الجزء الثالث: من تحقيق{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} والرد على من حرفها

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
[h=2]المسألة الرابعة عشرة: من آمن بالله[/h]ومعنى { من آمن بالله } الإيمان الكامل[1] الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق أو استحقاق العبادة، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه جلت صفاته ليس كمثله أحد ، وهو السميع البصير ، والإيمان بالله تعالى يتضمن الإيمان بوحدانيته وأسمائه الحسنى ، وأنه الخالق وحده ، والمهيمن على الوجود وحده ، وأنه الأزلي الذي ليس له ابتداء ، والباقي الذي لا يعروه الفناء ، وأنه لا يشبه أحدا من خلقه ، وليس كالأشياء ، وهو منزه عما تتصف به الحوادث إلى آخر كل ما يقتضيه التنزيه، فالنصارى الذين يقولون بالتثليث ليسوا مؤمنين بالله سبحانه ، وكذلك الصابئة الذين يعبدون الكواكب واليهود الذين أشركوا في أوقات كثيرة وعبدوا الأصنام وخلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة ، وبعضهم قال عزير ابن الله ووصفوا الله بما لا يليق به بل لا يليق بالبشر فضلا عن الله سبحانه ؛لأن القرآن الكريم نص في مواضع كثيرة أن من أشرك مع الله إلها آخر هو لا يعبد الله ، فلذلك نجد تعبير {من دون} يرد كثيرا في نحو { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي متجاوزين عبادة الله ، مع أنهم كانوا يعبدون الله وغيره، وقد نص القرآن نصا واضحا على أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله؛ لأنهم لم يؤمنوا به على الوجه اللائق ، ونص كذلك على أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر و انهم لا يدينون الدين الحق وأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فاليهودية والنصرانية ليست الدين الحق ، قال تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا): (من) بيانية ، أي بيان للذين مع ما في حيزه ، نفى عنهم الإيمان بالله ؛لأنّ اليهود يقولون : عزير ابن الله وهم يشبهون الله تعالى بخلقه ويصفونه بأوصاف لا تليق بالبشر فضلا عن خالق البشر ،و كثير من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة ، والنصارى مثلثة : فهم يقولون : بالأب والابن وروح القدس ؛ والحلول والاتحاد ، وكل ذلك ينافي الإلهية ، وهم يضيفون إليه سبحانه ما لا يليق به فكأنهم لا يعرفونه ، وإيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان لأنهم فيه على خلاف ما يجب ، والفريقان قد ألصقوا باليوم الآخر تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء : كقولهم : { لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر .
وهم لا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة .
لا يدينون دين الحق: فهم لا يعتقدون دين الإسلام هو الحق وما سواه باطل، وهم أيضا أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاءت به كتبهم ، وإنّما دانوا بما حرفوا منه ، ومَا أنكروا منه ، وما ألصقوا به ، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام الذي أوصاهم أنبياؤهم باتباع ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كما أوصتهم رسلهم ، { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون } [ آل عمران : 81 83 ] .
، والمراد ( برسوله ) في { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله ؛لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم[2] ، فكيف يأتي أناس في زماننا يقولون: لا يجب على الناس اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بل يجب عليهم فقط الإيمان به وهذا كافٍ مُنْجٍ.

[h=2]المسألة الخامسة عشرة معنى اليوم الآخر في { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (62)} :[/h] اليوم الآخر: هو يوم القيامة والمراد به :
إما من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي من الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع ، سمي آخرا ؛ لأنه ليس بعده يوم آخر، وبعبارة أخرى آخرا : لتأخره عن الأيام المنقضية من أيام الدنيا .
وهذا قدمه البيضاوي وأبو السعود والآلوسي وحقي وسيد طنطاوي واختاره اطفيش
2)أو الوقت المحدود إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار سمي بذلك لأنه آخر الأيام المحدودة بطرفين وما بعده فلا حد له ولا آخر .
************
والإيمان باليوم الآخر: هو الإيمان بالبعث والنشور ، والحساب والعقاب والثواب وأنها جنة أبدا ، أو نار أبدا ، وأن الإنسان مجزى بعمله إن خيرا فخير أو شرا فشر : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}الزلزلة
والإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن، الإيمان برسل الله وكتبه والملائكة بقرينة المقام وللأدلة التي ستذكر ، هذا هو الإيمان فمن آمن بالله واليوم الآخر وبالنبي والملائكة والكتب وعمل صالحا فهذا هو الإيمان الحقيقي، وقرينة قوله : { وعمل صالحاً } إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعي لقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر } [ البلد : 17 ] { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) } وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات ، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب ، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى[3].
فإن قيل إذا كان الأمر كذلك من أنه أراد جميع أركان الإيمان فلم اقتصر على الإيمان بالله واليوم الآخر فقط ؟
نقول سر الاقتصار على الإيمان بالله واليوم الآخر عدة أمور :
1) الأمر الأول: لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان :
أ) فالإيمان بالله: مبدأ الاعتقادات كلها ، إذ هو الأصل وبه يصلح الاعتقاد ، ولأن الإيمان بالله يحقق المعرفة بالمصدر الأول الذى صدر عنه الكون ، الصانع القادر سبحانه ، وبما يليق به تعالى من الصفات.
والإيمان بالْيَوْمَ الْآخِرَ، يحقق المعرفة بالمصير الذي ينتهي إليه هذا الوجود. ففي الإيمان بهما إيمان بالمبدأ والمعاد ، الإيمان بالله إيمان بالمبدأ والإيمان باليوم الآخر إيمان بالمعاد فعبر بأشرف أجزاء الإيمان .

  1. اليوم الآخر هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّخْوِيفُ، و الوازع والباعث على الأعمال كلها ، وفيه صلاح الحال العملي .
  2. اليوم الآخر َتُجْنَى فِيهِ ثَمَرَةُ استجابة الأوامر مُخَالَفَةِ النَّهْيِ.
  3. الإيمان باليوم الآخر هو فيصل الإذعان والتمرد، وفيصل الإيمان بالغيب والجحود به؛ إذ لَا يكفر به إلا من لَا يؤمن إلا بالمحسوس.
2) الأمر الثاني: أن الإيمان باليوم الآخر قطرا الإيمان، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره؛ لأنهما يتضمنان بقية أركان الإيمان ، فمعنى الإيمان باللَّه والإيمان باللَّه هو الإيمانُ بجميع الرسل، وبجميع الكتب والملائكة ، وبيان ذلك أن :
أ) الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في الإيمان بالله فإن من آمن بالله واليوم الآخر فقد آمن برسول الله؛ لأن من جهته عرف الإيمان بالله واليوم الآخر ؛ لأنه هو الداعي إلى ذلك ، فيوم القيامة إنما يعرف من قِبَل الأنبياء وكتبهم ، فِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِنَّمَا هُوَ مُتَلَقَّفٌ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ، فَيَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ .
ب) وِلمـَا علم أن الإِيمان بالله قرينه وتمامه الإِيمان بالرسل، فقد عُلِمَ وَشُهِرَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى قَرِينَتُهُ الْإِيمَانُ بالرسول، لِاشْتِمَالِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهِمَا مُقْتَرِنَيْنِ مُزْدَوِجَيْنِ، كَأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَنْفِكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، فَانْطَوَى تَحْتَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، وبما جاءوا به ، فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به ، اقتصر على ذلك ، لأن غيره في ضمنه .

  1. النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بالله بالإيمان بجميع أركان الإيمان حيث كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم ـ وهما أصح الكتب بعد كتاب الله ـ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ - أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ: فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ: بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ» وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالمُزَفَّتِ "، وَرُبَّمَا قَالَ: «المُقَيَّرِ» وَقَالَ: «احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ»[4]
  2. الله سبحانه عندما رد على اليهود اعتراضهم على تحويل القبلة إلى الكعبة بين حقيقة الإيمان فقال:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
3) الأمر الثالث: وفي ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر إشعار بدعوى حيازة ما طريقه العقل كالإيمان بالله ، وما طريقه السمع كالإيمان بالله اليوم الآخر ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة[5] .
4) الأمر الرابع : هذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حد الإعجاز ، وهو وارد في القرآن كثيرا جدا فما من آية إلا فيها إيجاز حذف أو قِصَر ومن ذلك أن القرآن لم يذكر الإيمان بيوم القيامة اكتفاء بذكر الكتب في قوله تعالى { مَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} قال أبو السعود[6]: وإنَّما لَمْ يُذكر هَهُنا الإيمانُ باليوم الآخر كَما ذُكر في قولِهِ تعالى {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} لاندراجه في الايمان بكتبه.
بناء على ما سبق لا يكون مؤمنا من آمن بالله واليوم الآخر ولم يؤمن ببعض الأنبياء وفرق بينهم في الإيمان ، فكيف بالذي كفر بخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفرق بين الله ورسله ، فكيف بالذي لم يؤمن بالله حق الإيمان ولم يوحده فكيف بالذي لم يؤمن بيوم القيامة الوجه الذي أراده الله سبحانه[7] .
سر التصريح والعناية بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر :
وإنما اعتنى القرآن هذا الاهتمام باليوم الآخر، لعدة أسباب:

  1. أولاً: أن المشركين من العرب كانوا ينكرونه أشد إنكار، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}.
  2. ثانيًا: أن أهل الكتاب، وإن كانوا يؤمنون باليوم الآخر، إلا أن تصورهم له قد بلغ منتهى الفساد.
فالنصارى مثلاً، يعتمدون فيه على وجود يسوع الفادي المُخلِّص الذى يَفْدي الناس بنفسه، ويخلِّصهم من عقوبة الخطايا ، وهذا يطابق ما يقوله الهنود في كرشنه، وبوذا، سواء بسواء.
وعقيدة اليهود في الله وفي اليوم الآخر، لا تقل في فسادها وضلالها عن عقيدة النصارى، والهنود[8].

  1. ثالثًا: أن الإيمان باليوم الآخر يجعل لحياتنا غاية سامية، وهدفًا أعلى، وهذه الغاية هي فعل الخيرات، وترك المنكرات، والتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل الضارة بالأبدان والأديان، والأعراض والعقول والأموال ؛ لأن في الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف.
[h=2]المسألة السادسة عشرة : عبارة { آمن بالله واليوم الآخر} في مصطلح القرآن يراد بها الإيمان بجميع الأركان كما تقدم ويوضحه استعمالات القرآن لذلك :[/h]{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(سورة البقرة: 228)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(2/264) .
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}سورة النور:2).
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} (سورة البقرة: 126).
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} (سورة البقرة:232).
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}
{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39} (سورة النساء :39)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (سورة النساء: 59).
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (التوبة: 18)
{ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} (التوبة: 45)
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}( التوبة: 99)
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (المجادلة:22)
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}( الطلاق:2)
فهذا المصطلح ـ كما ترى ـ يطلقه الله ويخاطب به المؤمنين به ، الذين يؤمنون بالله الواحد الذي لا شريك له ويؤمنون برسوله محمد وبشرعه ويسيرون على ما أتى به من الشرع ، ويقيمون حدوده ويمتثلون بأحكامه، ويؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به ، ومنها الإيمان بجميع الرسل كما وضحنا ذلك قريبا ، ونلاحظ في الآيات السابقة أنه ذكر الرسول فيها مع أنه لم يقل يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ففي قوله تعالى:{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}التوبة ، لاحظ الكلام في استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجهاد وهو يستلزم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل القرآن لا يسـتأذنك الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر لأنه واضح معلوم ، وكذلك التصريح يخالف الإيجاز الذي هو قوام بلاغة القرآن المعجز ، وكذلك في قوله تعالى: { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}( التوبة: 99)لاحظ ذكر صلوات الرسول مع أنه لم يقل يؤمن بالله والرسول ، وكذلك في {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (المجادلة:22)}فهؤلاء لا بد أن يؤمنوا بالرسول إيمانا تاما ولو وادوا فقط من حاد الله ورسوله هم ليسوا مؤمنين حقيقة ، فذكر من حاد الله ورسوله مع أنه لم يقل في أول الآية قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر والرسول، فأي نص أصرح من هذا.
وأيضا يلاحظ أن الآيات التي فيها آمن بالله واليوم الآخر تتحدث عن أحكام لا يقوم بها إلا المسلمون المؤمنون إيمانا بجميع الأركان: كجلد الزاني مائة جلدة { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ومثل ذلك يقال في الطلاق { َالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وعمارة المساجد { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
**********
وبهذا البيان الواضح يرد على من يستدل بقوله تعالى وهو يتحدث عن أهل الكتاب بقوله تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}فهو يستدل على أن النصارى الذين يقولون بالتثليث في زماننا ، واليهود المغيرون للعقائد والأديان ـ مؤمنون وفي الجنة ، ولو لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل ولو لم يتبعوا شرعه صلى الله عليه وسلم والقرآن ويتركوا نصرانيتهم ويهوديتهم ، وبعضهم يعدل هذا الادعاء الباطل ليقبله الناس فيقول: يشترط أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقول هذا نبي ، ولا يشترط أن يتبع شرعه وأن يتدين بشرعه فإن لم يتبع الرسول ولم يكفر به فله أجر واحد، فإن أقر به و اتبعه فله أجران:
فنقول يرد عليه بأمور كثيرة:
1) الأمر الأول: أنه قد تقدم الرد على هؤلاء جميعا بآية واضحة كالشمس وهي قوله تعالى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} فكيف يأمر القرآن الكريم بقتالهم وهم مؤمنون متبعون للحق كما يقول هؤلاء؟! ، بل كيف يقول عنهم القرآن لا يدينون دين الحق؛ لأنهم لم يعملوا بكتابهم الذي يدعوهم أن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ويبشر به ، ثم يأتي هؤلاء ويقولون هم على الحق؟!، فهؤلاء لم يؤمنوا لا بالتوراة ولا الإنجيل كما يدعون لأنهما يبشران بالرسول صلى الله عليه وسلم ويأمران بالإيمان به ، فلو كانوا يؤمنون بكتبهم حقيقة لآمنوا به صلى الله عليه وسلم ، { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}الصف، ولم يؤمنوا بالقرآن الناسخ للشرائع السابقة كما نص القرآن على ذلك ونص على أن كل أمة من الأمم جعل الله لها شرعا يناسب زمانها ، وأمر باتباع هذا المنهج والحذر من أهوائهم
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} المائدة ، وهم أيضا لم يحرموا ما حرم الله ورسوله : ومعلوم أن الرسول هنا المراد به النبي صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم.
قال ابن عاشور :"فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة . ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله ، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه ، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب، ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم : { نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه } [ المائدة : 18 ] وقولِهم { لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] ، وقول النّصارى : إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل ، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر ، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها"[9].
2) الأمر الثاني: في نص الآية والسياق وكلام العلماء ما يرد عليه { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}

  1. فأولا: مصطلح الإيمان بالله واليوم الآخر: كما كررت مرارا مراد به الإيمان بجميع أركان الإيمان.
  2. ثانيا: هذه الآية وردت في سورة آل عمران ، التي هي أكثر سورة ردت على النصارى فهي متخصصة في الرد عليهم ، فمقصود سورة آل عمران ومحورها الذي تدور عليه : "إثبات وحدانية الله تعالى وأنه ليس له ولد، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم المصدقة للتوراة والإنجيل وإثبات ذلك بالأدلة الكثيرة فمن كذب به من أهل الكتاب نال عذاب الدنيا والآخرة وإن وتقلب في البلاد فلا بد من خسارته وغلبته دنيا وأخرى ، ومن آمن به واتقى الله وصبر وصابر ورابط، وأوذي في سبيل الله نال سعادة الدنيا والنصر والعزة والرضوان والجنة وإن ابتلي وأوذي" ، واسم السورة يشير لموضوعها : فما ذكر من أخبار آل عمران دال على القدرة التامة الموجبة للتوحيد، فمن المضحكات التي تضحك منها الثكلى أن يدعي هؤلاء أن هذه الآية تحكم على أن النصارى مؤمنون مقبولة أعمالهم عند الله مع أنها وردت في أطول سورة ترد على النصارى وتحكم بكفرهم وتدعوهم للإيمان بالرسول وتذكر معايبهم ، وتبين أن حب الله مربوط باتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا قول عجيب لا يصدر من عاقل منصف،ولو أردت أن أورد الآيات التي وردت في آل عمران تبطل دين النصارى المثلث لاحتجت أن أورد جميع آيات السورة ، لكن لأننا في زمان احتاج النهار فيه إلى دليل، أورد بعضا من هذه الآيات التي هي في نفس السورة التي وردت فيها آية { ليسوا سواء } وهي سورة آل عمران:
{ الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
{ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)ؤ { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)ؤ { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} .
ثالثا: وصف الصلاح والتقوى والخير ، { وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} لا تجتمع مع أوصاف النصارى المشركين المثلثين ، ولا مع اليهود الواصفين لله بالأوصاف التي لا تليق الذين يكفرون بالأنبياء ، ويصفونهم بما لا يليق، فهل هذه الأفعال تسمى أعمالا صالحا وخيرا ، وهل هؤلاء يوصفون بالتقوى ؟!وسيأتي تفصيل هذا قريبا.
رابعا: هذا القول لم يقل به أحد من المفسرين قط قبل هذا القرن الذي نحن فيه ، فالمفسرون على اختلاف فرقهم مُجْمِعون على بطلان هذا التفسير ،وسأبين تفسير الآية وأقوال العلماء فيها ليتضح سر اختيار كل لفظة في الآية ، ففي كل كلمة رد على هذا القول :
التفسير التحليلي للآية:
لأنه يكثر الاستدلال من قبل أهل الباطل بهذه الآية سأطيل في شرحها لأدحض أي شبهة يذكرونها من خلالها:
في الآية أحد عشر مبحثا :
1) المبحث الأول : القول الراجح في معنى المراد منهم :
في الآية قولان: أورد القول الأول: مع تفسير الآية كاملة لأنه هو الراجح ثم أورد القول الثاني:
القول الأول :قول الجمهور ، ومنهم الطبري والكشاف والآلوسي والبيضاوي وأبو السعود وابن كثير والواحدي والسمعاني والسعدي والنسفي والصابوني وسيد طنطاوي والمراغي وغيرهم .
قالوا المراد بهذه الآية : الذين آمنوا من أهل الكتاب بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] :
· فمعنى {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشَرْعه مُتَّبِعة نبيَّ الله، وهم الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه في السر والعلن ، كعبد الله بن سلام ، وأصحابه ، والنجاشي ومن آمن معه من النصارى ، فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به ، ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله ، فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم ،
{ يتلون آيات الله آناء الليل }فعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود ، لأنه أبين لما يفعلون وأظهر لخضوعهم؛ وأدل على حسن صورة أمرهم فبدل أن يقول آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أتى بوصف يتضمنه وزيادة .
2) المبحث الثاني: معنى { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
معنى { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } كما أخبر به القرآن والنبي ويؤمنون بجميع أركان الإيمان بما فيها الإيمان بجميع الرسل كما بين في سورة آل عمران نفسها { قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ـ ـ لا نفرق بين أحد من رسله } ولا يكتفون بهذا بل يعملون بمقتضاه[10]
3)المبحث الثالث: علاقة الآية بما قبلها:
ثم مناسبة الآية توضح لنا صحة هذا التأويل الذي ذكره الجمهور :
ولما كان السياق في بيان قبائح أهل الكتاب وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ولا سيما اليهود { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} { وأكثرهم الفاسقون} { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} ربما أفهم أنهم كلهم متصفون بالصفات الذميمة وأنهم لا يؤمنون قال مستأنفاً نافياً لذلك : { ليسوا سواء } أي في هذه الأفعال، فهم ليسوا بدرجة واحدة ، ففيهم المؤمن بالنبي صلى الله والقرآن العامل به ، ومنهم الكافر ،فأثنى الله سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم ، وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيدا ولا قريباً ، فالقرآن يمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحقّ والإيمان بالنبي والقرآن [11].
4) المبحث الرابع : موقع { ليسوا سواء) ومعناها:
الجملة تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب ، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين ( منهم )، اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ إِنْصَافُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى مُعْظَمِهِمْ بِصِيغَةٍ تَعُمُّهُمْ، تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ آنِفًا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا منزلَة التَّمْهِيد.
والمعنى : { ليسوا } : ليس أهل الكتاب مستوين في القبائح والمساوئ ، بل منهم من آمن بكتابه كالتوراة والإنجيل وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، فلما جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى : { كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق } أعلم الله أن منهم أمة قائمة مؤمنة بالله سبحانه وبالقرآن والرسول ، وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم ، وهو الكفر والمشاقة ، فذكر من كان منهم مبايناً لهؤلاء.

5)المبحث الخامس : المراد بكونهم أهل كتاب وسر الإظهار في موضع الإضمار:
· "إِطْلَاقُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مَجَازٌ مرسل بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] } لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ"[12].
· سر الإظهار في موضع الإضمار أن الأصل أن يقال ـ بحسب الظاهر ـ (منهم أمة) لأنه قد تقدم ذكرهم لكنه قال { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ }:
أولا: إن ذكرهم بعنوان أهليةِ الكتابِ ليذكر أن أهلية الكتاب موجبةِ للإيمان بكتابهم (التوراة ، الإنجيل) الناطقِ بوجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وبما يصدّقه من القرآن العظيمِ كما ورد في هذه السورة { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) } فهذا العنوانَ ـ أعني أهلية الكتاب ـ يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم وهو القرآن .
ثانيا: أنه يتضمن أيضا المدح بأنهم أهل الكتاب المتمسكون به العاملون بما نطق به بخلاف غيرهم ، كما قال تعالى قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به }، فـ(الذين) مبتدأ، و{ يتلونه } حال، {أولئك يؤمنون} خبر، فهؤلاء هم أهل الكتاب الحقيقيون الذين يؤمنون حقيقة بالتوراة والإنجيل ويعملون به ، فاستجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن التوراة والإنجيل يأمرانهم بذلك ، أما الذي يقرأ في التوراة والإنجيل أنه يجب الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو لم يؤمن لا بتوراة ولا بإنجيل وليس من أهل الكتاب حقيقة ، فوضع { أَهْلِ الكتاب } موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم .
ثالثا : ليَكُون الثَّنَاءُ شَامِلًا لِصَالِحِي الْيَهُودِ، وَصَالِحِي النَّصَارَى، فَلَا يُخْتَصُّ بِصَالِحِي الْيَهُودِ، لأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن اليهود فلو قال:" منهم" لظن أن الكلام في اليهود خاصة .
رابعا: لما ذكر قبلها { كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } فلو قال بعده (منهم أمة) لظن أن هذه الأمة من هؤلاء القتلة الكفرة .
وبهذا يظهر بطلان من يستدل بها على أن الآية تمدح الذين بستمرون على العمل بالتوراة والإنجيل بعد نزول القرآن ، قال ولا يشترط أن يتبع شرع النبي صلى الله عليه وسلم ، بدليل أنه قال : سماهم أهل الكتاب ، والرد عليه أن التعبير عنهم بأهل الكتاب مع أنهم دخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم من باب المَجَازٌ المرسل بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 2] } لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وسر هذا التعبير لأجل تحصيل الأسرار البلاغية السابقة .
المبحث السادس : موقع ومعنى { مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}
وَجُمْلَةُ { مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ }استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام فهي مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ لَيْسُوا سَواءً .
· قائمة : "من قام اللازم بمعنى استقام أي : أمة مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه "[13].
· المراد بآيات الله في{ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّه}: هي آيات القرآن الكريم كما أريد بـ{آيات الله}القرآن في قوله تعالى: { رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} ، وكيف يمدح الله من تلى آيات منسوخة يتعبد بها ، وهو الذي قال سبحانه { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} الصف (6ـ 9).
· { وَهُمْ يَسْجُدُونَ} سر التعبير عن الصلاة بالسجود :
· التعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال وغاية الخضوع ، وهذا الوصف لا ينطبق على الذين لم يرضوا بدين الإسلام دينا ، ولا بالنبي محمد صلى عليه وسلم رسولا، واستمروا على نصرانيتهم ويهوديتهم.
المبحث السابع: سر الاكتفاء من أركان الإيمان { بالله واليوم الآخر }في هذا الموضع لفائدتين :
أولا : لأنهما قطرا الإيمان ، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره ؛لأن الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يحث المؤمن به على أن يقر بكل ما يجب الإيمان به ويثاب عليه في ذلك اليوم، وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم ويدخل دخولا اوليا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
قال القونوي : "{ والاكتفاء في قوله تعالى { يؤمنون بالله واليوم الآخر } بهما دون بقية أركان الإيمان لأنهما قطرا الإيمان انتهى أي طرفا الإيمان الذين من حواهما حوى جميع الأركان فالإيمان بهما يستلزم جميع أركان الإيمان".
قال أبو حيان :" الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل، وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً. "[14].
ثانيا : إظهاراً لمخالفتهم لسائر اليهود لأن إيمان أهل الكتاب باليوم الآخر كلا إيمان لما فيه من تحريف فما عليه المؤمنون ومن يؤمن هو الإيمان الحقيقي باليوم الآخر
قال الآلوسي :" { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } صفة أخرى لأمة ، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول ، وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهاراً لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدّعون أيضاً الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء"[15] .
قال الخازن :" { يؤمنون بالله واليوم الآخر } وذلك لأن إيمان أهل الكتاب فيه شرك ويصفون اليوم الآخر بغير ما يصفه المؤمنون"[16]..
المبحث الثامن : سر تخصيصهم بهذه الصفات :
سر تخصيصهم بهذه الصفات وصفهم بصفات لم تكن في اليهود :
من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله ؛ لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عُزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان باليوم الآخر؛ لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات و فرط الرغبة ؛ لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها.
قال أبو حيان : ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست :
إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم.
ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل.
الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل.
الثالثة : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل، وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً.
الرابعة : الأمر بالمعروف.
الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين.
السادسة : المسارعة في الخيرات.
وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم.
وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان ، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة ، وكلها نتائج عن الإيمان"[17].اهـ
المبحث التاسع:
معنى { وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) }
اسم الإشارة{ وَأُولَئِكَ} :
يعطينا فائدتين :
الأولى: علو منزلتهم في الشرف
الثانية : أن المتصفين بما قبلها يستحقون ما بعدها كما تقول: زيد يساعدك وينصرك ويخلص لك ذلك الصديق الحق ، فَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. تنبه عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بَعْدُ من الصلاح وأنهم لا يُكْفَرون أجرهم .
معنى { من الصالحين }وسر التعبير به :
رمن الصالحين} من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم، وفي التعبير بقوله : { مِنَ الصالحين } إشارة إلى أنهم بهذه المزايا وتلك الصفات ، قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله - تعالى - ووصفهم بأن أكثرهم من الفاسقين فهم بسبب إيمانهم وأفعالهم الحميدة قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين ، وهذا رد لقول اليهود : ما آمن به إلا شرارنا .
وفي الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ، ولذلك سأل هذه الرتبةَ بعضُ الأنبياء عليهم السلام ، فقال تعالى حكاية عن سليمان ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ : { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) }النمل، وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) }البقرة، وقال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) }الأنبياء، وقال تعالى: { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) }الأنعام، فهل الذين يشركون بالله ويقولون بالتثليث ينطبق عليهم هذا الوصف.
(وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) :
ثمّ إنّه سبحانه قال : (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملاً للآية، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملاً، وإن كانوا قد ارتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما اقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.
معنى { والله عَلِيمٌ بالمتقين } وسر التعبير به :
عليم بأحوالهم فيجازيهم ، وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، والمراد بالمتقين عام ويدخل المخاطبون دخولاً أولياً ، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى، هذا وصف كما ترى لا ينطبق إلا المؤمن إيمانا كاملا ولا ينطبق على النصارى واليهود الذين في زماننا ، وهل الذي يبقى على الشرك والتثليث كما هو عليه النصارى ، والذي يصف الله سبحانه بأوصاف لا تليق، ويكفر بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من المتقين ، هذا لعمري في القياس عجيب .
المبحث العاشر:
سر إتباع الآية السابقة بقول تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ * أولادهم مّنَ الله شَيْئاً }:
لما وصف تعالى اهل الكتاب بالصفات الذميمة ، ذكر انهم ليسوا بدرجة واحدة ، ففيهم المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ،ثم ذكر تعالى أن عمل المتقين لن يضيع، وأنهم يجازون به، ذكر هنا عقاب الكافرين وأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم يوم القيامة شيئا ، وأعقب ذلك بالنهي عن اتخاذ أعداء الدين أولياء ، ونبه إلى ما في ذلك من الضرر الجسيم في الدنيا والدين ، و أستأنف حكم الكافرين، ففي مقابل الذين يبحثون عن الحقّ، ويؤمنون به من الذين وصفتهم الآية السابقة، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم الله سبحانه في هاتين الآيتين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)) فلا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الامتيازات المادية، في هذه الحياة : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) }الشعراء، والمراد بالذين كفروا في قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } جميع الكفار ، لأن اللفظ عام ، ولا دليل يقتضى تخصيصه بفريق من الكافرين دون فريق ، فيدخل دخولا أوليا النصارى واليهود الذين تتحدث عنهم السورة من أولها ، قال محمد سيد طنطاوي:" المراد بالذين كفروا في قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } جميع الكفار ، لأن اللفظ عام ، ولا دليل يقتضى تخصيصه بفريق من الكافرين دون فريق "[18].
المبحث الحادي عشر : القول الثاني في الآية:[19]
هذا الذي تقدم هو القول الأول وهو قول الجمهور الذي يناسب السياق والسباق وتؤيده الأدلة ، وهناك قول آخر لا ينافي العقيدة الإسلامية وهو مقبول وإن كان مرجوحا من حيث التفسير، لأن السياق لا يناسبه.
قالوا: إن المراد بهؤلاء المذكورين في الآية هم الذين آمنوا بشريعة موسى وعيسى عليهما السلام غير المحرفة وعملوا بها وداموا عليها إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتبعوه كما قال تعالى { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ }القصص، وكما قال تعالى { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) } المائدة
اختاره التحرير والبقاعي والسامرائي ومحمد رشيد رضا ، وكذا أبو زهرة[20]
وهذا القول ـ وإن كنا لا نختاره ولم يختره جمهور العلماء ـ إلا أنه مقبول ، لكن القول غير المقبول هو القول الذي لم يقل به أحد قبل هذا القرن الذي نحن فيه ، وهو أن الآية في المشركين المثلثين من النصارى والكفار من اليهود ولو لم يؤمنوا بأركان الإيمان، ولو لم يؤمنوا بيوم القيامة كما جاء تفصيله في القرآن، ولو لم يؤمنوا بجميع الأنبياء ،وبعضهم يقول يكفي أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه ولو لم يتبع شرعه.
وهذه أقوال لم يقل بها أحد من علماء المسلمين ؛لأن هذا مخالف للقواطع القرآنية وأقربها ما ذكر في سورة آل عمران: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) } كما سيأتي تفصيل شرحها ، ونحن إذا لم نفهم القرآن كاملا بجميع نصوصه نكون ممن في قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه ـ على فرض التسليم أن هذا مما يتشابه ـ ممن ذكرتهم سورة آل عمران في أولها في قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}.
وهناك كلام للإمام الرازي يكتب بماء الذهب قال فيه عند تفسير قوله تعالى { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية (سورة البقرة: 177):
" فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ صِفَةَ الْبِرِّ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ مَجْمُوعِ أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم:
بِالتَّجْسِيمِ وَلِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَأَمَّا النَّصَارَى، فَقَوْلُهُمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْبُخْلِ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهَذَا الْإِيمَانِ حيث قالوا: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا ذَلِكَ حَيْثُ أَظْهَرُوا عَدَاوَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَابِعُهَا: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّهِ رَدُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: 85] وَخَامِسُهَا: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِذَلِكَ حَيْثُ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الْبَقَرَةِ: 61] وَحَيْثُ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَادِسُهَا: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ الله سبحانه واليهود وأخلوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُلْقُونَ الشُّبُهَاتِ لِطَلَبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ كما قال وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 187] وَسَابِعُهَا: إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتُ وَالْيَهُودُ كَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْهَا وَثَامِنُهَا: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوا العهد حيث قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ "[21]
وأرجو العذر من القارئ في الإطالة في هذه الآية ، لأني اضطررت إليه لكثرة ما يستدل بها من حرف القرآن عامدا أو غير عامد، ولنعد إلى تفسير الآية التي بحثنا فيه أصالة .
**********
[h=2]المسألة السابعة عشرة : معنى العمل الصالح في آية { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا (62)}:[/h]1) أولا : إذا نحن تتبعنا الآيات التي فيها (عمل صالحا ) وجدناها اشترط فيها واقترن بها الإيمان والإسلام أو أن يكون صالحا يرضاه الله ، أو الإيمان مع التنصيص على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وإلا فلا تنفع الأعمال :
قال تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) }(النحل: 97).
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}(الكهف:88).
{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)}(مريم: 60) .
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(طه: 82).
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)}(القصص:80) .
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ}(سبأ : 37) .
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}(غافر:80).
{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} (التغابن:9).
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (فصلت: 33).
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} (الحديد:11) ذكر في الآية الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن والإيمان بالله تعالى
2) ثانيا : ذكر العمل الصالح في مقابل كفر الكفار بالرسل وما أنزل إليهم من ربهم، فالكفر بالرسل وما أنزل عليهم مضاد مناقض للعمل الصالح لا يجتمع معه،فلا يمكن أن يكون الشرك والكفر بالأنبياء من العمل الصالح، ويوضح هذا الآيات الآتية:
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
هنا ذكر الذين كفروا في مقابل الذين أورثهم الكتاب فآمنوا وانقسموا إلى ثلاثة أقسام ، فهؤلاء الذين كفروا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى وهو القرآن في النار ـ يصطرخون ويتمنون أن يعملوا صالحا مخالفا تماما للذي عملوا ، ويدخل فيه دخولا أوليا إيمانهم بالله والرسول صلى الله عليه وسلم {وجاءكم النذير}والآيات واضحة كرابعة النهار .
**********
{ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شئنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}.
ذكر هنا الذين يتمنون الرجوع ليعملوا العمل الصالح المقابل لكفرهم وشركهم وإنكارهم البعث ، والصابئة كما رأينا لا يؤمنون بالبعث ، والنصارى واليهود لا يؤمنون به على الوجه الذي أراده الله كما سبق.
**********
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}
فالتائب المؤمن الذي عمل صالحا عسى ويرجى أن يكون من المفلحين يبقى على جناح الخوف فما ظنك بالذين اتخذوا عيسى شريكا لله وعزيرا وكفروا به سبحانه، ووصفوه ووصفوا رسله بما لا يليق.
**********
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71}
يقابل من يعمل صالحا الذين يدعون مع الله إلها آخر كالنصارى والصابئة واليهود الذين انحرفوا عبر التاريخ .
**********
{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
هذه الآيات لا تترك مجالا لامتراء ممتر فهي تنفي عن الله سبحانه الولد وتقول : سبحانه أي تنزه تنزها تاما عما يصفون ، والوصف في اصطلاح القرآن كل وصف باطل كاذب غير صحيح ، ثم بينت أنهم سينزل بهم عذاب وأمر الرسول عليه السلام والمسلمون من بعده أن يدعوا الله سبحانه أن لا يجعلهم معهم ، ثم هؤلاء يستمرون على باطلهم وكفرهم واتخاذ الولد إلى أن يأتيهم الموت فهناك يقول رب ارجعني لعلي أعمل صالحا فالصالح هو المقابل لما كانوا عليه من اتخاذ الولد والكفر .
**********
وهناك آية أخرى أيضا تحسم الأمر تماما وهي أول آية ورد فيها ذكر الصالحات وهي:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
فبعد أن بين القرآن عظمة القرآن وقسم الناس بالنسبة للتعامل معه إلى مؤمن وكافر ومنافق دعا جميع الناس إلى الإيمان ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله إن كانوا في ريب مما نزل الله سبحانه على عبده من القرآن ، ثم بين جزاء الكافر بالرسول والقرآن بأن له النار التي وقودها الناس والحجارة وقابل ذلك بالذين آمنوا وعملوا الصالحات فهؤلاء هم الذين لهم الجنة ، المؤمنون الموحدون الذين لا يكفرون ولا يشركون.
3) ثالثا : قد بين لنا علماء الإسلام قاطبة في كل العصور أن العمل الصالح هو الذي يبنى على الإيمان وأن ما عداه سيصير يوم القيامة هباء منثورا فقد قال الإمام البيضاوي في تفسير أول آية ورد فيها ذكر الأعمال الصالحة وهي: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 25]
"و{ الصالحات } جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة ، وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه ، وتأنيثها على تأويل الخصلة ، أو الخلة ، واللام فيها للجنس ، وعطف العمل على الإيمان مرتبا للحكم عليهما إشعارا بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين ، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أس ، والعمل الصالح كالبناء عليه ، ولا غناء بأس لا بناء عليه ، ولذلك قلما ذكرا منفردين "[22].
وقال أبو السعود :" { وَعَمِلُواْ الصالحات } الصالحة كالحسنة في الجريان مَجرى الاسم ، وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقلِ "[23].
4) رابعا : قد نص القرآن في آيات لا تحصى والنبي صلى الله عليه وسلم أن الشرك من أعظم الجرائم والذنوب التي لا يغفرها الله سبحانه بل توبق وتهلك وليست من الأعمال الصالحة ، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) }سورة النساء، أي إن الإنسان إذا مات على الشرك فلا يغفر له أما في حياته فيغفر إن تاب، وقال تعالى: { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) }سورة الحج، والحنيف مأخوذ من الحنف وهو الميل ، ومعناه المائل عن كل دين باطل التارك له ذاهبا إلى التوحيد ، وكل من النصارى والصابئة واليهود ليسوا كذلك ، وفي صحيح البخاري: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» وفي صحيح مسلم : { قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»}[24]
وفي البخاري: { قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي} بل جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات: ففي البخاري: { عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»}[25] .
5) خامسا : قد بين لنا النبي صلى عليه وسلم ضابط العمل الصالح بقول عليه الصلاة والسلام { «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[26] .
قال الإمام النووي: " وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ الرَّدُّ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْدُودِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي رَدِّ كُلِّ الْبِدَعِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ يُعَانِدُ بَعْضُ الْفَاعِلِينَ فِي بِدْعَةٍ سَبَقَ إِلَيْهَا فَإِذَا احْتُجَّ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُولُ أَنَا مَا أَحْدَثْتُ شَيْئًا فَيُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِرَدِّ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ سَوَاءٌ أَحْدَثَهَا الْفَاعِلُ أَوْ سُبِقَ بِإِحْدَاثِهَا"[27].
فانظر كيف دل الحديث على رد ما أحدثه أهل البدع فما ظنك بما عليه أهل الكفر من اليهود والنصارى والصابئة .
[h=2]المسألة السابعة عشرة : إعراب (من) في {من آمن بالله واليوم الآخر}:[/h]في (من) وجهان:
1) إما أن تكون شرطية : في محل رفع مبتدأ خبره «فلهم أجرهم » والجملة خبر (إنَّ)
2) وإما أن تكون موصولة : في محل نصب بدل من { الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} وخبر إنَّ { فلهم أجرهم عند ربهم } والفاء زائدة : أفادت تأكيد الوعيد ، وأعطت الكلام معنى الشرط فكل من يؤمن ويعمل صالحا قطعا وحتما له أجره عند ربه ، فتضمن { مَنْ } معنى الشرط اختاره: أبو حيان .
· سر حذف العائد للمبدل منه [28]{ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي من آمن منهم :
3) قال البقاعي في المائدة: { من آمن } أي منهم مخلصاً من قلبه ، ولعله ترك الجار إعراقاً في التعميم اهـ أي مبالغة في التعميم وهذا مناسب لسياق الترغيب في التوبة والدخول في الإسلام ،فأي أحد كائنا من كان إن حقق شروط الإيمان فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
[h=2]المسألة الثامنة عشرة : معنى {فلهم أجرهم عند ربهم}:[/h]· سر إفراد الضمير في { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا}:
لما كان الإفراد أدل على تخصيص كل واحد بما له ، وأيضا لأن كل عامل يعمل لنفسه ، فكل منهم منظور لعمله الانفرادي ، ومسؤول عن نفسه ـ أفرد الضمائر في { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا} مراعاة للفظ (من) ، ولما كان الجمع أدل على إرادة العموم ، بحيث يحكم على جميعهم وأقطع للتعنت جمع الضمائر في { فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}مراعاة لمعنى (من).
· قدم (لهم ) تعجيلا للبشارة اهتماما بها وتشويقا للمؤخر .
· (أجرهم) : ثوابهم الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة سمى ما وعدهم أجرا مع أن الأجر أصالة ما كان عن اتفاق ومقابل عمل مع أن الأجر منه سبحانه كرم منه لما أنه الخلود في مقابل عمل سنوات قلائل ـ تأكيدا لحصوله وتطيبا واعتناء بعملهم الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان .
· (عند ربهم ) : كائناً عند ربهم[29]" " لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ فهو محفوظ لا يخشى عليه نسيان ولا يتوجه إليه تلف وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف فـ(عند): مستعملة في تحقيق الوعد وللتشريف كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا .
(ربهم): في إضافة ضميرهم إلى الرب مزيدُ لُطفٍ بهم، وإيذانٌ بأن أجرَهم مُتَيقَّنُ الثبوت مأمونُ الفَوات.
· فـ(عند): دلت على أن الأجر لا يضيع والإضافة لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققاً ؛لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده.
[h=2]المسألة التاسعة عشرة : معنى{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}:[/h]· الخوف: الفزع من المستقبل، و اضطراب النفس من توقع شيء ضارّ.
· الحزن: ضد السرور وهو مأخوذٌ من الحَزْن وهو: ما غَلُظَ من الأرض، فكأنه ما غَلُظ من الهمِّ ، ولا يكون إلا على أمر ماض .
· { فلا خوف عليهم}: المعنى لا خوف عليهم فضلاً عن أن يحل بهم مكروه أي لا يُخاف عليهم من خائف ما ، جعل نفي الخوف كناية عن نفي العقاب ونفي حصولِِ هول من اهوال القيامة ، فالمنفي خوف حلول المكروه في الآخرة.
· العدول عن (لا خوف لهم أو عندهم) إلى (لا خوف عليهم) للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم[30].
· { ولا هم يحزنون}: على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها أو على شيء فات بل هم في أعظم السرور بما لهم من العز والكرامة مما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده، لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب مما كانت حاصلة لهم في الدنيا ، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن، فنفي الحزن كناية عن تحصيل أعظم الثواب ، أي ينالهم من الثواب والكرامة ما ينسون معه مافقدوه في الدنيا ، وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة ، والمراد بيان دوام الانتفاء .
· والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو { لا خوف عليهم } لإفادة نفي جنس الخوف نفياً قاراً ، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات، وبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي لبيان انتفاء جنس الخوف قليله وكثيره .
· ورُفع خوفٌ في نفي الجنس دون أن يأتي به مبنيا كما هو شأن اسم (لا) النافية للجنس[31]، إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى : { لا بيع فيه ولا خلة } [ البقرة : 254 ] ، ومنه ما في حديث أم زرع : « لا حَرٌ ولا قرٌ ولا مَخَافَةٌ ولا سَآمَةٌ ».
· والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو { يحزنون }لأن شأن الحزن أن يتجدد فعبر بالاسمية التي خبرها فعل ، أي ثابت لهم عدم تجدد حزنهم في وقت من الأوقات ، و لإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين فإنهم يحزنون .
· وقدم عدم الخوف على عدم الحزن ، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي [32] .
· قوله تعالى { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} ضد ما للمعتدين من الذل والمسكنة.

وبما سبق بحمد الله تعالى نكون قد فسرنا آية سورة البقرة ، ومن المعلوم أن هذه الآية تكررت ثلاث مرات، في سورة البقرة ، والمرة الثانية في المائدة:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}، والمرة الثالثة وردت في سورة الحج:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) وآية المائدة موضوعها ومناسبتها توافق سورة البقرة ، بخلاف سورة الحج فهي مفاصلة ووعيد للفرق الضالة ، وما يقال في سورة البقرة يقال في آيتي المائدة والحج، ولكن يبقى أمور لم تذكر في تفسير آية سورة البقرة، وهي المسألة التاسعة عشرة .
[h=2]المسألة العشرون : مناسبة آية سورة المائدة وآية سورة الحج لما قبلهما:[/h][h=3] أولا: مناسبة آية المائدة لما قبلها :[/h] { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) }(المائدة:69).
القول الأول: وهو الأصح
في الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة ، أشار سبحانه إلى استعلاء اليهود والنصارى وجرائمهم وكفرهم وعداوتهم للإسلام و شدة عناد اليهود والنصارى ، وأنهم مردوا على الجحود ، وتمرنوا على البهت ، وعتوا عن أوامر الله ،و ذكرت المنافقين وأفعالهم وأقوالهم الفاسدة ، وختمت بأن اهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا استجابة للبشارات التي في كتبهم ، فكان ذلك موجباً أن يخطر في بال القارئ والسامع، وأهل الكفر السامعين للقرآن أنه إن آمن منهم أحد لا يقبل ، فأخبر سبحانه أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل ، وأن هذا الحكم عام في الكل ، فمهما كانت ملتهم السابقة فالباب مفتوح لهم في الدخول في هذا الدين، والإسلام يـَجُبُّ ما قبله ، وأنه ليس على الإنسان ليكون من أهله إلا أن يؤمن بأركان الإيمان لا سيما الإيمان بالله الواحد ، ويوم القيامة الذي يكرم الله فيه المؤمنين ويعذب الكافرين ، وما يستلزم ذلك من خشية وخوف من الله ، وأن يعمل صالحا على حسب ما فصل في القرآن تصديقا لإيمانه ، وهذا يستلزم الإيمان بجميع الرسل وأولهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كما دعت سورة المائدة ، والإيمان بجميع الكتب وأولها القرآن كما فصل في سورة المائدة وفي القرآن .
فالعبرة في النجاة الشروط السابقة ، فالمؤمنون ظاهرا أو ظاهرا وباطنا ، واليهود والنصارى والصابئون جميعا في النجاة سواء ، إذا حققوا شروط الإيمان السابقة على ما أتى به القرآن ، لا فرق بين يهودي ونصراني ،وعبدة للكواكب ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولا ينظر في ذلك إلى سابق ما كانوا يتدينون ولا إلى ما كانوا ينتحلون من نحل، ، فهذا النص الكريم يفتح أيضا باب الرجاء ويقرب التوبة ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فيها بيان أن ادعاء الإيمان بدون إيمان حقيقي بالله واليوم الآخر وبدون عمل، لا يجدي كما يفعل كثير من المسلمين بأن يدعوا الإيمان بدون إيمان حقيقي وبدون عمل بمقتضى ذلك، [33] .[34].
) المناسبة الثانية : لما بين لأهل الكتاب أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ، وذلك بالإيمان بالله الواحد والرسول محمد الموجود ذكره في كتبهم والإيمان باليوم الآخر ، وكان هذا قد يفسر على غير وجهه،بأن يفهم أنهم لهم أن يثبتوا على ما كانوا عليه قبل الإسلام ، بين الله تعالى بعد تلك الحجة أصول الدين المقصودة من إقامة كتبهم وأخبرهم عن الحق في نفسه بأنه الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر على حسب ما فصل في القرآن ، ويستلزم ذلك الإيمان بجميع كتبه ورسله كما سيأتي ، فمن فعل ذلك مهما كانت ملته السابقة فهو الفائز الذي لا خوف عليه[35] .
[h=3]ثانيا : مناسبة آية سورة الحج لما قبلها :[/h]{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
مقصود سورة الحج: الحث على التقوى و استجاشة مشاعر التقوى في القلوب وهي الهدف المقصود، واسمها الحج دال على مقصودها.
[h=3]العلاقة بين الآية الكريمة والتي قبلها :[/h]1. المناسبة الأولى : ذكر القرآن الدلائل الداعية إلى الدخول في الإسلام والخضوع لله سبحانه ومع ذلك بقيت فرق لا تقبل الحق، فبين سبحانه أنه سيحكم ويفصل يوم القيامة بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه ، إذ لم تفدهم الحجج في الدنيا، وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى تفويض أمرهم لله والتهديد ، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه ، لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق .
2. وأيضا بعد ما ذكر في الآيات السابقة اختلاف الناس واختصامهم في الله سبحانه بيْنَ تابعٍ ضالٍ يجادل في الله بغير علم ، ومتبوعٍ مضل ٍيجادل في الله بغير علم ، ومذبذبٍ يعبد الله على حرف ، والذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات بينت هذه الآية أن الله سبحانه سيفصل بين جميع الفرق هؤلاء ، والمجوس والصابئة والذين هادوا والنصارى .
وبيان ذلك بتفصيل:

  1. { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) } ثم استدل على الوحدانية فقال { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ـ }[36] ورغب في الإيمان بدخول الجنة ورهب من الكفر، ومع ذلك كله من الناس من يكفر، وهؤلاء قسمان: 1) كافر معاند مجادل يجادل في الله بغير علم ولا هدى ليضل 2) ، ومنافق مذبذب إن اصابه خير اطمأن به، و أن أصابته فتنة انقلب على وجهه ذاهبا إلى الأصنام ساخطا عدم راض بقضاء الله ، مع أن الله ناصر دينه في الدنيا ، و يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات في الآخرة ، فبعد هذا البيان الواضح والترغيب والترهيب والاستدلال الذي يقتضي الإيمان والهدى لمن فتح الله قلبه، لا يعذر من يستمر على كفره و باطله من الفرق المختلفة ، فأمرها إلى الله يوم القيامة وهو العليم بكل ما في عقائدها وضلالها ، وشهيد عليهم وسيفصل بينهم يوم القيامة ، وهم في الدنيا خاضعون مقهورون له ساجدون في لعظمته وكبريائه حقيقة وفي نفس الأمر ، وإن كان بعضهم يأبى عن السجود له ظاهرا في الدنيا ، وهم الذين حق عليهم العذاب ،فلذلك ذكر سبحانه بعدها :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}الحج ، ففي آية { ألم تر أن الله يسجد له }:
أ) بيان من الله تعالى لخضوع الناس جميعا والكون كله لإرادته سبحانه ، فإذا كان في الناس فرق ضالة انحرفت كاليهود والنصارى والمجوس بتفكيرهم ونزعاتهم وميولهم ، فإن الكون كله خاضع لله منقاد يتجه بفطرته إلى خالقه ، يخضع لناموسه ، ويسجد لوجهه .

  1. وفيها بيان قدرة الله تعالى على هذا الفصل بين الفرق والاطلاع عليها، فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية ، بعد أن بين ما يُوجب الفصل من كونِه تعالى شهيداً على جميع الأشياء التي من جُملتها أحوالُهم وأفعالُهم.

  1. مع الإشارةِ إلى كيفية الفصل، وكونه بطريقِ التَّعذيبِ والإثابة والإكرام والإهانة ولذلك ختمها سبحانه بـ{ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
د) وفي تلك الدلائل شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه .
2) المناسبة الثانية : لما ذكر قبل { وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}
أ) عقب بيان أنه أعلم بالمهتدين والضالين ، وعليه حساب الجميع ، والأمر إليه في النهاية ، وهو على كل شيء شهيد{ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} .
ب) ولما كان ذلك موجباً للسؤال ، عن حال الفريقين : أخبر الله تعالى عن فعله بالفرق المذكورين المهدي والضال ، أجاب عن ذلك ببيان جميع فرق الضلال ، لأن لهذه السورة أتم نظر إلى يوم الجمع ، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة .
[h=2]المسألة الحادية والعشرون : تلخيص أقوال العلماء في سورة المائدة :[/h][h=3]القول الأول:[/h]قالوا المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بالله الواحد والرسول محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الأُمة هم أهل الإسلام وصدقوا بكل ما جاء نبينا محمد وثبتوا على إيمانهم، وآمنوا باليوم الآخر على ما حسب ما ذكره القرآن، وأما في حق اليهود والنصارى والصابئين ، فالمراد من أحدث الإيمان ودخل في الإسلام ودخل فيه بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وآمن بجميع أركان الإيمان كما ، ثم نفى عنهم الخوف فلا خوف عليهم بما كان منهم في حال كفرهم كقوله تعالى : { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }، ولا حزن لهم بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
اختاره: الطبري[37] وابن عطية والثعالبي [38] وابن كثير[39] وابن عاشور[40] والسعدي وأبو زهرة [41] وسيد قطب والميرغني والهواري و الماتريدي و ابن أبي زمنين و الأعقم و ابن عجيبة[42].وأجازه الزمخشري [43]
[h=3]القول الثاني:[/h]قالوا المراد بالذين آمنوا المنافقون في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، فالمراد بالإيمان على طريق المجاز والتسّمية دون الحكم والحقيقة ، فكأنه قال : إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين، فقرنهم باليهود لنفاقهم ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم ، فقال سبحانه: { من آمن } أي من حقق وأخلص من المنافقين، و دخل في الإيمان من النصارى والذين هادوا والصابئين بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وآمن باليوم الآخر كما ورد في القرآن الكريم وحقق شروط الإيمان قالوا ويدل على هذا الاختيار قوله " لايحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم "
اختاره : سفيان الثوري و الزجاج وأبو السعود والبقاعي[44] و السمعاني و النسفي والخازن[45] ، والطبرسي والنيسابوري والشوكاني واطفيش وحسنين مخلوف والشعراوي و الطوسي وصديق حسن خان ومكي و النسفي والبغوي وأجازه الزمخشري ورده أبو زهرة [46]
[h=3]القول الثالث: الجمع بين القولين السابقين[/h]قال الآلوسي :" واختار القاضي[47] أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه وسلم مخلصين كانوا أو منافقين"، فالمراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام المخلِصين منهم والمنافقين ، فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمَعادِ على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف"
[h=3]القول الرابع: أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، و بالنصارى والذين هادوا والصابئين من كان منهم مؤمنا في فترة من الفترات قبل أن ينسخ شرع كل منهم[/h]قاله مقاتل وشحاته [48] واطفيش ورده أبو السعود .
قال مقاتل : "قوله سبحانه : { إن الذين آمنوا } ، يعني الذين صدقوا ، { والذين هادوا } ، يعني ـ ـ { من آمن } من هؤلاء { بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } ، وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فله الجنة ، ومن بقي منهم إلى أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا إيمان له ، إلا أن يصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فمن صدق بالله عز وجل أنه واحد لا شريك له ، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، { فلا خوف عليهم } من العذاب ، { ولا هم يحزنون } من الموت"[49] .
رده أبو السعود قائلا:" وأما ما قيل : المعنى من كان منهم في دينه قبل أن يُنسَخَ مصدِّقاً بقلبه بالمبدأ أو المعاد عاملاً بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلاً كما مر تفصيله في سورة البقرة".
[h=2]المسألة الثانية والعشرون : تفسير آية سورة الحج مع ذكر أقوال العلماء:[/h]{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}سورة الحج
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا:
[h=3]القول الأول:اختاره: قتادة أبو السعود ، وسيد طنطاوي، والطبري و الطوسي و الطبرسي القرطبي و اطفيش التيسير والسمرقندي والثعلبي وابن عطية وأبو زهرة.[/h] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هذه الفرقة الأولى ، وهي: فرقة الذين آمنوا بالله بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن فيدخلُ فيه دخولا أوليا الإيمان بوحدانيته ورسله لا سيما النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه واتبعوه وآمنوا بما ذُكر من الآياتِ البيِّناتِ في قوله تعالى{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)} وابتدأ القرآن بهم ، للإشعار بأن دين الإسلام هو الدين الحق
[h=3]القول الثاني:[/h]قال البقاعي : { إن الذين ءامنوا } أي من أيّ فرقة كانوا ، وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان ، الذي هو أدنى وجوه الإيمان
***********
وَالْمَجُوسَ
المجوس[50] وكلمة مجوس من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس" الفارسية، التي تعني "عابد النار"، وهم عبدة النار وهم أهل فارس ، وجوهر دينهم يقوم على ثنائية تجسد المبدأين المتضادين مبدأ الخير ومبدأ الشر، أو مبدأي النور والظلام وهم يثبتون إلهين إلهاً للخير ، وإلهاً للشرّ الإله الأول: ( يَزدَان ) أو ( أهُورَا مَزْدَا ) أو رمازد" أو ( هرمز )وهو إله الخير، والإله الثاني: ( أهْرُمُن ) (أهريمان)وهو إله الظلمة وهو مطبوع على الشرّ والضرّ، ويحدث بين ( أهْرُمن ) وبين ( يزدان ) خلاف ومحاربة إلى الأبد ، والمبدآن الخير والشر مبدآن يتصفان بقوى مبدعة خالقة، ثمّ نشأت على هذا الدّين نحل خُصّت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة (زَرَادِشْت)[51] الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح ، وبه اشتهرت المجوسية ، ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النّور.
ووسّع شريعة المجوسية ، ووضع لها كتاباً سمّاه « زَندافستا » أو "الأفستا"، وهو من أقدم الكتب الأدبية في بلاد فارس، وهو مجموعة أقوال قديمة تعزى إلى زرادشت، وتراتيل دينية ترتل عند تقديم الذبائح وصلوات وشرائع كهنوتية وطقوس عبادة ، ومن أصول شريعته تجنّب عبادة التماثيل، والزرادشتية تتصور الحياة أنها صراع دائم بين قوة الخير وقوة الشر، قوة الخير وقوة الشروأما النصر النهائي فلمبدأ الخير، وواجب المؤمن الديني والخلقي أن يقوم بكل عمل من شأنه مساعدة قوة الخير؛ لكي تنتصر على قوة الشر، وجميع أفكار الإنسان وأعماله وأقواله مكتوبة في سجل الحياة؛ لتقابل يومًا بأعماله الشريرة وبخطاياه التي لا يمكن الإغضاء عنها أو منحه المغفرة عن واحدة منه.
ثم ظهرت في المجوس نِحلة « المَانوية » ، وهي المنسوبة إلى ( مَاني ) الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة 238 وسنة 271م . وظهرت في المجوس نحلة ( المزدكية ) ، وهي منسوبة إلى ( مَزدك ) الذي ظهر في زمن قُباذ بين سنة 487 وسنة 523م . وهي نحلة قريبة من ( المانوية ) ، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسيّة قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس ، وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار ، وبأن لها كتاباً ، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم : " سُنوا بهم سنة أهل الكتاب " أي في جواز أخذ الجزية منهم ، وهم ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناما كالوثنية ، ويقدسون البسائط العنصرية وخاصة النار وكانت لهم بيوت نيران بإيران والصين والهند وغيرها.
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
[h=3]القول الأول:[/h]المشهور أنهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب ومن غيرهم
الآلوسي والطوسي وابن جزي وأبو السعود والسمرقندي وابن أبي زمنين والبغوي والشوكاني
[h=3]القول الثاني: [/h]ما يعم الذين عبدوا الأوثان والأصنام وسائر من عبد مع الله تعالى إلهاً آخر من ملك وكوكب وغيرهما ممن لم يشتهر باسم خاص كالصابئة والمجوس
أبو زهرة [52] والبقاعي[53] ودروزة
إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يفصل بينهم : الفَصْلُ في أصل اللغة: إبانة أحد الشّيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة ، والمراد ، يَفْصِلُ بينهم بالحكم والقضاء بالعدل فيما اختلف فيه أصحاب هذه الفرق فينفصل المحق منهم ويتميز من المبطل انفصالا وتميزا تاما
معنى الفصل بينهم:
1) القول الأول: قالوا: فصله بينهم إدخاله لجميع الأحزاب الكافرة كاليهود والنصارى النار وإدخال المؤمنين الجنة فذلك هو الفصل من الله بينهم.
الطبري، الطبرسي وابن الجوزي وأبو حيان و ابن كثير
2) القول الثاني: بإظهار المحق من المبطل وتوفية كل منهما حقه من الجزاء بإثابة المؤمنين وعقاب الفرق الآخرين بحسب استحقاق أفراد كل منهما ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها.
اختاره أبو السعود و البقاعي والآلوسي و الطباطبائي والسعدي أبو زهرة وهو الحق
الإعراب :
قوله تعالى : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } في محل رفع خبرٌ لإنَّ السَّابقةِ، وحسن إعادة (إنَّ) في { إن الله يفصل} لطول الفصل بين اسم ( إن ) وخبرها ، مع إرادة تأكيد وتحقيق الوعيدِ وتقدم منه قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } في [ سورة الكهف : 30 ] ونحوه قول جرير :
إنَّ الْخَلِيفَةَ إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَه *** سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
تعليل لما قبله من الفصل أي عالمٌ بكلِّ شيءٍ من الأشياء ومراقبٌ لأحواله ومن قضيَّتِه الإحاطةُ بتفاصيل ما صدرَ عن كلِّ فردٍ من أفراد الفرق المذكورةِ ، وإجراءُ جزائه اللاَّئقِ به فالمراد أنه يفصل بينهم ، وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف ، والتعدية بـ "على" إشارة إلى معنى الرقابة عليهم ، والإحاطة بهم .
الكلام على هذه الفرق: قال الإمام الرازي رحمه الله :
"واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة :
أحدها: الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها .
وثانيها: الذين يخالفونه في النبوة ولكن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى وموسى عليهما السلام .
وثالثها: الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق ، والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم ، والفلاسفة الذين يثبتون مؤثرا موجبا لا مختارا . فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة ، ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها . وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العالم المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بل يكونون مستترين ، أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام ، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار ، إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء ، أو لا يكونوا معترفين بذلك ، فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا في الحقيقة أو لمن كان متنبئا ، أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى ، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون ، وأما أتباع المتنبئ فهم المجوس ، وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان ، وهم المسمون بالمشركين ، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم . فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان"[54].
قال ابن القيم هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى:
"وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْثَ سيدنا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ قَدْ طَبَقُوا الْأَرْضَ: يَهُودُ، وَنَصَارَى، وَمَجُوسٌ، وَصَابِئُونَ، وَمُشْرِكُونَ.
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ قَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ مَشَارِقِهَا إِلَى مَغَارِبِهَا.
فَأَمَّا الْيَهُودُ فَأَكْثَرُ مَا كَانُوا بِالْيَمَنِ وَخَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَكَانُوا بِأَطْرَافِ الشَّامِ مُسْتَذَلِّينَ مَعَ النَّصَارَى، وَكَانَ مِنْهُمْ بِأَرْضِ فَارِسَ مُسْتَذَلَّةٌ مَعَ الْمَجُوسِ، وَكَانَ مِنْهُمْ بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ فِرْقَةٌ، وَأَعَزُّ مَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَمَا حَوْلَهَا، وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا وَسَلَبَهُمُ الْمُلْكَ وَالْعِزَّ..
وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا طَبَقَ الْأَرْضِ: فَكَانَتِ الشَّامُ كُلُّهَا نَصَارَى، وَأَرْضُ الْمَغْرِبِ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى، وَكَذَلِكَ أَرْضُ مِصْرَ وَالْحَبَشَةِ وَالنُّوبَةِ[55] وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَأَرْضُ نَجْرَانَ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَاد.ِ.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَهُمْ أَهْلُ مَمْلَكَةِ فَارِسَ وَمَا اتَّصَلَ بِهَ..
وَأَمَّا الصَّابِئَةُ فَأَهْلُ حَرَّانَ وَكَثِيرٌ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ.
وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ جَمِيعُهَا وَبِلَادُ الْهِنْدِ وَبِلَادُ التُّرْكِ وَمَا جَاوَرَهَا
وَأَدْيَانُ أَهْلِ الْأَرْضِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْخَمْسَةِ، وَدِينُ الْحُنَفَاءِ لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ الْبَتَّةَ. وَهَذِهِ الْأَدْيَانُ الْخَمْسَةُ كُلُّهَا لِلشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ: الْأَدْيَانُ سِتَّةٌ: وَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ وَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ"[56].
***********
[h=2]المسألة الثالثة والعشرون: الإعراب في المائدة والصابئون:[/h]وفي رفعةِ أربعة أقوال:
[h=3]القول الأول: في الآية تقديم وتأخير،[/h]وأنه من المقدم الذي معناه التأخير ، وأنه مرفوع بالابتداء وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه ، والنيةُ به التأخيرُ ،و المعنى : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم والصابئون والنصارى كذلك أيضا . ونحوه : " إن زيداً وعمروٌ قائمٌ " أي : إنَّ زيداً قائم وعمرو قائم ، فإذا فَعَلْنا ذلك فالحذفُ من الثاني لدلالة الأول نحو: . . . . . . . . . . . ***
فإني وقَيَّار بها لَغَريبُالتقدير : وقيارٌ بها كذلك [57].
وقوله : وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاقأي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك
وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة : الخليل وسيبويه وأتباعِهما ، وقدره كذلك على مذهب البصريين ابن الأنباري[58] وخالد الأزهري[59] والصبان[60] وابن مالك في التسهيل[61] وابن يعيش[62] وأبو حيان[63] والسيرافي[64] وابن الشجري [65]والطبرسي[66] وابن عطية وابن الجوزي والشوكاني [67]وقرره كذلك ابن أبي زمنين .
[h=3] القول الثاني: مثل السابق لكن جعلوا الخبر المحذوف فقط لـ(الصابئون) [/h]فـ{والصابئون} رفع على الابتداء وخبره محذوف ، والنية به التأخير عما في حيز إنَّ من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك:
اختاره: الزمخشري[68] ، والبيضاوي، والغلاييني[69] ، وأبو علي الفارسي، و البيضاوي وأبو السعود وابن جزي و وحقي البورسوي والشربيني ونسبه السمعاني والبغوي و الخازن والرازي[70] والنسفي لسيبويه .
[h=3]القول الثالث: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم " إنَّ "[/h]لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء ، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته ، غايةُ ما في الباب أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً ، وفي الجملة فكثير من العلماء قد رَدُّوا هذا المذهبَ ، أعني جوازَ الرفعِ عطفاً على محلِّ اسم " إنَّ " مطلقاً ، أعني قبلَ الخبرِ وبعده ، خَفِي إعرابُ الاسمِ أو ظهر وفي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ :
أ) مذهبُ البصريين : المنعُ مطلقاً .
ب) ومذهبُ ابن مالك ، التفصيل قبل الخبر فيمتنع ، وبعده قال في الألفية :
وجائزٌ رفعُك معطوفًا على ... منصوبِ إنَّ بعدَ أن تستكملا
ت) مذهب الكسائي : وهو الجوازُ مطلقاً ويَسْتدل بظواهرِ قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ } الآية ، وهذا رجحه أبو زهرة والنحو الوافي .
ومذهب الفراء واختاره الرازي و السمرقندي[71] والثعلبي ، و انتصر له عباس حسن في النحو الوافي والسامرائي في معاني النحو، ورده الزمخشري[72] والبيضاوي[73] وأبو السعود والزجاج[74].
ث) : إنْ خَفِي إعرابُ الاسم جاز ذلك لزوال الكراهية اللفظية ، وحُكِي من كلامهم : " إنك وزيدٌ ذاهبان "[75]
قال الإمام الرازي: وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين ، لأن الذي قالوه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح ، وإنما تحصل الصحة عند تفكيك هذا النظم ، وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه ، فكان ذلك أولى .
ومثل هذا قول الشاعر( وهو ضابئ البرجمي):
فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه *** فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ
وبقوله :
يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ *** حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ
وبقوله :
وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ *** بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ. .

وبقولهم : " إنك وزيدٌ ذاهبان " وكلُّ هذه تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً ، فكان حقه والصابئين وإنما رفعه عطفاً على الذين قبل دخول إنّ فلا يحدث معنى كما تقول : زيد قائم ، وإن زيداً قائم معناها واحد.
القول الرابع: اختاره: ابن عاشور[76]،و سيد طنطاوي واطفيش - الهميان واطفيش – التيسير وصلاح الخالدي[77] و الجلال وأجازه سليمان الجمل على الجلالين.
وقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } أي : إيمانا حقا لا نفاقا وخبر إن محذوف تقديره :لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . دل عليه المذكور .
وقوله : { والذين هَادُواْ } مبتدأ مرفوع المحل والواو عطفَ جملة على جملة ، { وَالصَابِئُونَ } : معطوف على الذين هادوا ، فهو مرفوع معطوف على مرفوع المحل، { وَالنَّصَارَى } : معطوف على الذين هادوا وقوله { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } ، خبر عن هذه المبتدآت الثلاثة ، وقوله : { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } بدل من كل منها بدل بعض من كل فهو مخصص ، فكأنه قال : الذين آمنوا من اليهود والنصارى ومن الصابئين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فالأخبار عن اليهود ومن بعدهم بما ذكر مشروط بالإِيمان لا مطلقا[78].
وقريب من هذا القول ما أجازه الشهاب لكن على جعل المراد بـ {الذين آمنوا} المنافقين.
قال الشهاب:" لو صح أنّ المنافقين، واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين، والنصارى أسهل صح تعاطفهما وجعل المذكور خبراً عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأوّلين دليلاً على هذا المعنى"[79].
الراجح عندي في هذه المسألة قول الزمخشري وهو قول الجمهور ، وإليك بيان الأسرار البلاغية فيه :
[h=2]المسألة الرابعة والعشرون: الفائدة البلاغة في رفع الصابئون:[/h]القول الأول: الزمخشري والبيضاوي وأبو زهرة وحقي البورسوي و الخازن والنيسابوري ومحمد رشيد رضا [80] وحسنين مخلوف وابن المنير [81] ، وهم الذين جعلوا "الصابئون" مبتدأ خبره محذوف تقديره "كذلك".
فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم ؟ فالجواب أنه لا بد أن يكون في عدوله عن النصب الذي هو ظاهر السياق إلى الرفع ، معنى قائم بذاته . فما هو ذلك المعنى ؟ فالجواب: أن فائدته التنبيه على أن الصابئين الذين هم أشد إيغالا في الكفر من اليهود والنصارى يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح ، فما الظنّ بغيرهم ، وذلك أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا وأبين هؤلاء المعدودين وأشدّهم غياً فإذا قبلت توبتهم قبلت توبة غيرهم من باب أولى ، فحسن في شرع البلاغة أن ينبه إلى ذلك بتغيير نسق الإعراب ، فمثل هذا التغيير يعد من أفصح الأساليب في مثل هذا التعبير الذي يراد منه التنبيه على مثل هذا الأمر الدقيق، بإخراجه عن إعرابات أمثاله ومجاوراته ، فإذا قلت ( إن زيد وعمرا – وكذا بكر – أو بكر كذلك – قادرون على مناظرة خالد ) لم يكن هذا القول بليغا إلا إذا كان بكر في مظنة العجز عن مناظرة خالد ؛ وأردت أن تنبه عن خطإ هذا الظن ، وعلى كون بكر يقدر على ما يقدر عليه من ذلك زيد وعمرو ، و لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف ؛ لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات، وهذا الصنف من جملتها،والخبر عنها واحد ، وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به ، ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل ، فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها ، فكأنه قيل في الآية الكريمة: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قَبِل الله توبتهم وأزال ذنبهم ، حتى الصابئون مع ظهور ضلالهم فإنهم إن آمنوا تاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح[82] ، ففيه الدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم وتأكيد للكلام من الرفع ، و في توسيط حال الصابئين بين الذين هادوا و النصارى ، وفي تقديم الخبر عن "الصابئون" التّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود ، وأيضا توسط هذا المبتدأ المحذوف الخبر، بين الجزأين ، أدل على الخبر المحذوف من ذكره بعد تقضي الكلام وفي نهايته، فجمع الرفع والتقديم فوائد بلاغية كثيرة ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار.
كما أن الشاعر في قوله وإلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم *** بُغَاةٌ مَا بَقِيْنَا فِي شِقَاقِأي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ،
قدم قوله : ( وأنتم ) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو ( بغاة ) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم ، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً .
ومثل هذا التأكيد يناسب السياق: ففي الآيات السابقة أشار سبحانه إلى استعلاء اليهود والنصارى وجرائمهم وكفرهم وعداوتهم للإسلام و شدة عنادهم، وأنهم مردوا على الجحد ، وتمرنوا على البهت ، وعتوا عن أوامر الله ،و ذكرت المنافقين وأفعالهم وأقوالهم الفاسدة ، وختمت بأن اهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا استجابة للبشارات التي في كتبهم ، فكان ذلك موجباً أن يخطر في بال القارئ والسامع وأهل الكفر السامعين للقرآن أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل ، فأخبر أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل ، وأن هذا الحكم عام في الكل ، فمهما كانت ملتهم السابقة فالباب مفتوح لهم في الدخول في هذا الدين، والإسلام يـَجُبُّ ما قبله حتى الصابئة الذين هم أكفر من اليهود والنصارى تقبل توبتهم ، وأكد الإخبار أنه تقبل توبة المنافقين واليهود والنصارى لأن السياق كان يتحدث عنهم ، مبالغة في دفع توهم عدم قبول توبتهم .
ومثل هذا الأسلوب وهو مغايرة الإعراب لأمر بلاغي معهود مثله في القرآن الكريم فجاء النصب على المدح في قوله تعالى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)} { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، وهذا الرأي في توجيه الآية عندي أرجح الأقوال.
القول الثاني:قالوا : أكد في الذين آمنوا المراد بهم المنافقون وفي اليهود لأن سياق سورة المائدة في ذم المنافقين واليهود وذكر قبائحهم بخلاف الصابئة والنصارى فليس السياق لهم فلم يحتج لتأكيد ، أو يقال : لما كان المقام للترغيب في التوبة ، جعل هؤلاء أي (الصابئون) أو (الصابئون والنصارى) على اختلاف القولين، مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم كمن لا إنكار لقبول توبته ، فيفهم أن غيرهم أولى بذلك .
وهذا القول في السر البلاغي إنما يتأتى على قول الفراء والكسائي أو على قول سيبويه في بعض الاحتمالات اختاره البقاعي وفاضل السامرائي[83] واجازه الآلوسي[84] والشهاب.
قال البقاعي: "فقال سبحانه : { إن الذين آمنوا } أي قالوا : آمنا { والذين هادوا } أي اليهود { والصابئون } أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية { والنصارى } أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام ، ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم في استنزال الروحانيات انهماكاً في السحر الذي جاء نبيهم موسى عليهم السلام بإبطاله ، وكان ذلك هو معنى دين الصابئة ، فرّق بين فريقي بني إسرائيل بهم مكتفياً بهم عن ذكر بقية المشركين لما مضى في البقرة ، ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود بالنقض للميثاق والكفر واللعن والقسوة وتكرر الخيانة وإخفاء الكتاب والمسارعة في الكفر والنفاق والتخصيص بالكفر والظلم والفسق وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع ، كان قبول توبتهم جديراً بالإنكار ، وكانوا هم ينكرون عناداً فلاح العرب من آمن منهم ومن لم يؤمن ، فاقتضى الحال كون الفريقين في حيز التأكيد ، ولم يتقدم للصابئة ذكر هنا أصلا فأخرجوا منه تنبيهاً على أن المقام لا يقتضيه لهم ، فابتدئ بذكرهم اعتراضاً ودل على الخبر عنهم بخبر"[85] إن " ، أو أنه لما كان المقام للترغيب في التوبة ، وجعل هؤلاء مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم كمن لا إنكار لقبول توبته ، كان غيرهم أولى بذلك ، ولما كان حال النصارى مشتبهاً ، جعلوا في حيز الاحتمال للعطف على اليهود لما تقدم من ذمهم ، وعلى الصابئة لخفة حالهم بأنهم مع أن أصل دينهم صحيح لم يبلغ ذمهم السابق في هذه السورة مبلغ ذم اليهود" .
يقول علي هاني: لكن المتتبع لسورة المائدة يجد أن الذم كان للفريقين اليهود والنصارى على السواء .
[h=2]المسألة الخامسة والعشرون : الرد على من يخطئ القرآن الكريم في رفع الصابئون:[/h]قد تجرأ بعض أعداء الإسلام ، على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ! وعدَّ رفع الصابئين هنا من هذا الغلط ! وهذا جمع بين السخف والجهل ، وإنما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو مع جهل أو تجاهل أن النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه ، وأن كل ما ثبت نقله عن العرب فهو عربي صحيح ، ولا ينسب إلى العرب الغلط في الألفاظ ولكن قد يغلطون في المعاني ، فهذا القول لا يقوله عالم إلا أن يكون كجهلة بعض المستشرفين الذين يحسبون أن قواعد النحو حاكمة على القرآن ، وذلك من فساد النظر لأن القرآن فوق النحو ، إذ النحو يستقي منه ، وهو لا يخضع لما يقرره النحويون ، بل هم الذين يخضعون له ، فلو لم يكن ذلك المعترض ضعيف العقل أو قوى التعصب على الإسلام ، لنهاه عن هذا الاعتراض رواية هذا اللفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وإن لم يؤمن بأنه منزل عليه من الله عز وجل ، فكيف وقد تلقته العرب بالقبول والاستحسان ، فكان إجماعا عليه أقوى من إقرار الأندية الأدبية ( الأكاديميات ) الآن ؟ بل يجب أن ينهاه مثل ذلك نقله عن أي بدوي من صعاليك العرب ولو برواية الآحاد ، وليت شعري هل يعد ذلك المعتصب الأعمى مبتكرات مثل شكسبير في الإنكليزية وفيكتور هيغو بالفرنسية من اللحن والغلط فيهما ؟ [86] ، ويذكرني هذا بقصة عبد الله بن إسحاق الحضرمي الذي كان من مؤصلي مذهب البصريين مع الفرزدق وكان يكثر الاعتراض على الفرزدق:
ويروى أن الفرزدق أنشد قصيدة لعبد الله بن إسحاق، فلما بلغ قوله
وعضُّ زَمَان يا ابن مروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ[87]
قال له عبد الله: علام رفعت "أو مجلف" ؟فقال الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول: وعليكم أن تتأولوا.
ويروى أن الفرزدق أنشد هذه القصيدة لعبد الله ، فلما بلغ البيت المستشهد به قال له عبد الله: علام رفعت "أو مجلف" فقال الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول: وعليكم أن تتأولوا.
[h=2]المسألة السادسة والعشرون: أسرار الاختلاف بين الآيات الثلاثة تقديما وتأخيرا ورفعا ونصبا واختلافا في الفاصلة :[/h]قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62
وقال في سورة المائدة 69: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
وقال في سورة الحج17: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) .
أولا سر الترتيب في تقديم الذين آمنوا ثم الذين هادوا في الآيات الثلاث ثم تأخير الصابئين في سورة البقرة وتاخيره في المائدة والحج:
1) يكون سر الابتداء بذكر المؤمنين في جميع الآيات كما تقدم :

  1. الاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهلُ الخير إلا ويذكرون معهم ، ففيه إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة ، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان فكأن المسلمين لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح ، أوّلون في هذا الفضل.
  2. و الإِشعار بأن دين الإِسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإِيمان الصادق والعمل الصالح ، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك فحال هذه الملة الإسلامية، وحال من قبلها من سائر الملل، يرجع إلى شيء واحد، وهو: أنّ من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، استحقّ ما ذكره الله من الأجر.
  3. والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائد .
  4. إن المؤمنين أحق بالتقديم وهم أهل الخطاب والمتكلم معهم في الآي قبل، فهم من حيث أحوالهم معظم من قصد بالخطاب والتأنيس، وأما إن أريد بهم المنافقون فقد تقدم سر ذلك
2) وأما ذكر {الذين هادوا} في جميع الآيات ثانيا:
فلأن أهل الكتابين يلون المؤمنين فإنهم ليسوا كافرين بكل الرسل ولا منكرين لكل ما أنزل من الكتب ، فهم مقرون بالبداءة والعودة وإرسال الرسل فقد كانوا أقرب للمسلمين في عقائدهم ، لولا التبديل والتغيير والتحريف الذي وقع منهم ، فإنهم جاءهم رسول وكتاب فنكثوا ونقضوا وكفروا بمن قدم إليهم، فقدم أهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم اقرب للمؤمنين من الصابئين.
ولما كان اليهود أقدم وأسبق زمانا والسياق المتقدم لهم قدموا على النصارى ، فالسياق في سورة البقرة والمائدة كان مع الذين هادوا فناسب تقديمهم في الدعوة للتوبة إلى الله من كفرهم.
3) تقديم النصارى على الصابئين في سورة البقرة وتأخيرهم في المائدة والحج
في سورة البقرة قدم اليهود والنصارى على الصابئين، وهذا هو الأصل لما ذكر من أنهم أهل كتاب وأقرب للمسلمين[88] ، وأخر الصابئون لتأخرهم عن هؤلاء الأصناف في أنهم ليسوا من أهل الكتاب أو ليسوا مثلهم في ما وراء ما ذكر من أحوالهم، فدينهم أبعد ما يكون عن دين الإسلام كما تقدم ، فإيراد ذكرهم على ما في سورة البقرة من تقديم النصارى على الصابئين بيِّن.
وأيضا لما ذكرت أحوالهم وقصصهم في سورة البقرة على هذا الترتيب ذكروا كذلك في الآية ، فذكر أولا أحوال اليهود في كلام طويل ابتدأ بـ{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) }ثم ذكر النصارى { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) } وما بعده و{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } ثم الصابئة { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم }فقد كان قوم سيدنا إبراهيم من الصابئة .
وأما آية المائدة { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} فقد قدم الصابئون على النصارى لأمور:
1) في التقديم تأكيد للمقصد الذي سيق له الكلام من الدعوة للتوبة وأن التوبة مقبولة من الكل إن حققوا الشروط، ففي توسيط حال الصابئين بين الذين هادوا و النصارى ، التّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود .
2) و أيضا توسط هذا المبتدأ المحذوف الخبر ، بين الجزأين ، أدل على الخبر المحذوف من ذكره بعد تقضي الكلام وفي نهايته.
3) وأيضا أخر ذكر النصارى لأن الكلام فيما بعد هذه الآية على ذم عقيدة النصارى وتسفيه عقيدة التثليث، وقد ذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم، وتكلم على عقيدة التثليث جعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله وكأنهم صنف من المشركين فقرنوا بالصابئة في الآية ،ومن أمثلة ذمهم وتوبيخهم قوله تعالى { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)}
فلما كان الكلام في ذم معتقدات النصارى اقتضى تأخيرهم عن الصابئين المشركين حتى تكون منزلتهم أقل منزلة،ولأجل أن يقرنهم بالمشركين الصابئة لأن السياق في ذمّ عقيدتهم، ليخبر أنهم مثلهم في الشرك لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد ؛ لأن الصابئة وإن كانوا يقولون بالإله الواحد لكنهم يجعلون معه شركاء سماوية أو أرضية، فقدم الصابئين عليهم لما تقدم من الفوائد ، وليس نحو هذا الأمر موجودا في آية البقرة فجرت سورة البقرة على تأخير الصابئين وجعلهم مكانهم بعد الملل ، وأيضا في سورة البقرة لم يتوسع في ذم عقيدة النصارى فلذلك وضع النصارى بعد الذين هادوا وقبل الذين الصابئين، وأخر الصابئين في آخر المِلل لأنهم أبعد الناس عن الإسلام [89]
4) وأما سورة الحج فقد أخر النصارى ؛ لأنهم مشركون، ولذلك قرن النصارى في الحج بالمجوس والمشركين، فأخرهم لإشراكهم بمن بعدهم في الشرك وقد فصل البقاعي الترتيب في سورة الحج فقال: قال البقاعي :" أجاب عن ذلك ببيان جميع فرق الضلال ، لأن لهذه السورة أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها ، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة ، وقرن بكل من فريقي أهل الكتاب موافقة في معناه فقال : { إن الذين ءامنوا } { والذين هادوا } ولما كان اليهود عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم كما مضى في المائدة ، أتبعهم من شابهوه فقال : { والصابئين } ثم تلا بثاني فريقي أهل الكتاب فقال : { والنصارى } ثم أتبعهم من أشبهه بعض فرقهم في قولهم بإلهين اثنين فقال : { والمجوس } وهم عبدة النار ؛ ثم ختم بأعم الكل في الضلال كما فتح بأعمهم في الهدى فقال : { والذين أشركوا } لشموله كل شرك حتى الأصغر من الربا وغيره" اهـ بتصرف[90].
وذكر سرها الإمام الرازي بطريقة مختلفة: فقال: " أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام ، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار ، إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء ، أو لا يكونوا معترفين بذلك ، فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا في الحقيقة أو لمن كان متنبئا ، أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى ، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون ، وأما أتباع المتنبئ فهم المجوس ، وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان ، وهم المسمون بالمشركين ، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم . فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان" فقدم الذين بالدين الحق وهم المؤمنون"[91].
***********
سر الاقتصار على هذه الفرق في البقرة والمائدة والزيادة عليها في الحج:
[h=3]القول الأول: وهو الأصح[/h]1) أن آية سورة الحج إنما هي فيمن بقي على دينه الباطل ثم جاء يوم القيامة على دينه من يهودية أو نصرانية أو غير ذلك غير تائب من كفره وضلاله ،ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم والذين أشركوا ؛ لأن ذلك مقام التفويض إلى الله في الحكم بين أهل المِلل وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن الله سيحاسب الفرقة الضالة على ضلالها "
بخلاف آية البقرة والمائدة فهي فيمن ترك ما هو عليه من نصرانية أو يهودية ونحوها وتاب إلى الله عز وجل بالدخول في الإسلام ، فاقتصر على الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة ؛لأنهم أرجى لقبول الإسلام من المجوس والدهريين ؛ لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك ، فلذلك اقتصر عليهم تقريباً لهم من الدخول في الإسلام .
2) لأن لسورة الحج أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها ، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة.
ولأجل اختلاف المقصد بين سورة البقرة والمائدة من جهة وسورة الحج من جهة أخرى اختلف الفاصلة فيهما ، ختمت سورة البقرة { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62} وقريب منها المائدة ، وختمت الحج { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
[h=3]القول الثاني :وهو مرجوح[/h]من جعل الآية فيمن كان على التوحيد في زمن من الأزمان والآية تتكلم على هذه الفترة قال: لم يذكر المجوس والذين أشركوا لأنهم لم يكونوا على الحق في زمن من الأزمان ، ذكر ذلك ابن تيمية .
قال ابن تيمية: "فإن الصابئة نوعان: صابئة حنفاء موحدون، وصابئة مشركون، فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من هذه الملل الأربع: المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل، والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين لملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل، وهذا بخلاف المجوس والمشركين فإنه ليس فيهم مؤمن، فلهذا قال تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) فذكر الملل الست هؤلاء، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة لم يذكر في الست من كان مؤمناً، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط، ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين ، وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ويقرون بمعاد الأبدان، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم".[92]
رد هذا الآلوسي:قائلا :" والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص { الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى } بالكفرة منهم وتخصيص { مَنْ ءامَنَ } الخ بالدخول في ملة الإسلام ، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصائبين دين ، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات ففي «الملل والنحل » أن الصبوة في مقابلة الحنيفية ، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة ، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه ، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصابئين فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم ( إن ) وخبرها إليهم على القول المشهور وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصداً إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملاً بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصابئين مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه ؟ على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر ".
سر ذكر { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } في البقرة دون المائدة :
فهناك فرق بين الآيتين (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) في آية سورة البقرة أما في سورة المائدة (فلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) المذكورين في الآيتين هم نفسهم (الذين آمنوا، الذين هادوا، النصارى، الصابئين) فلماذا جاء في سورة البقرة (فلهم أجرهم عند ربهم) ولم تأتي في سورة المائدة؟
1) إن قوله تعالى: " فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ " ذكر في سورة البقرة ولم يذكر في المائدة ، لأنه ذكر في سورة المائدة ما هو بمعناه فأغنى عنه واكتفى به ألا ترى أن قوله تعالى: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم " تفسير بين للأجر الأخروي المجمل في قوله تعالى في سورة البقرة: "فلهم أجرهم عند ربهم " إلى آخر الآية فقد حصل ما في سورة المائدة مفصلا مبينا ما ورد في البقرة مجملا فلو قيل في آية المائدة فلهم أجرهم لكان تكرارا ورجوعا إلى الإجمال بعد التفصيل وذلك عكس ما ينبغي[93].
2) سورة المائدة السياق كما قلنا في ذمّ عقائد اليهود والنصارى ذمّاً كثيراً مسهباً، أما في سورة البقرة فالكلام عن اليهود غالب والقليل على النصارى ، وفي سورة المائدة الكلام على اليهود أشدّ مما جاء في البقرة ومن ذلك أنه ذكر في المائدة العقوبات أكثر من ذكرها في سورة البقرة (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ {60} ) وفي سورة البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ {65} ) وسياق الغضب في المائدة على معتقدات النصارى واليهود أشدّ ، ولم تُجمع القردة والخنازير إلا في سورة المائدة فاقتضى السياق أن يكون زيادة الخير والرحمة في المكان الذي يكون الغضب فيه أقل وهو (سورة البقرة) ، ثم جو الرحمة ومفردات الرحمة وتوزيعها في سورة البقرة أكثر مما جاء في سورة المائدة ، ففي سورة البقرة وردت تسع عشرة مرة بينما وردت في المائدة خمس مرات لذا اقتضى التفضيل بزيادة الرحمة في البقرة والأجر يكون على قدر العمل فالنسبة للذين آمنوا من أهل الكتاب قبل تحريفه وهم مؤمنون بالله تعالى عليهم أن يؤمنوا إيماناً آخر باليوم الآخر المقصود الذين آمنوا إيماناً حقيقياً.
· في سورة المائدة ورد ذكر أنواع من العمل الصالح عشر مرات (الوفاء بالعقود، الوضوء، الزكاة، الأمر بإطاعة الله ورسوله، والإحسان، التعاون على البر والتقوى، إقام الصلاة، الجهاد في سبيل الله والأمر باستباق الخيرات) وفي سورة البقرة ورد ذكر ثلاثين نوعا من أعمال الخير وتشمل كل ما جاء في سورة المائدة ما عدا الوضوء وفيها بالإضافة إلى ذلك الحج والعمرة والصيام والإنفاق والعكوف في المساجد وبر الوالدين والهجرة في سبيل الله وإيفاء الدين والقتال في سبيل الله والإصلاح بين الناس وغيرها كثير، لذا اقتضى كل هذا العمل الصالح في البقرة أن يكون الأجر أكبر (فلهم أجرهم عند ربهم) .
وهذه العبارة (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لم ترد إلا في سورة البقرة بهذا الشكل وقد وردت في البقرة خمس مرات.
وتردد الكلمات في القرآن تأتي حسب سياق الآيات وفي الآيات المتشابهة يجب أن نرى الكلمات المختلفة فيها[94]
3) "وأيضا قَوْلَهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ مُقَابل لقَوْله: وَباؤُا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 61] وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِعِنْدَ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ وَالرِّضَى"[95] فجاءت هذه مقابلة لتلك ، بخلاف سورة المائدة لم يرد ما يقتضي هذه المقابلة فحذف منها { فلهم أجرهم}[96]
4) [63، 64]


[1] قال ابن عاشور: " ومعنى { من آمن بالله } الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله : { وعمل صالحاً } إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعي لقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] . وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات ، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق . وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [ آل عمران : 85 ] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين : " ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بي فله أجران "، التحرير والتنوير (1/ 539) ، قال أبو زهرة:"والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق ، وأنه وحده خالق كل من في الوجود وأنه لا تخرج حركة عن حركة في الوجود ، وإنما ذلك قيوميته وإرادته ، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه جلت صفاته ، فليس كمثله أحد ، وهو السميع البصير ، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب ، وثواب وعقاب ، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الإيمان ، وأردف إيمانه بالعمل الصالح الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس ؛ { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين ، علم أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين ، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالح { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان ، وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب ، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، هؤلاء إذا آمنوا ذلك الإيمان ، وأخلصوا لله ذلك الإخلاص وقووا إيمانهم بالعمل الصالح الذي يكون فيه الطاعة لله ولرسوله والاستجابة لكل ما أمر به – من كانوا كذلك فلا خوف عليهم من عقاب ينزل بهم ، ولا يحزنون على ما فاتهم في ماضيهم من شر ، لأن الإيمان يجب ما قبله كما قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . . . ( 38 ) } [ الأنفال ] فلا يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم ".زهرة التفاسير (1/ 254)

[2] قال أبو السعود :"{ قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } أمرَهم بقتال أهلِ الكتابين إثرَ أمرِهم بقتال المشركين ، والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلِّية ما في حيز الصلةِ للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين ، فإن اليهودَ مُثَنّيةٌ والنصارى مُثلِّثةٌ ، فهم بمعزل من أن يؤمنوا بالله سبحانه وباليوم الآخر فإن عِلمَهم بأحوال الآخرة كلا علمٍ ، فإيمانُهم المبنيُّ عليه ليس بإيمان به { وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أي ما ثبت تحريمُه بالوحي متلواً أو غيرَ متلوٍ . وقيل : المرادُ برسوله الرسولُ الذي يزعُمون اتباعَه أي يخالفون أصلَ دينهم المنسوخِ اعتقاداً وعملاً { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } الثابتَ الذي هو ناسخٌ لسائر الأديان وهو دينُ الإسلام وقيل : دين الله { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } من التوراة والإنجيل ، فمن بيانيةٌ لا تبعيضيةٌ حتى يكونَ بعضُهم على خلاف ما نُعت". إرشاد العقل السليم (4/ 58). قال ابن عطية :"ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله عز وجل من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذ تلقوها من غير طريقها ، وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا : عزيز ابن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك ، ولهم أيضاً في البعث آراء كشراء منازل الجنة من الرهبان ، وقول اليهود في النار نكون فيها أياماً بعد ونحو ذلك ، وأما قوله { لا يحرمون ما حرم الله ورسوله } فبين ، ونص على مخالفتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما قوله { ولا يدينون } فمعناه ولا يطيعون ويمتثلون ، وأما قوله { من الذين أوتوا الكتاب } فنص في بني إسرائيل وفي الروم وأجمع الناس في ذلك ، وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم .المحرر الوجيز (3 / 21 ) ، قال البغوي :"فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ؟ قيل : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ، فإنهم إذا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيمانا بالله (معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 335).قال الماتريدي : ""قيل : هم ، وإن آمنوا في الظاهر بالله واليوم الآخر ، فإنما يؤمنون بإله ، له ولد ، كما ذكره على إثره ، وهو قوله : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله )[ التوبة : 30 ] فالإيمان بإله ، له ولد ليس بإيمان بالله ، فهم غير مؤمنين . (تأويلات أهل السنة(5/ 337).

[3] قال في تفسير فتح البيان: "كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر . ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله.

[4] أخرجه مسلم في الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين ، الدباء: هو القَرْع اليابس، أي: الوعاء منه. والحنتم: الجرار الخُضْر. والنقير: جذع ينقر وسطه. والمزفت: المطلي بالزفت، ويقال له: المقير. والنهي في هذه الأشياء عن الانتباذ فيها، والنهي عن الانتباذ بهذه الأوعية منسوخ بحديث بريدة عند أحمد 5/355، ومسلم (977) ، وصححه ابن حبان (5390) وفيه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أي وعاء شئتم ولاتشربوا مسكراً" وفي رواية مسلم ص 1585، وعلي بن الجعد (2075) : "كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً".

[5] انظر الآلوسي وأبو السعود والزمخشري وابن عاشور و البيضاوي ومحمد رشيد رضا والماتريدي ، واطفيسش في هميان الزاد وغيرها من التفاسير في سورة البقرة { آمنا بالله وباليوم الآخر}(2/8)

[6] قال أبو زهرة :"والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق ، وأنه وحده خالق كل من في الوجود وأنه لا تخرج حركة عن حركة في الوجود ، وإنما ذلك قيوميته وإرادته ، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه جلت صفاته ، فليس كمثله أحد ، وهو السميع البصير ، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب ، وثواب وعقاب ، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله .
هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الإيمان ، وأردف إيمانه بالعمل الصالح الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس ؛ { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }،وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين ، علم أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين ، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالح { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ". زهرة التفاسير ( 1/ 254) وقال الشوكاني:"والمراد بالإيمان هاهنا هو : ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه " ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية ، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن ، ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ، ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً . فتح القدير (1/254) ، وقال الآلوسي:" { مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صالحا } أي أحدث من هذه الطوائف إيماناً بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات ، وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق ، وأتى بعمل صالح حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر" وقال ابن عطية:"وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب ، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى. وقال البقاعي { بالله } أي لذاته { واليوم الآخر } الذي الإيمان به متضمن للإيمان بجميع الصفات من العلم والقدرة وغيرهما وحاثّ على كل خير وصادّ عن كل ضير { وعمل صالحاً } أي وصدق ما ادعاه من الإيمان باتباع شرع الرسول الذي في زمانه في الأعمال الظاهرة ولم يفرق بين أحد من الرسل ولا أخل بشيء من اعتقاد ما جاءت به الكتب من الصلاح " روح المعاني(1/280)وقال اطفيش – الهميان: "{ وَعَمِلَ صَالِحاً } : العمل الصالح فى جنب من كان قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يعمل ما فرض عليه فى شرعه الذي لم ينسخه كتاب بعده وفى جنب من كان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم أن يعمل بما فى القرآن ، وما يوحى إليه مؤمناً به صلى الله عليه وسلم ، والعمل بكتاب نبى يتضمن الإيمان بذلك النبى ، وأيضاً فإن الإيمان بنبى في القلب عمل صالح أيضاً ، فقد دخل الإيمان بالأنبياء فى قوله : { وعمل صالحاً } هميان الزاد ( 1/341) ، وقال القرطبي:" وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندراج الإيمان بالرسل والكتب والبعث" ، وقال أبو حيان:" وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل ، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل" وقال اطفيش – التيسير:"{ مَنْ آمَنَ } من اليهود والنصارى والصابئين وترك الإشراك بالله { بِاللهِ } ورسله وأنبيائه وكتبه ولم ينكر نبيا أو كتابا { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يوم البعث والجزاء . ولم يذكر المجوس لأنه ليس منهم من لو تبع كتابه لنجا ، إذ كتابهم أضاعوه سرعة { وَعَمِلَ صَلِحاً } ولم يفرق بين أحد من رسله قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعدها ، فآمن به واتبع القرآن ، ومن لم يؤمن به ، وبالقرآن لم ينتفع بعمله فهو مشرك فى النار ، وهو غير متبع للتوراة والإنجيل ، بل كافر بهما أيضاً ، لأن فيهما الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم ، وكذا من كفر من اليهود والنصارى قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . لا يدخلون فى الآية ، كمن قال ، عيسى إله ، ومريم إله ، أو عيسى ابن الله".

[7] قال العلامة أبو زهرة :"وقد يقول قائل : لماذا لم يذكر الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ركن من أركان الإيمان فشهادة أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله تعالى هي لب الإيمان .
والجواب عن ذلك ، أن الإيمان بالرسالة المحمدية التي قامت عليها الأدلة من المعجزات الباهرة ثمرة الإيمان بالله ولازمة له ، فلا يمكن أن يكون مؤمنا بالله من يكذب رسوله الذي قامت الشواهد والأمارات على صدق رسالته ، والإيمان بالله يقتضي الإيمان بصدق كل ما جاء في كتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهكذا فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي الإيمان بالرسالة والرسل والإيمان بما جاءت به الكتب المنزلة ".

[8] قال أبو السعود:" أي من أحدث من هذه الطوائف إيماناً خالصاً بالمبدأ والمَعادِ على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإن ذلك بمعزل من أن يكون إيماناً بهما ، وعمل عملاً صالحاً حسبما يقتضيه الإيمانُ بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفارُ العقابَ ولا هم يحزنون حيث يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب"إرشاد العقل السليم (1/ 108).

[9] التحرير والتنوير( 6 /270 )

[10] قال الطبري : "قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقوال الأخَر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله:"قائمة"، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه، والعدلُ والطاعةُ وغير ذلك من أسباب الخير، (من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك، الخبرُ الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:-"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة"، ثم ضرب لهم مثلا.(جامع البيان(7/123) .
وقال الطبري: "فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم.قال ابن كثير : قال تعالى: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشَرْعه مُتَّبِعة نبيَّ الله، [فهي] { قَائِمَةٌ } يعني مستقيمة، قال الكشاف : الضمير في { لَّيْسُواْ } لأهل الكتاب ، أي ليس أهل الكتاب مستوين . وقوله : { مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } كلام مستأنف لبيان قوله : { لَيْسُواْ سَوَاءً } كما وقع قوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] بياناً لقوله { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } مستقيمة عادلة ، من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، وهم الذين أسلموا منهم . وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود ، لأنه أبين لما يفعلون؛ وأدل على حسن صورة أمرهم" جامع البيان (7/ 124).

[11] انظر البقاعي والصابوني والأمثل.

[12] التحرير والتنوير، ابن عاشور(4/ 57).

[13] روح المعاني (2/ 249 ).

[14] البحر المحيط (3 / 312) .

[15] روح المعاني (2/ 250).

[16] لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 287).

[17] البحر المحيط(3/ 312).

[18] التفسير الوسيط (2/230)

[19] القول الأول هو الوارد في المسألة الأولى .

[20] لكن أبا زهرة جعل الآية فيمن مات قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم .


[21] التفسير الكبير (5/213).

[22] أنوار التنزيل (1/59).

[23] إرشاد العقل السليم (1/ 68 ).

[24] صحيح البخاري: رقم : 4477 بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]

[25] صحيح البخاري : رقم 6557 – باب صفة الجنة والنار

[26] صحيح (1718)

[27] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج/ النووي (12/ 16)

[28] إن أعربنا من آمن بدلا ، وأما إن أعربناها مبتدأ وما بعدها خبر والجملة خبر إن فلا بد من رابط بين جملة الخبر والمبتدأ

[29] (لهم): هو متعلق بما تعلق به { لَهُمْ } ، ويحتمل أن يكون حالاً من { أَجْرَهُمْ } .


[30] قال أبو حيان: وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم ، لكن يخص بما بعد الدنيا ، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن ، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك .

[31] و { خوف } مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنياً على الفتح وهما وجهان في اسم ( لا ) النافية للجنس.

[32] وللدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية التي هي دروس فرغت في دروس على الشاملة (1/ 783) لطائف جميلة قال : " (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) تعبير في غاية العجب والدقة من الناحية التعبيرية والدقة ولا تعبير آخر يؤدي مؤدّاه. نفى الخوف بالصورة الإسمية ونفى الحزن بالصورة الفعلية كما خصص الحزن (ولا هم) ولم يقل (لا عليهم خوف) : 1. (لا خوف عليهم) ولم يقل لا يخافون كما قال " ولا هم يحزنون " لأنهم يخافون ولا يصح أن يقال لا يخافون لأنهم يخافون قبل ذلك اليوم (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا) وهذا مدح لهم قبل يوم القيامة؛ أما يوم القيامة يخافون إلا مَن أمّنه الله تعالى. كل الخلق خائفون (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت) لذا لا يصح أن يقال لا يخافون فالخوف شيء طبيعي موجود في الإنسان.
2. (لا خوف عليهم) معناها: لا يُخشى عليهم خطر؛ ليس عليهم خطر فقد يكونوا خائفين أو غير خائفين كما يخاف الأهل على الطفل مع أنه هو لا يشعر بالخوف ولا يُقدّر الخوف فالطفل لا يخاف من الحيّة ولكنا نخاف عليه منها لأنه لا يُقدّر الخوف. الخوف موجود ولكن الأمان من الله تعالى أمّنهم بأنه لا خوف عليهم، ليس المهم أن يكون الإنسان خائفاً أو غير خائف المهم هل يكون عليه خطر أم لا (لا خوف عليهم) وقد يخاف الإنسان من شيء ولكن ليس خوف كالطفل يخاف من لعبة لا تشكل عليه خطراً.
3. (ولا هم يحزنون) : جعل الحزن بالفعل فأسنده إليهم لماذا لم يقل (ولا حزن) ؟ لأنه لا يصح المعنى لأنه لو قالها تعني ولا حزن عليهم أي لا يحزن عليهم أحد المهم أن لا يكون الإنسان حزيناً لكن لا أن يُحزن عليه أحد (إما لأنه لا يستحق الحزن عليه أو لا يشعر) . 4. ولا هم يحزنون: بتقديم (هم) الذين يحزن غيرهم وليس هم. نفي الفعل عن النفس ولكنه إثبات الفعل لشخص آخر كأن نقول (ما أنا ضربته) نفيته عن نفسي وأثبتّ وجود شخص آخر ضربه (يُسمّى التقديم للقصر) أما عندما نقول (ما ضربته) يعني لا أنا ولا غيري. نفى الحزن عنهم وأثبت أن غيرهم يحزن (أهل الضلال في حزن دائم) . ولم يقل " لا خوف عليهم ولا حزن لهم " لأنها لا تفيد التخصيص (نفى عنهم الحزن ولم يثبته لغيرهم) ولو قال ولا لهم حزن لانتفى التخصيص على الجنس أصلاً ولا ينفي التجدد وقوله تعالى (لا خوف ٌ عليهم ولا هم يحزنون) لا يمكن أن يؤدي إلى حزن فنفى الخوف المتجدد والثابت ونفى الحزن المتجدد (ولا هم يحزنون) بمعنى لا يخافون؛ والثابت (لا خوف) ولا يمكن لعبارة أخرى أن تؤدي هذا المعنى المطلوب.
5. لماذا إذن لم يقل (لا عليهم خوف) ولماذا لم يقدم هنا؟ لأنه لا يصح المعنى ولو قالها لكان معناها أنه نفى الخوف عنهم وأثبت أن الخوف على غيرهم؛ يعني يخاف على الكفار لكن من الذي يخاف على الكفار. لذا لا يصح أن يقال "لا عليهم خوف "كما قال (ولا هم يحزنون) .
6. لماذا قال (لا خوفٌ) ولم يقل " لا خوفَ عليهم " (مبنية على الفتح) ؟ لا خوفَ: لا النافية للجنس تفيد التنصيص في نفي الجنس (لا رجلَ هنا معناها نفينا الجنس كله) أما (لا خوفٌ) عندما تأتي بالرفع يحتمل نفي الجنس ونفي الواحد. والسياق عيّن أنه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون من باب المدح على سبيل الإستغراق وفي مقام المدح. وفي قراءة أخرى (خوفَ) - قراءة يعقوب -. الرفع أفاد معنيين لا يمكن أن يفيدها البناء على الفتح، (لا خوفٌ عليهم) يفيد دلالتين: أولاً: إما أن يكون حرف الجر متعلق بالخوف "خوفٌ عليهم"والخبر محذوف بمعنى: لا خوف عليهم من أي خطر (لا خوف) من باب الحذف الشائع ويحتمل أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (عليهم) قد يكون هو الخبر. مثال قولنا: الجلوس في الصف: قد تحتاج إلى خبر فنقول الجلوس في الصف نافع وجيّد، وقد تحتمل معنى أن الجلوس (مبتدأ) "في الصف" خبر بمعنى الجلوس كائن في الصفّ.
في الرفع (لا خوفٌ عليهم) تدل على معنيين:
لا خوف عليهم من أي شيء، وتحتمل لا خوف عليهم وهذا متعلق بالخوف ومتعلق بالخبر المحذوف (من أي خطر) . أما في النصب (لا خوفَ عليهم) لا يمكن أن يكون هذا الأمر ولابد أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (لا خوف عليهم) عليهم لا يحتمل أن يكون متعلقاً وهذا يؤدي إلى معنى واحد وليس معنيين أي يأخذ شق من المعنيين ويكون متعلقاً بالخبر المحذوف وليس بالخبر. فلماذا لا يصح؟ لأنه إذا تعلق بالمضاف يجب القول لا خوفاً عليهم (لأنه يصبح شبيه بالمضاف) ولا يعد مبنياً على الفتح إنما منصوباً.


[33] ينظر : البقاعي وأبوز زهرة و البقاعي ومحمد رشيد رضا والخازن والرازي والشيرازي في الأمثل والشعراوي والطباطبائي ودروزة.

[34] ليتضح الربط أعرض الآيات السابقة في سورة المائدة : {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)ـ ـ ـ ـ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)ـ ـ ـ ـ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}.

[35] هناك ربط ذكره ابن عاشور ولكن لم يتبناه إلا قليل من المفسرين في المائدة قال :" أن تكون الآية استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقوله : { قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل } [ المائدة : 68 ] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام : هل هم على شيء أو ليسوا على شيء ، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ ؛ فوقع قوله : { إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا } الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر "اهـ لكن يرد هذا الوجه ما ذكره سيد طنطاوي في الوسيط: أن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإِسلام ، وأما بيان من ماضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام ، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات" التحرير والتنوير (6/ 268).وهناك ربط آخر ذكره البقاعي:" أنه لما طال الكلام مع أهل الكتاب ، كان ربما ظن أن الأمر ترغيباً وترهيباً وأمراً ونهياً خاص بهم ، فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء" نظم الدرر( 6/ 240).

[36] { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}

[37] قال الطبري :"يقول تعالى ذكره : إن الذين صدّقوا الله ورسوله ، وهم أهل الإسلام ، والّذين هَادُوا وهم اليهود والصابئون . وقد بينا أمرهم . والنّصَارى مَنْ آمَنَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ فصدّق بالبعث بعد الممات ، وعمل من العمل صالحا لمعاده ، فلا خَوْفٌ عليهم فيما قدّموا عليه من أهوال القيامة ، ولا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أمرمهم الله به من جزيل ثوابه" جامع البيان (10/ 476).

[38] إلا أن ابن عطية وتبعه الثعالبي عمما الذين آمنوا في جميع العصور فقال: ابن عطية : { الذين } لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل ، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم ، وبينت الطوائف على اختلافها ، وهذا تأويل جمهور المفسرين " المحرر الوجيز ( 2/219)

[39] قال ابن كثير: "ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } وهم : المسلمون { وَالَّذِينَ هَادُوا } وهم : حملة التوراة { وَالصَّابِئُونَ والصابئون : طائفة بين النصارى والمجوس ، ليس لهم دين . قاله مجاهد ، ـ ـوالمقصود : أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر ، وهو المعاد والجزاء يوم الدين ، وعملت عملا صالحًا ، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه [SUP]4[/SUP] ولا على ما تركوا وراء ظهورهم { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته" تفسير ابن كثير:" (/156).

[40] قال ابن عاشور : "والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون ، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى ، فهو راجع إلى علم الله ، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً" التحرير والتنوير (6 / 269)

[41] قال أبو زهرة بعد أن رد الجواب الأول واعترض عليه : "الجواب الثاني- أن معنى آمن بالنسبة لهم استمرار الإيمان وبالنسبة لغيرهم إنشاؤه ونرى في هذا الجواب نوعا من دلالة اللفظ على معنيين متقاربين في موضع واحد ، إذ يراد الإذعان ، والاستمرار عليه ، وإني أرى أن الخبر ليس للحكم بقبول الإيمان فقط ، بل إنه خبر في معنى الشرط والجزاء فيه إثبات أن الايمان مناط النجاة والثواب ، وذلك ينطبق على المؤمنين ومن يدخلون في الإيمان " زهرة التفاسير (5/ 2298).

[42] قال ابن عجيبة: :" { من آمن } منه { بالله } إيمانًا حقيقيًا ؛ بلا شرك ولا تفريق ، وآمن باليوم الآخر"

[43] قال الزمخشري :"فإن قلت : كيف قال : { الذين آمنوا } ثم قال : { مَنْ ءامَنَ } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد بالذين آمنوا : الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن . من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه" الكشاف ( 1/661 ).

[44] قال البقاعي:" { إن الذين آمنوا } أي قالوا : آمنا { والذين هادوا } أي اليهود { والصابئون } أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية { والنصارى } أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام ، { من آمن } أي منهم مخلصاً من قلبه ، ولعله ترك الجار إعراقاً في التعميم { بالله } أي الذي له جميع الجلال والإكرام { واليوم الآخر } أي الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم وأشباحهم ، ويبعث من ذكره على الزهادة وألحد في العبادة ، وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله تعالى باعتقاد كمال قدرته { وعمل صالحاً } أي صدق إيمانه القلبي بالعمل بما أمر به ، ليجمع بين فضيلتي العلم والعمل ، ويتطابق الجنان مع الأركان { فلا خوف عليهم } يعتد به في دنيا ولا في آخرة { ولا هم } أي خاصة { يحزنون * } أي على شيء فات ، لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلاً ، وأما غيرهم فهم في الحزن أبداً " نظم الدرر( 6/ 241).

[45] قال الخازن: "فإن قلت : قد قال الله تعالى في أول الآية إن الذين آمنوا ثم قال في آخر الآية فمن آمن فما فائدة هذا التكرار . قلت : فائدته أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون ، ففي هذا التكرار إخراجهم من قبيل المؤمنين فيكون معنى إن الذين آمنوا أي بألسنتهم لا بقلوبهم . ثم قال : من آمن يعني من ثبت على إيمانه ورجع عن نفاقه منهم ".

[46] قال أبو زهرة:"وقد تكلم العلماء في أمرين لا بد أن نتكلم فيهما :أولهما : أن الله تعالى ابتدأ طوائف الذين يغفر لهم أن آمنوا بالمؤمنين فقال سبحانه : ( إن الذين آمنوا ) وجاء الخبر من بعد : ( من آمن بالله واليوم الآخر ) ، فكيف ينطبق هذا الخبر على الذين آمنوا وهم قد سبق إيمانهم فلا يحتاج إلى تجديد ، ولو كان الخبر مقصورا على الذين هادوا والصابئين والنصارى لكان له موضعه ظاهرا لأنهم غير مؤمنين .وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين : أحدهما – أن الذين آمنوا قد يراد بهم الذين أعلنوا الدخول في الإسلام وإن لم تذعن قلوبهم ، ولكن هذا الجواب لا نرتضيه لأن المنافقين ومن لم يذعنوا للحقائق الإسلامية لا يسمون مؤمنين ، اقرأ قوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . .14 ) ( الحجرات ) " لباب النقول (2/64).

[47] يعني القاضي البيضاوي بيض الله غرته .

[48] قال شحاته :"إن أتباع الديانات السابقة من المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومن اليهود المتمسكين برسالة موسى عليه السلام قبل المسيحية ممن لم يحرفوا كتب أنبيائهم ، ومن الصابئين الذين تمسكوا بملة إبراهيم عليه السلام قبل نسخها ، ( والصابئة : فرقة تعيش في العراق ولهم طقوس دينية خاصة بهم ، ومن العسير الجزم بحقيقة معتقدهم لأنهم أكتم الناس لعقائدهم . ويقال : إنهم يعبدون الملائكة أو الكواكب ) ، ومن المسيحين الذي تمسكوا بالمسيحية ، ولم يحرفوها قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء جميعا إذا آمنوا بالله تعالى إيمانا صحيحا غير ملتبس بالشرك ، واستمسكوا بهذا الإيمان ، واتبعوا أنبياءهم وما جاء على ألسنتهم من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا به عند مبعثه ، وآمنوا بالبعث والنشور والجزاء ، وعملوا الصالحة ؛ إن هؤلاء جميعا يظفرون بالثواب الجزيل على ما قدموه من إيمان وعمل صالح ".

[49] تفسير مقاتل بن سليمان ( 1/ 493 )

[50] انظر ابن عاشور والطباطبائي وتاريخ الفكر الديني الجاهلي.

[51] ضبطه تاج العروس بضم الدال (زرادُشت)، وضبطه بعض العلماء بفتحها (زرادَشت)، وبعضهم بكسرها زَرَادِشْتُ

[52] قال أبو زهرة :" أي الذين أشركوا مع الله تعالى غيره في العبادة ، وبهذا يدخل فيهم الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله ، ويدخل البراهمة ، لأنهم قالوا : إن كرشنة ابن الله ، وهم يصورون آلهتهم بتماثيل ، كما يدخل البوذية ، لأنهم قالوا إن بوذا ابن الله ، ويدخل الكونفوشيوسية الآخذون بتعاليم كونغ فوتس الذي حرف بكونفشيوس ، وهكذا فهم يدخلون في المشركون ، لأن الإشراك غير مقصور على العرب الأقدمين ، بل هو فيهم وفي غيرهم مع ملاحظة أن كونغ فوتس بوذي الديانة ولكن له مذهبا خلقيا أخذ به أهل الصين". (زهرة التفاسير (8 / 4958 ).

[53] قال البقاعي: " { والذين أشركوا } لشموله كل شرك حتى الأصغر من الربا وغيره" نظم الدرر ( 13/ 24) .

[54] التفسير الكبير " 23/ 212).

[55] (بِلَاد النّوبَة) وَطن ذَلِك الجيل وَيَقَع فِي الْجُزْء الجنوبي من بِلَاد مصر

[56] ص 235

[57] فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً ؟ فالجوابُ أنه يلزم من ذلك دخولُ اللام في خبر المبتدأ غيرِ المنسوخِ ب " إنَّ " وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضرورة شعر

[58] الإنصاف (1/152)

[59] التصريح على التوضيح (1/323)

[60] حاشية الصبان على الأشموني (1/422).

[61] (2/50) قال " وحمل سيبويه ما أوهم العطف قبل التمام على التقديم والتأخير فالتقدير عنده في: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى). إن الذين آمنوا والذين هادوا مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك"

[62] شرح المفصل (4/544).

[63] التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل (5/188) قال " حمله سيبويه على التقديم والتأخير, التقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم إلى آخر الآية والصابئون والنصارى كذلك."

[64] شرح كتاب سيبويه (2/483)

[65] الأمالي (3/187)

[66] قال الطبرسي :"وقال سيبويه ، والخليل ، وجميع البصريين : إن قوله ( والصابئون ) محمول على التأخير ، ومرفوع بالابتداء . والمعنى : إن الذين آمنوا ، والذين هادوا من آمن منهم بالله إلى آخره ، والصابئون ، والنصارى ، كذلك أيضا ، أي : من آمن منهم بالله واليوم الآخر".

[67] قال الشوكاني: قال الخليل وسيبويه : الرفع محمول على التقديم والتأخير ، والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر ، وعمل صالحاً ، فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك ، وأنشد سيبويه ، قول الشاعر :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق
أي : وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، ومثله قول ضابي البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب

[68] قال الزمخشري : " والصابئون : رفعٌ على الابتداء ، وخبرُه محذوفٌ ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز " إنَّ " من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كذا والصابئون كذلك ، وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك :وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ *** بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ
أي : فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنتم كذلك " ثم قال بعد كلام : " فإنْ قلت : فقوله " والصابئون " معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو ؟ قلت : هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملةِ : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخره ، ولا محلَّ لها كما لا محلَّ للتي عَطَفَتْ عليها " الكشاف(1/ 660) . قال محمد محي الدين في تحقيقه لابن عقيل (1/376) :" وذهب المحقق الرضي إلى أن جملة المبتدأ والخبر حينئذ لا محل لها معترضة بين اسم إن وخبرها، وهو حسن، لما يلزم على جعلها معطوفة على جملة إن واسمها وخبرها من تقديم المعطوف على بعض المعطوف عليه، لان خبر إن متأخر في اللفظ أو في التقدير عن جملة المبتدأ والخبر، وخبر إن جزء من الجملة المعطوف عليها." قال وإنما لم تجعل اعتراضاً حقيقة لأنها معطوفة على جملة { إِنَّ الذين } وخبرها" ، قال الآلوسي :"وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر ، وليعلم أن الخبر ماذا دلالة كما قيل على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك ، ومن هنا قيل : إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر ، وإنما لم تجعل اعتراضاً حقيقة لأنها معطوفة على جملة { إِنَّ الذين } وخبرها ، وأورد عليه ما قاله ابن هشام من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها ، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر ، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع ، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة ، كقوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار } [ البقرة : 24 ] الخ ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة ، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوّت نكتة التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير .(روح المعاني(3/ 367).

[69] جامع الدروس العربية (2/213).

[70] ونسب إلى سيبويه قدره كذلك وليس كذلك فسيبويه مذهبه هو الأول

[71] قال السمرقندي" وقال : في هذه السورة { والصابئون } وقال في موضع آخر : { والصابئين } لأنه معطوف على خبر إن وكل اسم معطوف على خبر إن ، كان فيه طريقان ، إن شاء رفع ، وإن شاء نصب ، كقوله : «إن زيداً قادم وعمرو » إن شاء نصب الثاني ، وإن شاء رفعه ، كقوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله بريء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 3 ] وقد قرأ : { ورسوله } ولكنه شاذ ، وكذلك ها هنا جاز أن يقول : ( والصابئين ) { والصابئون } ، إلا أن في هذه السورة كتب بالرفع".بحر العلوم (1 /407 ).

[72] وردَّ الزمخشري الرفع على المحل فقال : " فإنْ قلت : هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطف على محل " إنَّ " واسمها .
قلت : لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : " إنَّ زيداً وعمرو منطلقان " فإنْ قلت : لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ ، وكأنك قلت : إنَّ زيداً منطلق وعمرو ؟ قلت : لأني إذا رفعته رفعتُه على محل " إنَّ " واسمِها ، والعاملُ في محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخبر ؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم الجزأين في عمله ، كما تنتظِمُها " إنَّ " في عمِلها ، فلو رَفَعْتَ " الصابئون " المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ ب " إنَّ " لأَعْمَلْتَ فيهما رافعين مختلفين " وهو واضحٌ فيما رَدَّ به إلا أنه يُفْهِمُ كلامُه أن يُجيز ذلك بعد استكمال الخبر ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم نَقَل الإِجماعَ على جوازِه" الكشاف (1 / 661)

[73] قال البيضاوي:" ولا يجوز عطفه على محل إن واسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر ، إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إن معا فيجتمع عليه عاملان".(أنوار التنزيل (2/ 137 ).

[74] خطأ الزجّاج هذا القول وقال : { إن } أقوى النواصب.

[75] قال الفراء كلمة { إن } ضعيفة في العمل هاهنا ، وبيانه من وجوه : الأول : أن كلمة { إنَّ } إنما تعمل لكونها مشابهة للفعل ، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة . الثاني : أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعمل في الاسم فقط ، أما الخبر فإنه بقي مرفوعا بكونه خبر المبتدأ ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير ، وهذا مذهب الكوفيين الثالث : أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء ، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها ، والأمر هاهنا كذلك ، لأن الاسم هاهنا هو قوله { الذين } وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض ، إذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا كان اسم { إن } بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب ، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف ، والرفع على إسقاط عمله ، فلا يجوز أن يقال : إن زيدا وعمرو قائمان لأن زيدا ظهر فيه أثر الإعراب ، لكن إنما يجوز أن يقال : إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا ، وإن هذا نفسه شجاع ، وإن قطام وهند عندنا ، والسبب في جواز ذلك أن كلمة { إن } كانت في الأصل ضعيفة العمل ، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف ، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه ، وهو كونه مبتدأ ، فهذا تقرير قول الفراء.

[76] قال ابن عاشور:"فالّذي أراه أن يجعل خبر ( إنّ ) محذوفاً . وحذفُ خبر ( إنّ ) وارد في الكلام الفصيح غير قليل ، كما ذكر سيبويه في « كتابه » . وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله : { فلا خوف عليهم } إلخ . ويكون قوله : { والّذين هادوا } عطفَ جملة على جملة ، فيجعل { الّذين هادوا } مبتدأ ، ولذلك حقّ رفع ما عُطف عليه ، وهو { والصابُون } . وهذا أولى من جعل { والصابون } مَبْدأ الجملة وتقدير خبر له ، أي والصابون كذلك ، كما ذهب إليه الأكثرون لأنّ ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك ، ويكون قوله : { من آمن بالله } مبتدأ ثانياً ، وتكون ( من ) موصولة ، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً ، أي من آمن منهم ، وجملة { فلا خوف عليهم ( 1 ) } خبراً عن ( مَن ) الموصولة ، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط . وذلك كثير في الكلام ، كقوله تعالى : { إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم } [ البروج : 10 ] الآية ، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن ( مَن ) الموصولة وليس خبر إنّ على عكس قول ضابي بن الحارث :
ومن يَك أمسى بالمدينة رحلُه *** فإنّي وقبّار بها لغريب
فإنّ وجود لام الابتداء في قوله : « لغريب » عيَّن أنّه خبر ( إنّ ) وتقديرَ خبر عن قبّار ، فلا ينظّر به قوله تعالى : { والصابون } التحرير والتنوير ( 6/ 269) .

[77] لكنه قدر الخبر (مفلحون) إِنَّ المؤمنين مفلحون.فيكونُ مَعْنى الآية: المؤمنونَ من أُمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم. مُفْلِحون فائزون، وأما الذين هادوا والنصارى ـ ـ إن آمنوا وعملوا الصالحات فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.


[78] ، ويجوز أن يكون: { من آمن بالله } مبتدأ ثانياً ، وتكون ( من ) موصولة ، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً ، أي من آمن منهم ، وجملة { فلا خوف عليهم } خبراً عن ( مَن ) الموصولة ، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط . وذلك كثير في الكلام

[79] عِنَايةُ القَاضِى وكِفَايةُ الرَّاضِى عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوي (3/ 264).

[80] قال محمد رشيد رضا : "وفي هذه الآية بحث لفظي ليس في تلك ؛ وهو رفع كلمة الصائبين وتقديمها على كلمة النصارى هي تنبيه الذهن إلى أن الصابئين كانوا أهل كتاب وإن كان حكمهم كحكم المسلمين واليهود والنصارى في تعليق نفي الخوف والحزن عنهم يوم القيامة بشرط الإيمان الصحيح والعمل الصالح ، اللذين تتزكى بهما النفوسّ ، وتستعد لإرث الفردوس . ولما كان هذا غير معروف عند المخاطبين بهذه الآية ، وكان الصائبون غير مظنة لإشراكهم في الحكم مع أهل الكتب السماوية ، حسن في شرع البلاغة أن ينبه إلى ذلك بتغيير نسق الإعراب . فمثل هذا التغيير ، لا يعد فصيحا إلا في مثل هذا التعبير . وهو ما كان لما تغير إعرابه أخرج عما يماثله ، صفة خاصة تريد التنبيه عليها . فإذا قلت ( إن زيد وعمرا – وكذا بكر – أو بكر كذلك – قادرون على مناظرة خالد ) لم يكن هذا القول بليغا إلا إذا كان بكر في مظنة العجز عن مناظرة خالد ؛ وأردت أن تنبه عن خطإ هذا الظن ، وعلى كون بكر ، يقدر على ما يقدر عليه من ذلك زيد وعمرو .
وهاهنا قاعدة عامة في البلاغة تدخل في بلاغة النطق والكتابة . وهي أن ما يرد تنبيه السمع أو اللحظ إليه من المفردات أو الجمل يميز على غيره ، إما بتغيير نسق الإعراب في مثل الكلام العربي مطلقا ، وإما برفع الصوت في الخطابة ، وإما بكبر الحروف أو تغيير لون الحبر أو وضع الخطوط عليه في الكتابة . والمسلمون يكتبون القرآن في التفسير والمتون المشروحة بحبر أحمر . وفي الطبع يضعون الخطوط فوق الكلام الذي يميزونه كآيات القرآن في بعض كتب التفسير ، ثم صار الكثيرون منهم يقلدون الإفرنج في وضع هذه الخطوط تحت الكلام الذي يريدون التنبيه عليه بتمييزه .(المنار/( 6/ )395

[81] قال الناصر في ( الانتصاف ) :" ثمة سؤال ، وهو أن يقال : لو عطف { الصابئين } ونصبه- - لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم ، ولفهم من تقديم ذكرهم على { النصارى } ما يفهم من / الرفع من أن هؤلاء الصابئين- وهم أوغل الناس في الكفر- يتاب عليهم ، فما الظن بالنصارى ؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا ، والعطف إفرادي ؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف . لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات . وهذا الصنف من جملتها ، والخبر عنها واحد . وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به . ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل . تقديره مثلا { والصابئون كذلك } فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها . وهو بهذه المثابة ، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة ، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر ، وفائدة التقديم على الخبر أن يكون توسط هذا المبتدأ المحذوف الخبر ، بين الجزأين ، أدل على الخبر المحذوف من ذكره ، بعد تقضي الكلام وتمامه ، والله أعلم .حاشية الانتصاف لابن المنير(1/660).

[82] وفي ذكر المغفرة للصابئين إشارة إلى بيان قبول توبة المشركين إذا آمنوا بعد شرك كما قال تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين38 ) . ( الأنفال ) .



[83] قال السامرائي: " والذي ، يبدو لي في هذا الأمر أن ثمة فرقا في المعنى بين الرفع والنصب، فإن العطف بالنصب على تقدير إرادة (إنَّ) ، والعطف بالرفع يكون على غير إرادة (إنَّ)، ومعنى هذا أن العطف بالرفع غير مؤكد ، فعلى هذا يكون المعطوف في قولك (إن زيدا مسافر وخالدا) مؤكدا ، بخلاف ما لو قلت :( إن زيدا مسافر وخالدٌ) فإن المعطوف غير مؤكد ، وهذا شبيه بما مر في قولنا :(ليس زيد بجبان ولا بخيل ولا بخيلا) في بحث ليس ، وهذا المعنى حام حوله النحاة ولم يذكروه صراحة فهم حين يقولون إنه معطوف على اسم (إن) قبل دخولها ، يعنون إنه معطوف على غير إرادة التوكيد ، أي إن المعطوف عليه مؤكد بخلاف المعطوف، وقد رأيت قبل قبل قليل في كلام المفسرين في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} ما يشير إلى أن كلمة (الصابئون) خولف حكمها عن أخواتها ، لأن هذه الفرقة أبعد ضلالا من الآخرين ، فجاءت أقل توكيدا من أخواتها ، وما ذكره الرضي من كونها اعتراضية ، يشير إلى ذلك أيضا ، فإن الجملة الاعتراضية ليست من صميم الجملة المعقود بها الكلام ، وإنما هي تبع ، فالنحاة يدركون أن هذا المعطوف يختلف عن المعطوف عليه في الحكم ، فالصابئون لما كانوا أبعد المذكورين ضلالا كما ذكر المفسرون خولف في توكيدهم فكانوا أقل توكيدا وقال السامرائي في لمسات: " . فالصابئون خرجوا عن الديانات المشهورة. وهم قسمان وقسم قالوا إنهم يعبدون النجوم وقسم متبعون ليحيى عليه السلام فهما قسمان. هؤلاء أبعد المذكورين والباقون أصحاب كتاب، الذين هادوا أصحاب كتاب عندهم التوراة والنصارى عندهم كتاب الإنجيل والذين آمنوا عندهم القرآن الصابئون ما عنجهم كتاب ولكن قسم من الصابئين يقولون عندهم كتاب لكن بالنسبة لنا هم أبعد المذكورين ضلالاً ولذلك هم دونهم في الديانة والاعتقاد ولذلك لم يجعلهم بمنزلة واحدة فرفع فكانوا أقل توكيداً. ورد مثل ذلك في الشعر العربي:إن النبوةَ والخلافةَ فيهم والمكرماتُ وسادةٌ أطهارُ، قال المكرماتُ ولم يقل المكرماتِ لأن هؤلاء السادة لا يرتقون لا إلى النبوة ولا إلى الخليفة". معاني النحو(ج 1/10).

[84] قال الآلوسي:" وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى : { والصابئون } وجعل خبر { إنٍ } محذوفاً ، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب ، وهو موافق للاستعمال أيضاً كما في قوله :
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك ( راض ) والرأي مختلف
فإن قوله : راض خبر أنت وخبر نحن محذوف ، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب ، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول ، نعم غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول ، وعكسه قليل لكنه جائز ، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال أهل الكتاب ، فصرف الخبر إليهم أولى ، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد ، وأيضاً في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه : { والصابئون } قطعاً ، نعم لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال ، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبراً عنهما ، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلاً على هذا المعنى" روح المعاني (3/ 367 )

[85] نظم الدرر (6/ 241).

[86] انظر المنار / محمد رشيد رضا وزهرة التفاسير لأبي زهرة .

[87] ولم يدع: أي لم يترك، والمسحت -بضم أوله على زنة اسم المفعول- هو المستأصل الذي فني كله ولم يبقَ منه شيء، والمجلف -بالجيم على زنة المعظم- الذي قد ذهب أكثره وبقي منه شيء يسير

[88] ينظر ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل (1/43) مع زيادات,

[89] ينظر السامرائي لمسات ، وملاك التأويل ، والبقاعي ، وابن عاشور .

[90] نظم الدرر (13/ 24).

[91] التفسير الكبير(23/ 212).

[92] كتابه في الرد على المنطقيين 288.

[93] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل (1/43)


[94] لمسات بيانية المؤلف: فاضل بن صالح بن مهدي بن خليل البدري السامرائي (1/516)

[95] التحرير والتنوير (1/541)

[96] الحذف والذكر في المتشابه اللفظي في القرآن رسالة ماجستير / د منصور أبو زينة (33)
 
عودة
أعلى