الجزء الأول(1) من مقصود (محور) سورة الأنعام دراسة مقارنة شاملة

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
[h=1]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[/h][h=1]مقصود (محور) سورة الأنعام: [/h]وفيه ثمانية مباحث:

  1. المبحث الأول: وقت نزولها والجو الذي نزلت فيه.
  2. المبحث الثاني: مقصود سورة الأنعام، وفيه مطلبان:

  • المطلب الأول: مقصود سورة الأنعام باختصار.
  • المطلب الثاني: شرح مقصود السورة وتلخيص مواضيعها.

  1. المبحث الثالث: دلالة بداية السورة، وخاتمتها، واسمها على مقصودها، وفيه ثلاثة مطالب:

  • المطلب الأول: دلالة بداية السورة (براعة الاستهلال) على مقصودها.
  • المطلب الثاني: دلالة خاتمة السورة على مقصودها.
  • المطلب الثالث: دلالة ومناسبة اسم السورة (الأنعام) لمقصودها.

  1. المبحث الرابع: دلالة الانفرادات اللفظية في السورة، والألفاظ التي كثر دورها في السورة على مقصودها، وفيه مطلبان:

  • المطلب الأول: الكلمات التي انفردت بها هذه السورة.
  • المطلب الثاني: الكلمات التي كثرت في هذه السورة.

  1. المبحث الخامس: العلاقة بين سورة الأنعام والمائدة يشير لمقصود السورة.
  2. المبحث السادس: دلالة القصة التي في السورة على مقصودها.
  3. المبحث السابع: أقوال المفسرين في مقصود السورة.
  4. المبحث الثامن: مناقشة الأقوال والترجيح بينها.
[h=1]1)المبحث الأول: وقت نزولها والجو الذي نزلت فيه:[/h]سورة الأنعام هي أول سورة مكية من طوال السور بالنسبة لترتيب المصحف، نزلت بعد السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة، في مرحلةِ جهرِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدعه بدعوة الحق ومصارحتِه لقريش برسالته كما أمره الله تعالى[1] ، ودعوتهم للإيمان بالله الواحدِ ورسولِه والقرآنِ واليومِ الآخر، وبيانِ ضلالهم في عبادةِ الأصنامِ، يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من كتابه، وينذرهم ويفند معتقداتهم، ويسفه آراءهم وآلهتهم و أوثانهم وتقاليدهم البالية.
وهي فترة عنيفة عسِرة، قد شهدت سجالًا شديدًا بين النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأساطينِ الكفر وصناديدِ الضلال حيث واجهوا الدعوةَ بأشد التكذيب والإعراض والصدود والاستهزاء، وزعموا أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئًا لأنزل إليهم ملائكة، وأنكروا القرآن والرسالة ،وقالوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، وقالوا: دَرَسْتَ، وكانوا كلما رأوا آية أعرضوا وجادلوا وقالوا أساطير الأولين ،واقترحوا الآيات الحسية ، وطالبوا بالمطالبِ التي تنُمُّ عن تعنتهم وإصرارهم على الكفر مهما عاينوا من آيات ، وكذبوا بالبعث وقالوا :إن هي إلا حياتنا الدنيا، ونهوا الناس عن الإيمان ونأوا عنه، و كان يحاولون صرفَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن دعوته عن الإسلام بالترغيب والترهيب ، وصرفَ المؤمنين عن إيمانهم وإرجاعهم إلى الكفر كذلك ، وبذلوا أقصى طاقتهم، وأسمعوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرًا مما أحزنه من الكلام السيء، فضلًا عن أذيته وأذية أصحابه، وأثاروا كثيرًا من الشبه حول التوحيد و نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحة القرآن والبعث، ومكروا أشد المكر، وكانت لهم ضلالات في التشريع في الطعام والشراب لا سيما فيما يتعلق بالأنعام حيث أشركوا الأصنام بالله سبحانه إشراكًا عمليًا فيما يتعلق بها مع أنه سبحانه هو الذي أنعم بها عليهم[2] ، وكل هذا صورته الآيات الآتية:

  1. {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الآيات:5،4].
  2. {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [آية:8].
  3. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الآيات: 26،25].
  4. {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [آية:29]
  5. {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [آية:33].
  6. {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [آية:35].
  7. {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [آية:37].
  8. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [آية:46].
  9. {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [آية:52].
  10. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [آية:56].
  11. {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [آية:71].
  12. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [آية:91].
  13. {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [آية:105].
  14. {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [آية:121].
  15. {كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آية:123].
  16. {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [آية:124].
  17. {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [آية:147].
  18. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [آية:148].
  19. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }[الآيات: 136ـ 142][3].
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدُّها مقارعةً وجدالًا لهم واحتجاجًا على سفاهة أحوالهم من قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام: 136]، وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله.
وفي «صحيح البخاري» أن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [آية:140]،[4]وهي كلها مكية نزلت جملةً واحدةً على غير المعهود في السور الطوال[5]؛ ونزلت الملائكة مشيعة لها ليلًا، شيعها سبعون ألف ملك سدوا ما بين الخافقين، لهم زجَل[6] بالتسبيح ،وهذه فضيلة عظيمة تدل على المكانة السامية والمنزلة الرفيعة لهذه السورة؛ و لتكون دفعة واحدة بحججها الساطعة ، وبراهينها القاطعة ، وآياتها المتتابعة ، التي تُرْهِف الآذان ، وتخاطب الوجدان، وتحاور العقول ، وتصل إلى القلوب.
وبعض العلماء استثنى بعض الآيات منها فقال نزل في المدينة لكن هذا لم يصحَّ، وقد رد عليهم ابن عاشور بقوله:" ولكن قال ابن الحصار: لا يصح نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة، وهذا هو الأظهر، وهو الذي رواه أبو عبيد، والبيهقي، وابن مردويه، والطبراني عن ابن عباس، وأبو الشيخ عن أبي بن كعب، وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة جملة واحدة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم"[7] ، وهذا الذي ذكر في وقت نزولها والجو الذي نزلت فيه يشير إشارة واضحة لمقصود السورة ، فكأني بك قبل أن تقرأ المبحث الآتي في بيان مقصود السورة قد عرفت مقصودها.
[h=1]2)المبحث الثاني: مقصود سورة الأنعام:[/h][h=2]أ-المطلب الأول: مقصود سورة الأنعام باختصار:[/h]

  1. الاعتناءُ بتلقين الاحتجاجِ[8] لأصولِ الدينِ وتقريرِ عقائدِ الإسلامِ والأخلاقِ الفاضلةِ:

  • من إثباتِ الكمالات لله تعالى والتوحيدِ: الاعتقاديِّ الخالصِ، والعمليِّ: باختصاصِه سبحانه بالحكم والتشريعِ والتحليلِ والتحريمِ، واستحقاقه وحده للعبادةِ والحمدِ، لأنه الخالق القاهر المتفضل.
  • ومن البعثِ والجزاءِ يومَ القيامةِ، وصدقِ القرآنِ والنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسليتِه فيما يلاقيه.

  1. وإقامةُ الحججِ الدامغةِ لعقائدِ جميعِ المشركين وشبهاتِهم فيما ذكر، ونبذِ الشركِ به اعتقادًا وعملًا، ودعوتهم ودعوة الناس بالترغيب والترهيب أن يدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان.

ويمكن اختصاره أكثر بأن يقال:
"مقصودها: الاعتناءُ بتلقين الاحتجاجِ لأصولِ الدين وتقريرِ عقائدِ الإسلامِ: من التوحيدِ الاعتقادي، والعملي: باختصاصِه سبحانه بالحكم والتشريعِ والعبادة؛ لأنه الخالق القاهر المتفضل، والنبوةِ، واليومِ الآخر، و نقضِ الاعتقادات الشركية وشبهاتهم فيما ذكر، ودعوة الكل للإيمان الحق ترغيبًا وترهيبًا".

[h=2]ب-المطلب الثاني: شرح مقصود السورة وتلخيص مواضيعها:[/h]الجو الذي نزلت فيه السورة كان على الصورة التي ذكرنا، فكان من حكمة الله سبحانه وفضله أن تنزل السورة مواجهة له، فكان مقصودها[9]:
الاعتناء بالاحتجاج لأصول الدين، وتقرير عقائد الإسلام والأخلاق والآداب الفاضلة، وإقامة الحجج الدامغة على جميع المشركين وإبطال عقائدهم، فهي سورةُ عقائدِ الإسلامِ وسورةُ الحِجاجِ والبراهينِ ومحاورةِ المعرضين[10]، وعرضِ القضايا العالميةِ الكبرى الثلاثة، فكانت معظم آياتها في:

  1. إثباتِ الخالقِ ، وإقامةِ الأدلةِ الكثيرةِ القاطعةِ على إثباتِ الكمالات لله تعالى و التوحيدِ الخالصِ لله تعالى الاعتقادي ، والعملي: باختصاصِه سبحانه بالحكم والتشريعِ والتحليلِ والتحريمِ لا سيما في الذبائحِ والمطاعمِ [11]، وأنه سبحانه هو المستحق وحده للعبادةِ والخضوعِ والحمدِ [12]، وأن تكون حياة الإنسان وموته له، ونبذِ الشركِ به اعتقادًا وعملًا، والاستدلالِ على ذلك بالبراهين والحجج والآيات الكثيرة: القرآنيةِ والكونيةِ بلفت النظر إلى آثار الربوبية، وبإثبات اتصافه سبحانه بصفات الكمال: من خلقٍ لكلِ شيء، وإنعامٍ بالنعمِ التي لا تحصى ، وفعلِ الأمورِ العظيمةِ التي لا يقدر عليها غيرُه، وإحياءٍ وإماتةٍ ، وعلمٍ شاملٍ، وقدرةٍ تامةٍ مطلقةٍ.
2) إقامةِ الأدلة على أنَّ البعثَ ويومَ القيامةِ وما يكون فيه من ثواب وعقاب وجزاء ـ حقُّ، وأنه سبحانه إليه ينتهي ويعود كل شيء، والاحتجاج على من كذب بذلك.
3) إقامةِ الأدلة على صدق النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأنبياءِ في دعوتهم، أرسله رسولًا مبشرًا ومنذرًا يهدي إلى دينه الحق، وإرشاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسليته وتصبيره فيما يلاقيه من أعدائه في طريق الدعوة إلى ملة إبراهيم التوحيد، وإثبات أن القرآنَ من عند الله، وأنه آية تكفي وتغني لا يحتاجون معه إلى آية أخرى.
وردِّ شبهات المشركين حول هذه الأمور الثلاثة وغيرها، وإقامةِ الحجةِ على المشركين بجميع أنواعهم والتعجيب من حالهم، فلم تترك أصحاب عقيدة فاسدة إلا حاورتهم وبينت فساد عقيدتهم[13]: من عبدةِ أوثانٍ، وَصابئةٍ [14] ،وسُمْنيةٍ[15] ، ونصارى، ومجوسٍ: مانويةٍ و ثنويةٍ[16] ـ من الشرك الاعتقادي، والعملي بالتحليل والتحريم ما لم يأذن به الله مما يخالف ملة إبراهيم عليه السلام.
وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة، فليدركوا أنفسهم بالتوبة قبل فوات الأوان، فالإنسان مبتلى ممتحن في الأرض، مأمور بالإيمان بما ذكر من دين الله الذي هو ملة إبراهيم ودين جميع الأنبياء، فمن وفى بذلك فاز دنيا وأخرى عند رجوعه لربه الذي يعلم سره وجهره، ومن كفر وكذب بآيات الله وأعرض عنها، هلك في الدنيا كالأمم المكذبة قبله، وهلك في الآخرة، لا تنفعه الأصنام ولا غيرها، فهو سبحانه غفور رحيم يتوب عليهم إن تابوا شديد العقاب لمن كفر به. [17]
[h=1]3)المبحث الثالث: دلالة بداية السورة، وخاتمتها، واسمها على مقصودها:[/h][h=2]أ-المطلب الأول: دلالة بداية السورة (براعة الاستهلال) على مقصودها:[/h]سألخص ما ذكر العلماء في تفسير هذه الآية، ومن خلالها يلاحظ دلالة هذه الآية على مقصود السورة التي ذكر:

الآية الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [آية:1].
الْحَمْدُ لِلَّهِ: الحمد: هو الثناء على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها، و "ال": في الحمد للجنس، فدلّت هي مع اللام في {لله}على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى أي: الحمد المعروف ما هو مستحَقٌّ لله وحده دون جميع الأنداد والاَلهة، ودون ما سواه مما تعبده كفرة خلقه من الأوثان والأصنام، فيلزم أنَّ جميع أفراده مستحقة له، فإن الجنس إذا كان مختصاً به لم يكن فردٌ منه لغيره ؛ إذ الجنس لا يوجد إلا ضمن أفراده ، والجملة الاسمية للثبات والدوام.
وتعليقُ الحمد المعرَّفِ بلام الجنس أولاً باسم الذات الذي عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال، وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال؛ للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ بذاته، لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء:

  1. لأنه تعالى له الأوصافُ السَّنية والعلمُ والقدرةُ والإحاطةُ والإنعامُ، فهو أهلٌ للمحامدِ على ضروبها، المتصفُ بصفاتِ الجلالِ والجمالِ.
  2. ولأنَّ كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه؛ إذ هو الخالق لكل شيء.
والجملة تتضمن ثلاثة أمور:

  1. الإخبار أن جميع المحامد مستحَقَّة استحقاقًا ثابتًا دائمًا لله تعالى، فجميعُ المحامدِ مستحَقَّةٌ لله سبحانه لذاته، ولِمَا خلقَ وأنعمَ وتفضلَ به من خلقِ السماواتِ والأرضِ، وجعلَ من الظلمات والنور، فلا يستحقه سواه من صنمٍ، وحجَرٍ، وإنسانٍ وغيرِه، وأعلى الحمدِ عبادتُه سبحانه.
  2. إنشاء ثناء من الله سبحانه وتعالى على نفسه؛ إعلامًا بأنه المستحق لجميع المحامد، فحمِد نفسَه على خلقِه السماواتِ والأرضَ، الدالِّ على كمالِ قدرتِه ، وسَعةِ علمِه ورحمتِه ، وعمومِ حكمتِه ، وانفرادِه بالخلقِ والتدبيرِ ،فهي جملة خبريةٌ لفظًا إنشائيةٌ معنىً[SUP][SUP][18][/SUP][/SUP].
  3. تعليمُ العبادِ أن يحمَدوه وحده؛ لأنه المستحق وحده لأن يُحمَد ويُعبَدَ ويُشْكَر، فهو المتفضل عليكم بنعمه، فأخلِصُوا له الحمدَ، فمِن مقاصد هذه الكلمة أنَّ القلوبَ مجبولةٌ على حُبِّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، فإذا أمر اللهُ تعالى العبدَ بالتحميدِ، وكان الأمرُ بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى ، صار ذلك التكليفُ حاملًا للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه .
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}:
الموصول، في محلّ الصفة لاسم الجلالة، أفاد مع صلته التذكيرَ بعظيمِ صفةِ الخلقِ الذي عمَّ السماوات والأرضَ وما فيهنَّ من الجواهر والأعراض، وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى.
ووصْفُه تعالى بما يُنْبئ عن تفصيل بعض موجِبات الحمد من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال ـ للتنبيه على استحقاقه تعالى للحمد واستقلالِه به باعتبار أفعالِه العِظام، وآلائِه الجِسام أيضاً؛ لأن من تفرد باختراع الأشياء كان هو المختصَّ بجميع المحامد ، ومَنِ اختص بجميع المحامد لم يكن إلهٌ سواه ولم يكن له شريك ، لا ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة ولا غير ذلك.
وتخصيصُ خلقِ السماوات والأرض بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية، وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية ، التي أجلُّها نعمةُ الوجودِ الكافيةُ في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود ، فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية ، المنوطِ بها مصالحُ العباد في المعاش والمعاد، أي خلق السماوات والأرض اللتين منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم ، فمن السموات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم ومنافعكم بها ،أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق، منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار، من تعاجيب العبر والآثار، تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار[SUP][SUP][19][/SUP][/SUP].
{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور}:
عطْفٌ على {خَلَق} مترتب عليه؛ لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما ، داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمدِ ، فكما أنَّ خلقَ السماوات والأرض وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلةً موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا ، كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما.
وخَصّ بالذكر من الجواهر والأعراض عرَضَين عظيمين، وهما: الظلمات والنور؛ لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما ، وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسَيِ المخلوقات من جواهرَ وأعراضٍ .
والمعنى: الحمد كله لله الذي أنشأ بقدرته هذه العوالمَ العلويةَ والسفليةَ، وأوجد ما فيها من مخلوقاتٍ ناطقةٍ وصامتةٍ، وظاهرةٍ وخافيةٍ، وأحدَثَ ما يتعاقبُ عليها من تحولاتٍ وتقلباتٍ ونورٍ وظلماتٍ، فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله- تعالى- تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله- عز وجل- وهما خَلْقُ السماواتِ والأرضِ، وجَعْلُ الظلماتِ والنور، إضافةً للاستحقاقِ الذاتي في اسمه سبحانه الجامع لصفات الجلال والجمال.
والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية، كما أن المراد بالنورِ النورُ الحسي؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السماوات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده- سبحانه- بخلق هذه الأشياء.
وهذا الذي اختاره الجمهور[20]، وعلى هذا فتقديم الظلمات في الذكر على النور لأن جنسها مقدم في الوجود، فقد وجدت مادة الكون وكانت دخانا مظلمًا – أو سديمًا كما يقول علماء الفلك – ثم تكونت الشموس ، ولأن الظلمة هي الغالبة على الكون، لكن يستفاد من النص بطريق الإيماء شيء آخر هو ما ذكره ابن عاشور بقوله:" ثم إنّ في إيثار الظلماتِ والنورِ بالذكر دون غيرِهما من الأعراض إيماءً وتعريضاً بحالِيْ المخاطبين بالآية من كفرِ فريقٍ وإيمانِ فريقٍ ، فإنّ الكفر يشبه الظلمة لأنّه انغماس في جهالة وحيرة ، والإيمان يشبه النور لأنّه استبانة الهدى والحقّ، قال تعالى : { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ر } [ البقرة : 257 ]".[21]
يقول علي هاني: فَهْمُ الظلماتِ والنورِ المعنوي بطريقِ الإيماءِ مناسب لما في السورة من ذكر ضلالات الكفار والمشركين بأنواعهم وهي ظلمات كثيرة، فجَمْعُ الظلماتِ على هذا تنبيهاً على أنَّ طرقَ الشَّرِّ والهلاكِ كثيرةٌ تدور على الهوى، وبيانًا أنَّ دينَ التوحيدِ هو النور الحق لا غير.
وتقديمُ الظلمة على هذا مناسب لسياق العادلين بربهم، وهذه الإشارة مناسبة لما جاء في خاتمة السورة :{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[آية:153].
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}:
{الذين كفروا}: الظاهر فيه العموم، فيندرج فيه عبدة الأصنام، وأهل الكتاب، وعبدة المسيح من النصارى ،وعبدة عزير من اليهود ، والمجوس عبدة النار ،والمانوية عبدة النور.
{ثُمَّ}:هنا للاستبعاد ، أي :لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكِرَ من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه، فهي دالة على بُعْدِ ما بين مدلولي المعطوفِ والمعطوفِ عليه ،كما تقول : "يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني" ؛لإفادةِ استبعادِ ما فعله الكافرون وكونِه ضِدَّ ما كان يجب عليهم للإله الحقيق بجميع المحامد؛ لكونه هو الخالق لجميع الكونِ العلويِّ والسفلِّي وما فيه الظلمات الحسية والمعنوية ، والهادي لما فيه من النور الذي يهتدي به الموفقون في كل ظلمة منها ، كأنه قال : وهم مع ذلك يعدلون به غيره ،والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب على وجه الكناية بقرينة { ثم }، ودلالة المضارع على التجدّد .
والمراد بالعدل هنا التسوية، يقال: عدل الشيء بالشيء: إذا سوَّاه به، والباء متعلقة بـ{يعدلون}.
والمعنى: أن الله- تعالى- هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي جعل الظلمات والنور، فهو المستحق لأن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء والعبادة باعتبار ذاته وباعتبار ما فصَّل من شؤونه العظيمة من الخلق، الموجبةِ لقَصْر الحمد والعبادة عليه، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يجعلونه لربهم المحسنِ إليهم الذي لم يروا إحساناً إلا منه ـ عديلًا مساويًا له في كونه يُعبَد ويُعظَّم وفي اتخاذه رباً وإلهاً ،يساوون به غيره في العبادة و في الإلهيّة التي هي أقصى غايات الحمد والشكر، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر مع معرفتهم به بأنه الذي أبدع الأشياء، وأن كلَّ ما سواه مخلوقٌ له غيرُ متّصفٍ بشيء من مبادئ الحمد ،ولم يساوِ اللهَ في شيء من الكمال ، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم ، بل هو المنفرد بذلك كله ؛ كفراً لنعمته وبُعداً من رحمته .
فبعضهم عدل به بعض الجواهر من خلقه من السماء كالنجوم، أو من الأرض كالأصنام، أو بعض ما ينشأ عن بعض خلقه من الأعراض وهو خلقه كالنور والظلمة، والحال أن تقلباتهما تدل بأدنى النظر على بُعدهما عن الصلاحية للإلهية لتغيرهما.
ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى، فلم يقل (به يعدلون)؛ لزيادة التشنيع والتقبيح، والتقديمُ للجار والمجرور{به} لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ.
وتركُ المفعولِ للفعل {يعدلون} لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلةَ اللازم، إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعادِ والاستنكارِ لا خصوصيةُ المفعول، ولأنه معلوم لكل أحد ما يعدل به، وأيضًا عدم ذكر الشيء الذي يشركونه لعدم الاعتداد به وأنه لا يستحق أن يذكر مع من هذا شأنُه.
و في ذكرِ هذه المخلوقاتِ الأربعةِ تعريض بإبطال عقائد كفار العرب، فإنّهم بين عبدة أوثان، وصابئة، ومجوس، ونصارى، وهذا المراد دلّت عليه القرينة، وإن كان غالبُ عرفِ القرآن إطلاقَ الذين كفروا على المشركين عبدة الأوثان ،وكلّهم قد أثبتوا آلهة غير الله، والآية ردت على :

  1. عبدةِ الأوثان الذين أثبتوا آلهة من الأرض وهي الأصنام التي لا تستحقّ الحمد الصُّوري بَلْهَ الحقيقي كما قال إبراهيم عليه السلام {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42].
  2. وَالصابئةِ بفرقهم: فمنهم من أثبت آلهة من الكواكب السماوية، ومنهم من هم قائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية متوسطين إلى رب الأرباب، وينكرون الرسالة في الصورة البشرية، لذلك جاءت قصة إبراهيم عليه السلام في بيان أنها تتغير وتغيب ولا تصلح أن تكون إلهًا.
  3. والسُّمْنيةِ وهم من فلاسفة الهند، يجحدون من العلوم ما سوى الحسّيات، يقولون بالتناسخ وبإلهية الشمس.
  4. والنصارى، الذين أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرضية.
  5. والمجوسِ وهم المانوية و الثنوية ألّهوا النور والظلمة، زعموا أنَّ للعالم ربين: أحدهما النور، وهو الخالق للخير، والثاني الظلمة وهو خالق للشر،و زعموا أن الظلمة والنور هما المُدَبِّران،و عبدوا النار وغيرها من الأنوار .
والرد عليهم من الآية أنَّ المخلوق لا يكون إلهًا ولا فاعلًا لشيء من الحوادث، فالتعجيب من شأنهم في أنّهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته.
فافتتح سبحانه السورة بهذه الآية الكريمة الجامعة التي فيها إثبات أنه الرب الحق الخالق المستحق وحده لذاته ولخلقه لأنْ يعبد ويحمد ، وأبطل إلهية جميع الشركاء المخلوقين، وأنكر وعجَّبَ من المشركين ، وهذا مشير لموضوع السورة ،وجامعٌ ومحصَّلٌ وملخّصٌ غرضَ السورة ومقصودَها وهو:" الاعتناءُ بالاحتجاجِ لأصولِ الدين و تقريرُ عقائدِ الإسلامِ : من التوحيدِ الاعتقادي، والعملي: باختصاصِه سبحانه بالحكم و التشريعِ والعبادة ، والنبوةِ ، واليومِ الآخر، و نقضِ الاعتقادات الشركية وشبهاتهم، ودعوة الكل للإيمان الحق ترغيبًا وترهيبًا" .
ليتوسل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلًا، وتضمينه العجبَ منهم ولومهم على أن عدلوا به غيره؛ والامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ والإنذار والتخويف[22]، قال الإمام السيوطي مشيرًا لعلاقة هذا الافتتاح بالتشريع والتحليل والتحريم الذي ركزت عليه السورة:" وافتتحت بذكر الخلق والملك؛ لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحةً ومنعًا وتحريمًا وتحليلًا، فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه"[23].
" إنها اللمسات العريضة للحقيقة الكبيرة والإيقاعات المديدة في مطلع السورة، وهي ترسم القاعدة الكلية لموضوع السورة ولحقيقة العقيدة: إنها اللمسات الأولى، تبدأ بالحمد للّه ثناء عليه، وتسبيحًا له، واعترافًا بأحقيته للحمد والثناء، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء.. بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى الخلق، وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود، السماوات والأرض، ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود، الظلمات والنور فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك ؛ لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون بل يجعلون للّه شركاء يعدلونهم به ويساوونه " [SUP][SUP][24][/SUP][/SUP]
الآية الثانية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [آية:2].
هذه الآية الكريمة سيقت لأمرين:

  1. الأمر الأول: لذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر، فلما شك المشركون في البعث، وكانوا يستبعدون البعثَ لصيرورةِ الأمواتِ تراباً واختلاطِ ترابِ الكلِّ بعضِه ببعضٍ وبترابِ الأرض، فيتعذر التمييز، وكان تمييز الطين لشدة اختلاط أجزائه بالماء أعسرَ من تمييز التراب قال:
{من طين} فأعلمهم أنه خلقهم من طين، فهو قادر على إعادة خلقهم.

  1. فالآية الكريمة استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بطلان كفرهم بالبعث، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمانَ به، بعد بيانِ بطلانِ إشراكِهم به تعالى، مع معاينتهم لموجِبات توحيدِه.
  2. وتخصيصُ خلقِهم بالذكر من بين سائر دلائل صِحةِ البعث، مع أنَّ ما ذُكر من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها، لما أن محَلّ النزاعِ بعثُهم، فدلالةُ بدءِ خلقِهم على ذلك أظهرُ و هم بشؤون أنفسهم أعرفُ، والتعامي عن الحجة النيِّرة أقبح.
  3. أي: ابتدأ خلقَكم من طين بخلق آدم عليه السلام الذي هو أبو البشر، وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين، لا إلى آدم عليه السلام، وهو المخلوق منه حقيقة، بأن يقال: هو الذي خلق أباكم:

  • لتوضيحِ القياس بأنَّ مَنْ قدَر على خلقه قادر على بعثكم، وللمبالغة في إزاحةِ الاشتباه والالتباس.
  • مع ما فيه من التنبيه على حكمةٍ خفية هي أن كل فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشاء آدم عليه السلام من طين، حيث لم تكن خلقة آدم البديعة مقصورةً على آدم عليه السلام بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ آحادِ البشر انطواءً إجمالياً، فكأن خلقَه عليه السلام من الطين خلقٌ لكل أحد من فروعه منه، فللإشارة إلى هذه اللطائف عبر بما عبر، ولله درُ شأن التنزيل.
{ثُمَّ قَضَى} أي كتب لموتِ كلِّ واحد منكم، {أَجَلاً } خاصاً به أي: حداً معيناً من الزمان يفنى عند حلولِه لا محالة.
{وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي حدٌّ معينٌ لبعثكم جميعاً.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعادٌ واستنكارٌ لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذُكر من الحُجج الباهرة الدالةِ عليه، أي تمترون في وقوعه وتحقّقِه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسِكم من الشواهدِ ما يقطع مادةَ الامتراءِ بالكلية، فإن مَنْ قدَر على إفاضة الحياة وما يتفرَّع عليها من العلم والقدرة وسائِرِ الكمالاتِ البشرية على مادةٍ غيرِ مستعدّةٍ لشيء منها أصلاً كان أوضحَ اقتداراً على إفاضتها على مادةٍ قد استعدت لها وقارنَتْها مدةً [SUP][SUP][25][/SUP][/SUP].

  1. الأمر الثاني الذي سيقت له الآية: ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع تعالى واستحقاقه الحمد وحده، يُذَكِّرهم بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد ، وهو خلقهم من الطين ،فيشير إلى خلقه العالم الإنساني الصغير بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير ،فيبين أن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان ودبر أمره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهرًا فهو محدود الوجود.
إنها لمسة الوجود الإنساني، التالي في وجوده للوجود الكوني ، ولظاهرتي الظلمات والنور ، لمسة الحياة الإنسانية في هذا الكون الخامد ،لمسة النقلة العجيبة من عتَمَة الطين المظلم إلى نور الحياة البهيج ؛ تتناسق تناسقًا فنيًا جميلًا مع " الظلمات والنور " .
وأتي بضمير (هو ) في قوله { هو الذي خلقكم } ليحصل تعريف المسند والمسند إليه معاً ، فتفيد الجملة القصر في ركني الإسناد وفي متعلّقها ، أي هو خالقكم لا غيره ، من طين لا من غيره [26].
وهذا الذي ذكر في الآية الثانية يشمل أمرين من مقصود السورة:

  1. إقامةِ الأدلةِ على إثباتِ الكمالات لله تعالى والتوحيدِ الخالصِ لله تعالى الاعتقادي، والعملي: باختصاصِه بالحكم والتشريعِ والتحليلِ والتحريمِ
  2. إقامةِ الأدلة على أنَّ البعثَ ويومَ القيامةِ وما يكون فيه من ثواب وعقاب وجزاء ـ حقُّ، وأنه سبحانه إليه ينتهي ويعود كل شيء، والاحتجاج على من كذب بذلك".
الآية الثالثة: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [آية:3].
معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شُمولِ أحكام إلاهيّته تعالى لجميع المخلوقات، وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء إثرَ الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ أثناء بيانِ كيفية خلْقِهم وتقديرِ آجالِهم ،فبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة في الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم القيامة حق ، جاءت الآية الثالثة لتصفه - سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق في هذا الكون، ذو السلطان المطلق في هذا الوجود يسيطر عليه بجلاله وألوهيته واستحقاقه للألوهية وحده، مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات وفي الأرض من غير تفاوت أو تحديد ، وهو العالم فيه بكل شيء، لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهة أخرى وشفعاء مختلفة لوجوه التدبير المختلفة :كإله الحياة، وإله الرزق، وإله البَر، وإله البحر، وغير ذلك ، وكذا للأنواع والأقوام والأمم المتشتتة: كإله السماء، وإله هذه الطائفة، وإله تلك الطائفة ،فنفى ذلك بقوله : { و هو الله في السماوات وفي الأرض}. [27]
وهذا ملخص لجزء من مقصود السورة وهو:" إثبات الكمالات لله تعالى والتوحيدِ :الاعتقاديِّ الخالصِ ،والعملي : باختصاصِه سبحانه بالحكم والتشريعِ والتحليلِ والتحريمِ ، واستحقاقه وحده للعبادةِ والحمدِ ؛لأنه الخالق القاهر المتفضل،ومن البعثِ والجزاءِ يوم القيامة وإقامةُ الحججِ الدامغةِ لعقائدِ جميعِ المشركين وشبهاتِهم ،ونبذِ الشركِ به اعتقادًا وعملًا ".

{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) }[الآيات :4 ـ 8].
كلام مستأنَفٌ واردٌ لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بيّن في الآية الأولى إشراكَهم بالله سبحانه، وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد، وفي الآية الثانية امتراءَهم في البعث وإعراضَهم عن بعض آياته.
والمراد بالآيات المعجزاتُ، والآياتُ القرآنيةُ الدالة على وحدانيته سبحانه واستحقاقِه وحده للحمد وعلمه الشامل، وصدقِ رسوله، وصدقِ ما أتيتهم به من عند الله ومنه البعث.
"أرشدت الآيات الثلاث السابقة إلى دلائل وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته ، وأنها على ظهورها لم تمنع الكافرين من الشرك في الألوهية ؛ وأرشدت إلى دلائل البعث وإلى أنها على قوتها لم تمنع المشركين من الشك فيه ؛ وبينت الثالثة أن الله تعالى المتصف بالصفات التي يعرفونها ولا ينكرونها هو الله في عالمي السموات والأرض ، المحيط علمه بكل شيء ، فلا ينبغي أن يتخذ معه إلهًا فيهما ، ولكن المشركين جهلوا ذلك، فجوزوا أن يكون غير الرب إلهًا وعبدوا معه آلهة أخرى ، فبين لهم الوحي الحق في ذلك وأن الله الذي يعترفون بأنه هو رب السموات والأرض وما فيهن هو الإله المعبود بالحق فيهن – ثم أرشدت هذه الآيات الثلاث اللاحقة سبب عدم اهتدائهم بالوحي ، وأنذرتهم عاقبة التكذيب بالحق ، ويتلو ذلك في الآيات التي بعدهن كشف شبهاتهم على الوحي وبعثة النبي عليه الصلاة والسلام ، فيكون الكلام في أصول الدين كلها وكل السورة تفصيل له" [SUP][SUP][28][/SUP][/SUP] فشملت التوحيد، والنبوة والبعث .
قال الشيخ سعيد حوى:" إن الآيات الثلاث الأولى التي تشكّل مقدمة السورة، تتكلم عن كل معاني المحور، وتقرر ما قرّرته، وتبني على ذلك، وتتحدث عن كفر الإنسان وشكّه وافترائه، فالصلة واضحة جدًا بين مقدّمة السورة في آياتها الثلاث، وبين محور سورة الأنعام".[29]
فقد لاح أن مقصد السورة: الاعتناءُ بتلقين الاحتجاجِ لأصولِ الدين وتقريرِ عقائدِ الإسلامِ: من التوحيدِ الاعتقادي، والعملي: باختصاصِه سبحانه بالحكم و التشريعِ والعبادة؛ لأنه الخالق القاهر المتفضل، والنبوةِ، واليومِ الآخر، و نقضِ الاعتقادات الشركية وشبهاتهم فيما ذكر، ودعوة الكل للإيمان الحق ترغيبًا وترهيبًا"." فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة، لمن فكّر فيها بعقل وتدبرها بفهم.[30]
[h=2]ب-المطلب الثاني: دلالة خاتمة السورة على مقصودها: [/h]{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }[الآيات :161ـ 165].
لما علَّم رسولَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنواعَ دلائلِ التوحيد بالأدلة القاطعة، وبالغ في تقريرِ إثباتِ التوحيدِ، والردِّ على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد ، وإبطالِ جميعِ أديانِ الضلالِ ووصفِها بتفرق أهلِها الدالِّ على بطلانها واعوجاجها ، فكانت هذه السورةُ أجمعَ السورِ لأصولِ الدينِ، وإقامةِ الحججِ عليها ودفعِ الشبه عنها ، وإبطالِ عقائدِ الشِّركِ ـ ختَم السورة الكريمة بخمس آيات جامعة ،يعلن بها خلاصةَ الغرضِ من دعوته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في السورة ،وخلاصةَ الحُجَجِ التي أقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك، فكانت خيرَ الخواتيمِ في براعةِ المقطعِ ، وفذلكةً لما أُمر به الرّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الشّأن ، غَلقاً لِبابِ المجادلةِ مع المعرضين ، وإعلاناً بأنّه قد تقلّد لنفسِه ما كان يجادلهم فيه ليتقلّدوه وأنَّه ثابت على ما جاءهم به ، وأنّ إعراضَهم لا يزلزله عن الحقّ .
وفيه إيذانٌ بانتهاءِ السّورةِ؛ لأنَّ الواعظَ والمناظِرَ إذا أشبَعَ الكلامَ في غرضِه، ثمّ أَخَذ يبين ما رَضِيه لِنفسه وما قَرّ عليه قَرارُه، علِم السّامعُ أنَّه قد أخذ يطوي سجلّ المحاجّة، ولذلك غيّر الأسلوب، وهذه الخاتمة مناسبة لجملة السورة في أسلوبها ومعانيها:

  1. فأمره تعالى بالإعلان أن ما فُصِّل في السورةِ هو صراطُ الله المستقيم ودينُه القيمُ الذي لا عوج فيها، و أنه على ملةِ إبراهيمَ المستقيمةِ التوحيديةِ، دون ما يدعيه العرب المشركون وأهلُ الكتابِ المحرفون، و أن الطريقَ قد وضَح والحجةَ قد قامت، فكان في هذا رجوعٌ إلى قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً }[ الأنعام : 74 ] الذي بنيت السورة في الحقيقة عليه ، وألقيت أزمة أطرافها إليه ، وترغيبٌ في هذا الدين؛ لأن جميع المخالفين يتشبثون بأذيال إبراهيم عليه السلام : العرب، وأهل الكتابين بنسبة الأبوة ، والمجوس بنسبة البلد والأخوة.
وأشار بذلك إلى أنَّ سيدنا محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهِم ما حاجَّ به أبوه إبراهيم عليه السلام قومَه، وأنه عليه صلوات الله وسلامه إنما يدعو إليه وهو معتصم به قولًا وعملًا وإيمانًا وتسليمًا على أكمل وجهه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

  1. ثم بين التوحيد بالعمل، بعد بيان أصل التوحيد المجرد بالإيمان، وحاصل ما تضمّنه هو الإخلاص لله في العبادة، وهو متفرّع عن التّوحيد القلبي، فأمره أن يعلنَ ويخبرَ المشركين الذين يعبدون غيرَ اللهِ ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك، فإنَّ صلاتَه لله، أي: جنسَها الشاملَ للمفروضِ والمستحبِّ، وعبادتَه ومنها ذبائحُه[31]:سواء كانت فديةً، أو أضحيةً في الحج، أو غيرِه على اسمه وحده لا شريك له ، وهذا كقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] .
فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحرافِ عما هم فيه، والإقبالِ بالقصدِ والنيةِ والعزمِ على الإخلاص لله تعالى، وأنه قد وجه وجهه وحصر نيتَه وعزمَه في حبس حياته لطاعته ومرضاته تعالى وبذلها في سبيله ليموتَ على ذلك كما يعيش عليه، وذكْرُ المماتِ مقصود منه استيعابُ جميعِ مدّة الحياة حتّى زمنِ الإشرافِ على الموت، وما يعمله من أعمال عند الموت أو يوصي به بعده.
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [آية:162]
إنه التجرد الكامل للّه، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة، بالصلاة والعبادة والذبائح وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه، إنها تسبيحة «التوحيد» المطلق، والعبودية الكاملة، والإخلاص لله، وفي إعلان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصدَ وجهِ الله عز وجل.

  1. ولما أعلم أنه يستحقه لذاته ووصفه، أعلم أنه يستحقه وحده فقال: {لا شَرِيكَ لَهُ} أي: لا أُشرِك فيه غيرَه، فنفى كلَّ شريكٍ، {وبذلك} أي: بذلك الأمر العالي من توجيه أموري إليه على وجه الإخلاص أمرت لا بشيء غيرِه، {وأنا أول المسلمين} المنقادين لما يدعو إليه الله في هذا الدين ، منقاد أتم انقياد:{ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
فهو عليه الصلاة والسلام أولُ المسلمين على الإطلاق في علو الدرجة والرتبة، وأكملُ المذعنين لأمر ربه ونهيه، وأولهم في الزمن بالنسبة إلى هذه الأمة، وفيه بيانُ مسارعتِه عليه السلام إلى الامتثال بما أُمر به، وأنَّ ما أُمر به ليس من خصائصه عليه السلام بل الكلُّ مأمورون به ويقتدي به عليه السلام مَنْ أسلم منهم.

  1. لمَّا عُلِم أنّ الله تعالى هداه إلى صراط مستقيم لا شرك فيه ، وأمره بأن يمحّض عبادته وطاعته لربّه تعالى ، شكراً على الهداية ، أتبع ذلك بأن يُعَجِّبَ و يُنكرَ على من يريد منه مَيلاً إلى أنْ يَعْبُد غيرَ اللهِ تعالى؛ لأنّ واهبَ النّعمِ هو مستحقّ الشّكر ، ومن المعلوم أنه إذا كان ربَّ كلِّ شيء كان كلُّ شيء مربوبًا له فلا أحدَ غيرَه على الإطلاق يصلح أن يُعبَد ،وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عَبدوا غيره فقال:{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آية: 164] كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن، وتشتمل كل مخلوق مما يعلَمُ الإنسانُ ومما يجهلُ، وتجمع كلَّ حادثٍ وكلَّ كائن ٍفي السِّرِّ والعلانيةِ ثم تظللها كلَّها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل ، وتُعَبِّدُها كلَّها لحاكميةِ اللّه المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة.
والمعنى: أغيرَ الله خالقِ الخلقِ، وسيدِهم ومربيهِم بالحق، أطلبُ ربًا آخرَ أشركه في عبادتي له كما تفعلون بآلهتكم ، والحال أنه تعالى هو رب كل شيء مما عبد ومما لم يعبد، فهو الذي خلق الملائكةَ وخواصَّ البشرِ: كالمسيحِ، والشمسِ، والقمرِ، والكواكبِ، والأصنامِ.

  1. وأنَّ كلَّ نفسٍ لا تعمل عملًا ولا تكسب شيئًا إلا حُمِل عليها، وأن الجزاء عند الله تعالى على الأعمال مبني على عدمِ مؤاخذةِ أحدٍ بعمل غيِره، ثم المرجع إلى الله تعالى وإليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد ، وإذا كان لا محيص عن الجزاء وهو المالك ليوم الدين فهو الذي تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئًا، كأنه قيل: أغيرَ الله أبغي ربًا وإليه مرجعكم جميعًا فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه؟، وأن من يضيع الفرصة فلا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حلَّ فيه أمر الله،{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }.
  2. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}:
الله الّذِي جَعَلَكُمْ أيها الناس خَلائِفَ الأرْضِ بأن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية ، واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض ، تخلفونهم فيها بعدهم ؛ لأنّ سيدنا محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين فخلفت أمّتُه سائرَ الأمم ِ؛ {وَرفَعَ بعضَكُم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } كثيرةً متفاوتةً، أي : في الرزق ، والعلم ، والشرف ، والقوة ،والخلق ، والعقل، والقوة، والفضل، فجعل منهم: الحسنَ، والقبيحَ، والغنيَّ، والفقيرَ، والشريفَ، والوضيعَ، والعالمَ، والجاهلَ، والقويَّ، والضعيفَ، وغير ذلك؛ ليفعل معكم فعلَ المختبرِ أتشكرون أم تكفرون فيما خوّلكم من فضله ومنحكم من رزقه؟ ، يبتلي الغنيَّ بغناه والفقيرَ بفقره، والشريفَ بشرفِه من جميعِ أصنافِ خلقِه؛ ليظهرَ منكم ما يكون عليه الثوابُ والعقابُ فيعلم المطيعَ له منكم فيما أمره به ونهاه عنه والعاصيَ ، و المؤدّيَ للحقّ الذي أمره بأدائه منه والمفرطَ في أدائه .
إنَّ ربَّك يا محمدُ لسريعُ العقابِ لأعدائه ولمن يكفر نعمته؛ ويُسخِطه بارتكابه معاصيَه وخلافَ أمرِه فيما أمره به ونهاه؛ لكونه توليًا وإدبارًا عنه مع إنعامه عليه وتمكينه إياه في الأرض، كما فعل بالقرون السالفة.
سريع العقاب لا حائل بينه وبين من يريد عقابه، ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب، بل كل ما يريد حاضر لديه عتيد، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
ولما هدد وخوف، رجّى من أراد التوبة واستعطف فقال: {وإنّهُ لَغَفُورٌ}: أي لساتر ذنوب من أخطأ وأذنب من أوليائه وأهل طاعته، ولمن رجع عن كفره ومعاصيه {رَحِيمٌ}: بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه.
واقتصر في {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} على مؤكد واحد، وَفي {وإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} على ثلاثة مؤكدات، وهي: إنّ ، ولامُ الابتداءِ ، وذكْرُ وصفين: { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ لأنَّ جانبَ الرحمةِ أرجى ليُطمئِن أهلَ العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته ، وليَسْتَدعي أهلَ الإعراض والصدود والكفر ، إلى الإقلاع عمّا هم فيه ، وهذا الكلام بلغ الغاية في الإنذار والترغيب والترهيب إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه، وفي هذه الآية الكريمة:

  • إنكارٌ لأنْ يُعْبدَ غيرُ اللهِ تعالى، كأنه قال: أغيرَ اللّه أبغي ربًا، وهو الذي استخلف الناس في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض، أغيرَ اللّه أبغي ربًا، وهو سريع العقاب، غفور رحيم لمن تاب؟
  • دليل على إمكان البعث، وعلى وقوعه؛ لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لمن سبَقَها، فعمَروا الأرض جيلاً بعد جيلٍ، لا يُعجزه أن يحشرها جميعاً بعد انقضاء عالم حياتها الأولى.
  • تذكير بالنّعمة، بعد الإنذار بسلبها، وتحريض على تدارك ما فات، وفتح لأعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها وعبرة وعِظة لعدم الاغترار بالقوّة والرّفعة، ولجعل ذلك وسيلةً لشكرِ تلك النّعمةِ والسّعيِ في زيادةِ الفضلِ لمن قصّر عنها.
وقد امتازت السورة ـ كما تقدم ـ بكثرة بدء الآيات فيها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة " قل "، فجاءت هذه الخاتمة بالأمر الأخير له ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يقول لهم القول الجامع لجملة ما قبله ،فتكرّر الأمر الموحي في كل آية : «قل» .. «قل».. «قل»، ثلاث مرّات تنويهاً بالمقول، وليلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد، مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته، ولأنها السورة التي تعنى بأصول الدين فناسبها أن يكون ما فيها متلقىً من الله تعالى وهو عين الوحي، لم يُحْدِث فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيَّ تغيير ولم يأت به من قِبَل نفسِه بخلاف ما عليه أهل الشرك.
ويلاحظ أن الأسلوبين البارزين الذين عرضت سورة الأنعام حججَها، قد سارا إلى آخر السورة، الأول: أسلوب تلقين الحجة (قل) كما ذكرنا، والثاني: أسلوب التقرير فقال في آخر آية: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [آية:165].
هذا التعقيب كله، الذي يؤلف مع مطلع السورة لحنًا رائعًا باهرًا متناسقًا، هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار، وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع، تزعم أنها من شرع اللّه افتراءً على اللّه، إنه الإيقاعُ الأخيرُ في السياق الذي استهدف قضيةَ الحاكميةِ والشريعةِ يجيء متناسقًا مع الإيقاعاتِ الأولى في السورة، تلك التي استهدفتْ قضيةَ العقيدةِ والإيمانِ، من ذلك قوله تعالى: «قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ»، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة.
وإذا نظرنا إلى مقصود السورة نجد أن هذا ملخص لمقصودها بأحسن مما ذكرنا وهو:

  • الاعتناءُ بتلقين الاحتجاجِ لأصولِ الدين وتقريرِ عقائدِ الإسلامِ والأخلاقِ الفاضلةِ:

  • من إثباتِ الكمالات لله تعالى والتوحيدِ: الاعتقاديِّ الخالصِ، والعملي: باختصاصِه سبحانه بالحكم والتشريعِ والتحليلِ والتحريمِ، واستحقاقه وحده للعبادةِ والحمدِ؛ لأنه الخالق القاهر المتفضل .

  • ومن البعثِ والجزاءِ يوم القيامة، وصدقِ القرآنِ والنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسليتِه فيما يلاقيه.

  • وإقامةُ الحججِ الدامغةِ لعقائدِ جميعِ المشركين وشبهاتِهم، ونبذِ الشركِ به اعتقادًا وعملًا، ودعوتهم ودعوة الناس بالترغيب والترهيب أن يدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان.
[h=1]ت-المطلب الثالث: دلالة ومناسبة اسم السورة (الأنعام) لمقصودها[32]:[/h]تسمية السورة بـ(الأنعام" غاية في الحكمة والدقة، فهذا الاسم يلخص مقصود السورة بكلمة، فمدلول هذا الاسم أنَّ الأنعام[33] نعمةٌ عظيمةٌ وثروةٌ كبيرةٌ خلقها الله سبحانه نعمةً لعباده، وهي دالة على عظيم فضل الله وقدرته، فحقها أن تشكر:

  1. بتوحيده سبحانه؛ لأنه الخالقُ لهذه الأنعام المنعم بها الربُّ لهم ولها.
  2. وبالإيمان برسله واتباعِ ما جاءت به الرسل في التحليلِ والتحريمِ لا ما تمليه أهواؤهم مما فيه اتباع خطوات الشيطان ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ التحليلَ والتحريمَ لا يكون إلا عن طريق الوحي الإلهي والشرع كما قاله سبحانه:{ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }[آية:143]،{ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آية:145] لكنهم جحدوها بالشرك بالله سبحانه في شأنها، والإعراض عن آيات الله وبعدم الإيمان بآيات القرآن التي تبين الحق فيها: { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }[آية:150] ، وبتشريع وافتراء أحكام فيها بأهوائهم لم يأذن بها الله سبحانه، فحرموا بعضها ، ولم يذكروا اسم الله على بعضها عند الذبح، وإنما ذكروا عليها أسماء الأصنام لأنها ذبحت من أجلها ، واخترعوا أحكامًا من عند أهوائهم وجعلوها دينًا : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }[الآية: 138،139]،وجعلوا نصيبًا من هذه الأنعام لآلهتهم ، و نصيبًا لله تعالى ، ونصيبُ الآلهةِ مقدَّمٌ على نصيبِ الله تعالى، فقد كانوا يجورون على النصيب الذي جعلوه لله بينما يتحرزون عن الجور على النصيب الذي جعلوه لشركائهم: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }[آية:136] .
وأثاروا الشبهات لتشكيك المؤمنين في شأن شركهم وشأنها{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ }[آية:148]، فسلى الله نبيه مما يلاقيه منهم وهددهم بالعقاب على افترائهم: { سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }[آية:138]،{ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }[آية:139]{ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }[آية:147] ،{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }[آية:147]، ثم بين- سبحانه- أنه هو الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت له ، وأن يشكروه عليها فقال- تعالى-:{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }[الآيات 141،142].
و لما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك، وبين فساده بالدلائل النيرة، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق التي يسيمها العلماء «الوصايا العشر» مما حرمه وأمر به الملك الذي له الخلق والأمر، فليس التحريم لأحد غيره فقال :
{ قلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[الآيات:151ـ 153]،فكان تسمية السورة بالأنعام أدلَّ ما في السورة على مقصودِها ومحورها[34] ،وأوجز تلخيص لمقصود السورة بكلمة واحدة ، فلله در شأن التنزيل ما أعظمه.
وانظر هذا مع افتتاح السورة بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [آية:1] في دلالته على تلخيص المقصود مع مناسبته لموضوع الأنعام وما يتعلق بها.
وإليك بعض عبارات العلماء في سر تسمية السورة بالأنعام:

  1. قال الدكتور عمر عرفات : " تعود الدلالة السياقية لاسم السورة إلى حديثها عن بعض أحكام الله تعالى فيما يتعلق بالأنعام، وبيانها أن ما كان يدعيه الجاهليون من أحكام الأنعام إنما هو جهل محض قادهم إليه شركهم بالله تعالى، ففي تسمية السورة بالأنعام إشارة إلى أن الله تعالى هو خالقها وهو الذي سخرها للإنسان[35]، وبالتالي فهو وحده المشرع للأحكام المتعلقة بها، وأيُّ تشريع من البشر فيها من دون الله إنما هو مظهر من مظاهر الشرك والجهل؛ لأنه اعتداء على حق الله تعالى في شرعه... ولما كان افتراء المشركين فيما يتعلق بأحكام الأنعام بأهوائهم وضلالهم أدل ما في السورة على إعراضهم عن آيات الله بنوعيها ، سميت السورة بالأنعام للتأكيد على أن الحكم والتشريع من حق الخالق فقط ، فاسم السورة يعبر عن المحور المذكور".[36]
  2. قال الدكتور فاضل السامرائي:" سميت السورة (الأنعام) ليس لورود كلمة الأنعام فيها[37] فقط وإنما لذلك سبب رئيسي، وهو أنَّ الأنعام عند قريش كانت هي الأكل والشرب والغذاء والمواصلات والثروة وعصب الحياة ، وكان كفار قريش يقولون: نعبد الله لكنَّ عصبَ الحياة لنا نتصرف فيها كيف نشاء ،ولله تعالى يخبرهم أن التوحيد يجب أن يكون في الاعتقاد وفي التطبيق أيضاً ،يجب أن نوحد الله في كل التصرفات وليس في المعتقدات فقط، وهذا توجيه ليس فقط لكفار قريش وإنما توجيه لعامة الناس الذين يعتقدون بوحدانية الله تعالى ولكن تطبيقهم ينافي معتقدهم، إذن "لا إله إلا الله" يجب أن تكون في المعتقد والتطبيق، وهذا يناسب ما جاء في سورة المائدة في قوله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[المائدة:3] فعلينا أن نأخذ الدين كاملاً وأن نوحِّد الله تعالى في المعتقد والتطبيق".[38]
  3. قال المهايمي:" سميت بها؛ لأنَّ أكثرَ أحكامِها، وجهالاتِ المشركين فيها وفي التقرب بها إلى أصنامهم مذكورة فيها، وقد اشتملت على أكثر جهالاتهم ويتم ظهورها بها"[39] .
  4. جاء في التفسير الموضوعي: "سميت بسورة الأنعام وذلك لما ورد فيها من ذكر الأنعام والشيء قد يسمى بجزئه، فسميت هذه السورة الكريمة سورة الأنعام لورود كثير من أحكام الأنعام فيها، ولبيان السورة لجهالات المشركين فيها ، كتحليلهم وتحريمهم حسب أهوائهم وتقاليدهم البالية وتقربهم بها إلى أصنامهم فنزلت هذه السورة لتبين بطلان ما اتخذوه من أمرها دينا ، لم يأذن به الله .


[1] ومن المعروف تاريخيًا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث يدعو الناس سرًا إلى عبادة الله زهاء ثلاث سنين، ثم بدأت مرحلة الجهر بالدعوة في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمره الله بأن يصدع بما يؤمر به، أي: يجهر بما يكلف بتبليغه للناس، قال ابن إسحاق عند حديثه عن مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية: «ثم دخل الناس في الإسلام أرسالًا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن الله- تعالى- أمر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره واستتر به إلى أن أمره الله- تعالى- بإظهار دينه ثلاث سنين- فيما بلغني- من مبعثه، ثم قال الله- تعالى- له: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94]. السيرة النبوية لابن هشام، ج 1 ص 274 طبعة المكتبة التجارية. (التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ محمد سيد طنطاوي (4/ 9).

[2] انظر (سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام / لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد المدني (16)، (التفسير الوسيط للقرآن الكريم/محمد سيد طنطاوي (5/7،6،5). ( التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر .( 3/ 1197).

[3] قال الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني:" والدارس لهذه السورة يجد أن المعركة الفكرية بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر قد استعرت ، فما أكثر الحديث في السور السابقة لسورة الأنعام: كالشعراء، والنحل، والقصص، والإسراء، ويونس، وهود، يوسف ـ عن مصارع الظالمين وانتصار الأنبياء ورد شبهات المشركين وتسفيه أحلامهم، وبيان فساد الشرك وضلال أهله، وورد في سورة الحجر السابقة لنزول سورة الأنعام {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94] مما يدل على نزول هذه السورة في مرحلة الجهر بالدعوة واشتداد المعركة بين المسلمين والكافرين ؛ لتعطي المسلمين الزاد وتمدهم بالحجج الدامغة التي تكشف زيف الشرك تزهق باطله، إن نزول سورة الأنعام في السنة الرابعة أو الخامسة للبعثة بعد الجهر بالدعوة يمثل فترة بالغة الأهمية في تاريخ الدعوة الإسلامية، فترة أول مواجهة فكرية عنيفة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر. قضية الرسالة كما تعرضها سورة الأنعام ويبينها القرآن الكريم/ د. إبراهيم زيد الكيلاني / مكتبة الأقصى ـ عمان (ص6).

[4] التحرير والتنوير/ ابن عاشور (7/ 125).

[5] من الذين اختاروا أنها نزلت جملة واحدة: ابن عمر، وأبي بن كعب ، و عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ والزجاج (معاني القرآن وإعرابه(2/ 227)،و الواحدي (الوسيط في تفسير القرآن المجيد(2/ 250)، والرازي (التفسير الكبير (12/ 471)،و البقاعي (نظم الدرر (2/578)، و أبو المظفر السمعاني (تفسير القرآن (2 / 85 )، والبغوي (معالم التنزيل في تفسير القرآن (2 / 107 )، والقرطبي (الجامع لأحكام القرآن (6 / 382 )، و إسماعيل حقي(روح البيان(3/ 2)، وابن عاشور (التحرير والتنوير (7 / 121 )، وابن كثير(تفسير القرآن العظيم (3 / 213 )، ومحمد رشيد رضا (تفسير المنار (7/ 238) ، وسيد قطب (في ظلال القرآن (2/1020) ،والأستاذ محمود شلتوت (تفسر القرآن الكريم (401)،ومحمد سيد طنطاوي (الوسيط (5/7)، و محمد جمال الدين القاسمي (محاسن التأويل (4 / 307 )وغيرهم، وسأنقل بعض نصوصهم على طولها ؛ لتتضح صحة هذا القول، وضعف قول من قال بضعف الروايات في نزولها جملة:

  1. قال ابن كثير:" قال العوفي وعكرمة وعطاء، عن ابن عباس: أنزلت سورة الأنعام بمكة.وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح .وقال سفيان الثوري، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة (.وقال شريك، عن ليث، عن شهر، عن أسماء قالت: نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض .وقال السدي عن مرة، عن عبد الله قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة.وروي نحوه من وجه آخر، عن ابن مسعود.
وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي، أخبرنا جعفر بن عون، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ". ثم قال: صحيح على شرط مسلم .وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا إبراهيم بن درستويه الفارسي، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي، عن نافع بن مالك أبي سهيل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة، سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض بهم ترتج "، ورسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ يقول: " سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم ثم روى ابن مردويه عن الطبراني، عن إبراهيم بن نائلة، عن إسماعيل بن عمرو، عن يوسف بن عطية، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألفا من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد " تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (3/ 214).

  1. قال ابن عاشور: "روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفًا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد ـ ـ وهي مكية بالاتفاق فعن ابن عباس : أنها نزلت بمكة ليلًا جملة واحدة ، كما رواه عنه عطاء ، وعكرمة ، والعوفي ، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتقدم آنفًا ، وروي أن قوله تعالى { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ }الآيةَ [الأنعام:52] نزل في مدة حياة أبي طالب ، أي قبل سنة عشر من البعثة ، فإذا صح كان ضابطُا لسنة نزول هذه السورة " ...واعلم أن نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها؛ لأن أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة ، فيكون نزول تلك الآيات مسببًا على تلك الحوادث ، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنية ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات على أن أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخر تشريع حكمه.(التحرير والتنوير (7/ 123).
  2. وقال محمد رشيد رضا في المنار:" وقال السيوطي في الإتقان: قال ابن الحصار: استثنى منها تسع آيات ولا يصح به نقل، خصوصًا مع ما قد ورد أنها نزلت جملة. (قلت) قد صح النقل عن ابن عباس باستثناء {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} [الأنعام: 151ـ 153] الآيات الثلاث كما تقدم، والبواقي {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام:91] لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصيف، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الأنعام: 21، 93] الآيتين، نزلتا في مسيلمة. وقوله: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ }[الأنعام:20] وقوله: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ }[الأنعام: 114] اهـ أقول: قد ثبت أن بعض الآيات كانت تصدق على وقائع تحدث بعد نزولها أو قبله للاستشهاد أو الاحتجاج بها في الواقعة منها، فيظن من سمعها حينئذ من الصحابة ولم يكن سمعها من قبل أنها نزلت في تلك الواقعة، وكثيرًا ما كان يقول الصحابة: إن آية كذا نزلت في كذا وهو يريد أنها نزلت في إثبات هذا الأمر أو حكمه أو دالة عليه، فيظن الراوي عنه أنها عند حدوث ذلك الأمر، والصحابي لا يريد ذلك، وقد نقل السيوطي هذا المعنى عن ابن تيمية والزركشي، والتحقيق أن مثل هذا يعد من التفسير لا من الحديث المسند، ولما كان وجود آيات مدنية في سورة مكية أو آيات مكية في سورة مدنية خلاف الأصل، فالمختار عدم قبول القول به إلا إذا ثبت برواية صحيحة السند صريحة المتن سالمة من المعارضة والاحتمال، وإننا لم نرهم صححوا مما رواه من الاستثناء إلا رواية ابن عباس في استثناء ثلاث آيات هن من موضوع السور المكية، ولعلهم لو ذكروا لنا الرواية بنصها لما وجدنا فيها حجة على ما قالوا.
وأما ما روي في نزول الأنعام جملة واحدة فقد أخرجه غير واحد من المحدثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين، ففي الإتقان أنه أخرجه أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس، والطبراني من طريق يوسف بن عطية وهو متروك عن ابن عمر مرفوعًا وعن مجاهد وعطاء، وفي كل رواية من هذه الروايات أنها نزلت يشيعها سبعون ألف ملك إلا أثر مجاهد، فإنه قال فيه خمسمائة ملك. قال السيوطي:" فهذه شواهد يقوي بعضها بعضًا، ثم نقل عن ابن الصلاح أنه روى ذلك من طريق أبي بن كعب بسند ضعيف وقال: ولم نر له إسنادًا صحيحًا، وقد روي ما يخالفه، فروي أنها لم تنزل جملة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل ثلاث وقيل ست وقيل غير ذلك"، وعزاه في الدر المنثور إلى آخرين أخرجوه أيضًا عمن ذكر وعن أنس، وأبي بن كعب مرفوعًا، وعن ابن مسعود ،وأسماء بنت يزيد، وأبي جحيفة، وعلي المرتضى، فكثرة الروايات في مسألة لا مجال فيه للرأي فتكون اجتهادية، ولا للهوى فتكون موضوعة، ولا لغلط الرواة فتكون معلولة لا بد أن يكون لها أصل صحيح.
ونقول: إنه لم يرو أحد أنها لم تنزل جملة واحدة بهذا اللفظ المناقض لتلك الروايات المصرحة بنزولها جملة واحدة كحديث ابن عمر " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك " وإنما مراد ابن الصلاح بذلك ما روي من استثناء بعض الآيات، وقد علمت أنه ليس فيه نص صحيح صريح يدل على ذلك، فرواية نزولها جملة واحدة أرجح بموافقتها للأصل وبكونها مثبتة، وروايات الاستثناء نافية، والمثبت مقدم على النافي، وقد جمع بينهما من قال: إنها نزلت جملة واحدة واستثنى كابن عباس (والاستثناء معيار العموم) وإذ كان ما صححه السيوطي من استثناء ثلاث آيات عن ابن عباس هو ما رواه ابن النحاس عنه في ناسخه فقد انحل الإشكال، فإن نص عبارته:" سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ } [الأنعام: 151ـ153] إلى تمام الآيات الثلاث"، فقد صح بهذه الرواية إذًا أن هذه السورة الطويلة نزلت جملة واحدة، وهذا نص توقيفي عرف أصله المرفوع فهو لا يحتمل التأويل، على أن استثناء الآيات الثلاث فيه يحتمل التأويل كما تقدم، وابن عباس لم يكن بمكة ممن يحفظ القرآن ويروي الحديث، فإنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين أو خمس، وإنما روي ذلك عن غيره فيحتمل أن يكون الاستثناء من رأيه أو رأي من روى هو عنه، وأن يكون مرويًا عنه بالمعنى ويكون بعض الرواة هو الذي عبر بالاستثناء، وإذا كان هذا الاستثناء صحيحًا فقصاراه أن السورة بعد أن أنزلت جملة واحدة ألحق بها ثلاث آيات مما نزلت بالمدينة، فبطل بذلك ما قد يتوهم من كلام ابن الصلاح وما يظنه كثير من الناس من أنه لم ينزل شيء من السور الطوال ولا سور المِئِيْنَ جملة واحدة; لأن ما اشتهر نزوله جملة واحدة غير هذه السورة كله من المفصل (وسور المفصل من " ق " أو " الحجرات " إلى آخر المصحف في الأشهر)، وقد روى أبو هريرة ما يدل على أن قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ }[الشعراء: 214] نزل بالمدينة، وقد ثبت عن ابن عباس أنه نزل بمكة، وأنه لما جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطون قريش وأنذرهم عملًا بالآية قال له أبو لهب: تبت يداك سائر اليوم ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله عز وجل: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] السورة، وإنما يروي ابن عباس وأبو هريرة مثل هذا مرسلً؛ إذ لم يكن لهما رواية مرفوعة إلا بعد الهجرة بسنين، وقد صرح الحافظ ابن حجر في الفتح بأن روايتهما لنزول آية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } الشعراء:214] مرسلة وكلتاهما في البخاري، وقد مال السيد الآلوسي في روح المعاني إلى القول بضعف ما ورد في نزول الأنعام جملة واحدة، ونقل عن الإمام حكاية الاتفاق على القول بنزولها جملة، وأنه استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها: إن سبب نزولها الأمر الفلاني، مع أنهم يقولونه؟ ثم أشار إلى ضعف حكاية الإمام الاتفاق، ويمكن أن يدفع الإشكال:

  1. (أولًا): بأنه لم يقل أحد بأن لكل آية من آيات هذه السورة سببًا، وإنما قيل ذلك في زهاء عشر من آياتها.
  2. (وثانيًا): أن ما قيل في أسباب نزول تلك الآيات بعضه لا يصح، والبعض الآخر لا يدل على نزول تلك الآيات متفرقة، وإنما قالوا: إن آية كذا نزلت في كذا أو في قول المشركين كيت وكيت، وهذا هو الأكثر، فإذا صح كان معناه أن تلك الآيات نزلت بعد تلك الوقائع والأقوال مبينة حكم الله فيها، وهذا لا ينافي نزولها دالة على ذلك في ضمن السورة، وقال الإمام الرازي في أول تفسيره لهذه السورة قال الأصوليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة. والثاني: أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة. والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وأيضًا فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم وبحسب الحوادث والنوازل، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة. وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي. اهـ. (تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (7/ 239).
  3. قال محمد سيد طنطاوي:" والذي تطمئن إليه النفس وعليه المحققون من المفسرين أن سورة الأنعام قد نزلت كلها بمكة جملة واحدة، ويشهد لما ذهبنا إليه ما يأتي:

  • كثرة الآثار التي صرحت بنزولها بمكة دفعة واحدة، ومن هذه الآثار ما ورد عن ابن عباس أنه قال: لقد نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت على سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد.
  • المحققون من المفسرين عند ما بدءوا في تفسير سورة الأنعام صرحوا بأنها جميعها مكية، وأنها قد نزلت جملة واحدة، وتجاهلوا قول القائل إن فيها آيات مدنية، فهذا- مثلً ا- الإمام ابن كثير ساق في مطلع تفسيره لهذه السورة الروايات التي تثبت أنها مكية، ولم يذكر رواية واحدة تثبت أن فيها آية أو آيات قد نزلت بالمدينة، وابن كثير- كما نعرف- من الحفاظ النقاد الذين يعرفون كيف يتخيرون الروايات، وكيف يميزون بين صحيحها وضعيفها.
  • الروايات التي اعتمد عليها القائلون بأن تلك الآيات التسع مدنية روايات فيها مقال، ولم يعتمدها المحققون من العلماء، فقد نقل السيوطي عن ابن الحصار قوله: استثنى من سورة الأنعام تسع آيات- مدنية- ولا يصح به نقل، خصوصا وأنه قد ورد أنها نزلت جملة.
  • الذي يقرأ سورة الأنعام بتدبر يجد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية، فهي تتحدث باستفاضة عن وحدانية الله، وعن مظاهر قدرته، وعن صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وعن الأدلة الدامغة التي تؤيد صحة البعث والثواب والعقاب يوم القيامة، إلى غير ذلك من المقاصد التي كثر الحديث عنها في القرآن المكي.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية، تقرر حقائقها، وتفند شبه المعارضين لها، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل- مع طولها وتنوع آياتها- جملة واحدة، وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء.
ومن ذلك يتبين أنه لا مجال للقول بأن بعضها من قبيل المدني، ولا بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا، فكلها جملة واحدة نزلت بمكة لغاية واحدة، هو تركيز الدعوة بتقرير أصولها والدفاع عنها. (تفسير القرآن الكريم / محمود شلتوت)، هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن سورة الأنعام كلها مكية، وأنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة. (التفسير الوسيط / محمد سيد طنطاوي (5/7)).

  1. يقول علي هاني: الأصح أنها نزلت جملة واحدة ويؤيده عدة أمور:

  • أنَّ الحديث الذي يروي نزول سورة الأنعام جملةً حديث حسنٌ لغيره، يؤيد هذا قول جلال الدين السيوطي في الإتقان:" فهذه شواهد يقوي بعضها بعضًا"(الإتقان في علوم القرآن (1 / 110)، وقول الحاكم صحيح على شرط مسلم، وأما تَعَقُّبُ الذهبي فقد انتقده عليه العلماء كما سيأتي الكلام عليه مفصلًا في تخريج الحديث.
  • قد روى هذا الحديث من المفسرين المُحَدِّثين: ابن كثيرو البقاعي، واعتمدوه ولم يضعفوه، ويؤيده قول محمد رشيد رضا:" فكثرة الروايات في مسألة لا مجال فيه للرأي فتكون اجتهادية، ولا للهوى فتكون موضوعة، ولا لغلط الرواة فتكون معلولة لا بد أن يكون لها أصل صحيح"، وهذا يؤازره كثرة من قاله من الصحابة والتابعين والعلماء.
  • موضوع السورة يؤيد نزولها مرة واحدة، كما قال الرازي:" قال الأصوليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة. أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني: أنها شيعها سبعون ألفًا من الملائكة، والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وأيضًا فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم، وبحسب الحوادث والنوازل، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة، وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي".
  • ما ذكره الأستاذ محمود شلتوت عندما ذكر أن هذه السورةَ امتازت بكثرة أسلوبين بارزين فيها أكثر من أي سورة أخرى: أسلوبِ التقرير ِ {هو الذي}، وأسلوبِ التلقين: {قل} حيث قال: "وهذان الأسلوبان قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة الكريمة من الحجج وقضايا التبليغ، وهما أسلوبان من أساليب الحجة القوية التي تدل على قوة المعارضين إسرافهم في المعارضة، ويدلان على أنهما صدرا في موقف واحد، وإيحاء واحد، وفي مقصد واحد، لخصم واحد؛ ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن تنزل مع طولها جملة واحدة). انظر تفسير القرآن الكريم / محمود شلتوت (306،305)، يقول علي هاني: وهذان الأسلوبان استمرا من أول السورة: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون)}[الآيتان:3،2]، { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) }[آية:11]، إلى آخر آيتين في السورة: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) }[الآيتان:165،164]وسيأتي تفصيله في المبحث الثالث المطلب الثاني.
  • أنه قد روي الحديث بروايات كثيرة عن كثير من الصحابة يقوي بعضها بعضًا، وإن كان فيها مقال أحسنها ما روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ وقد جمع جميع طرقها وبين أن الحديث حسن لغيره محمدُ بنُ رزق بن طرهوني في موسوعة فضائل سور وآيات القرآن فقال: تخريجه وطرقه:
أخرجه الحاكم 4/ 312، والبيهقي في "الشعب" 365/ 1 من طريق جعفر بن عون به والإسماعيلي في معجمه (انظر "الدر" 3/ 2).
التحقيق:

  • محمد بن يعقوب هو: ابن الأَخرم الإمام الحافظ الكبير، قال الحاكم: كان صدر أَهل الحديث ببلدنا، وكان ابن خزيمة يقدمه على كافة أَقرانه، ويعتمد قوله فيما يرد عليه، وإذا شك في شيء عرضه عليه، وقال عنه الذهبي: كان ست أئمة هذا الشأْن "تذكرة الحفاظ" 3/ 864.
  • ومحمد بن عبد الوهاب العبدى هو: الحافظ أبو أحمد الفراء ثقة عارف، وجعفر بن عون صدوق، وإسماعيل بن عبد الرحمن صرح الحاكم بأَنه السدى ،وفي نسخة الحافظ ابن كثير من المستدرك التي نقل منها في التفسير جاء السند هكذا ... حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدى أخبرنا جعفر بن عون حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي حدثنا محمد بن المنكدر ... (انظر التفسير 2/ 122)، (3/ 234 طبعة الشعب)،وإسماعيل السدي صدوق يهم، ومحمد بن المنكدر ثقة فاضل، فالحديث إسناده حسن لاسيما وله شواهد كثيرة موصولة ومرسلة، وقد قال فيه الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولكن تعقبه الذهبي بقوله:" لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأَظن هذا موضوعاً".
وهذا الذي قاله الذهبي غير مسلم، ولذا ـ والله أَعلم ـ لم ينقل تعقبه هذا الحافظ ابن كثير في تفسيره، بل ذكر قول الحاكم وسكت عليه، وكون ما قاله غير مسلم؛ لأن وفاة السدي كانت سنة 127 على ما قال خليفة بن خياط، وجعفر مات سنة 206 على قول البخاري، وسنة 207 على قول أَبي داود وقيل كانت سنه عند وفاته سبعاً وثمانين، وقيل سبعاً وتسعين، فعلى اعتماد قول البخاري والقول الثاني في سنه يكون قد ولد سنة 109، وعلى اعتماد قول أبي داود سنة 110 وعلى اعتماد قول البخاري والقول الأول في سنه عند وفاته يكون مولده 119، وعلى قول أبي داود 120، وقد أخطأ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الحساب فقال ومولده سنة عشرين، وقيل سنة ثلاثين، ويبدو أَنه أَراد سنة عشر، وقيل سنة عشرين حيث أنه نقل الأقوال في وفاته وسنه عند وفاته في "التهذيب" وهي كذلك في "تهذيب الكمال" كما ذكرنا بدون حساب سنة مولده، فلما أراد الاختصار أخطأ في الحساب والله تعالى أعلم.
وعليه فإن احتمال سماع جعفر من السدي قريب جداً ولا غبار عليه، وخصوصاً إذا قلنا بأنه ولد 159، فيعني أَن سنه كان تسعة عشر عاماً أو نحوها عند وفاة السدي، وهذا كله إذا سلمنا بصحة هذه الأقوال في وفاة كل من جعفر والسدي، والصحيح أنه لا يمكن القطع بصحتها، ولكن يستأنس بها بمعنى أننا لا يمكن أَن نرد تصريح جعفر بالسماع من السدي بها وقد حدث نحو ذلك من بعض الحفاظ حول حديث الإفك عهد البخاري في الصحيح 6/ 64 ،والذى صرح فيه مسروق بالسماع من أُم رومان، وفي عير هذا الموضع عند البخاري أيضاً فجزم بعضهم بأن مسروقاً لم يدرك أُم رومان، وحكموا على تلك الرواية بالوهم والغلط؛ وذلك اعتماداً منهم على ما ذكر من كون أُم رومان ماتت في حياته - صلى الله عليه وسلم - ومسروق لم يدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحيح أَن حديث وفاة أُم رومان في حياته - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت من جهة السند. وممن اعترض على الصحيح بهذه الرواية الضعيفة في وفاة أُم رومان ابن السكن والخطيب وابن عبد البر والسهيلي وابن سيد الناس والمزي والذهبي والعلائي وآخرون، ورد عليهم ابن حجر فقال: وعندي الذي وقع في الصحيح هو الصواب والراجح. (انظر للاستفاضة مرويات غزوة بني المصطلق 290 - 304) = ورواه عن السالمي محمد بن عبد الله بن عرس ومحمد بن إسحاق الصغاني وإبراهيم بن درستويه الفارسي وأبو حاتم روح بن الفرج. وفي إسناده أبو بكر السالمي لم أقف عليه قال في "المجمع" 7/ 20 رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي ولم أعرفهما وبقية رجاله ثقات وأخرجه أبو الشيخ والسلفي في الطيوريات (انظر "الدر" 3/ 2).

[6] زجل: صوت عال رفيع.

[7] التحرير والتنوير/ ابن عاشور (7/ 1229.

[8] يدل أن مقصودها تلقين الاحتجاج لأصول الدين، كثرة ورود كلمة (قل) في هذه السورة فقد وردت أكثر من أربعين مرة، ويدل عليه محاجة سيدنا إبراهيم عليه السلام لقومه، وما جاء فيها من قوله تعالى:{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ }[آية:83]أي:علّمناه إياها، وأرشدناه إليها على قومه مستعلية عليهم ، قاطعة لألسنتهم ، وكذلك هذه السورة هي حجة الله تعالى على المشركين غالبة عليهم ملقنة للمؤمنين حجتهم ، حتى سماها محمد سيد طنطاوي بـسورة البلاغ والإعلان فقال: " هذه السورة التي هي سورة البلاغ والإعلان، والمبادئ العليا لدعوة الإيمان".(التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ محمد سيد طنطاوي (5/ 229). ويؤيده كلام كثير من العلماء من ذلك قول البقاعي:" وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل الزائغة ". (نظم الدرر/ البقاعي (2/579،578). وقول الإمام القرطبي:" قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور ". الجامع لأحكام القرآن/ أبو عبد الله القرطبي/ دار الكتب المصرية (6/ 383). وما جاء في موقع إسلاميات من قولهم:" هي سورة الحجاج والبراهين". سورة الأنعام دروس ومحاور / موقع إسلاميات.



[9] يقول محمود شلتوت:" سورة الأنعام متميزة في أهدافها عما قبلها: سورة الأنعام لم تعرض لهدف من الأهداف الأصلية التي تميزت بها السور الأربع المدنية قبلها (البقرة، آل عمران، النساء، المائدة): فهي:

  1. أولًا: لم تعرض لشيء من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين: كالصوم، والحج في العبادات، والعقوبات في الجنايات، والمداينة والربا في الأموال، وأحكام الأسرة في الأحوال الشخصية.
  2. وهي ثانيًا: لم تذكر في قليل ولا كثير شيئًا يتعلق بالقتال ومحاربة الخارجين عن دعوة الإسلام.
  3. وهي ثالثًا: ... لم تتحدث طوائف المنافقين ولا عن أخلاقهم السيئة ومسالكهم المظلمة. وهي رابعًا: لا تجد فيها مع ذلك كله نداء واحدًا للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنتظمها وحدة الإيمان، لا نجد فيها شيئًا من هذا كله كما وجدناه جميعًا في السور الأربع السابقة. (تفسير القرآن الكريم / الأستاذ محمود شلتوت (282).

[10] يقول فضيلة محمود شلتوت: "ويجدر بنا أن نلفت النظر إلى أن سورة الأنعام قد عرضت ما عرضت في أسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بتلك الكثرة في غيرها من السور:

  • أما الأسلوب الأول فهو أسلوب التقرير، فهي تورد الأدلة المتعلقة بتوحيد الله وتفرده بالملك والتصرف، والقدرة والقهر، في صورة الشأن المسلم الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل، وتضع لذلك ضمائر الغائب عن الحس الحاضر في القلب، وتجري عليه أفعاله وآثار قدرته ونعمته البارزة للعيان، والتي لا يماري قلب سليم في أنه مصدرها ومفيضها وصاحب الشأن فيها:
    { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [آية:2].
    {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [آية:3].
    {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [آية:18].
    {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [آية:60].
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} [آية:73].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [آية: 97].
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [آية:98].
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} [آية: 141].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [آية: 165].. الخ.
هذا هو أحد الأسلوبين.

  1. أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب تلقين الحجة، والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تأخذ عليه سمعه، وتملك عليه قلبه، وتحيط به من جميع جوانبه فلا تستطيع التفلت منها، ولا يجد بدًا من الاستسلام لها.
    1) ففي حجج التوحيد والقدرة يقول:
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [آية: 12].
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آية: 14].
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [آية:15].
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [آية: 164].
2) وفي حجج الوحي وبيان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن الرسالة لا تنافي البشرية، وفي إيمان الرسول بدعوته واعتماده فيها على الله، وعدم اكتراثه بهم، أو انتظار الأجر منهم يقول:
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}[آية: 19] .
{ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}[آية: 50].
{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[آية:162].
3) وفي وعيدهم على التكذيب يقول : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }[آية:11].
هذان الأسلوبان : ( هو كذا ) و( قل كذا ) قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة من الحجج وقضايا التبليغ ، وهما وإن جاءا في غيرها من سور القرآن إلا أنهما وخاصة الأسلوب الثاني وهو أسلوب ( قل كذا ) لم يوجد في غيرها بهذه الكثرة التي نراها في هذه السورة ، وهما بعد ذلك : أسلوبان من أساليب الحجة القوية التي تدل على قوة المعارضين وإسرافهم في المعارضة ، وأنهم بحالة تستوجب تلك الشدة التي تستخرج الحق من نفوسهم .
ويدل الأسلوبان من جهة أخرى على أنهما صدرا في موقف واحد، وفي مقصد واحد، لخصم واحد بلغ من الشدة والعتو مبلغاً استدعى من القوى القاهر تزويد المهاجر بعدة قوية تتضافر أسلحتها في حملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء فتزلزل عمده، وتهد من بنيانه فيخضع للتسليم بالحق الذي يدعى إليه.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية، ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية، تقرر حقائقها، وتفند شبه المعارضين لها، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل –مع طولها وتنوع آياتها- جملة واحدة وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء اه تفسير القرآن الكريم الأجزاء العشرة الأولى/ محمود شلتوت (303ـ 305).


[11] عرضت السورة لضلالات العرب الذين جعلوا لله نصيبًا من الأنعام، ولشركائهم نصيبًا آخر، وجعلوا بعض الأنعام حِجْرًا لا يطعمها إلا من يشاؤون، وأحلوا لذكورهم ما في بطون الأنعام وحرموها على إناثهم، وإن كان ميتة فهم فيه سواء، ولتهديدهم بينت ما جوزي به اليهود حينما افتروا على أحكام الله تعالى، فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر، وحرم عليهم شحوم البقر والغنم إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، وبين أن ذلك إنما هو جزاء بغيهم على أحكام الله تعالى.

[12] سورة الأنعام من السور الخمس التي ابتدأت بالحمد وهي: الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، وفاطر، وكلها مكية، فبداية سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وسورةُ الأنعامِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وسورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}، وسورةُ سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، وسورة فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
قال الشهاب الخفاجي:" ولما كانت نعمه تعالى مما تفوت الحصر إلا أنها ترجع إجمالاً إلى: إيجاد وابقاء في النشأة الأولى، وإيجاد وابقاء في النشأة الآخرة، ولما أشير في الفاتحة إلى الجميع ابتدأت بالتحميد؛ لأنها ديباجة نعمه المذكورة في كتابه المجيد ثم أشير في الأنعام إلى الإيجاد الأوّل، وفي الكهف إلى الإبقاء الأوّل، وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني، وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني فلهذا ابتدأت هذه السور الخمس بالتحميد. (حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي/ شهاب الدين أحمد الخفاجي (3/ 307).
"وفي هذا الاستهلال تنويه بأن النعم كلها من الله تعالى، وبالتالي هو وحده من له حق التصرف والتشريع" "من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم/ عيسى وادي، محمود مهنا (ص78).
ومن أسرار القرآن أنَّ التشابهَ في افتتاح بعض السور يدل على التشابه في موضوعها ، ففي هذا التشابه لفت لأنظار القراء للتنبه للعلاقة بين هذه السور ، وقد شرح محمد رشيد رضا هذا مبينًا العلاقة بين موضوعات هذه السور بقوله:" افتتح الله كتابه بالحمد، ثم افتتح به أربع سور مكيات أخرى مشتملة كل منها على دعوة الإسلام ومحاجة المشركين فيها، الأولى " الأنعام " وهي آخر سورة كاملة في الربع الأول من القرآن، والثانية " الكهف " وهي مشتركة بين آخر الربع الثاني وأول الربع الثالث والثالثة والرابعة " سبأ " و " فاطر "، وهما آخر الربع الثالث، وليس في الربع الرابع سورة مفتتحة بالحمد، وقد قرن الحمد في الأولى بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وفي الثانية بإنزال القرآن على عبده الكامل، وكل منهما سمي نورًا بل هما أعظم أنوار الهداية، وفي الثالثة بخلق السماوات والأرض وبحمده تعالى في الآخرة، وبصفات الحكمة والخبرة والعلم بما ينزل من السماء وما يعرج ، فيها والرابعة بخلق السماوات والأرض وجعل الملائكة .
رسلا أولي أجنحة ووصفه بسعة القدرة، والملائكة من الأنوار الإلهية التي تنزل من السماء والتي تعرج فيها، فظهر بها أن السور الثلاث مفصلة لما أجمل في الأولى " الأنعام " مما حمد الله عليه، كما أنها مؤيدة لما فيها من إثبات التوحيد والرسالة والبعث". (تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (7/ 243)، يقول علي هاني: ولما كانت الفاتحة أم الكتاب كانت صيغة الحمد مطلقة أعم صيغة غير مقيدة بشيء،{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، والوصف يشعر بالعلية فكأنها تقول الحمد لله ؛لأنه ربٌّ للعالمين كلِّهم موجدُهم ومربيهم وممدُهم بكل شيء، ونلاحظ أن محمد رشيد رضا يرد على الذين قالوا: إن كل سورة من السور التي ابتدأت بالحمد في ربع من القرآن ، ولكن يمكن أن نقسمها تقسيمًا آخر صحيحًا وهو ما ذكره الإمام الرازي بقوله:" السور المفتتحة بالحمد خمس سور سورتان منها في النصف الأول، وهما: الأنعام، والكهف ،وسورتان في الأخير، وهما: هذه السورة، وسورة الملائكة، والخامسة وهي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير".(التفسير الكبير/ الفخر الرازي (25/190).
جاء في كتاب" العزفُ على أنوار الذِّكر:" من اللطافةِ بمكانٍ:

  1. فَصْلَ السياق الترتيلي بين سورة (الفاتحة) وسورة (الأنعام) بأربع سور: (البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة) وهي جميعها مدنية بين مكيتين.
  2. وفصل بين سورة (الأنعام) وسورة (الكهف) بإحدى عشرة سورة: الأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، والإسراء، وهي مكيّة خلا الأنفال والتوبة.
  3. وفصل بين سورة (الكهف) وسورة (سبأ) بخمس عشرة سورة مكية خلا: سورة: الحج، والنور، والأحزاب فإنها مدنية.
  4. ولم يفصل بين سورتي (سبأ) و (فاطر) وهما معًا مكيَّتان.
حكمة الفصل وتركه من اللطافة، فيفتقِرُ المرءُ معها إلى مزيد من الاستبصار والتّدبر. (العزفُ على أنوار الذِّكر/ محمود توفيق محمد سعد (75،74).
"والعجيب أنه كما بدئت خمس سور بالحمد ختمت خمس سور من القرآن بالحمد:" الإسراء: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}، وسورة النمل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، وسورة الصافات: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}، وسورة الزمر: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وسورة الجاثية: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ}".( تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن/ محمد الأمين بن عبد الله العلوي (8/ 224).



[13] جاء في كتاب " العزفُ على أنوار الذِّكر:" سورة (إبراهيم) - عليه السلام - المكية «موضوعها الأساسيّ هو موضوع السور المكية الغالب عليه العقيدة في أصولها الكبيرة: الوحي والرسالة التوحيد والبعث والحساب والجزاء. وهذا تراه مبنيًا على ما جاءت به سورة الأنعام، فإنها رأس السور المكية في هذا، ومعاني السّور المكيّة تبنَى على معانيها في هذا الباب، مثلما معاني السّور المدنيّة مبنيّة على ما جاء في سورة (البقرة)، فمنزل سورة (الإنعام) من السُّور المكيّة كمثل منزل سورة البقرة من السور المكية، يقول أبو إسحاق الشاطبيّ (ت:790) : «المدنيّ من السور ينبغي أن يكون منزَّلا في الفهم على المكيّ، وكذلك المكيّ بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في النزول ...
وأوّل شاهد على هذا أصل الشريعة، فإنّها جاء ت متممة لمكارم الأخلاق، ومصلحة لما أفسد قبل من ملّة أبراهيم - عليه السلام -.
ويليه تنزيل سورة " الأنعام" فإنّها نزلت مبينة لقواعد العقائد، وأصول الدين، وقد أخرج العلماء منها قواعد التوحيد....

ثُمَّ لمَّا هاجر رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - إلى المدينة كان من أوَّلِ ما نزل عليه سورة "البقرة"، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة "الأنعام" فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبيّن في غيرها تفاصيل لها ... فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبنيّ عليها، كما كان غير " الأنعامِ " من المكيّ المتأخر عنها مبنيًا عليها، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القُذّة بالقُذَة ... " (الموافقات: 3/406-407) "( العزفُ على أنوار الذِّكر/ محمود توفيق محمد سعد(194).يقول علي هاني وقد أخذ هذه القضية الشيخ سعيد حوى واعتنى بها عناية كبيرة في كتابه الأساس في التفسير، فراجعه لترى شرحًا عمليًا تطبيقيًا على كل سور القرآن الكريم.


[14] انظر تفصيل فرقهم في كتاب: "تفسير {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} والرد على من حرفها" / علي هاني (121)، وقد لخص مذهب فرقتين منهم الإمام الرازي بقوله:" الأصح أنهم قوم يعبدون الكواكب، ثم لهم قولان. الأول: أن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها، فيجب على البشر تعظيمها؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه، وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادًا عليهم ومبطلا لقولهم". الرازي (3/ 536). وقال الآلوسي:"(والصابئون): هم قوم مدار مذاهبهم على التعصب للروحانيين واتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة منهم إلى هياكلها، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئاً ـ أي الاصنام ـ فالفرقة الأولى: هم عبدة الكواكب، والثانية: هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات."اهـ روح المعاني (1/ 279).

[15] والسُّمْنية: من فلاسفة الهند، يجحدون من العلوم ما سوى الحسّيات، يقولون بالتناسخ وبإلهية الشمس.

[16] المانوية: إحدى فرق الثنوية، وهم أصحاب ماني بن فاتك، الذي ظهر زمن سابور ابن أردشير، وقال: إن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين النور والظلمة وأنهما أزليان، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا بين قويين، حساسين، دراكين، سميعين، بصيرين، وهما _ مع ذلك _ في النفس والصورة، والفعل والتدبير متضادان متحاذيان تحاذي الشخص والظل. (رسائل في الأديان والفرق (223).
وقد عبد الفرس قوى الطبيعة والأجرام السماوية، وآلهة تمثل قوى أخلاقية، أو آراء معنوية مجسمة، وكان الدين عندهم يتدخل في أقل أمور الحياة اليومية، وكان على الفرد أن يصلي للشمس أربع مرات أثناء النهار، كما يصلي للقمر وللنار وللماء، ونار البيت لا يجوز أن يخبو لهيبها.
وهناك فرق بين المجوسية والثنوية، ومن الأديان التي تنتسب للمجوسية: الكيومرثية، والزروانية، والزردشتية، أما الأديان التي تنتسب الى الثنوية فهي: المانوية، المزدكية، الديصانية، والفرق بينهما ان المجوسية قالت بقِدَم النور وحدوث الظلام في حين قالت الثنوية بأن النور والظلمة أزليان قديمان، فهما متساويان في القدم ومختلفان في الجوهر والطبع والفعل والمكان والأجناس والأبدان والأرواح.


[17] قال سيد قطب: " هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية، قضية الألوهية والعبودية، تعالجها بتعريف العباد برب العباد من هو؟ ما مصدر هذا الوجود؟ ماذا وراءه من أسرار؟ من هم العباد؟ من ذا الذي جاء بهم إلى هذا الوجود؟ من أنشأهم؟ من يطعمهم؟ من يكفلهم؟ من يدبر أمرهم؟ من يقلب أفئدتهم وأبصارهم؟ من يقلب ليلهم ونهارهم؟ من يبدئهم ثم يعيدهم؟ لأي شيء خلقهم؟ ولأي أجل أجلهم؟ ولأي مصير يسلمهم؟ هذه الحياة المنبثقة هنا وهناك، من بثها في هذا الموات؟، هذا الماء الهاطل. هذا البرعم النابغ. هذا الحب المتراكب.
هذا النجم الثاقب، هذا الصبح البازغ هذا الليل السادل، هذا الفلك الدوار، هذا كله من وراءه؟ وماذا وراءه من أسرار، ومن أخبار؟ هذه الأمم، وهذه القرون، التي تذهب وتجيء، وتهلك وتستخلف، من ذا يستخلفها؟ ومن ذا يهلكها؟ لماذا تستخلف؟ ولما ذا يدركها البوار؟ وماذا بعد الاستخلاف والابتلاء والوفاة من مصير وحساب وجزاء؟ ، هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق ، وفي هذه الأغوار والأعماق ،ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي ،وعلى منهج القرآن كله ، إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية في العقيدة ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار ، إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق، تعبيد ضمائرهم وأرواحهم ، وتعبيد سعيهم وحركتهم ، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم ، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد ،سلطان اللّه الذي لا سلطان لغيره في الأرض ولا في السماء ،ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد ، من أولها إلى آخرها ،فاللّه هو الخالق، واللّه هو الرازق، واللّه هو المالك، واللّه هو صاحب القدرة والقهر والسلطان، واللّه هو العليم بالغيوب والأسرار.
واللّه هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار، وكذلك يجب أن يكون اللّه هو الحاكم في حياة العباد وألا يكون لغيره نهي ولا أمر، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، فهذا كله من خصائص الألوهية، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون اللّه، لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يضر ولا ينفع، ولا يمنح ولا يمنع، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة .. وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية، من كل درب ومن كل باب! والقضية الكبيرة التي تعالجها السورة هي قضية الألوهية والعبودية في السماوات والأرض، في محيطها الواسع، وفي مجالها الشامل.. ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك، المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة، هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحليل والتحريم في الذبائح والمطاعم، ومن حق تقرير بعض الشعائر في النذور من الذبائح والثمار والأولاد.. وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا. فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ، لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا - افْتِراءً عَلَيْهِ - سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ - افْتِراءً عَلَى اللَّهِ - قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} [136 – 140] هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية حولها - التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة، قضية التشريع، ومن ورائها القضية الكبرى، قضية الألوهية والعبودية التي تعالجها السورة كلها، ويعالجها القرآن المكي كله، كما يعالجها القرآن المدني أيضا كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع.
والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور - وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق التشريع - وربطها بقضية العقيدة كلها - قضية الألوهية والعبودية - وجعلها مسألة إيمان أو كفر، ومسألة إسلام أو جاهلية، هذا الحشد - على النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك - يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين.
وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعًا مطلقًا لحاكمية اللّه المباشرة، الممثلة في شريعته، وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية اللّه المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة.
كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر - جل أم حقر، كبر أم صغر - وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين، وهو حاكمية اللّه المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصرف أمر هذا الكون كله بلا شريك. (في ظلال القرآن / سيد قطب (2/ 1017ـ 1018).

[18] اختلف العلماء هل هذه الجملة خبرية لفظًا ومعنى، أو خبرية لفظًا إنشائية معنى، فاختار الأول جماعة من العلماء منهم: البيضاوي، وابن عاشور، والآلوسي، واطفيش، ومحمد رشيد رضا، والبقاعي، وابن عطية، واختار الثاني، أي: أنها إنشائية لفظًا ومعنًى كثيرٌ من العلماء منهم: الطبري، والخازن، وابن كثير، والسمعاني، والرازي، ومكي، والصابوني، والطبرسي، والطباطبائي.

[19] قال الطباطبائي:" إشارة إلى نظام الكون العام الذي عليه تُدَبَّر الأشياءُ على كثرتها وتفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم العالم الأرض الذي يحيط به عالم السماوات على سعتها، فلا يزال يتولد شيء من شيء، ويتقلب شيء إلى شيء ، ويظهر واحد ويخفى آخر ، ويتكون جديد ويفسد قديم ، وينتظم من تلاقي هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركة العالمية الكبرى التي تحمل أثقال الأشياء ، وتسير بها إلى مستقرها .(تفسير الميزان/ الطباطبائي (7/2).

[20] اختاره: الطبري، والطبراني، ومحمد سيد طنطاوي، والواحدي، وابن كثير، والبغوي، والزمخشري، والبيضاوي، وأبو السعود، والآلوسي، وابن عطية، وسيد قطب، وهو رأي الجمهور.

[21] وقد حمله على المعنى الشامل للحسي والمعنوي الشامل لظلمات الشرك والكفر والنفاق، ونور الإسلام الإيمان واليقين الواحديُّ، والجلال ،والسمعاني، والسعدي ومحمد رشيد رضا ، قال محمد رشيد رضا:" قال الواحدي: والأولى حمل اللفظين عليهما، واستشكله الرازي لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمختار عندنا جوازه، وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر- أي الشرع- كما تقدم، فيفسر جعل كل نور بما يليق به.(تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (7/ 246). قال السعدي:" وعلى جعله الظلمات والنور ، وذلك شامل للحسي من ذلك ، كالليل والنهار ، والشمس والقمر . والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم والإيمان ، واليقين ، والطاعة".( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن السعدي(250)، يقول علي هاني: والفرق بين ما اختاره هؤلاء وما اختاره ابن عاشور أن ابن عاشور قال المعنى الثاني مستفاد بطريق الإيماء وهؤلاء جعلوه من بين الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو على المعنى الشامل للحسي والمعنوي.

[22] جاء في خواطر قرآنية: " تبدأ السورة بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [آية:1]، فتشعر من بداية السورة بهدفها ومحورها الأساسي، ألا وهو توحيد الله عز وجل وعدم الشرك به أبدًا". وجاء في نظرة العجلان في أغراض القرآن:" سورة الأنعام تستهل بحمد الله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} منتهية إلى صفة الخلق وإحكامه والهدى وإحكامه {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} رغم ذلك فلا يؤمنن الإيمان الصحيح ولا يتبعون ما أنزل إليهم، وهذا موضوع السورة، وما وراء هذه الآية إيضاح لما انطوت عليه أو تفصيل تدعو إليه المناسبة لإيفاء القصد حقه". نظرة العجلان في أغراض القرآن/محمد بن كمال أحمد الخطيب (ابن شهيد ميسلون) (25).

[23] (أسرار ترتيب القرآن/ السيوطي (100).

[24] في ظلال القرآن / سيد قطب (2/ 1030).

[25] انظر إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ أبو السعود (3/ 106) بتصرف.

[26] انظر (التفسير الكبير/ الفخر الرازي (12/ 479)، (التحرير والتنوير/ ابن عاشور (7/ 129)، (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (2/ 911)، (زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (2/ 8)، تفسير المنار/ محمد رشيد رضا(7/ 243)، (في ظلال القرآن/ سيد قطب(2/ 1023).

[27] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ أبو السعود (3/ 107)، (زهرة التفاسير/ أبو زهرة (5/ 2429)، ( تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (7/ 243).

[28] تفسير المنار / محمد رشيد رضا (7/ 251).

[29] الأساس في التفسير / سعيد حوى (3/1571).

[30] انظر (جامع البيان في تأويل القرآن / ابن جرير الطبري (11 / 247)، (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ الآلوسي (4/ 83)، (التحرير والتنوير / ابن عاشور (7 /125)، (تفسير البحر المحيط/ أبو حيان (4/ 425)، (التفسير الكبير/ الرازي (12/ 471)، (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (2/ 913)، ((في ظلال القرآن / سيد قطب (2/ 1030)، (تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (7/ 243)، (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ السعدي (250)، (التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ محمد سيد طنطاوي (5/ 27).

[31] وفي النسك هاهنا أقوال:

  1. أحدها: أنها الذبائح التي تذبح لله ؛ قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن قتيبة، والضحاك: وجمع بينها وبين الصلاة كما قال : { فصلّ لربك وانحر } اختار هذا : الطبري، و ابن كثير ، ومكي بن أبي طالب ، وأبو حيان ؛ومحمد رشيد رضا ،والسعدي؛ لأن السورة ركزت على الأنعام ، وضلالات المشركين فيها، وقد بينت السورة الحق فيها، و لشرف هاتين العبادتين ـ الصلاة والذبح لله ـ وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه في الصلاة بالقلب واللسان والجوارح، وبالذبح بالبذل لما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها وهو الله تعالى.
  2. والثاني: العموم، والمراد جميع عبادتي وتقرّبي من الذبائح وغيرها، اختار هذا: الزمخشري، والبيضاوي، و البقاعي، وأبو السعود، والآلوسي، ومحمد سيد طنطاوي، الجلال ، والجبائي ، والزجاج، وعلى هذا يكون عطف {نسكي} على {صلاتي} من عطف الخاص على العام.

[32] قال ابن عاشور:" ليس لهذه السورة إلا هذا الاسم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفًا من الملائكة لهم زجَل بالتسبيح والتحميد". وورد عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأسماء بنت يزيد بن السكن، تسميتها في كلامهم سورة الأنعام. وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة، وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات. (التحرير والتنوير/ ابن عاشور (7/121).

[33] الأنعام لغة تطلق على ذوات الخف والحافر من الحيوان، وهي- الإبل والبقر والغنم-،" وقد تكرّر فيها من ذكر لفظ الأنعام ستّ مرات، في أربع آيات:

  1. أما الآية الأولى فقد حكى القرآن فيها ما كانوا يفعلونه من قسمتهم الحرث والأنعام إلى قسمين: قسم جعلوه لله يتقربون به إليه عن طريق إكرام الضيف ومساعدة المحتاج، وقسم جعلوه لآلهتهم فذبحوه على الأنصاب، وأنفقوا منها على سدنتها وخدمها، ثم هم بعد ذلك العمل الباطل لا يعدلون في القسمة، يجورون أحيانًا على القسم الذي جعلوه لله بينما يتحرزون عن الجور على القسم الذي جعلوه لشركائهم ،قال تعالى:{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ }[آية: 136].
  2. وأما الآية الثانية فقد ورد فيها لفظ «الأنعام» ثلاث مرات، وقد كشف القرآن فيها عن بعض أعمال المشركين المنكرة، وهي أنهم جعلوا الأنعام ثلاثة أقسام: قسمًا لا يأكل منه عند ذبحه إلا سدنة الأوثان والرجال دون النساء، وقسمًا يحرم ركوبه كالبحيرة والسائبة والحامي، وقسمًا لا يذكرون اسم الله عليه عند الذبح وإنما يذكرون أسماء آلهتهم: قال تعالى: {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ }[آية: 138].
  3. وفي الآية الثالثة تحدث القرآن عن لون من ألوان ظلمهم وجهلهم، فقد كانوا يجعلون بعض ما في بطون أنعامهم إذا نزل حيّا كان خاصّا بالرجال دون النساء، وإذا نزل ميّتا فالرجال والنساء فيه شركاء: قال تعالى: {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [آية: 139].
  4. أما الآية الرابعة، فقد بين القرآن فيها جانبًا من نعم الله على عباده؛ إذ جعل لهم من الأنعام أنواعًا تذبح لينتفعوا بلحومها وشحومها وجلودها، وأنواعًا تحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس: قال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [آية: 142]. (التفسير الوسيط / محمد سيد طنطاوي (5/9).

[34] وفي (صحيح البخاري) أنّ ابن عبّاس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام (140)) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلّوا وما كانوا مهتدين. ( صحيح البخاري/ باب قصة زمزم وجهل العرب رقم الحديث: 3334.

[35] جاء في كتاب "من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم:" من خلال استعراض مواضع ذكر الأنعام في القرآن الكريم فسنجدها ترمز لأمرين: النعمة ، وضعف الإدراك ، أما بالنسبة للنعمة ففوائد الأنعام كثيرة جدًا لا يستغني عنها البشر، وقد فصلت سورة النحل هذه الفوائد في قوله تعالى:{ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }[النحل: 5ـ7]،والنعمة تستوجب الشكر، وأعظم الشكر أن يضعها الإنسان في موضعها ويؤدي حقها ، ملتزمًا بما أمر به الخالق المنعم، وبالذات فيما يتعلق بالنعمة نفسها، ومن حق المنعم سبحانه أن يكون له وحده تعالى التحليل والتحريم ، وقد جاءت السورة حاشدة بالتوجيهات المتعلقة بالنعم ..أما بالنسبة لكون الأنعام رمزًا للبله وضعف الإدراك ، والذي ورد في القرآن الكريم وهما قوله تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف:179]، وقوله تعالى :{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }[الجاثية:23] ، فيتناسب مع الآيات العديدة في السورة التي تتحدث عن عدم استفادة المشركين من الآيات المبثوثة في النفس والآفاق الدالة على الله تعالى وإبداع خلقه ، وكذلك يتكرر في السورة الحديث عن الشركاء وتخليهم عن شركائهم وهو ما يدل على غاية البله والغباء في استبدال هؤلاء الشركاء بالله تعالى .(من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم /عيسى وادي، محمود مهنا (76،75).

[36] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د عمر عرفات(ص85).

[37] قال الإمام السيوطي: " وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها، وإن كان قد ورد لفظ الأنعام في غيرها إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى: { وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) } لم يرد في غيرها التفسير الموضوعي/مجموعة من العلماء(2/ 393).

[38] لمسات بيانية (محاضرات مفرغة) /د. فاضل السامرائي (11).

[39] تفسير القرآن الكريم المسمى تبصرة الرحمن وتيسير المنان/ للعلامة علي بن أحمد المهايمي / عالم الكتاب. (ج1/ 207).
 
عودة
أعلى