعد شهر أو بعد سنة أو أكثر من بدء موتها
أما التعبير (من بعد موتها) فإن (من) فيه لابتداء الغاية، والمعنى أنه يحييها رأسا بعد الموت فهو دال على البعدية القريبة قطعا، وهو أدل على القدرة لأنه لا يحتاج إلى زمن ليحييها، بل هو قادر على إحياء الميت لحظة موته ولا يحتاج إلى زمن لإعادته
ولنعد لننظر إلى سياق المواقف التي وردت فيها الآيات لنتلمس سبب تخصيص كل سياق بتعبير منهما، فنجد أن سورة العنكبوت كان سياقها في محاكمة المشركين من ناحية عقلية: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ . اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "
ثم جاء هذا السؤال عن إحياء الأرض ، وهم قد أقروا بقدرة الله البالغة في الأسئلة السابقة وهذا السؤال يقول إنه يحيي الأرض بعد موتها مباشرة بلا مهلة، فهي قدرة بالغة (قل الحمد لله). هل هذا يدعوكم إلى الشرك ، لذلك قال : (بل أكثرهم لا يعقلون) فنفى عنهم العقل لأن هذا يُعقَل حتى دون علم، فالعقل المجرد يهديهم إلى أن الله واحد لا شريك له، فنعى عليهم عدم استعمال العقول، وقبل هذا جاء أيضا في السورة نفسها قوله تعالى: "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ وهذا السؤال يقول إنه يحيي الأرض بعد موتها مباشرة بلا مهلة، فهي قدرة بالغة (قل الحمد لله). هل هذا يدعوكم إلى الشرك ، لذلك قال : (بل أكثرهم لا يعقلون) فنفى عنهم العقل لأن هذا يُعقَل حتى دون علم، فالعقل المجرد يهديهم إلى أن الله واحد لا شريك له، فنعى عليهم عدم استعمال العقول، وقبل هذا جاء أيضا في السورة نفسها قوله تعالى: "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ " في يوسف: {وما أرسلنا من قبلك} وفي الأنبياء: {وما أرسلنا قبلك} فِي النَّحْلِ: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وفي العنكبوت: {من بعد موتها}"
ــــــــــــــــــــــــــ
[h=2]القول الثالث : ان ذكر (من) يفيد التوكيد وأن حذفها لا يفيد التوكيد فذكرت (من) في العنكبوت لأن السياق يحتاج إلى تأكيد : [/h]ابن عاشور والنيسابوري
قال ابن عاشور : اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الرّوم: 50] وَقَالَ: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الرّوم: 19] .وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَة (ِ مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْجَاثِيَةِ [5] فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها.
وَقد أَشَارَ قَوْله مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلَى مَوْتِ الْأَرْضِ، أَيْ مَوْتِ نَبَاتِهَا يَكُونُ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْهَا فِي فُصُولِ الْجَفَافِ أَو فِي سِنِين الْجَدْبِ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِكَوْنِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ لِإِرَادَتِهِ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ حَيَاةٍ سَبَقَتْ مِنْ نَوْعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِمَاتَتِهَا، وَيعلم مِنْهُ أَن مُحْيِيَ الْحَيَوَانِ وَمُمِيتَهُ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ. فَانْتَظَمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 61] إِلَى هُنَا أُصُولُ صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ: الْخَلْقُ، وَالرِّزْقُ، قال النيسابوري: ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وفي العنكبوت:
مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [الآية: 63] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب «من» للاستيعاب.
قال في أرشيف أهل الحديث: واما آية 63 من سورة العنكبوت,فان معرض الحديث عن انزال المطر وإحياء الارض من بعد موتها, فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم, ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة { من } في قوله { من بعد موتها } إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم.
[h=1]قال في ملاك التأويل: زيادة "من " فى قوله فى العنكبوت: "من بعد موتها " زيادة بيان وتأكيد نوسب به ما تقدم من قوله "من نزل " فإن بنية فعل للمبالغة والتكثير وذلك مما يستجر البيان والتأكيد فنوسب بينهما ولما لم يقع فى الآيتين الأخرتين إلا لفظ "أنزل " ولا مبالغة فيها ولا تأكيد ولا انجر فى الكلام ما يعطيه لم يكن فيهما ما يستدعى زيادة "من " ليناسب بها فلم تقع فى الآيتين ولو قدر ورود عكس الواقع بزيادة "من " فى آيتى البقرة والجاثية وسقوطها فى آية البقرة لما ناسب ذلك أصلا فوضح تناسب الوارد وامتناع خلافه[/h][h=1]القول الرابع : وهو قول البقاعي [/h]أن حذف (من) يدل على أن الفعل مستمر متكرر يدل على أن عادة الله في إحياء الأرض مستمرة وأن أثره مستمر يستغرق ما بعد زمن الموت وأن ذكر من يدل على قرب الإنبات من زمن الموت
قال البقاعي ولما كان الإحياء يستغرق الزمن المتعقب للموت نفى الجار فقال : { بعد موتها } بعدمه وقال البقاعي - ولما كانت عادته بذلك مستمرة ، وكان السياق لإثبات دعائم الدين ، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي ، أعرى الظرف من الجار ؛ لأن المعنى به أبلغ فقال : { بعد موتها } ،وقال البقاعي : ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم ، وكان إحياؤها به متكرراً ، فكان كأنه دائم ، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة [SUP]19[/SUP] حذف الجار قائلاً : { بعد موتها } أي بيبسه وتهشمه . وقال البقاعي :
ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائمة - على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة ، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال : { بعد موتها } بانعدام ذلك قال البقاعي" : ولم يأت بالجار إشارة إلى دوام الحياة بالقوة إن لم يكن بالفعل .وقال البقاعي { الأرض } اليابسة بالنبات . ولما كان هذا الوصف ثابتاً دائماً بالفعل وبالقوة أخرى ، وكان حذف الجار هنا مقتضياً للتعميم قال : { بعد موتها } من غير ذكر الجارّ وكما أنه يحييها فيخرج بها النبات بعد أن كان قد تفتت وصار تراباً فكذلك يحيي بجمع أجسامهم وإفاضة الأرواح عليها كما
قال البقاعي: وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات، وإلى أنهم لا يعلمون إلى الجزئيات الموجودة المحسوسة، ولا تنفذ عقولهم إلى الكليات المعقولة نفوذ أهل الإيمان ليعلموا أن ما أوجده سبحانه بالفعل في وقت فهو موجود إما بإيجاده إذا أراد، فالأرض حية بإحيائه سبحانه بسبب المطر في جميع الزمن الذي هو بعد الموت بالقوة كما أنها حية في بعضها بالفعل فقال: {من بعد موتها} فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن بها شيء من ذلك،
[h=1]الراجح: [/h]أن ذكر (من)تفيد ثلاث فوائد الابتداء والنقل من الموت وهي حالة منافية للحياة ينقلها للحياة ، وفيها التأكيد والسرعة :
فذكر من يفيد ابتداء الغاية وأن الإحياء كان ناشئا ومبتدأ من الموت وهي حالة بعيدة ومنافية للحياة ، ويفيد التأكيد فقد تمكن موتها وتحقق ومع ذلك يحييها ، وهذا دليل على القدرة التامة ، سرعة القدرة التي تحول الميت إلى الحي و أنه يحييها رأسا بعد الموت فهو دال على البعدية القريبة قطعا وكما قال العلماء والظروف إذا حُدّت حقّقت
وقوله تعالى في الآيات الأخرى { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)
حذف من يدل على معنيين:
أولا : أن التركيز أولا على أن شيئا بعد شيء أي الإحياء بعد الموت وليس المراد ابتداء شيء من شيء ولا سرعة ولا تأكيد ؛لأن السياق لما كان سياقه لا يحتاج إلى توكيد أتى بـ(بعد موتها) فليس فيه ابتداء ولا تأكيد ولا سرعة فلذلك لم يقل من بعد موتها .
وثانيا : لأن المراد أن الله سبحانه يحييها بعد مدة طويلة من موتها وتحقق الموت وتقرره فمدة الموت قد طالت وتأخرت ومع ذلك أحياها فالتركيز على كمال التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها
وهذا مناسب للاستدلال فقد استدل بهذه الآيات على قدرة الله تعالى على البعث ولو طالت المدة وصاروا ترابا يبعثهم قال ابن كثير ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها ، فقال : { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى } أي : إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات ، { إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قال ابن عرفة ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى ( كمال ) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها[4].
****************************
[h=1]الموضع الثالث: من الآيات المتشابهات : [/h]{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) النحل (16/ 70)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كنتم في ريب من البعث ـ ـ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} (22/ 5)
في الفرق بين الآيتين الكريمتين أقوال:
القول الأول :
أن حذف (من) يدل على طول مدة علمه وأنه بعد هذا العلم الكثير الذي دام معه سنوات طويلة ستين أو سبعين أو ثمانين سنة يتحول إلى أنه لا يعلم شيئا ، وهذا فيه بيان قدرة الله تعالى في تحويل الإنسان من حالة إلى حالة ، ولكن ليس فيها تأكيد ولا ابتداء ولا سرعة لأن (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداءوانتهاء، لان السياق لا يقتضي التأكيد كالذي في سورة الحج الذي كان فيه الاستدلال على البعث.
وأما ذكر (من) فمن تدل على ابتداء الغاية والتأكيد والتعقيب ، ففيها بيان أنه سبحانه قادر على نقله من حالة العلم إلى حالة أخرى مغايرة لها تماما ففيها بيان القدرة أن يحوله إلى الجهل مبتدئا من الحالة المنافية لها وهي العلم مع التأكيد أنه ينقلها من حالة تحقق العلم إلى حالة لا يعلم معها شيئا مباشرة ، لأن سياق سورة الحج يقتضي هذا التأكيد ، هذا هو المناسب للاستدلال على قدرة الله على البعث الذي بدأت فيه الآية { إن كنتم في ريب} فذكر (من) في السياق الذي احتاج إلى مزيد التأكيد .
هذا من ناحية المعنى وأما من ناحية اللفظ والتشاكل والتناسب اللفظي ففي كل سورة وضع ما يناسبها فلما ذكرت من كثيرا في سورة الحج في آية { وإن كنتم في ريب } ناسبها ذكر من بخلاف سورة النحل كما سيأتي
قال البقاعي : ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة ، أثبت " من " الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم .
قال البيضاوي : { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
قال أبو السعود : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ } أي علمٍ كثيرٍ { شَيْئاً } أي شيئاً من الأشياءِ أو شيئاً من العلمِ مبالغةً في انتقاصِ علمِه ويُنكر ما عرفَهُ ويعجزُ عمَّا قدرَ عليه . وفيهِ من التَّنبيهِ على صحَّةِ البعثِ ما لا يخفَى
[h=2]القول الثاني : قول السامرائي قوله قريب جدا من القول الأول لكن خالف في حذف من [/h][h=2] ذكر (من) يدل على السرعة و أن الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام وأجاز أن يكون ذكر من يفيد التوكيد ، وأما حذف من فهو يدل على أنه احتاج إلى وقت طويل ليتحول إلى هذه الحالة.[/h]قال السامرائي في معاني النحو : فأنت ترى أن الآية الثانية رد على من هو في ريب من البعث وإيضاح بالغ قدرة الله له وكيف أنه خلقه من التراب بشرا، فطوره إلى أن يرد إلى أرذل العمر فيجهل من بعد العلم إلى غير ذلك من مظاهر قدرة الله فذكر (من) هنا بخلاف آية النحل لسر لطيف وهو أن قوله (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) معناه أن الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام
أما قوله (بعد علم ) فيحتمل أن مرت عليه مدة طويلة من غياب بعض المعلومات ونسيانها إلى الجهل فمعنى (من بعد علم) أنه قادر على أن يغير بأقرب وقت من حال إلى حال وهو المناسب لمقام تبيان القدرة لمنكري البعث
ومن قال بالزيادة للتوكيد لأن المقام مقام توكيد فقوله ليس بمطرح لكن الاولى عدم إخراجها عن معناها ما أمكن .قال السامرائي في لمسات :
"لكي لا يعلم بعد علم" تحتمل الزمن الطويل والوصل أما قوله (لكي لا يعلم من بعد علم) فهي مباشرة بعد العلم فلمّا احتمل الفاصل فصل (لكي لا) وعندما وصل بينهما وصل (لكيلا)
القول الثالث: وافق القول الأول والثاني في ذكر (من) وخالفهما في حذفه فقال في سر الحذف ليدل على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم أي إلى الموت .

قال البقاعي : ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة ، أثبت " من " الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم ، فربما بات الإنسان في غاية الاستحضار لما يعلم والحذق فيه فعاد في صبيحة ليلته أو بعد أيام يسيرة جداً من غير كبير تدريج لا يعلم شيئاً ، وأفهم إسقاط حرف الانتهاء أنه ربما عاد إليه علمه ، وربما اتصل جهله بالموت بخلاف ما مضى في النحل فقال : { من بعد علم } كان أوتيه { شيئاً } بل يصير كما كان طفلاً في ضعف الجواهر والأعراض .قال البقاعي في الحج : { ولما كان مقصود السورة الدلالة على تمام القدرة وشمول العلم والتنزه عن كل شائبة نقص، وكان السياق هنا لذلك أيضاً بدليل ختم الآية، نزع الخافض للدلالة على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم، فيتصل بالموت، ولا ينفع فيه دواء ولا تجدي معه حيلة فقال: {بعد علم شيئاً}
القول الرابع : قول ابن جماعة قال في كشف المعاني في المتشابه من المثاني الحج: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) بزيادة (من) ؟ جوابه:أن (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداءوانتهاء، فلما أتى ما قبل آية النحل مجملا جاء بعده كذلك مجملا، وفى الحج أتى ما قبلها مفصلا من ابتدائه بقوله تعالى: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) إلى آخره بعده كذلك مفصلا من ابتدائه مناسبا لما تقدمه من التفصيل
القول الخامس : أرجعه للتناسق مع ما قبلها في الإجمال والتفصيل فـ(من) مزيدة للتشاكل .
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل: والجواب: أن سبب ذلك - والله أعلم - التناسب وتشاكل النظم ومراعاة اللفظ ألا ترى إلى تكرر ((من)) في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5)، فقد تكررت لفظة ((من)) هذه في هذا الآية في ستة مواضع، الخمسة منها قبل قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) والواحدة بعدها، وكلها محرزة معناها الذي جيء بها من أجله إلا التي في قوله: (من بعد) إذ النظم مع سقوطها (ملتئم) والمعنى تام، فاستوى وجودها وعدمها، فاستدعاها سياق آية الحج للتشاكل والتناسب في النظم، ولم يكن في آية النحل ما يستدعيها إذ لم يرد ما يقتضيها، فورد كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن العكس والأولى في قوله: (من البعث) لابتداء الغاية وما بعدها للتبعيض إلا التي في قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) فإنها زائدة رعياً للفظ لا النافية، وإن كانت هنا مزيدة
قال في درة التنزيل: والجواب أن يقال: ذكر في سورة النحل الجملة التي فصّلت في سورة الحج، وكانت لفظة "بعد" لجملة الزمان المتأخر عن الشيء، قال: (والله خلقكم) فأجمل ما فصّله في السورة الأخرى، وبعده: (ثم يتوفّاكم ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئاً) أي: يعزب عنه في حال الهرم ما كان يعلمه قبل من الحكم ويستدركه من الآراء المصيبة، ويرتكبه من المذاهب القويمة، فكان هذا موضع جمل لا تفصيل معها ولا تحديد، ولم يكن كذلك الأمر في سورة الحج، لأنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ... )
، يعنى أصلكم، وهو آدم عليه السلام، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أولاده (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ... ) فذكر تفصيل الأحوال ومباديئها فقال: من كذا وكذا لابتداء كل حال ينتقل منه إلى غيره، فبنى ذكر الحال التي ينتقل فيها من العلم إلى فقده على الأحوال الى تقدم ذكرها، فكما حدّد أوائلها بـ "مِن" كذلك حدّد الحال الأخيرة المتنقلة عمّا قبلها بـ "مِن" فقال: (من بعد علم) أي فقد العلم من بعد أن كان عالما، فباين الموضعَ الأولَ لذلك.

[h=2]القول السادس : (من) زائدة للتوكيد .[/h]قال ابن عاشور - وقوله { من بعد علم } أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر . و ( مِن ) الداخلة على ( بعد ) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة ( مِن ) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت بـ ( من ) في قوله تعالى : { لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } في [ سورة النحل : 70 ] . والآيتان بمعنى واحد فذكر ( مِن ) هنا تفنّن في سياق العبرتين .

[h=2]القول السابع : جعل المعنى أنه يصير نساءا فمن ابتدائية تدل على غاية سرعة نسيانه لشيء كلما علمه .[/h]قال الزمخشري : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي : ليصير نسَّاء بحيث إذ كسب علماً في شيء لم ينشب إن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته ، يقول لك : من هذا ؟ فتقول : فلان ، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه
قال الطبرسي ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) أي : لكيلا يستفيد علما ، وينسى ما كان به عالما . وقيل : معناه لكي يصير إلى حال ينعدم عقله ، أو يذهب عنه علومه هرما ، فلا يعلم شيئا مما كان علمه . وإذا ذهب أكثر علومه جاز أن يطلق عليه ذهاب الجميع .
الراجح : هو القول الأول وهو الذي يقتضيه السياق والسباق ، ويتفق معه القول الثاني والثالث في ذكر من وأما في حذفها فلا يصح ، وأما القول الرابع والخامس والسادس فكل ما ذكروه صحيح لكنهم اقتصروا على طرف مما يدل عليه ذكر من وحذفها وأما السابع فليس المعنى عليه والله أعلم .

****************************

[h=1]الموضع الرابع: [/h]ومثله { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} (2/109
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} (3/100)
ذكر (من) في الأولى ولم يذكرها في الثانية: في المسألة ثلاثة أقوال :
[h=1]القول الأول :[/h]ذكر من يفيد القرب بخلاف حذفها يفيد مدة أطول .
قال السامرائي: ففي الآية الأولى ذكر (من) وفي آية آل عمران لم يذكرها ، وذلك أنه ذكر في الآية الأولى أن كثيرا من الكفار يتمنون لو أنهم ردوا المسلمين من بعد الإيمان كافرين أي بلا مهلة حسدا من عند أنفسهم فهم يتمنون الإسراع في تكفيرهم ، وأن ينقلوهم من حالة الإيمان إلى حالة الكفر فورا.
في حين أن آية آل عمران تحذير للمسلمين من إطاعة الكافرين لأنهم ينفثون فيهم أوهامهم وضلالهم شيئا فشيئا حتى يردوهم بعد الإيمان كافرين ، وليس معناه أنهم ينقلونهم فورا من الإيمان إلى الكفر ولكن معناه أنهم يضلونهم شيئا فشيئا حتى يخرجوا الإيمان من قلوبهم فالأولى مقام تمن والثانية مقام تحذير من الإضلال
قال البقاعي: ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران : 100] يردوكم } وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد : { بعد إيمانكم كافرين } أي غريقين في صفة الكفر ، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها .
[h=1]القول الثاني: من للابتداء[/h]قال السمين الحلبي : و " مِنْ بعدِ " متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية قوله : " مِّن بَعْدِ مَا " متعلِّقٌ ب " وَدَّ " ، و " مِنْ " للابتداءِ ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم ، فكفرُهم عنادٌ.
قال الآلوسي: { بَعْدَ } يجوز أن يكون ظرفاً ليردوكم وأن يكون ظرفاً لكافرين ، وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع ، إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل : بعد إيمانكم الراسخ ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب ؛ لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه .
قال ابن عاشور: وقوله { بعد إيمانكم } تأكيد لما أفاده قوله {يردّوكم}، والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
[h=1]القول الثالث: (من) للتبعيض.[/h]قال البقاعي: ولما كان المشركون عرباً عالمين بأن طبع العرب الثبات لم يدخلهم معهم في هذا الود وقال : { من أهل الكتاب } فأنبأ أن المصافي منهم قليل وبشر سبحانه بأن ما يودونه من قسم المحال بسوقه سوق المتمني فقال : { لو يردونكم } أي بأجمعكم ؛ ثم حقق أمر التمني في كونه محالاً مشيراً بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير فقال : { من بعد إيمانكم } .
[h=1]الترجيح: [/h]ذكرت ( من) في الآية الأولى يفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية والتأكيد والسرعة ؛:
فـ(من) تفيد أولا ابتداء الغاية وأن الرد يكون مبتدئا وناشئا من تحقق الإيمان لإظهار كمال شناعة الكفر بعد تحقق الإيمان وفيه بيان أنهم قد فاتتهم نعمة عظيمة بفوات الإيمان ، وفيها التأكيد أي تأكيد أنهم يريدون ذلك من بعد تحقق إيمانكم ، لأنها في سياق رد شبهات اليهود في النسخ التي زلزلوا بها بعض قلوب الناس[5] ، كأنه قال سينقلونكم من تحقق إيمانكم وثباته إلى الكفر فستفوت نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون ، ، وفيها بيان السرعة في النقل من الإيمان إلى الكفر ، لأنه سياق تمن، وهم يتمنون التحويل من الإيمان مباشرة إلى الكفر.
بخلاف السياق الثاني [6] فهو فأقل تأكيدا ، لذا حذفت (من) فليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة ، بل تفيد معنيين :
المعنى الأول: تفيد أنهم يردونهم بعد الإيمان كافرين ، وهذا شيء شنيع فالتركيز فيها أن شيئا بعد شيء فليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة .
المعنى الثاني: أن الرد للكفر يكون بعد الإيمان وتقرره وثبوته ، وأنهم يردونهم بعد تقرر إيمانكم و تحققه بعدما رسخ وطال الإيمان وذاقوا حلاوته ، يردوكم من الإيمان الراسخ الذي طال منكم إلى الكفر، ويستدرجونكم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية ، وليس فيها التركيز على الإسراع بل قد يطول أو يقصر ، ولكن التركيز فيها أن الرد للكفر يكون بعد الإيمان وتقرره وثبوته فترة طويلة ، وأنهم يردونهم بعد تقرر إيمانكم و تحققه فترة طويلة بعدما رسخ وطال الإيمان وذقتم حلاوته ، ويستدرجونكم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية ، وليس فيها التركيز على الإسراع بل قد يطول أو يقصر[7] ،
قال الآلوسي: { بَعْدَ } يجوز أن يكون ظرفاً ليردوكم وأن يكون ظرفاً لكافرين ، وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع ، إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل : بعد إيمانكم الراسخ ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب ؛ لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه .
قال ابن عاشور: وقوله { بعد إيمانكم } تأكيد لما أفاده قوله {يردّوكم}، والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
قال الفخر الرازي : فبين تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفارا.
[h=1]الموضع الخامس: [/h]مقارنة بين {ألَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } (6/6 ) الأنعام.
وآية { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)} ( 21/ 11) الأنبياء .
الآية الأولى: في سورة الأنعام:
فسورة الأنعام تريد أن تقرر موضوع التوحيد تقريرا مؤكدا ففيها مؤكدات كثيرة فجاءت (من) لتدل على ابتداء الغاية والتأكيد والسرعة ، فالتركيز على كل قوم أهلكوا فالله سبحانه قادر على إحداث قوم آخرين في محلهم مباشرة مع التوكيد، فمن تفيد الابتداء وأن إنشاءهم ابتدأ من بعد إهلاك وتدل على السرعة والتأكيد وأنه بعد طي صفحتهم مباشرة أتى بصفحة أخرى ، فتفيد ابتداء الإنشاء في أول أزمنة البعيدة ، مع التأكيد للدلالة على أنه إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس ، فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده وينشئ مكانه آخر مباشرة يعمر بلاده ، ويدل على التأكيد في سورة الأنعام أول الآية { من قبلهم من قرن } مع ما قبلها وما بعدها من السياق.
وأما الآية التي في سورة الأنبياء فالمراد بها أن الإنشاء حصل بعد القصم وهذا فيه أمران: الأمر الأول: بيان شدة الانتقام، والأمر الثاني: أنه سبحانه قادر على أن يبدل بهم غيرهم لكن من غير تنصيص على تأكيد أو قرب أو ابتداء [8]، وإنما المعنى أنشأنا بعد إهلاكهم سواء قرب الزمان أو بعد ، لأن السياق فيه متاركة وبيان أن هؤلاء معاندون وأنهم إن لم يؤمنوا فهناك ملائكة عبادون له سبحانه لأن الكلام في عدم الاعتداد بهم واستبعاد إيمانهم فقد تقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء: 3)، واقتراحهم الآيات في قوله: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (الأنبياء: 5)
وانظر السياق: { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ـ ـ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) ـ ـ قلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
ولهذا السر حذفت من أيضا في السورة نفسها في قوله تعالى { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ـ ـ
وأما ذكر من في قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} لأن الآية تطلب التأكيد أن جميع الرسل أوحي إليهم التوحيد من أول لحظات القبلية إلى جميع الزمان السابق.
وأيضا الطابع العام على سورة الأنبياء عدم ذكر من { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا} الأنبياء (21/7).
فأما الأول فإنه حذفت منه من بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع.
قال في درة التنزيل: الآية الثانية :للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} { وما أرسلنا قبلك} - فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها ، والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا.
**************************
[h=1]المبحث الخامس : بعد بحذف (من): [/h][h=1]المعاني الإفرادية المستخلصة من كلام المفسرين لـ(بعد) بدون من : [/h]قبل ذكر المعاني الاجتماعية لحذف من أذكر المعاني الإفرادية التي نص عليها العلماء مع ذكر نصوص العلماء في الهامش:
[h=1]المعنى الأول:[/h]1) بيان أن شيئا بعده شيء فيفيد أولا أن التركيز فيه على أن شيئا بعد شيء بدون نظر لابتداء ولا تأكيد[9] ولا تنصيص على عموم أو استيعاب ، فتستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر ، وإنما شيء بعد شيء كما ذكرنا في الفرق بين فوق ومن فوق ، ويركز بهذا ـ كما سيأتي ـ على أن شيقد ثبت وتقرر.
[h=1]المعنى الثاني: [/h]تفيد الدلالة على جميع المدة اللاحقة أي وقت من أوقات المستقبل بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان الذي يوجد بعد و استغراق جميعه أي إفادة عموم البعد أي في أي وقت من أوقات البعد على طول الزمان ، ، فـ(بعد) المراد بها في أي وقت في جميع المدة اللاحقة بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان الذي يوجد بعد و استغراق جميعه، لكن بدون نظر ولا تركيز على ابتداء ولا قرب ولا استغراق التعميم من أول لحظاته ولا تأكيد[10] .
نص على ذلك ابن جماعة[11] ، والإسكافي[12]، والبقاعي[13].
[h=1]المعنى الثالث: الدلالة على أن هذا الحدث أو الشيء قد ثبت وتقرر ، إما بأن طالت مدته وتراخت أو قد تحقق تحققا كالذي طالت مدته [14].[/h][h=1]المعنى الرابع :[/h] قد تستعمل حيث أريد الاحتمال فهي تستعمل للسياق المحتمل للقريب والبعيد ،أي ترك اللفظ محتملا للقريب والبعيد من غير تأكيد.
نص على ذلك ابن عرفة [15] وابن جماعة [16]، والسامرائي [17]، وابن هشام [18]،

[h=1]المبحث السادس : المعاني الاجتماعية وتطبيقها على القرآن الكريم بذكر : [/h][h=1]آيات بعد: [/h]عند التأمل في القرآن الكريم وكلام المفسرين يلاحظ أن حذف من يأتي على استعمالين وكل استعمال منها يحتوي على معنيين مجتمعين :
[h=1]1. الاستعمال الأول : [/h][h=1]الاستعمال الأول : تفيد (بعد) بدون (من) معنيين مجتمعين : [/h]المعنى الأول :
[h=1] التركيز فيه على أن هذا الحدث قد ثبت وتقرر ، إما بأن طالت مدته وتراخت فقَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ أو قد تحقق تحققا كالذي طالت مدته [19].[/h]المعنى الثاني:
تفيد تعميم الوقت في جميع المدة اللاحقة أي وقت من أوقات المستقبل بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان الذي يوجد بعد و استغراق جميعه أي إفادة عموم البعد أي في أي وقت من أوقات البعد على طول الزمان ، المراد ، وليس فيها ابتداء وتحول من شيء ولا تأكيد ولا سرعة، بل المراد الاستيعاب لزمان البعد القريب والبعيد في أي لحظة منه ، وفيها معنى آخر: التركيز فيها أ ن شيئا بعد شيء .
قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء
وإليك الآيات التي فيها هذا الاستعمال:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }( 2 /178 ).
تفيد فائدتين :
الأولى :تركيز على أن شيئا بعد شيء أي أن اعتداءهم بعد تقرر هذا الحكم العظيم القاطع فظيع فالتهديد لمن اعتدى بعد بأن قتلَ غيرَ القاتل بعد ورود هذا الحُكم أو قتلَ القاتلَ بعد العفو عن الدم أو أخذِ الدية ، وليس المراد أن شيئا يبتدئ من شيء ولا التأكيد والا السرعة
الثانية: أن المراد مع الدلالة على البعدية تعميم التهديد لكل من يعتدي في جميع مدة ما بعد ورود الحكم أو العفو أو أخذ الدية.
****************
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) (3/ 82).
حذف (من) يدل على أمرين:
الأمر الأول: أن التهديد لمن تولى بعد تقرر الميثاق والتوكيد والإقرار والشهادة بأن أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته ، وليس المراد أن شيئا يبتدئ من شيء ولا التأكيد والا السرعة
الأمر الثاني: تعميم التهديد لكل من يتولى في جميع مدة ما بعد الميثاق[20] فتشمل جميع الأمم التي تأتي بعد.
قال رشيد رضا : { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } أي إن من مقتضى ذلك الميثاق أن دين الله واحد وأن دعاته متفقون متحدون فمن تولى بعد الميثاق على ذلك عن هذه الوحدة واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره ، كأولئك الذين ـ ـ"
قال ابن عاشور -قوله : { فمن تولى بعد ذلك } أي من تولّى مِمن شهدتم عليهم ، وهم الأمم ، ولذلك لم يقل فمن تولّى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة [ المائدة : 12 ] : { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل }الأمثل -فلو أن أحداً بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة أعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه ، فهو فاسق وخارج على أمر الله تعالى . ونعلم أن الله لا يهدي الفاسقين المعاندين ، كما مرّ في الآية 80 من سورة التوبة : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة ، فإن مصيره إلى النار .
وقد حمل البقاعي حذف من على الاستغراق لكن جعله بأن يستغرق الإنسان عمره بالتولي إلى الموت قال البقاعي - { فمن } أي فتسبب عنه أنه من { تولى } أي منكم أو من أممكم الذين بلغهم ذلك عن نصرة نبي موصوف بما ذكر ولما كان المستحق لغاية الذم إنما هو من اتصل توليه بالموت لم يقرن الظرف بجار فقال : { بعد ذلك } أي الميثاق البعيد الرتبة بما فيه من الوثاقة
****************
{ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) }(5/ 12) .
تدل على أمرين :
الأمر الاول: أن الوعيد متأكد بعد تقرر وثبوت هذا العهد فالتركيز فيها على أن شيئا بعد شيء الأمر الثاني: الدلالة على أن التهديد لكل من كفر بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم في أي لحظة بعده ، وليس التركيز على الابتداء والتحويل أو التأكيد ولا التعقيب مباشرة بل المراد في جميع الزمان المستقبل في أي وقت منه[21].
قال الزمخشري: { بَعْدَ ذَلِكَ } بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم .
فإن قلت : من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضلّ سواء السبيل . قلت : أجل ، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم ، لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة ، فإذازادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى .
قال اطفيش - الهميان : { بَعدَ ذَلِكَ مِنكُم } : أى بعد أخذ العهد والميثاق أو وعدى بالتكفير للسيئات ، وإدخال الجنة على شرط إقامة الصلاة وما بعدها ، وقيد بالبعدية مع أن الكفر فعل ذلك أيضاً ضلال مبين لعظم الكفر بعد حتى كأنه كان الكفر قبله لبسه ضلال بالنسبة إليه ، اذ لا شبهة بعد ، ولا توهم معذرة عن كفره بعد ، وكل ما زادت النعمة ازداد الكفر قبحاً
****************
مثلها {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} (115) (5/ 115).
تفيد أن الكفر بعد تقرر إنزالها وتحققه فظيع في أي وقت في أوقات المستقبل.
قال الطبري: وهذا جواب من الله تعالى القوم فيما سألوا نبيهم عيسى مسألة ربهم من إنزاله مائدة عليهم ، فقال تعالى ذكره : إني منزلها عليكم أيها الحواريون فمطعكموها . " فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ " يقول : فمن يجحد بعد إنزالها عليكم وإطعامكموها منكم رسالتي إليه وينكر نبوّة نبي عيسى صلى الله عليه وسلم ويخالف طاعتي فيما أمرته ونهيته ، فإني أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من عالمي زمانه .
****************
ومثلها : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) }(5/ 94).
تفيد أن الاعتداء بعد تقرر هذا البيان والإعلام في أي وقت من الأوقات يستحق مرتكبه العذاب الأليم .
قال الطبري: وأما قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فإنه يعني : فمن تجاوز حدّ الله الذي حدّه له بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام ، فاستحلّ ما حرم الله عليه منه بأخذه وقتله فَلَهُ عَذَابٌ من الله ألِيمٌ يعني : مؤلم موجع .
قال رشيد رضا : أي فمن اعتدى بأخذ شيء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان والإعلام الذي أخبركم الله تعالى به قبل وقوعه فله عذاب شديد الألم في الآخرة[22]
****************
مثلها : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }(9/28).
المراد النهي عن قرب المسجد الحرام بعد هذا العام وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبا بكر على الموسم وهذا النهي عام لجميع زمان المستقبل، فلا يجوز أن يقربوه في أي وقت من أوقات المستقبل فهي تفيد أمرين : الأمر الأول : أن شيئا بعد شيء والأمر الثاني: العموم في جميع زمان المستقبل .
قال البقاعي: وَ عبر عنه بنهيهم مبالغة فيه {المسجد الحرام} أي الذي أخرجوكم منه وأنتم أطهر الناس، واستغرق الزمان فأسقط الجار ونبههم على حسن الزمان واتساع الخير فيه بالتعبير بالعام فقال: {بعد عامهم} وحقق الأمر وأزال اللبس بقوله: {هذا} وهو آخر سنة تسع سنة الوفود مرجعه صَلَّى اللهُ.
قال سيد قطب: وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام ، حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه ، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور !
****************
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} ( 24/55 ) تقدمت هذه الآية الكريمة في البحث السابق
حذف (من) يدل على أمرين :
الأمر الأول: أن الكفر شنيع بد بعد ما سبق من تقرر الوعد والنعمة .

الأمر الثاني: التعميم وبيان أن التهديد عام في جميع الأيام المستقبلة بعد هذه المنة والنعمة وهي حصول الاستخلاف العظيم ، وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق، وليس فيها تأكيد ولا ابتداء غاية ، لأن السياق لتطمين المؤمنين وتصبيرهم فاعتنى بوعدهم وأما قوله سبحانه { ومن كفر بعد ذلك}فهو تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعاً للاتكال .
****************
{ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} (42 /41 )
تفيد أمرين :
الأمر الأول: الآية الكريمة تبيح الانتصار وأخذ الحق في أي وقت متى تأتى له ذلك لكن بعد وقوع الظلم عليه وتحققه، أي بعد ظلم الغير له ففيها أمران الدلالة أن الانتصار مباح بعد الظلم لا قبله فلا يجوز بظن ظلم الغير أو توقعه
والأمر الثاني : أنه في أي وقت تأتى له الانتصار بعد الظلم فهذا من حقه لأنهم انتصروا منهم بحقّ ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه ، ولم يتعدّ ، لم يظلم ، فيكون عليه سبيل .
قال البقاعي: { ولمن انتصر } أي سعى في نصر نفسه بجهده { بعد ظلمه } أي بعد ظلم الغير له وليس قاصد البعد عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان البعد .
قال ابن عاشور : ومعنى { بعد ظلمه } التنبيه على أن هذا الانتصار بعد أن تحقق أنهم ظُلموا : فإمّا في غير الحروب فمن يتوقع أن أحداً سيعتدي عليه ليس له أن يبادر أحداً بأذى قبل أن يشرعَ في الاعتداء عليه ويقول : ظننت أنه يعتدي عليَّ فبادرتُه بالأذى اتقاء لاعتدائه المتوقع ، لأن مثل هذا يثير التهارج والفساد ، فنبه الله المسلمين على تجنبه مع عدوِّهم إن لم تكن بينهم حرب .

****************
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ ـ ـ(4)} ( 47/4 )
بعد تفيد فائدتين :
الفائدة الأولى : أن المن والفداء يكونان بعد تحقق الأسر وشد الوثاق الذي جاء بعد الإثخان .
الفائدة الثانية: أن المن والفداء موكولان للمسلمين في أي وقت بعد حصول ما سبق ، وليس المراد التأكيد ولا السرعة ولا ابتداء الغاية لذلك لم يذكر من .
قال البقاعي :{ بعد } أي في جميع أزمان ما بعد الأسر.
قال ابن عاشور وقوله { بعْدُ } أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء . وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن . وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ ، وهذا[23].
****************
{قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) }(18/ 76).
تفيد أمرين :
الأمر الأول: أن السؤال إن حصل بعد هذه الكرة أو المسألة فلا تصاحبني .
والأمر الثاني: تعميم أوقات المستقبل في أي وقت من أوقات المستقبل فقد أعلم بشدة ندمه على الإنكار بقوله: { فلا تصاحبني } بل فارقني.

****************
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) } ( 24/ 58). قد تقدمت هذه الآية الكريمة في البحث السابق ، { بعدهن } أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا دخلوا عليكم فالمراد الإباحة في جميع الأوقات غير ما ذكر فأسقط الخافض ، قال اطفيش الهميان: اي بعد تلك الاوقات اي في غيرهن
قال ابن عاشور: أي في غير تلك الأوقات الثلاثة.
*********************
{ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) }(4/ 165).
تفيد أمرين :
الأمر الأول: التركيز على أن عدم الحجة على الله تعالى تكون بعد مجيء الرسول.
الأمر الثاني: الدلالة على التعميم في جميع الزمان المستقبل ، لئلا يكون للناس على الله حجة في أي وقت من أوقات المستقبل ، ولم يذكر من لأنه ليس المراد الابتداء ولا التأكيد ولا التعقيب من أول أقات البعدية بل جميع الزمان المستقبل بعد إرسالِهم وتبليغِ الشرائعِ إلى الأمم على ألسنتهم على السواء ، أراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إلي رسول لآمنت .
قال البقاعي: ولما كان المراد استغراق النفي لجميع الزمان المتعقب للإرسال أسقط الجار فقال: {بعد} أي انتفى ذلك انتفى مستغرقاً لجميع الزمان الذي يوجد بعد إرسال.
*********************
{ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) }(7/185 ).
{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} ( 45/ 6)
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50} (77/ 50)
(بعد) هنا مستعارة لمعنى غير ، لأن الظروف الدالة على المباعدة والمفارقة تستعمل استعمال المغاير قال تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ].
تفيد فائدتين:
الفائدة الأولى : أنه بعد هذا الحديث وهو القرآن الكريم لا ينفعهم أي شيء لأنه الغاية في الوعظ إن لم يصدّقوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى } أي بعد هذه الرتبة العظيمة فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثلُ هذه الشواهدِ القويةِ كلا وهيهات بعد القرآن وهو أَفضل حديث وأَصدقه ونهايته فى البيان .
والفائدة الثانية: التعميم في أنه لا يوجد أي شيء ينفعهم إن تركوا هذا الحديث وهو القرآن مع إعجازه ، وحسن نظمه ، فإن من لم يؤمن به مع ما فيه من الحجة الظاهرة ، والآية الباهرة ، لا يؤمن بغيره ، وليس القصد للتأكيد ولا الابتداء من أول اللحظات ، بل المراد أنه لا ينفعهم شيء بعد القرآن الكريم فعم واستغرق كل حديث قرب أو بعد يعني أن من لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به ، فظهر الفرق بين هذه الآيات ونحو { فمن ذا الذي ينصركم من بعده}{ فمن يهديه من بعد الله } هناك يحتاج إلى مساعدة فأكد ونفى أنه لا يوجد أي ناصر من أول أزمنة البعدية فما فوقها وكذلك في الآية الثانية وأما هنا حذف من لأن المراد ما ذكرنا من الاستيعاب بدون نظر لأول أو آخر بل الكل على السواء في عدم النفع
قال البقاعي: واستغرق كل حديث فقال : { بعد الله } أي الحديث الأعظم عن الملك الأعلى.
قال رشيد رضا: والمراد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم نذير مبين عن الله تعالى وإنما أنذر الناس بهذا الحديث أي القرآن كما أمره أن يقول : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [ الأنعام : 19 ] وهو أكمل كتب الله بيانا ، وأقواها برهانا ، وأقهرها سلطانا ، فمن لم يؤمن به فلا مطمع في إيمانه بغيره ، ومن لم يرو ظمأه الماء النقاح المبرد فأي شيء يرويه ؟ ومن لم يبصر في نور النهار ففي أي نور يبصر ؟. قال سيد قطب : والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي ، وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال ، لا يؤمن بحديث بعده أبدا . قال ابن عاشور والمعنى : لا يؤمنون بعد القرآن بكل حديث .
*********************
{ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) } (10/32 ).
تدل على أمرين :
أولا :تركيز على أن شيئا بعد شيء أي تدل على أن ما سوى الحق هو الضلال .
ثانيا : حذف من يدل على العموم ، فكل ما سوى الحق هو ضلال فمن تخطى الحق وقع في الضلال .
قال الزمخشري: يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تخطى الحق وقع في الضلال

قال الخازن: { فماذا بعد الحق إلا الضلال } يعني : إذا ثبت بهذه البراهين الواضحة والدلائل القطعية أن الله هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالاً وباطلاً
قال البقاعي : ما { ذا بعد الحق } أي الذي له أكمل الثبات { إلاّ الضلال } فإنه لا واسطة بينهما - بما أنبأ عنه إسقاط الجار.
*********************
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) }(6/68 ).
تدل على أمرين :
أولا :تركيز على أن شيئا بعد شيء أي تدل على النهي عن القعود بعد الذكرى ، فلا يجوز القعود بعد ذكر النهي لأنه شنيع .
ثانيا : حذف من يدل على العموم فـ(بعد)تفيد العموم أي عموم الوقت المستقبل .
قال البيضاوي: بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد أن تذكره .
قال أبو حيان: { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } أي إن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد الذكرى أي ذكرك النهي .
*********************
{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} (7/56 ).
تدل على أمرين :
أولا :تركيز على أن شيئا بعد شيء أي أن إفساد هؤلاء بعد ثبوت إصلاح الأرض وتقرره مستنكر، وليس فيها ابتداء من شيء ولا سرعة .
ثانيا :تعميم الزمان والنهي عن الإفساد في أي وقت في المستقبل بعد الإصلاح .[24]
قال ابن كثير: وقوله تعالى : { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض ، وما أضره بعد الإصلاح ! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ، ثم وقع الإفساد بعد ذلك ، كان أضر ما يكون على العباد . فنهى [ الله ] 12 تعالى عن ذلك
قال ابن عاشور والبعدية في قوله : { بعد إصلاحها } بعديةٌ حقيقيةٌ ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى : { وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها } [ فصلت : 10 ] على نظام صالح بما تحتوي عليه ، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض ، وخلق له ما في الأرض ، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألْسِنَةِ المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده ، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي ، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة ، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار ، فذلك النّظامُ الأصلي ، والقانُونُ المعزّزُ له ، كلاهما إصلاح في الأرض ، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحاً ، والثّاني جعل الضّار صالحاً بالتّهذيب أو بالإزالة ، وقد مضَى في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } في سورة البقرة ( 11 ) ، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحاً وبين جعل الفاسد صالحاً . فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد ، وليس في معنى الفعل ، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول ، فإذا غُيّر ذلك النّظام فأفْسِد الصّالحُ ، واستُعمل الضّار على ضرّه ، أو استبقى مع إمكان إزالته ، كان إفساداً بعد إصلاح ، كما أشار إليه قوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } [ الأنفال : 73 ] .
والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع ، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض .
[h=1]2. الاستعمال ا الثاني : كالأول لكن يقتصر فيه على التركيز فيها أن ما بعدها حصل بعد تقرر شيء وثبوته أي أن التركيز فيه على أن هذا الحدث قد ثبت وتقرر ، إما بأن طالت مدته وتراخت فقَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ أو قد تحقق تحققا كالذي طالت مدته [25] ، وليس فيه الدلالة على التعميم ، وإليك الآيات التي جاءت على هذا الاستعمال: [/h][h=1]*************[/h]{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (3/ 8 ) .
قال ابن عاشور: عند تفسير: { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} .
و(إِذْ) ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ بَعْدَ وَقْتٍ جَاءَنِي فِيهِ الذِّكْرُ، وَالْإِتْيَانُ بِالظَّرْفِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ (مَا جَاءَنِي)، أَوْ بَعْدَ (أَنْ جَاءَنِي)، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التَّوْبَة: 115] أَيْ تَمَكَّنَ هَدْيُهُ مِنْهُمْ.
يقول علي هاني : ويدل أيضا على استقراره زمنا طويلا متقررا حذفُ من فهو يدل على عموم المدة السابقة أو على طول المدة ومن لوازمه التحقق والتقرر.
وهذا دعاء من الراسخين في العلم فلما كان المتشابه مزلة الأقدام ومدرجة الزائغين إلى الفتنة وصل الراسخون الإقرار بالإيمان به بالدعاء بالحفظ من الزيغ بعد الهداية ، فإنهم لرسوخهم في العلم يعرفون ضعف البشر وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ويعرفون أن قدرة الله فوق كل شيء وعلمه لا يحاط به قالوا ربنا لا تزغ رَبَّنَا لاَ تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا أي إلى الحق وإلى التأويل الصحيح.
قال البقاعي: ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجر به سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال نازعاً الجار مسنداً الفعل إلى ضمير الجملة : { بعد إذ هديتنا } إليه .
قال سيد طنطاوي: والمعنى : نسألك يا ربنا ونضرع إليك ألا تميل قلوبنا عن الهدى بعد إذ ثبتنا عليه ومكنتنا منه . وأن تباعد بيننا وبين الزيغ الذي لا يرضيك . وبين الضلال الذي يفسد القلوب ، ويعمى البصائر
****************
{ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(3/ 80)
الإتيان بِالظَّرْفِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ (مَا جَاءَنِي)، أَوْ بَعْدَ (أَنْ جَاءَنِي)، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ من الإسلام لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ ويدل أيضا على استقراره زمنا طويلا متقررا حذفُ من والجملة الاسمية فهو يدل على عموم تحقق والتقرر مدة .
قال ابن عاشور إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر ، في الردّ على الأمة ، على أنّ أنبياءهم لم يَأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري ، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة ، وهي قوله : { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } . قال أبو حيان [26]{ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر لا بعد الاسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله ، وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسلمين
****************
{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) }(3/ 86).
حذف من يدل على معنيين:
أولا : أن التركيز أولا على أن شيئا بعد شيء أي الكفر بعد الإيمان ، وليس المراد ابتداء شيء من شيء ولا سرعة ولا تأكيد
وثانيا : المراد بيان أنه لا يمكن هداية قوم كفروا بعد تقرر إيمانهم وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق ، وبعدما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوّة وكونه مدة طويلة فالتركيز على تحقق الإيمان وتقرره .
قال الفخر الرازي: اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها : بعد الإيمان وثانيها : بعد شهادة كون الرسول حقا وثالثها : بعد مجيء البينات ، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحا بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة ، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود ، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل [27].
قال أبو زهرة : وحالهم التي أوجبت هذا النفي مكونة من عناصر أربعة :إيمان في الابتداء ،وشهادة بأن الرسول حق ،وكون البينات قد جاءتهم موضحة لهذا الحق ،ثم بعد ذلك يكفرون ،فلو كان حالهم حال ضلال عن غير علم لنار الله أبصارهم ،ولو كانوا مخلصين جهلوا الحقيقة وطلبوها لكانت هداية الله لهم ثابتة ، ولكنهم غير ذلك ،فهم قد كانوا مؤمنين ،ويشهدون بالحق ،وذلك عن بينة وعن أدلة يقينية ملزمة ،ومع ذلك استولى عليهم التعصب بالباطل ،فكان العمى الذي أرادوه ،فلا هداية إلى الحق من بعد
قال البيضاوي { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات } استبعاد لأن يهديهم الله فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد
يقول علي هاني : أما { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلا من أكره } فتلك سياقها مختلف فهناك التركيز على الذم على التحول من حالة إيمان إلى كفر مع تأكيد وتصويرها بصورة أن الكفر عقب الإيمان أما هذه تركز على تقرر الإيمان والشهادة ومجيء البينات .
****************
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) }(6/71 )
تفيد فائدتين :
أولا : أن التركيز أولا على أن شيئا بعد شيء أي أن الرد على الأعقاب بعد الهداية مستنكر ، وليس فيها ابتداء من شيء ولا سرعة .
وثانيا : الدلالة على التقرر والثبوت من الهداية فالإتيان بِالظَّرْفِ إذ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ (مَا هدانا الله )، أَوْ بَعْدَ (أَنْ هدانا )، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ من الهداية لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ ويدل أيضا على استقراره زمنا طويلا متقررا حذفُ (من) والفعل الماضي فهو يدل على التحقق و التقرر مدة أي نرد وراءنا إلى الشرك بالله راجعين إلىه بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا ورزقنا للإسلام.
قال أبو السعود : وقوله تعالى : { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله } أي إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك متعلقٌ بنرُدّ مَسوقٌ لتأكيد النكيرِ لا لتحقيق معنى الرد وتصويرِه فقط وإلا لكفى أن يقالَ : بعد إذ اهتدينا كأنه قيل : ونُرَدّ إلى الشرك بإضلال المضِلّ بعد إذ هدانا الله الذي لا هاديَ سواه.
قال ابن عاشور: وقد أضيف ( بعد ) إلى { إذْ هدانا } وكلاهما اسم زمان ، فإنّ ( بعد ) يدلّ على الزمان المتأخِّر عن شيء كقوله : { ومن بعد صلاة العشاء } [ النور : 58 ] و ( إذا ) يدلّ على زمان معرّف بشيء ، ف ( إذ) اسم زمن متصرّف مراد به الزمان وليس مفعولاً فيه . والمعنى بعدَ الزمن الذي هدانا الله فيه ، ونظيره { ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } في سورة [ آل عمران : 8 ] .
قال رشيد رضا: إن من أنقذه الله القدير العزيز الرحيم من الضلالة ، وهداه إلى صراط السعادة ، بما أراه من آياته في الأنفس والآفاق ، وما شرح به صدره للإسلام ، فمن يقدر أن يضله بعد إذ هداه الله { ومن يهد الله فما له من مضل ، أليس الله بعزيز ذي انتقام } [ الزمر : 37 ] .
****************
ومثلها : {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) }(7/ 89).
أولا : أن التركيز أولا على أن شيئا بعد شيء أي أن العود في الملة بعد إنجاء الله لهم منها ة مستنكر وليس فيها ابتداء شيء من شيء ولا سرعة ولا تحول .
وثانيا : الدلالة على التقرر والثبوت من النجاة فالإتيان بِالظَّرْفِ وإذ لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ تكن الإنجاء لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ ويدل أيضا على هذا حذف من فهو يدل على تحقق النجاة وتقررها ، والماضي وصيغة التفعيل فيها تؤيد هذا .
قال ابن عاشور : وهذه البعدية ليست قيداً ل { افترينا } ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالاً على كذبه في الرسالة ، بل هذه البعدية متعلقة ب { عُدْنَا } يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر ، بخلاف حالهم الأولى قبلَ الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق ، ولذلك عقبه بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب .
قال أبو السعود فإن التعرضَ لعنوان ربوبيتِه تعالى لهم مما ينبئ عن استحالة مشيئتِه تعالى لارتدادهم قطعاً وكذا قوله تعالى : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } فإن تنجيتَه تعالى لهم منها من دلائل عدمِ مشيئتِه لعَودِهم فيها
قال اطفيش - التيسير { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا } بعدم الكون فيها قط كما هو حال شعيب ومن آمن قبل البلوغ أَو معه ، أَو بالخروج منها بعد الكون فيها كما هو شأن من آمن من قومه بعد الكفر ، مقتضى الظاهر بعد إِذ خرجنا منها على طريق التعجب من ذلك ، ووجهه زيادة قبح الردة على قبح الإِشراك الأَول ، لأَن المرتد قد بان له تمييز الحق تحقيقا أَو حكما ، فكيف يكذب نفسه .
قال سيد قطب: إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق ، وهداه إلى الحق ، وأنقذه من العبودية للعبيد - إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه
****************
ومثلها : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) }(9/ 115 ).
هذه الآية لتأنيس المؤمنين فلما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً ، وكان فيه نوع ولاية لهم ، أظهر سبحانه للمؤمنين ما منّ عليهم به من عدم المؤاخذة بالإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً لما بين أوج الإيمان وحضيض الكفران { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } أي وما كان من شأن الله تعالى في حلمه ورحمته ، ولا من سننه في خلقه التي هي مظهر عدله وحكمته ، أن يصف قوما بالضلال ، ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب ، بعد وقت هدايتهم إلى الإيمان والإسلام وتحققه وثبوته بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق ، ، بمجرد قول أو عمل صدر عنهم بخطأ الاجتهاد حتى يبين بياناً شافياً لداء العي.
****************
ومثلها : { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) } (25 / 29).
قال ابن عاشور : و { إذْ } ظرف للزمن الماضي ، أي بعد وقتٍ جاءني فيه الذكر ، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال : بعد ما جاءني ، أو بعد أن جاءني ، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق ، ومنه قوله تعالى : { وما كان الله لِيُضِلّ قوماً بعد إذْ هداهم } [ التوبة : 115 ] أي تمكن هديه منهم
****************
ومثلها: { وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) } ( 28/ 87).
فيها فائدتان:
أولا : أن التركيز أولا على أن شيئا بعد شيء أي أن النهي متأكد عن الصد عن آيات الله بعد تقرر نزولها ، وليس فيها ابتداء ولا سرعة .
وثانيا : الدلالة على التقرر والثبوت وأن الآيات أنزلت وتقرر نزولها إليك واستقرت .
قال الآلوسي: { بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } أي بعد وقت إنزالها وإيحائها إليك المقتضى لنبوتك ومزيد شرفك.
قال ابن عاشور: والتقييد بالبعدية في قوله { بعد إذ أُنْزِلت إليك } لتعليل النهي أياما كان المراد منه ، أي لا يجوز أن يصدّوك عن آيات الله بعد إذ أنزلها إليك فإنه ما أنزلها إليك إلا للأخذ بها ودوام تلاوتها ، فلو فرض أن يصدوك عنها لذهب إنزالها إليك بُطلاً وعبثاً كقوله تعالى { من بعد ما جاءتهم البينات } [ البقرة : 213 ] .
****************
مثلها: { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)} ( 34 / 32 ).
فيها فائدتان:
أولا : التركيز على أن شيئا بعد شيء أي أنهم ينكرون أنهم صدوهم عن الهدى بعد أن وصل إليهم ورأوه وعرفوا حقيقته تمام المعرفة .
الثاني : أن الهدى قد تقرر وثبت ووضح لهم تمام الاتضاح .
قوله تعالى : { قال الذين استكبروا } أجابهم المتبوعون في الكفر ، { للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين } بترك الإيمان .
قال الزمخشري: كأنهم قالوا : أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ } بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحّت نياتكم في اختياره ؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهي ، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا .
قال ابن عاشور:و { إذ } في قوله : { إذ جاءكم } مجردة عن معنى الظرفية ومحضة لكونها اسم زمان غير ظرف وهو أصل وضعها كما تقدم في قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) ، ولهذا صحت إضافة بعد } إليها لأن الإِضافة قرينة على تجريد { إذ } من معنى الظرفية إلى مطلق الزمان مثل قولهم : حينئذٍ ويومئذٍ . والتقدير : بعد زمن مجيئه إياكم .
****************

مثلها {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) }(16/91 )
(من) تدل على أمرين :
أولا : التركيز على أن شيئا بعد شيء أن نقض الأيمان حاصل بعد التوكيد وهذا شيء مستنكر غير مقبول ، وليس فيها ابتداء ولا تأكيد ولاتعقيب لأنها في خطاب المؤمنين .
الثاني :أن التوكيد للأيمان قد تقرر وثبت وحصل ، فالنقض بعده غريب أي بعد توثيقها باسم الله وعقدها ، وإبرامها ، وتوثيقها باسم الله تعالى و تغليظها وتشديدها، وذكر بعد توكيدها مبالغة في الإنكار وبيان فظاعة الفعل
قال ابن عاشور: و { بعد توكيدها } زيادة في التحذير ، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية ، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة ، وليست فيها بعدية . و { بعد } هنا بمعنى ( مع ) ، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا ، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها ، كقول الشميذر الحارثي :
بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا
أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً ، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير ، وقوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ سورة الحجرات : 11 ] ، وقوله : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .
قال اطفيش التيسير: { وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، ليس التوكيد قيدا فلا تنقض ، ولو لم تؤكد .
****************
ومثلها {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) }(16/ 94).
فتفيد أن زلل الأقدام كان بعد رسوخ وثبات القدم وتحقق ذلك وتقرره وهذا أشد في الفظاعة .
قال أبو السعود: { فَتَزِلَّ قَدَمٌ } ، عن مَحَجّة الحق ، { بَعْدَ ثُبُوتِهَا } عليها ورسوخِها فيها بالإيمان.
قال البقاعي: { فتزل } ، أي : فيكون ذلك سبباً لأن تزل { قدم } ، هي في غاية العظمة بسبب الثبات . { بعد ثبوتها } عن مركزها الذي كانت به من دين أو دنيا ، فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها ، وزلل القدم تقوله العرب لكل ساقط في ورطة بعد سلامة .
قال ابن عاشور: وزيادة { بعد ثبوتها } مع أن الزّلل لا يتصوّر إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين ، وأنه انحطاط من حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة.
****************
{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} (49/ 11).
تفيد أمرين: أن الفسوق بعد الإيمان قبيح ، وأن هذا الفعل وهو التنابز يجعلكم فاسقين بعد رسوخ إيمانكم وثبوته وتقرره وهو شيء قبيح ، وليس في من ابتداء شيء من شيء ولا تأكيد ولا سرعة وإنما المراد أن هذا بعد تقرر هذا ورسوخه قبيح .
قال الطبري: وقوله : بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول تعالى ذكره : ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق بِئْسَ الاِسْمْ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا.
قال ابن عاشور : ومعنى البعديَّة في قوله : { بعد الإيمان } : بعدَ الاتصاف بالإيمان ، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع.
****************
{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) }
(8/ 6).
بعد تدل على أمرين :
أن المجادلة في الحق بعد تحقق بيانها وتقرره شيء منكر فهي :
أولا :تركيز على أن شيئا بعد شيء أي أن المجادلة بعد التبين شيء منكر.
ثانيا : أن التبين وضح وتقرر وثبت كأنه من مدة كذلك .
قال ابن عاشور: وقوله : { بعْدَ ما تبيّنَ } لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص ، وهو الخروج للنفير وترك العير ، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر ، وهذا التبيّن هو بيّنٌ في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه ، فإنهم كانوا عَرَباً أذكياء ، وكانوا مؤمنين أصفياء ، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين : طائفة العير أو طائفة النفير ، فنصرهم إذن مضمون ، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم ، وقد بقي النفير ، فكان بيّناً أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه ، ثم رأوا كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمّا اختاروا العير ، فكان ذلك كافياً في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة
قال البقاعي: { بعد ما تبين } أي وضح وضوحاً عظيماً سهلاً من غير كلفة نظر بقرائن الأحوال بفوات العير وتيسير أمر النفير وبإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تارة صريحاً وتارة تلويحاً كقوله " والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ، هذا مصرع فلان وذلك مصرع فلان " .
****************
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }(5/ 32)
تدل على أمرين :
أولا :تركيز على أن شيئا بعد شيء أي أن إسراف هؤلاء بعد هذا التهديد الشديد ومجيء البينات غريب ، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة ، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن.
ثانيا : أن هذا وعيد شديد مقرر عظيم ثابت ثم هؤلاء يسرفون[28].
قال البيضاوي: " أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر" .
وثم للاستبعاد .
قال الآلوسي: { ثُمَّ } للتراخي في الرتبة والاستبعاد
قال أبو زهرة: كان العطف ب "ثم" للإشارة إلى بعد ما بين البينات الواضحات التي جاءت بها الرسل ، ونتيجتها في قلوبهم فهي في ذاتها أمر بين ولكن نتيجتها لم تكن كحقيقتها طيبة مثمرة في قلوبهم ، بل كانت كالبذر الطيب يلقى في أرض سبخة لينبت قليلا ، ويخرج حبطا في أكثرها .
قال البقاعي : ولما كان وقوع الإسراف - وهو الإبعاد عن حد الاعتدال في الأمر منهم بعد ذلك - بعيداً عبر بأداة التراخي مؤكداً بأنواع التأكيد فقال : { ثم إن كثيراً منهم}.
****************
ومثلها : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) }(3/ 90 ).
قال الطبري: قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الاَية قول من قال : عنى بها اليهودَ ، وأن يكون تأويله : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم ومقامهم على ضلالتهم ،
قال الزمخشري: { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن . أو كفروا برسول الله بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطنعهم في كل وقت ، وعداوتهم له ، ونقضهم ميثاقه ، وفتنتهم للمؤمنين ، وصدهم عن الإيمان به ، وسخريتهم بكل آية تنزل .
قال البقاعي: لأن الله سبحانه وتعالى يطبع على قلوبهم فلا يتوبون توبة نصوحاً يدومون عليها ويصلحون ما فسد.
********************
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) (3/ 100).ذكرت هذه الآية في البحث السابق.
فيها معنيان:
المعنى الأول: تفيد أنهم يردونهم بعد الإيمان كافرين ، وهذا شيء شنيع فليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة .
المعنى الثاني: أن الرد للكفر يكون بعد الإيمان وتقرره وثبوته ، وأنهم يردونهم بعد تقرر إيمانكم و تحققه بعدما رسخ وطال الإيمان وذاقوا حلاوته ،ويستدرجونكم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية ، وليس فيها التركيز على الإسراع بل قد يطول أو يقصر[29] ، والحقيقة أن السياقين مختلفان مناسب كل سيق ما يقتضيه في آية آل عمران هذه السياق في أن إيمانكم قد تقرر وثبت ورأيتم فضله وخيره وهؤلاء سيردوكم عنه لو أطعتموهم وأما سياق سورة البقرة في تمنيهم وهم يريدون أن ينقلوكم من بعد الإيمان إلى الكفر مباشرة مع التأكيد .
قال الآلوسي: { بَعْدَ } يجوز أن يكون ظرفاً ليردوكم وأن يكون ظرفاً لكافرين ، وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع ، إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل : بعد إيمانكم الراسخ ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب ؛ لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه .
قال ابن عاشور: وقوله { بعد إيمانكم } تأكيد لما أفاده قوله {يردّوكم}، والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
قال الفخر الرازي : فبين تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفارا.
****************
مثلها {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} (145)} (2/12).
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}(13/37).
حذف (من) فلأن السياق لا يحتاج إلى تأكيد، ولا سرعة ولا ابتداء شيء من شيء ، فهي تفيد أن اتباع أهوائهم غريب بعد نزول العلم والدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة واليقين ؛ بالوحي الإلهي المبين .وتقرره ما اقتضى سكون النفس . والعمل به مدة طويلة ، والسياق لم يحتج للتأكيد فلم توضع من وأيضا فيه النهي العام عن الاتباع في أي وقت .
قال ابن كثير: وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام .
قال البقاعي: ولما كان الكلام هنا في أمر الملة التي هي ظاهرة للعقل أسقط من وأتى بالذي بخلاف ما يأتي في القبلة فقال : { بعد الذي.
وحملها البقاعي في الرعد على التعميم للوعيد في الزمن المستقبل : قال البقاعي ولما كان المراد التعميم في الزمان ، نزع الجار، وأتى ب " ما " لأنها أعم من " الذي " وأشد إبهاماً ، فهي الخفيّ معنى ، فناسب سياق الوحي الذي هو غيب ، ومعناه غامض - إلا لبعض الأفراد - في الأغبياء بخلاف آية البقرة الأولى [SUP]14[/SUP] فإنها في الملة الإبراهيمية المدركة بنور العقل الناشىء عن نظر المحسوسات فقال : { بعدما جاءك }.
وكذلك الإسكافي قال: لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها.

****************
مثلها : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) }(3/ 106).
قال اطفيش - الهميان : وهو يعم كل من كفر بعد إيمانه
قال البيضاوي: والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم ، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، أو جميع الكفار كفروا بعدما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات .
قال الزمخشري: أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم . والظاهر أنهم أهل الكتاب . وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه
********************
مثلها : { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} (9/ 66 ).
فيها معنيان:
المعنى الأول: تفيد أنهم ظهر كفرهم باستهزائهم بعد أن كانوا يظهرون الإيمان ويسترون الكفر ، فقد افتضحوا، فليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة .
المعنى الثاني: أن ظهور كفرهم حصل بعد طول نفاقهم وإظهارهم للإسلام كذا ومحاولتهم خداع المسلمين أي بعد أن كنتم مظهرين الايمان الذي يحكم لمن اظهره بأنه مؤمن.
قال رشيد رضا : فإن قيل : ظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين فكفروا بهذا الاستهزاء الذي سموه خوضا ولعبا ، وظاهر السياق أن الكفر الذي يسرونه هو سبب الاستهزاء الذي يعلنونه ، قلنا : كلاهما حق ، ولكل منهما وجه :فالأول : بيان لحكم الشرع ، وهو أنهم كانوا مؤمنين حكماً ، فإنهم ادعوا الإيمان ، فجرت عليهم أحكام الإسلام ، وهي إنما تبنى على الظواهر ، والاستهزاء بما ذكر عمل ظاهر يقطع الإسلام ويقتضي الكفر ، فبه صاروا كافرين حكما ، بعد أن كانوا مؤمنين حكماً .
قال ابن عاشور : والمراد بإيمانهم : إظهارهم الإيمان ، لا وقوع حقيقته . وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة ، أي بعد إيمان هو من شأنكم ، وهذا تعريض بأنّه الإيمان الصوري غير الحقّ ونظيره قوله تعالى الآتي { وكفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] وهذا من لطائف القرآن .
قال البقاعي : ودل - على أن كفرهم أحبط ما كان لهم من عمل - بنزع الخافض تشديداً على من نكث منهم تخويفاً له وتحقيقاً بحال من أصر فقال: { بعد إيمانكم } أي الذي ادعيتموه بألسنتكم صدقاً من بعضكم ونفاقاً من غيره .
****************
ومثلها { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا }(74) }(9/ 74).
أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام ، وقال تعالى : { بعد إسلامهم } ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم أي بعد إعلانهم الإسلام ، وإبطانهم الكفر والنفاق ، فهذا الكلام قد كشف نفاقهم الذي كان مستورا بإعلان الإسلام ، فما استفادوا إلا بيان حالهم ، ومعرفة الوصف الحقيقي لهم .
****************
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) }(11/10 ) .
(بعد) تدل على أمرين :
المعنى الأول: تفيد إذاقة النعمة كانت بعد الضراء والضراء مضرة تظهر الحال بها ، لانها أخرجت مخرج الاحوال الظاهرة كحمراء وعوراء مع ما فيها من المبالغة ، وليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة .
المعنى الثاني: تدل على طول فترة الضراء التي أصابته وتمكنها ، فكون الإنسان فرحا فخورا بعد طول الضراء و ضيق العيش التي كان فيه والعسرة كان يعالجها، بعد كل هذا ينسي صروفها ونكد العوارض فيها ، يشغله الفرح والفخر عن الشكر مع قرب عهده بالضراء ولا يتوقع زوال ما هو فيه من النعماء وتحول النعمة إلى الشدة ويعتقد أن الضراء لا تعود بعد زوالها ولا تنزل بعد ارتفاعها ثانيا [30]، وأما التعبير بالمس فلا يعارض هذا لأن حَقِيقَةَ الْمَسِّ تلاقي جسمين أو جرمين بغير حائل بينهما ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشِدَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ ، وهو أعم من اللمس في الاستعمال[31] وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الشِّدَّةِ أَوِ الضَّعْفِ إِلَى الْقَرِينَةِ، ثم تستعمل استعمالين : أدنى مراتب الإصابة ، وأقل اتصال شيء بالجسم والاستعمال الثاني المس الذي فيه إيلام وإنالة بأذى متمكن ، نحو { ذوقوا مس سقر } { وليمسنكم منا عذاب أليم } { ثم يمسنهم منا عذاب أليم } { { مسنا وأهلنا الضر }[32] ونحوها ، وهذا الثاني هو المراد ، والتعبير به دون لبيان الفرق أن رحمة الله سبحانه سبقت غضبه وأن الحالة الأكثر هي الخير وأن الضراء بالمقارنة مع النعماء كالمس .
****************
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)} (12/ 45).
(بعد) تدل على أمرين :
المعنى الأول: تفيد إذاقة الإدكار كان بعد مدة طويلة ، وليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة .
المعنى الثاني: تدل على مضي مدة طويلة قبل تذكره وأنه ادكر بعد فترة طويلة من الزمان تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه ، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك وأنه قد تأخر كثيرا على سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام كما يشير له التعبير بأمة وذلك لأن الأمة المدة الطويلة وأصلها أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم والحين كان أمة من الأيام والساعات فالأمة من الزمان أزمان مجتمعة طويلة أي والحال أنه تذكر بعد طائفة طويلة من الزمن وصية يوسف إياه بأن يذكره عند سيده الملك فأنساه الشيطان ذلك
قال ابن عاشور: وإطلاقه في هذه الآية مبالغة في زمن نسيان الساقي المدة المتطاولة من الزمان وكان هذا الساقي قد نسى ما أوصاه به يوسف .
****************
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)}.(90/30)
المعنى الأول: أن دحو الأرض كان بعد كل ما سبق .
المعنى الثاني: أن دحو الأرض كان بعد مدة طويلة من خلق السماء وإغطاش الليل وإخراج النهار بعدما تقرر وحصول وليس بسرعة .
قال سيد قطب ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات ، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة . والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع ، أو ما ينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر
ثم نزل في صورة مطر . وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة . .
وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء ، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى . والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين ، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع . وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات .
قال ابن عاشور والبعدية ظاهرها : تأخر زمان حصول الفعل.
قال السمين الحلبي قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ } : " بعد " على بابِها من التأخيرِ . ولا مُعارَضَةَ بينها وبين آيةِ فُصِّلت ؛ لأنَّه خلق الأرضَ غيرَ مَدْحُوَّةٍ ، ثم خَلَق السماءَ ، ثم دحا الأرضَ . وقولُ أبي عبيدة : " إنها بمعنى قَبْل " مُنْكَرٌ عند العلماءِ.
يقول علي هاني: يريد السمين وابن عاشور بقولهم على بابها من التأخير الرد على من قال بعد بمعنى مع.

****************
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) (5/ 108)
وحاصل معنى الآية ، أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه ، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين ، فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين ، جاز أن يوصي إليهما ، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة ، أنهما ما خانا ، ولا كذبا ، ولا غيرا ، ولا بدلا ، فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما، فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين ، فإن شاء أولياء الميت ، فليقم منهم اثنان ، فيقسمان بالله : لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين ، وأنهما خانا وكذبا ، فيستحقون منهما ما يدعون ،
وقوله تعالى : { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم } بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة وإرجاعها إليهم، ـ ـ ـ أو يخافوا الافتضاح على رؤوس الأشهاد وخيانته بين الجموع بأن ترد أيمان أولياء الميت بعد أيمانهم ، فيحلفون على خيانتهم بان يحلفوا على ما يخالفها فيفتضحون بإبطال أيمانهم والعملِ بأَيْمان الورثة ويغرموا فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك فيكون ذلك الخوف داعيا لهم إلى النطق بالحق وترك الكذب والخيانة ، فأيُّ الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها .
فأفادت بعد فائدتين : أن رد الأيمان وإرجاعها ونقلها للورثة سيكون بعد حصول وتحقق أيمانهم فعليهم أن يحسبوا لهذا حسابا وأن لا يكذبوا ولا يخونوا في أيمانهم وإلا فسيفضحون أمام الناس والجموع ففيه تنبيه ووعظ وتذكير لهما بذلك.
*******************
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) }( 23/15 )
ثم إنكم بعد ذلك التكوين العجيب والبناء المُحكم و بعد ما ذُكر من الأمورِ العجيبةِ حسبما ينبئ عنه ما في اسمِ الإشارة مِن معنى البُعد المُشعرِ بعلوِّ رُتبةِ المشارِ إليه وبُعد منزلتهِ في الفضلِ والكمالِ وكونهِ بذلك ممتازاً منزَّلاً منزلةَ الأمور الحسيَّةِ { لَمَيّتُونَ } صائرون إلى الموت لا محالَة الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيرهُ إلى الفساد والاضمحلال ، وقد أكد سبحانه موت الناس مع أنه واقع مشاهد لكيلا يغتر الناس بغرور هذه الدنيا ،وبيان أنها إلى فناء مهما طالت، وأن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير ، وأنه حق.
فمن أفادت فائدتين : أن الموت لا بد من تحققه بعد تقرر وتحقق كل المراحل السابقة من الخلق المحكم العجيب ، وإن طالت ، فالموت بعد ذلك كله لا بد منه فهي تفيد أن شيئا بعد شيء ، وأنه بعد تحقق المراحل السابقة وتقررها وإن طالت لا بد من الموت .
قال سيد طنطاوي: ثم إنكم بعد ذلك الذى ذكره - سبحانه - لكم من أطوار خلقكم تصيرون أطفالاً ، فصبياناً فغلماناً ، فشباناً ، فكهولاً ، فشيوخاً ثم مصيركم بعد ذلك كله ، إلى الموت المحتوم الذى لا مفر لكم منه ، ولا مهرب لكم عنه.
*******************
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} ( 26/120 ).
ثم اخبر تعالى انه بعد أن أنجى نوحا واصحابه وأثبتهم في الفلك اغرق الباقين من الكفار بعد ذلك ، وأهلكهم ، وثم : للاستبعاد ، لأن التفاوت بين الحالين ثابت ، إذ هو بعد وتفاوت بين الإنجاء والإهلاك ، ولأنه تفاوت بين غضب الله على الباقين ، ورضاه على المؤمنين[33] ، وقوله تعالى بعد فيها أن الغرق كان بعد إنجاء نوح عليه السلام ومن معه ، فكلمة بعد أكدت معنى ثم وزيادة فقد أفادت أن إغراق الباقين كان بعد تحقق إنجاء نوح ومن معه ففيها التنبيه على تحقق نعمتين إنجاء العدو وإنجاء الولي .
*******************
{ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( 27/11 ).
(بعد) تفيد فائدتين:
أنه فعل الحسن بعد تحقق السوء وثبوته ، ففعل الحسن بعد السوء وتقرره وجعله مكانه بأن ترك السوء وفعل الحسن ، فهي تفيد أن شيئا بعد شيء وأن السوء كان متقررا ثابتا فأعقبه وجعل مكانه الحسن
قال ابن عاشور: وكذلك قوله تعالى هنا : { ثم بدل حسناً بعد سوء } أي أخذ حسناً بسوء ، فإن كلمة { بعد} تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتاً ثم زال وخلفه غيره . وكذلك ما يفيد معنى ( بعد ) كقوله تعالى : { ثم بدلنا مكانَ السيئة الحسنة } [ الأعراف : 95 ] فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة
قال البقاعي: { ثم بدل } بتوبته { حسناً بعد سوء } وهو الظلم الذي كان عمله ، أي جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه الصلاة والسلام فإني أغفره له بحيث يكون كأنه لم يعمله أصلاً ، وأرحمه بما أسبغ عليه من ملابس الكرامة المقارنة للأمن والعز وإن أصابه قبل ذلك نوع خوف . فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن الله غفور رحيم ، فلا ييأس أحد من رحمته يبدلوا حسنا بعد سوء ، ويدعوا الظلم إلى العدل ؛ ويدعوا الشرك إلى الإيمان ، ويدعوا الشر إلى الخير . فإن رحمتي واسعة وغفراني عظيم ، أي تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له ، بعد سوء ، أي وضع في تصرفاته مكان السوء حسنا
*******************
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)} (95/ 7)
فأي شيء يجعلك مكذبا بالدين ويحملك عليه أيها الإنسان بعد تقرر هذا الدليل والبرهان و ظهور الدلائل التي يُوْجِبُ النظرُ فيها صحةَ ما قلتَ ؟ يحصل لك اليقين من أن الله سبحانه أرسل الرسل والكتب وخلق الإنسان في أحسن تقويم وأنه يثيب المحسن ويعاقب العاصي فطائفة التي ارتدت أسفل سافلين فمأواها جهنم ، والطائفة المؤمنة هي في أعلى عليين مأجورة أجرا غير ممنون .
قال سيد قطب: بعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية ? وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون ، ولا يهتدون بهذا النور ، ولا يمسكون بحبل الله المتين ?
*******************
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} (65/ 7).
سيجعل الله بوعد لا خلف فيه عن قريب بعد تحقق عسر يسرا، فتفيد أن تحقق العسر بعد اليسر وأنه بعد تقرر وتحقق العسر سيجعل عسرا.
*******************
{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) }( 21/57 ).
في بعد معنيان :
المعنى الأول: أن الكيد لها سيكون بعد أن يتولوا أي في غيبتهم عنها وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلاً انتظرهم حتى خرجوا إلى عيد لهم فحينئذ كسر اصنامهم فيبقى الجو خاليا .
والمعنى الثاني : أن كيدها سيكون بعد مدة من ذهابهم فلم يدخل (من) لأنه لا يريد مباشرة أن يكيدها حتى يتأكد أنهم قد ذهبوا ويستوثق .
قال سيد طنطاوي - أى : وحق الله الذى فطركم وفطر كل شىء ، لأجتهدن فى تحطيم أصنامكم ، بعد أن تنصرفوا بعيدا عنها . وتولوها أدباركم [34].
وحملها البقاعي على أي جزء في جميع الزمان المستقبل .
قال البقاعي: ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أيّ جزء تيسر له منه، أسقط الجارّ فقال: {بعد أن تولوا} أي توقعوا التولي عنها، وحقق مراده بقوله: {مدبرين*}
هذا ما وفق الله سبحانه وتعالى في التفريق بين بعد ومن بعد أرجو من الله سبحانه أن أكون قد وفقت فيه ، فما كان من صواب فمن الله سبحانه بمنه وفضله ، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان ، وأقول أخيرا ما قاله الإمام الشاطبي :
أخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ ... يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلَا
وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ ... بِالاِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلَا
وَسَلِّمْ لإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ ... وَالاُخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْباً فَأَمْحَلَا
وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَادَّرِكْهُ بِفَضْلَةٍ ... مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلَا
وَقُلْ صَادِقًا لَوْلاَ الْوِئَامُ وَرُوحُهُ ... لَطاَحَ الأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلَا
وَعِشْ سَالِماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ ... تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلاَ
وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي ... كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبلَا
وَلَوْ أَنَّ عَيْناً سَاعَدتْ لتَوَكَّفَتْ ... سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيْماً وَهُطَّلَا
وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ ... فَيَا ضَيْعَةَ الأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلَا





[1] قال البيضاوي: البيضاوي :وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإتيان باللام الموطئة للقسم : ثانيها : القسم المضمر . ثالثها : حرف التحقيق وهو أن . رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية . وخامسها : الإتيان باللام في الخبر . وسادسها : جعله من { الظالمين } ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم . وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم ، وتحريضا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى ، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء

[2] وقد حملها البقاعي والإسكافي على التهديد على العمل به في أي وقت في المستقبل قال الإسكافي " لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها،ق قال البقاعي ولما كان المراد التعميم في الزمان ، نزع الجار، وأتى ب " ما " لأنها أعم من " الذي " وأشد إبهاماً ، فهي الخفيّ معنى ، فناسب سياق الوحي الذي هو غيب ، ومعناه غامض - إلا لبعض الأفراد - في الأغبياء بخلاف آية البقرة الأولى 14 فإنها في الملة الإبراهيمية المدركة بنور العقل الناشىء عن نظر المحسوسات فقال : { بعدما جاءك }


[3] قال أبو السعود : { بَعْدَ مَوْتِهَا } وعرائها عن آثارِ الحياةِ وانتقاءِ قوةِ التنميةِ عنها وخُلوِّ أشجارِها عن الثمارِ . قال الطبري : من بعد موتها ، يعني : من بعد جدوبها وقحوطها ومصيرها دائرة لا نبت فيها ولا زرع .قال الآلوسي : وقال تعالى : { الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } مع أن الأحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم وبذلك يقوى أمر التشبيه فليتأمل .

[4] قال بن كثير في آية البقرة { أنى يحيي هذه الله بعد موتها} ابن كثير: { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه أبو السعود وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هم علَمٌ في البعد عن الوقوع عادةً تهويلاً للخطب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل : { بَعْدَ مَوْتِهَا } يجهله ويخفى عليه ، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه ، والله أعلم وقال سيد قطب : إن القائل ليعرف أن الله هناك . ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء .

[5] قال ابن عاشور : مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم ، وآخرتها شبهة النسخ ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } [ البقرة : 105 ] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر .

[6] يتضح أولا في الآية الأولى في سورة البقرة قال : ود كثير ، وفي الثاني قال: فريقا ، وفي الآية الأولى بيان ودهم وفي هذه الآية بيان الواقع على الأرض، وفي الآية الثانية فيها ملاطفة في خطابهم ووصفهم بالإيمان ، قال أبو حيان : وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار ، ولم يأت بلفظ « قل » ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم .
وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية ، لأنه لم تقع طاعتهم لهم .


[7] وحملها البقاعي على استغراق زمان البعد قال البقاعي: وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد : { بعد إيمانكم كافرين * } أي غريقين في صفة الكفر ، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها ! .


[8] وقد حملها البقاعي على عموم الزمان على التعاقب قال البقاعي: و «كم» في هذا السياق يقتضي الكثرة، ثم علل إهلاكها وانتقالها بقوله: {كانت ظالمة} ثم بين الغنى عنها بقوله: {وأنشأنا} أي بعظمتنا ، ولما كان الدهر لم يخل قط بعد آدم من إنشاء وإفناء، فكان المراد أن الإنشاء بعد الإهلاك يستغرق الزمان على التعاقب، بياناً لأن المهلكين ضروا أنفسهم من غير افتقار إليهم، اسقط الجار فقال: {بعدها قوماً} .


[9] قال ابن عرفة : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك.

[10] قال ابن عرفة : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك.قال في أرشيف أهل الحديث: واما آية 63 من سورة العنكبوت, فان معرض الحديث عن انزال المطر وإحياء الارض من بعد موتها, فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم, ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة { من } في قوله { من بعد موتها } إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم. قال في ملاك التأويل في التفريق بين { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم}.: والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41) يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان. قال ابن عاشور : وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَة (ِ مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ.

[11] قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء فلما أتى ما قبل آية النحل مجملا جاء بعده كذلك مجملا.

[12]. قال في درة التنزيل: 117 الآية الثانية :للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} { وما أرسلنا قبلك} - فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها ، والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا.

[13] قال البقاعي: ولما كان المراد العموم ، أعراه من الجار فقال : { قبلك } أي يا محمد أحداً { من المرسلين إلا } وحالهم { إنهم ليأكلون الطعام وقال البقاعي: : { وما أرسلنا } . ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً ، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة ، إما برسول قائم ، وإما بتناقل أخباره ، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر : { قبلك } أي في جميع الزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر ، وقال البقاعي: مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام. قال البقاعي: ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران : 100] يردوكم } وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد : { بعد إيمانكم كافرين قال البقاعي: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال: {قبلهم} أي المتكئين {ولا جان }

[14] قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ) ؟ .جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته.

[15] قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى : {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (53/26).لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية. .. قال أبو السعود - { بَعْدَ مَوْتِهَا } باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء قال الإسكافي في درة التنزيل : ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها قال ابن عرفة : ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها.

[16] قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثان: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء ، لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة. وقال ابن جماعة أيضا في كشف المعاني : مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ) ؟ .جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته.

[17] قال السامرائي: في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7} ) وهي تحتمل البعيد والقريب، . قال السامرائي في موضع آخر : ما الفرق بين قوله تعالى (من بعد موتها) في سورة لعنكبوت مع أنه ورد في القرآن كله (بعد موتها) ؟استعمال (بعد موتها) فقط يحتمل البعدية القريبة والبعيدة قال السامرائي: وذلك أن قوله (أحيا الأرض بعد موتها ) يعني في لزمن الذي هو بعد الموت وهو يحتمل الزمن القريب والبعيد أي يحصل الإحياء بعد إنزال الماء وقد يطول الزمن بعده أو يقصر. قال السامرائي: في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7} ) وهي تحتمل البعيد والقريب.قال السامرائي: وأما حذف من فهو يدل على أنه احتاج إلى وقت طويل ليتحول إلى هذه الحالة.، وقال "لكي لا يعلم بعد علم" تحتمل الزمن الطويل والوصل أما قوله (لكي لا يعلم من بعد علم).

[18] قال في مغني اللبيب: وَمن الدَّاخِلَة على عَن زَائِدَة عِنْد ابْن مَالك ولابتداء الْغَايَة عِنْد غَيره قَالُوا فَإِذا قيل قعدت عَن يَمِينه فَالْمَعْنى فِي جَانب يَمِينه وَذَلِكَ مُحْتَمل للملاصقة ولخلافها فَإِن جِئْت ب من تعين كَون الْقعُود ملاصقا لأوّل النَّاحِيَة.

[19] قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: مسألة:قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ) ؟ .جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته.

[20] الفخر الرازي { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوما قال البيضاوي { فمن تولى بعد ذلك } بعد الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة . أبو حيان { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } أي : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ، وعن نصرته بعد أخذ الميثاق والإقرار والتزام العهد ، قاله عليّ بن أبي طالب وغيره . النيسابوريثم ضم إلى التوكيد الوعيد بقوله : { فمن تولى بعد ذلك } الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر، وهذا الوعيد في الحقيقة لأمم الرسل وليس للرسل ولكن توجيهه للرسل زيادة في التغليظ .أبو السعود : { فَمَنْ تولى } أي أعرض عما ذكر { بَعْدَ ذَلِكَ } الميثاقِ والتوكيدِ بالإقرار والشهادة ، فمعنى البُعد في اسم الإشارةِ لتفخيم الميثاق سيد قطب وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير [ ص ] ومناصرته وتأييده ، تمسكا بدياناتهم - لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته ، ولكن باسمها تعصبا لأنفسهم في صورة التعصب لها ! - مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهدا ثقيلا غليظا مع ربهم في مشهد مرهوب جليل . . في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذي يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم . فسقة عن عهد الله معهم . فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه ، الخاضع لناموسه ، المدبر بأمره ومشيئته ،



[21] وحملها البقاعي على استغراق الحياة إلى الموت قال البقاعي : ولما كان الله سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً . وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله ، نزع الجار فقال : { بعد ذلك } أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن.


[22] وحملها البقاعي على استغراق العمر إلى الموت قال البقاعي: {فمن اعتدى} ولما كان سبحانه يقبل التوبة عن عباده، خص الوعيد بمن استغرق الزمان بالاعتداء فأسقط الجار لذلك فقال: {بعد ذلك} أي الزجر العظيم.


[23] وأما حتى تضع الحرب فهي غاية للضرب ، قال أبو حيان { حتى إذا أثخنتموهم } : أي أكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للضرب ، فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى

[24] ويدخل دخولا أوليا في الإفساد الشرك والمعاصي بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحقّ ، وإيضاحه حججه لهم قال الفخر الرازي معناه ولا تفسدوا شيئا في الأرض ، فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء ، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل ، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف ، وإفساد العقول بسبب شرب المسكرات ، وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة : النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول

[25] قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: مسألة:قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ) ؟ .جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته.

[26] قال الطبري: وما كان للنبيّ أن يأمر الناس أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله ، كما ليس له أن يقول لهم كونوا عبادا لي من دون الله . ثم قال جلّ ثناؤه نافيا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بذلك : أيأمركم بالكفر أيها الناس نبيكم بجحود وحدانية الله بعد إذ أنتم مسلمون ، يعني بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة متذللون له بالعبودية ، أي إن ذلك غير كائن منه أبدا .

[27] وحملها البقاعي على الاستمرار في جميع المدة لكن حملها على من دام إلى موته البقاعي ولما كان المقصود بكمال الذم من استمر كفره إلى الموت قال من غير جار : { بعد إيمانهم } بذلك كله

[28] وحملها البقاعي على عموم الزمان بأن أفسدوا في عموم الزمن المستقبل قال البقاعي : أي بني إسرائيل ، وبيَّنَ شدة عتوّهم بإصرارهم خلفاً بعد سلف فلم يثبت الجار فقال : { بعد ذلك }

[29] وحملها البقاعي على استغراق زمان البعد قال البقاعي: وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد : { بعد إيمانكم كافرين * } أي غريقين في صفة الكفر ، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها ! .


[30] قال الطوسي أي يقول عند نزول النعماء به بعد أن كان في ضدها من الضراء قال الفخر الرازي المسألة الثالثة : اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية ، بل هي أبدا في التغير والزوال ، والتحول والانتقال ، إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة ، ومن اللذات إلى الآفات وإما أن يكون بالعكس من ذلك ، وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب ، ومن المحرمات إلى الطيبات . ـ ـ وأما القسم الثاني : وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب ، ومن المحنة إلى النعمة ، فههنا الكافر يكون فرحا فخورا . أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر للسعادات الأخروية الروحانية ، فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها ، وأما كونه فخورا فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به ، فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين ، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين قال البقاعي دل عليه بما أفهم أنه لو كان طول عمره في الضر ثم نال حالة يرضاها عقب زمن الضر سواء بادر إلى اعتقاد أنها هي الحالة الأصلية له وأنها لا تفارقه أصلاً ولا يشوبها نوع ضرر ولا يخالط صفوها شيء من قال رشيد رضا وهذه الإذاقة أخص مما قبلها ، وهي تتضمن كشف الضراء السابقة وإحلال ما هو ضدها محلها ، كالشفاء من المرض وزيادة العافية والقوة السابغة ، والمخرج من العسر والفقر ، إلى سعة الغنى واليسر ، والنجاة من الخوف والذل ، إلى بحبوحة المنعة والعز ، يقول تعالى ولئن منحنا هذا الإنسان اليئوس والكفور نعماء أذقناه لذتها ونعمتها ، بعد ضراء مسته باقترافه لأسبابها ، إثر كشفها وإزالتها .قال ابن عاشور والمعنى أنّه لا يشكر الله على النعمة بعد البأساء وَمَا كان فيه من الضرّاء فلا يتفكر في وجود خالق الأسباب وَنَاقل
وجعل البقاعي حذف من للدلالة على التعقيب وهو بعيد قال البقاعي : فقال دالاًّ على اتصال زمن الضر بالقول بنزع الخافض من الظرف : { بعد ضراء }.

[31] لأن اللمس هو المس يظاهر البدن ففيه قيدان المس وظاهر البدن

[32] يراجع تحقيق المس في ملتقى أهل التفسير علي هاني يوسف .

[33] قال أبو زهرة : والعطف بثم في موضعه ، لأن التفاوت بين الحالين ثابت ، إذ هو بعد وتفاوت بين الإنجاء والإهلاك ، ولأنه تفاوت بين غضب الله على الباقين ، ورضاه على المؤمنين ، قال الآلوسي: { ثُمَّ } للتفاوت الرتبي، قال البقاعي : ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب ، عظمه بأداة البعد - ومظهر العظمة فقال : { ثم أغرقنا بعد }.


[34] قال الطباطبائي:و سياق القصة وطبع هذا الكلام يستدعي أن يكون قوله : { و تالله لأكيدن أصنامكم } بمعنى تصميمه العزم على أن يكيد أصنامهم فكثيرا ما يعبر عن تصميم العزم بالقول يقال : لأفعلن كذا لقول قلته أي لعزم صممته و من البعيد أن يكون مخاطبا به القوم وهم أمة وثنية كبيرة ذات قوة وشوكة وحمية وعصبية ولم يكن فيهم يومئذ - وهو أول دعوة إبراهيم - موحد غيره فلم يكن من الحزم أن يخبر القوم بقصده أصنامهم بالسوء وخاصة بالتصريح على أن ذلك منه بالكيد يوم تخلو البلدة أو بيت الأصنام من الناس كمن يفشي سرا لمن يريد أن يكتمه منه اللهم إلا أن يكون مخاطبا به بعض القوم ممن لا يتعداهم القول وأما إعلان السر لعامتهم فلا قطعا .

 
عودة
أعلى